ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
104
2016 )9(
العدد
*
عبد الله إبراهيم
إلى أقاصي الفكرة الرمزية للعمى والبصيرة بتمثيل سردي لأحوال
1
ذهب الكاتب الإنجليزي هـ. ج. ويلز بقصته «أرض العميان»
سلالة عمياء في جبال الأنديز الإكوادورية على السواحل الغربية لأميركا الجنوبية، فاختار لذلك وادياً منعزلاً عن عالم البشر، ورمى فيه
سلالة من المكفوفين، ثم ابتكر حدثاً سردياً تأدّى عنه تمثيل بالغ الأهمية لثنائية الإبصار والعمى، بعد أن ربطها بنزاع ثقافي وقيمي بين
رجل أبيض مبصر وسلالة عمياء أبعدت، جيلاً بعد جيل، عن مسار التاريخ، وكأنّ المبصر الأبيض جاء إلى واديهم لإنارة أبصارهم
إذ راحفي فترة لاحقة ينهل من
2
المنطفئة. تنتمي قصة «أرضالعميان» إلى ما كان «ويلز» يمارسه «من سحر في الاختلاق والرؤى المغامرة»
حقائق الواقع، وانحست فاعلية الخيال في رواياته وقصصه. وطبقاً لما عرضه السد في تلك القصة فإنّ بلد العميان كان في البدء أرضاً
مفتوحة للعالم بأسره، يستطيع الناس أن يأتوا إلى مروجه الخضراء المعتدلة، بعد أن يجتازوا أودية عميقة وجبالاً تكتنفها الثلوج، ولكن في
وقت بعيد لاذت به جماعة هاربة من استبداد الحكم الإسباني الذي بسط سيطرته على تلك البلاد في أول الفتوحات الاستعمارية في القرن
السادس عشر، وما لبث أن وقع زلزال نتيجة ثورة أحد البراكين، فتصدّعت الجبال على طول سواحل المحيط الهادئ، وذابت الثلوج،
وحدثت فيضانات، فانزلق جزء كبير من أحد الجبال الشاهقة في تلك الأصقاع «فعزل أرضالعميان إلى الأبد عن أقدام المستكشفين من
. وبهذه الصورة جرى رسم جغرافية بلاد العميان وتاريخها.
3
البشر»
لم ينظر إلى ذلك الوادي باعتباره مكاناً احتضن جماعة بشرية احتمت به من الأذى الإسباني، إنّما نظر إليه باعتباره أرضاً مجهولة انزوى
فيها غرباء فارّون، أصيبوا بالعمى، فاعتزلوا العالم بسبب غضب الطبيعة، لأنّم أصبحوا خارج مجال السيطرة الإمبراطورية. لفظهم
التاريخ الحيّ ما دام قد تعذّر أن تطأ أرضهم أقدام المستكشفين الذين يطوفون في أرجاء العالم لإدراجه في سلّم القيم الإمبراطورية. ينبغي
أن يحضر المستكشف الأبيض ليعيد تأهيلهم بعد أن شذّوا عن الطريق القويمة.
أكدت قصة «أرضالعميان» مضمون السد الاستعماري الذي دشّنته رواية «روبنسون كروزو» قبل نحو قرنين من نشر قصة «ويلز»؛
فقد انبثقت حكاية بلاد العميان من خضم الخيال الاستعماري الذي شغف بالعجيب من الأراضي النائية وشعوبها الغريبة، وقد نذر
المستكشفون أنفسهم لإزالة العمى عنها باعتبارها حالة مظلمة من حالات الجنس البشري، وإدراجها في التاريخ الإمبراطوري، وهو
تاريخ المبصرين؛ فا ّذ العمى موضوعه من رغبة المستكشفين في حكم تلك الجماعات، وبسط السيادة عليها.
نُسبت رواية المادة الحكائية حول بلاد العميان إلى رجلضرير مات سجيناً بعد أن روى تجربته في الوصول إليها، فكان أن أصبحت
روايته لبّاً لأسطورة تردّدت في جبال الإنديز كلّها، ومجمل ما رواه وصف ذلك الوادي الخ ّب الذي «يحتوي على كلّ ما يشتهيه قلب
مفكر وأكاديمي من العراق.
*
183 - 143 :1 ،2011 ،
ـ هـ.ج. ويلز، القصص القصيرة الكاملة، ترجمة رؤوف وصفي، القاهرة، المركز القومي للترجمة
1
46
ص
2008 ،
ـ ألبرتو مانغويل، يوميات القراءة، ترجمة عباس المفرجي، دمشق، دار المدى
2
144
ـ ويلز، القصص القصيرة الكاملة، ص
3
الخطاب الاستعماري
صورة التابع الأعمى في




