ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
105
2016 )9(
العدد
الإنسان: ماء عذب، ومروج خضراء، وطقس معتدل، وتربة
خصيبة، وشجيرات متشابكة تحمل ثماراً يانعة. وعلى جانب
من الوادي، غابات بها أشجار صنوبر باسقة، تقي السكان من
. وعلى هذا النسق الشغوف من
4
الانيارات الثلجية أو الصخرية»
الوصفمضىالراوي يتغنّى بتلك«اليوتوبيا» بعين مَنْ يتخيّل عالماً
غريباً أكثر ممّا يصف عالماً حقيقياً، «عاش السكان هناك في رغد
من العيش، وعاشت حيواناتهم بصحة جيدة، ومن ثمّ تكاثرت
، ولكن ما أفسد سعادتهم هو إصابتهم بالعمى جميعاً؛
5
بوفرة»
فبانطفاء البصر ينطفئ الحسّ الإنساني السليم، ذلك ما تو ّه
المستكشفون.
ينبغي أن يرتسم اختلال توازنٍ في العالم النائي ليستقيم منطق
السد الإمبراطوري، فقد خرّب وباء العمى أفق التلقّي الذي حرص الراوي على بنائه، فلا تستقيم حياة سلالة انعزلت عن العالم
بمصادفة من الطبيعة دون وباء يصيبها بالعمى عقاباً لها، فظهر الراوي، الذي يرجّح أن يكون مستوطناً أبيض، وغّ من مهمته، فبدل
المضيفي وصفسحر الطبيعة واكتشافها، وضع على عاتقه مهمة إنقاذ العميان من الوباء الذي استفحل جيلاً بعد جيل، فمحا البصرعن
.
6
السلالة الغامضة، ولهذا حاول «البحث عن تعويذة أو ترياق لعلاج هذا البلاء الذي حلّ بهم وأصابهم بالعمى»
لم يفكر الرجل بأنّ الداء حدث نتيجة مرض مُعدٍ شمل السلالة، إنّما اعتبر ذلك من نتاج «الخطايا والشرور» التي اقترفها القوم، فقد
أنكروا أهميّة الدين، ولم يؤمنوا بالمسيحية التي حملها الإسبان معهم إلى تلك الديار، فالسبب في معاناتهم «يكمن في إهمال هؤلاء المهاجرين
لاصطحاب قسيّس معهم لإقامة الصلوات»، واستناداً إلى ذلك الإيمان الأعمى فكّر في إنشاء «بيت للعبادة» لا يكلّفه كثيراً من المال، يملأه
«بالأشياء المقدّسة والمباركة والأيقونات وصور القديسين»، عساه يطرد عنهم وباء عظيماً ضربهم لجهلهم في الدين الجديد الذي جاء به
الإسبان، وجمع ما تيسّ من مال وحليّ عند العميان بذريعةشراء الدواء، ثم توارى عن الأنظار، واختفى أثره. ومع أنّ المؤلّف اتهمه بالكذب،
فحجته في عدم العودة إلى أرض العميان كانت الهزّة الأرضية التي دمّرت الممر المؤدي إلى بلادهم. لكنّ شذرات ما رواه ذلك الرجل عن
.
7
بلاد العميان تضافرت فيما بينها لصوغ أسطورة «عن جنس من البشر الأكفّاء، مازال يعيش هناك بين جبال الإنديز حتى الوقت الحاضر»
تعود أصول حكاية العميان، إذن، إلى شذرات رواها رجل عن قوم فصلتهم الطبيعة عن العالم الحيّ بسلسلة من الزلازل، وألحقت
بهم وباء لا سبيل إلى الشفاء منه، ورجح لديه أنّه غضب إلهي على نكرانم ما ينبغي معرفته لكلّ بني البشر: الدين الذي حملته غزوات
الاستكشاف إلى ما وراء المحيط. وفيها يتضارب نوعان من أنواع القيم: قيم فردية جاء بها وافد غريب من عالم خارجي تقوم على البصر
وما يتأدّى عنه من أفكار وتصورات، وقيم جماعية صيغتفي بلد العميان تقوم على البصيرة، وما ينتج عنها من تأملات وتخيلات. ومن
الصعب المفاضلة بين هذين الضربين من ضروب القيم إلا باستحضار المرجعيات الثقافية الحاضنة لهما، فقد تكون قيم البصيرة هي
النافعة إذا ما حققتلأهلها سعادة النفوس والعقول والاكتفاء، وقد تسبّب قيم البصرمزيداً من الشقاق والقلق والعوز.
144
ـ م. ن. ص
4
145
ـ م. ن. ص
5
145
ـ م. ن. ص
6
146
ـ م. ن. ص
7
صورة التابع الأعمى في الخطاب الاستعماري
انبثقتحكاية بلاد العميان من خضم
الخيال الاستعماري الذي شغف بالعجيب
من الأراضي النائية وشعوبها الغريبة، وقد
نذر المستكشفون أنفسهم لإزالة العمى عنها
باعتبارها حالة مظلمة من حالات الجنس
البشري، وإدراجها في التاريخ الإمبراطوري،
وهو تاريخ المبصرين؛ فا ّذ العمى موضوعه
من رغبة المستكشفين في حكم تلك
الجماعات، وبسط السيادة عليها




