Next Page  109 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 109 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

109

2016 )9(

العدد

ليس المطلوب من «نونيز» أن ينتهي أعمى ليكون مواطناً سويّاً

في بلد العميان، ولكنّ وصوله إليه ومغادرته له لا يقصد منها،

على سبيل التأويل، إلا القول إنّ العالم خارج المجال الغربي

مَعْقل للعاهات المتوطّنة، فينبغي التدخّل لعلاج الشعوب

الأصلية منها، ولطالما ربضت هذه الفكرة طويلاً في أذهان

الإمبراطوريات الاستعمارية، واعتبرت ذريعة لأطماع أخرى،

فالسباق الإمبراطوري في أرجاء العالم جرى تحت هذا الغطاء،

وجُنيت ثماره بدون أثمان كبيرة، وحينما أصبح الثمن باهظاً أجبرت

على الخروج، كما خرج «نونيز» حينما أصبح ثمن وجوده في وادي

العميان فقدان البصر.

دفع «ويلز» ببطل قصته إلى بلاد مجهولة استوطنتها سلالة من العميان، فلكي يتجّ إبصاره ينبغي أن يُدفع به إلى عالم كفيف يتخبط

أهله في إبهام تام، والتعارض بين الإبصار والعمى سوف يكشف المفاضلة بين عالمين مختلفين، ونسقين من القيم متباينين، وضربين من

ضروب الحياة متفاوتين. لا ترشح من بلد العميان دلالة واقعية إنّما رمزية تتصل بتأويل استعماري عن أرضمعتمة يلزم أن تسلّط عليها

الأضواء الاستعمارية لكي يغمرها نور اليقين والحقّ، ويبصرأهلها معنى الحياة السويّة. العين الاستعمارية، وهي العين المبصرة، لا تكتفي

برؤية الظواهر الغريبة في بلد العميان، إنّما تقوم بتحليلها، وتريد أن تنتفع بها حينما خطر لصاحبها امتلاك ذلك العالم، وتحويل طراز الحياة

فيه، ليكون مؤهلاً للتملّك، ولم تغب المنفعة عن أيّ خطاب أنتجته الحقبة الاستعمارية.

ظهر التمايز بين العالمين بعد أن حلّ «نونيز» في بلاد العميان، فهو عالم بكر يناسب حاجته للاكتشاف، فلا معنى لاكتشاف عالم سبق

انتهاكه، وكلما كان العالم بكراً ازدهر الخيال الاستعماري في اكتشافه، فعذرية العالم تُعطي معنى للاكتشاف، وتُضفي قيمة على المغامرة.

دُهش الوافد بالطبيعة البتول، ولم يخامره خوف إنّما شعر بطمأنينة الواثق وهو يلامس أرضاً بِكراً لم تفترع من قبل، وحينما شاهد عدداً

من الرجال والنساء والأطفال يسترخون على أكوام من العشب تقدّم ناحيتهم، وأطلقصرخة تردّد صداها في جنبات الوادي، فا ّهت

الوجوه إليه، ولمّا لوّح بيديه لم يبدُ على أحد أنه رآه، فلما كرّر الإشارة، أدرك أنّم عميان، فَدَنا منهم، وتأكّد من أنّم فاقدو البصر، وبذلك

.

10

«أيقن أنّ هذه هي أرضالعميان التي تناقلتها الأساطير، واقتنع بصحّة ما كان يسمعه عنها، وأدرك أنّ أمامه مغامرة كبرىلا نظير لها»

غمر الحبور «نونيز» فهو في عالم لم تطرقه قدم غريبة قبل قدمه، ولم تقع عليه عين مبصرة قبل عينه، ما خلا رجلاً إسبانياً عابراً مرّ

بالبلاد في زمن قديم، فهو عالم يحتاج إلى وصف، فيه البشر عميان والطبيعة مسالمة، وهو مكان مناسب للمغامرة التي تريد الاستئثار

بالمكان وأهله بذريعة تغييره وتغييرهم، وعلى هذا بدأت علامات التعرّف الأولى: رأى المستكشف ثلاثة رجال يحملون دلاء الماء، وهم

يسيرون متتابعين في بطء ويتثاءبون كأنّم سهروا الليل، فرأى «أجفانم مطبقة وغائرة كما لو كانت مقلاتها لا وجود لها، وكانت ترتسم

على وجوههم أمارات الخوف»، فخطرت له فكرة أن يتوّ حكمهم، فهم جماعة غفل يمكن أن يصبح ملكاً عليهم، ولأجل ذلك أظهر

حسن نيّة لجذبهم إليه، فـ«حيّاهم في أدب جمّ وبأسلوب شديد التح ّ»، وتبادل معهم حديثاً متقطّعاً بسببصعوبة الفهم، وقد تعذر

التواصل الطبيعي فيما بينهم، فأخذوا يتحسّسون جسمه دونما كلام، واستغربوا حينما وجدوا أنّ له عينيين ظهرتا لهم في وجهه باللمس،

ولما أبدى بعضالمقاومة أمسكوا به بقوة وعزم، وبمشقّة أبلغهم أنّه قدم «من العالم الكبير العظيم الممتد لمسافاتشاسعة، على مسيرة اثني

عشر يوماً إلى البحر»، فلم يكترثوا لما أخبرهم به، إنّما شغلوا به كائناً حديث الصنع لم يعرفوا له مثيلاً من قبل، وقالوا له: «أخبرنا آباؤنا

154

  ـ م. ن. ص

10

صورة التابع الأعمى في الخطاب الاستعماري

طرحت الفكرة الاستعمارية على خلفية من

ثنائية الإبصار والعمى. ثمّة شعوب مبصرة

وأخرى كفيفة... وعلى هذا النسق من

علاقات التبعية جرت وقائع التاريخ الحديث

بين الأمم، فتراكمتخطابات لا حصرلها

قسّمت البشر إلى قسمين : متبوع مُنح البصر

ًوفاضت بصيرته على العالم، وتابع ارتكسفي

العمى وتخبّط فيه خاملا