Next Page  112 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 112 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

112

2016 )9(

العدد

. انقلبشرط الخطاب

18

القوم ويألفونه. في الوقت الذي صار فيه العالم فيما وراء الجبال نسياً منسيّاً، وأكثر غموضاً وبعداً عن الحقيقة»

الاستعماري إلى النقيض، وبدل التأهيل المطلوب وقع تأهيل مضاد له.

لم يفلح الوافد في إعادة تأهيل الجماعة الأصلية على وفق المفاهيم التي جاء بها من العالم الخارجي، إنّما هي التي أعادت تأهيله وفق نُظم

العمل والقيم والعلاقات التي طوّرتها حيثلا جشع، ولا استغلال، ولا ربح، ولا تراتبطبقياً أو جنسيّاً، ولا استئثار بشيء، ولا وجود

لمفهوم المُلكية، إنّما هو اكتفاء أرضى السّلالة كلها، فقامت بإعمار بلادها طبقاً لحاجاتها، واستجابة لتصوراتها عن الحياة السعيدة. حدث

كلّ ذلكفي عمل حثيث، فلا رقيب، إنّما مسؤولية تو ّها العميان بأجمعهم، وقد توارت النوازع الفردية، وانحست الأنانيات، وغابت

المُلكية. ولم يكن كلّ هذا متوقّعاً، بالنسبة إلى الوافد الغريب، الذيحمل معه من العالم الذيجاء منه مفاهيم مغايرة عن الحكم، والسيطرة،

والدين، والعمل، والزمن، والتملّك، وحينما أخفق في إخضاع القوم لأفكاره، ادّعى قبولهم والانسجام معهم، بعد أن غفروا له عصيانه

وتجديفه، فاعتقد بأنّ وسيلته إلى تحقيق كلّ ذلك «الحبّ»، فهو المدخل المناسب للانخراط في ذلك المجتمع.

خلال عملية التأهيل المضاد تعرّف «نونيز/ بوجوتا» إلى فتاة تُدعى «ميدينا ساروتي»، وخطر له أنّه «لو استطاع كسب مودّتها، لروّض

نفسه على الحياة في الوادي بقية عمره»، وأفضى إليها بحبّه، فسُّت بذلك، وأصبح «الوادي كلّ دنياه، أمّا العالم فيما وراء الجبال، حيث

يعيش الناسفيضوء الشمس، فليس أكثر من حكاية خرافية سوف يقصّها في يوم ما»، لكنّه ما استطاع الانسلاخ عن العالم الخارجي إنّما

أحضره معه في بلاد العميان، فكان كلما انفرد بفتاته استغرقه وصف العالم المحيط بهما وصف مبصر، وكانت الحبيبة الضريرة تصغي إليه

لكنّها لا تصدّق ما يقول، فلا تعرف ما يرمي إليه من موضوع البصر، ولمّا أعلن عن رغبته في الزواج منها، أبدتتخوّفاً، ثم عورضطلبه

، ورفضته العائلة لأنّه سيجلب إليها العار، واستنكره الشباب

19

من قومها «لأنّم اعتبروه مخلوقاً غريباً، يقلّ عن مستويات الإنسان»

العميان وثاروا، لأنّه سيؤدّي إلى إفساد جنس السلالة، فكان أن اقترحت الفتاة أن تُعالج عاهة الحبيب، فاستجاب الأب لرجائها،

وعرضالأمر على مجلس الشيوخ الذي انتهى بناء على استشارة أحد أهمّ الأعضاء فيه إلى أنّ «الوافد الغريب مضطرب التفكير بسبب ما

يطلق عليه بـ«الأعين»، ويمكنه الشفاء من اضطرابه بإجراء عملية «لإزالة الأجسام الغريبة» عنه، وعلى هذا ارتهن الزواج بإطفاء البصر،

فلكي يقترن المبصر بالفتاة العمياء لا بدّ من قلع عينيه.

تأدّى عن القرار اختلاف بين الحبيبين؛ فهي تريد أن يضحّي بعينيه من أجلها، وهو لا يقبل بذلك؛ فبالعينين يرى العالم ويراها، ويتعذّر

الحبعنده دون الإبصار، وراحا في رجاء وامتناع، فانتهى إلى أنّ مقايضة الحب بالبصرستجعل منه «المواطن الأعمى»، وسوف يتساوى

بالآخرين، وسيكون غفلاً وعاشقاً أعمى، فيما رأى في نفسه السوّية الكاملة، سوّية المبصر، وخيّم عليه الأرق في الأسبوع الذي سبق

عملية قلع العينين، ومضت الحبيبة في تشجيعه على ذلكصوناً للحب الذي ربطهما، وتمهيداً لقبوله في مجتمع العميان.

خلال أيام الانتظار، واقتراب الموعد، توصّل «نونيز» إلى قراره الخاص باعتباره غريباً يحمل اسماً خاصاً به، وهويّة مغايرة، وهو قرار

أخفاه عن «ساروتي»، وما أفصح به لأحد، فقد هربفي صمت من وادي العميان، فلا يجوز التفريط بالبصرمن أجل امرأة عمياء. شقّ

«نونيز» طريقه وسط الصخور مغادراً أرض السلالة الكفيفة التي توّهم أنّه سيصبح ملكاً عليها. لم يتمكّن الوافد من تنفيذ البرنامج

الاستعماري في إعادة صوغ مجتمع العميان على وفق معتقداته وتصوراته؛ لأنّه وجد نفسه في مواجهة جماعة متلازمة من البشر، رسّخت

لها أعرافاً وعادات أخفق في تفكيكها؛ فأخفق في فرض النظام الذي كان يريده، وما نجح في تملّك المكان وأهله، وما أدرك دلالة تجربة

الحبّ، وما تمكّن من تحقيق ما خطر له من أفكار وآمال.

173

ـ م. ن. ص

18

175

ـ م. ن. ص

19

عبد الله إبراهيم