ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
110
2016 )9(
العدد
، واقتيد إلى حيث يجلس الشيوخ الذين استغربوا لمّا أخبرهم أنّه
11
بأنّ قوى الطبيعة وحرارة الأشياء والرطوبة والعفونة قد تصنع أناساً»
يرى، فلا خبرة لديهم عن العيون والبصر، ولمّا دفعوا به تعثّر، فاستنتج أحد العميان «أنّ حواسه لم تكتمل بعد، فهو يتعثر في الأشياء
.
12
ويتفوّه بألفاظ لا معنى لها»
طُعن الكمال الاستعماري، فقد ظهر«نونيز» ناقصاً في وادي العميان، فحواسّه قاصرة عن الإدراك، ويتفوّه بكلمات لا معنى لها، ولمّا
علم أنّم يجهلون حاسة الإبصار استحسن ذلك، وغمره أمل بأن يتوّ ذلك بنفسه «سوف أعلّمهم في الوقت المناسب». وما لبث أن
اجتمع حوله عدد كبير منهم يريدون معرفة الكائن الغريب، أمّا هو فقد «سرّه ما كان يبدو في وجوه النساء والفتيات من مسحة جمال،
على الرغم من أعينهن المغلقة والغائرة. تجمّعن حوله يتلمّسنه بأيديهن الناعمة الحساسة، ويتشمّمن رائحته، ويصغين باهتمام إلى كلّ
كلمة يتفوّه بها». بدت له النساء أكثر ألفة من الرجال، وسرّه انجذابهن إليه وكأنّن يرينه. ولمّا أخبر القوم بأنّه قدم من مدينة «بوجوتا» لم
يفهموا معنى الكلمة، فما سمعوا بها، ورأوا أنّه يتكلّم بألفاظهمجية، فهو«لا يعرف إلا الكلام البدائي»، وما أدركوا مضمون حديثه حينما
أخبرهم أنّا «مدينة عظيمة لا تقارن بقريتكم، وقد أتيت إليكم من العالم الكبير حيث للناس عيون ويتمتعون بقوة الإبصار»؛ فتوهموا
أنّ اسمه «بوجوتا» لأنّه نطق باسم المدينة التي قدم منها، وبذلك أصبح حاملاً لهذا الاسم، وتوارى اسمه القديم بينهم، وحينما جُرّ إلى
حيث يجلس الشيوخ، دُفع به إلى غرفة حالكة الظلام، فتعثر وسقط في العتمة، وعلّق أحد الرجال، بقوله «إنّه حديث الصنع، فهو يتعثّر
.
13
في مشيته ويخلط بحديثه كلاماً لا معنى له»
في مجلس الشيوخ شرع أحد المعمّرين في استجواب نونيز/ بوجوتا، ولمّا أخفق الطرفان في التفاهم، بادر هو للحديث عن «العالم
العظيم» الذي جاء منه، ثم تحدّث عن السماء والجبال والبصر وغير ذلك من الأمور، لكنّهم عزفوا عن التواصل معه، وتوارى عن
اهتمامهم كلّ ما له صلة بالبصرالذي استبدلوه باللمسوالسمع، فتغيرتمسمّيات الأشياء، وحلّت التصورات السمعية محلّ التصورات
البصرية، «أصبحت لهم تصورات سمعية وحسية تعتمد على السمع واللمس الفائقين». أجمع العميان على تسفيه كلّ ما أخبرهم به عن
البصروأهميته ودوره في الحياة، وعن العالم الذيجاء منه، واعتبروها «أضاليل وأوهام كائنحديث الصنع، ما زالت أفكاره غير مترابطة،
، وأصغى إلى تعاليم العميان يتحدثون عن الخلق والدين والزمن، ووجد في تصوراتهم جملة من الخرافات المبهمة
14
وأحاسيسه مشوّشة»
لا تنسجم والعقل الذي جاء به من العالم الخارجي.
ظهر لـ«نونيز/بوجوتا» أنّ العميان استغنوا عن البصر، وطوّروا إحساساً مرهفاً للسمع، فكانوا يتحرّكونفيضوء الأصوات الخافتة التي
تصدر عن ملامسة أقدامهم للأرض، وكلمة «أرى» لا وجود لها في حديثهم. وفي الوقت الذي كان يقول فيه لنفسه إنّه سياتي يوم يعلّم فيه
هؤلاء البدائيين معنى الحياة القائمة على البصر، كانوا هم ينظرون إليه على أنّه بدائي ينبغي أن يتعلّم كثيراً ممّا يجهله في عالمهم، ومع أنّه كان
يمنّي نفسه بأن يكون ملكاً عليهم، فقد مرّت الأيام دون أن يتحقّق له ذلك «وأيقن أنّ آماله في تنصيب نفسه يكتنفها العديد من الصعاب،
التي لم يكن يتصوّرها». أوّل ما فكّر فيه هو إشاعة نظام جديد في العمل يكون مقدّمة لتغيير نظام العلاقات الاجتماعية والروحية.
لم تفلح شخصية استعمارية في السد، فيما نعلم، في استيعاب كامل للنظام الخاص بالمجتمعات الأصلية، ولهذا تحاول فرض نظام
مستعار من الحاضنة الاستعمارية اعتقاداً بأنّا تنقذ المجتمعات الراكدة من حالها البدائية. وهذا صحيح من منظور الشخصية الوافدة إلى
157
ـ م. ن. ص
11
157
ـ م. ن. ص
12
159
ـ م.ن. ص
13
161
ـ م. ن. ص
14
عبد الله إبراهيم




