Next Page  108 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 108 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

108

2016 )9(

العدد

معلوم أنّ الفكرة الاستعمارية طرحت على خلفية من ثنائية الإبصار والعمى. ثمّة شعوب مبصرة وأخرى كفيفة، ولكي يتّسق مسار

التاريخ ينبغي أن يشمل إبصار الأمم الأولى عمى الأمم الثانية، فينقلها من ظلام دامس إلى نور باهر، وعلى هذا النسق من علاقات التبعية

جرتوقائع التاريخ الحديث بين الأمم، فتراكمتخطاباتلاحصرلها قسّمت البشرإلى قسمين: متبوع مُنح البصروفاضت بصيرته على

العالم، وتابع ارتكسفي العمى وتخبّط فيه خاملاً. وكلّ انقسام، حسب الشرط الاستعماري، ينتظر التئاماً والتحاماً، فالظاهرة الاستعمارية

تيار جامح يبتغي جعل بني البشر كلّهم مبصرين بعيون غربية. وفي ضوء هذه الفرضية الزائفة جرى وصف العالم، وطبقاً لمعاييرها ظهر

الخطاب الاستعماري، واستجابة له ظهرت المعرفة الاستعمارية. وما اقتصرت أساليب تلك المعرفة على الوصف والتحليل، وإنّما أخذت

بأساليب التخييل والتمثيل.

يقتضي السد الاستعماري إطاراً يتألّف من: ارتحال يشرع فيه مغامر فرد قادم من البلاد البيضاء، وجماعة مبهمة في منطقة سمراء،

وعملية تحويل من العمى إلى الإبصار، أي من الخمول إلى الحيوية، ومن العواطف إلى الأفكار، ومن الجهل إلى المعرفة. وما حدث أن

ارتحلت، في السد، جماعة مبصرة لتخليصجماعة عمياء، إنّما يكفي فرد من الأولى ليوقد فتيل الأنوار في عتمة سديمية لا ناية لها تتخبّط

فيها الثانية. لا يشترط أن يكون العمى فقداناً للإبصار، إنّما قد يكون فقداناً للبصيرة؛ فمحمول السد الاستعماري يضع تراتباً يتعذّر تغيير

علاقاته إلا على سبيل الافتراض: يتدفّق المتبوع بالخير والذكاء والخبرة، ويغوص التابع في الشرّ والغباء والجهل.

لا يمكن النظر إلى قصة «أرض العميان» على أنّا مغامرة لرجل مبصرفي بلد العميان فحسب، إنّما هي بمحمولاتها الثقافية، وإلاطار

السدي الناظم لها، والتضارب القيمي بين الغريب المبصر والسلالة الكفيفة حول مفاهيم الدين والدنيا، فضلاً عن المرجعية التي

صدرت عنها، جعلت منها مجازاً يحيل على فكرة اكتشاف الآخر، وقلب العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الأصلية فيما بينها، وبينها

وبين الطبيعة التي تعيش فيها، والرغبة في تغيير نمط العلاقات الأصلية بين الجماعات وعلاقاتها بالمكان، وهو أحد ثوابت الخطاب

الاستعماري. إنّ إعادة ترتيب علاقة الإنسان بالطبيعة على وفق المنظور الذي جاء به المستكشف «نونيز» إلى «بلاد العميان» سيؤدي إلى

تخريب علاقة الألفة بينهما، وهي ألفة أتت بالنفع عليهما معاً، فقد اكتفى العميان بحاجاتهم، واحتفظت الطبيعة بجمالها وسخائها، ولا

ضرر للطرفين من الحفاظ على علاقة سويّة بينهما، لكنّ الوافد الأجنبي دُهش من سكون وادي العميان، وفسّه خمولاً، فيما كان نوعاً من

الرضا، فلا غرابة أنّه سعى إلى تغيير قواعد العمل على وفق مفهومه المستعار من ثقافة جاء بها معه، ولمّا عجز عن ذلك فكّر في استخدام

القوة، بل راودته فكرة أن يكون عاهلاً لمجتمع رآه غفلاً، وينبغي امتلاكه، فالاستكشاف لم يقتصر على وصف جماعة عمياء نائية، إنّما

رغبفي إدراجها ضمن مفهوم التاريخ الغربي للعالم.

لكنّ قصة «أرض العميان» انتصرت لحقيقة اجتماعية من حيث لا تقصد إلى ذلك، حينما وضعت ختاماً لمغامرة المستكشف، بما يؤكد

فشل المعرفة المستعارة من سياق خارجي عن المكان الذي تعيش فيه تلك الجماعة الهانئة، فمبغادرته هارباً من وادي العميان الذي نسج

أهله ضرباً سعيداً من العيش والشراكة، أكّد «نونيز» إخفاق تلك المعرفة في النفوذ إلى طراز حياة المكفوفين. ثم يضاف إلى كلّ ذلك العبرة

المستخلصة من مغامرة بدأت بسقوط، وانتهت بفرار، فكأنّ وصول الغربي إلى ما وراء البحار حدث عارض قاده إلى جماعة غاطسة في

الوثنية والبدائية والعمى - وتلك حيلة سردية - فلا ينبغي عليه أن يعود إلى دياره إلا وقد انتشلها ممّا هي فيه، وجعل من نفسه مالكاً لها

ولأرضها. وفي هذا الإطار الناظم من العلاقة مع الآخر ترتّبت الرحلة الاستكشافية لـ«نونيز»، فقد وصل بلاد العميان على غير قصد

مسبق، وفي تلك البلاد عرضت له جماعة مريضة تنتظر علاجاً غربياً، يتيح لها الإبصار ليُعترف بها سلالة تندرج ضمن جنس البشر،

ويقتضي القيام بكلّ ذلك إعادة البصر إليها بالتدريب، وتغيير معتقداتها، وتغيير علاقتها بالبيئة الحاضنة لها، وأخيراً تنصيب ملك عليها

يتوّ أمرها، ولعل هذه الخواطر هي التي خطرت له، وعمل على تحقيقها، وحينما أخفق غّ من طريقة التغيير بادّعاء الاندماج، وحينما

طولب بالمشاركة الكاملة غادر المكان هارباً، فالخلاص الفردي يسبق الخلاص الجماعي في كلّ مغامرة فردية خاضها الغريب في أرض

الآخرين.

عبد الله إبراهيم