Next Page  213 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 213 / 362 Previous Page
Page Background

213

2016 )9(

العدد

حنا أرندت ...الإنسان في مواجهة تفاهة الشر

بالإنسان في تعدده وتنوعه كموضوع لها وليس الإنسان بمعناه

«الكلي» ذلك الكائن الذي يسكن الأرض.

من السمات البارزة لفلسفة أرندت أنّا فكر أزمة وتفكير في

. فهي تنظر إلى الأزمة كواقع إقليمي وكضعف تاريخي في

5

الأزمة

المؤسسات السياسية والثقافة والنظام التعليمي، وتنعتها بالهيمنة

الشاملة. فالأزمة هي العلامة الأساسية لشرطنا الإنساني بحيث

إنّا تقع في قلب أنشطتنا وعلاقاتنا مع أنفسنا والأخرين والعالم،

وبالتالي فهي ما يؤسس وجودنا في العالم وحياتنا المشتركة.

يتميز الفكر الفلسفي لحنا أرندت بكونه فكراً محايثاً للواقع

الإنساني وقائماً فيه وملتصقاً به ومرتبطاً بتجاربه المعيشة، فهو لا

ينطلق من العدم ولا يقوم على التخمين. فقد تفلسفت وفكرت

فيما عاشته وعايشته من أزمات كاندلاع الحربين العالميتين الأولى

والثانية، وتصاعد موجات معادية للسامية، وبدء الاستعمار،

وانتشار معتقلات الإبادة الجماعية. فكلّ هذه الوقائع والأحداث

جعلت حنا أرندت تنعطف من التفكير في الحب، الذي كان

موضوع رسالتها لنيل الدكتوراه، إلى التفكيرفي الشر. فهذا الأخير

صار قضية مركزية شغلت كلّ فكرها إلى حدود أنّا توقعت أنّه

سيصبح السؤال المركزي في الحياة الأوروبية ما بعد الحرب. وإذا

مثّـل مفهوم الشر الخيط الناظم الذي يمتد عبر دروب فكر حنا

أرندت والأساس البارز لبنية فلسفتها، فإنّه كذلك يمثل حقيقة

. كتبت في إحدى رسائلها إلى

6

أزمنة الحداثة التي يتعذر رفضها

الفيلسوف كارل ياسبرز موضحة أنّ الشر أصبح أكثر جذرية ممّا

كان عليه، وأنّ الفلسفة تتحمل جزءاً من المسؤولية بخصوص

. ومن منظور تأويلي يمكن رصد مسؤولية

7

هذه القضية

الفلسفة بخصوص انتشار الشر من خلال أطروحتين: تشير

الأولى إلى وجود خطابات فلسفية غذت الذهنية الكُليانية أو

5 - Céline Ehrwein Nihan, Hannah Arendt: une pensée de la crise:

la politique aux prises avec la morale et la religion, éditions Labor

et Fides, Genève, 2011, p 18.

6 - Dario de Facendis, Hannah Ardent et le mal, dans Hannah

Ardent, la totalitarisme et le monde contemporain, Les Presses de

l’université LAVAL, 2003, p.53.

7 - Céline Ehrwein Nihan, p. 16.

، ويمكن أن نشير هنا

la mentalité totalitaire

التوتاليتارية

الذي ساند

Carl Schmitt

إلى نموذج الفيلسوف كارل شميت

، وتشير

1933

النظام النازي بعد وصوله إلى سدة الحكم في عام

الأطروحة الثانية إلى صمت الفلسفة في وجه من يريد محو الفكر

أو إلى صمت الفيلسوف وتخليه عن دوره في مساءلة السائد

ونقده، بل تعدى ذلك إلى التواطؤ معه في لحظة تاريخية، كما هو

حال الفيلسوف مارتن هايدجر. ومن مظاهر مسؤولية الفلسفة

بالنسبة إلى حنا أرندت أنّ الفلسفة الغربية لم تقدم مفهوماً واضحاً

للسياسة، ولم تعالج الإنسان في فرديته وتفرده واستقلاليته، وإنّما

بالنظر إليه في انصهاره في الجماعة وذوبانه في الآخرين، وساهمت

مثل هذه الذهنية في خلق بنية معرفية وسياسية مهدت للنازية

والستالينية ولكلّ الأنظمة الشمولية.

مفهوم الإنسان

يحتل سؤال: ما الإنسان؟ موقعاً مركزياً في فكر حنا أرندت.

فتفكيرها فيه لا ينفصل عّ كان يميز عصرها الذي كان يئنّ تحت

وطأة مصادر الشر الثلاثة: التوتاليتارية، والاستعمار، ومعادة

السامية. فتحت تأثير مفعولها اللاإنساني وقع تحول عميق في

وضع الإنسان. فهذا الأخير أصبح مجرد عضو في مجموعة

تتجاوزه وتتعالى عليه، وتمارس عليه هيمنتها، ولا يملك القدرة

على التخلصمنها. ففيعالم تتحكم فيه التقنية، وتسوده السلطوية

السياسية، وتهيمن فيه أنظمة شمولية، أصبح الإنسان كائناً

مستلباً، ووجوداً عارياً من الإرادة، وفاقداً للحرية، ولا يتمتع بأيّة

حقوق، ويرزح تحت وطأة استلابحديث غير مسبوق. إنّنا أمام

«الإنسان المائع»، أي ذلك الكائن الهلامي الفاقد لكلّ الخصائص،

والذي أصبح من المتعذر ربطه بالنوع البشري، فهو اسم بدون

مضمون. ربما نلمس هنا تقاسيم نظرة مأساوية للوضع البشري،

وهي النظرة ذاتها التي توجد عند الجيل الأول من فلاسفة النظرية

النقدية لمدرسة فرانكفورت الذين كانوا يتقاسمون مع حنا

أرندت الحقبة الزمنية نفسها والوضع نفسه عرقياً وسياسياً. وفي

ظلّ هذه الظروف التي تعاند كلّ ما هو إنساني، فإنّ انشغال حنا

أرندت بسؤال الإنسان والتفكيرفي وضعه كان بهدف الدفاع عنه،

والدفاع عن حريته، لأنّا القيمة التي تقبل التصرف فيها.

وبالنظر إلى القيمة التي يحتلها الإنسان في فكر حنا أرندت فقد

خصّصت له كتابها (شرط الإنسان الحديث)، الذي يمكن اعتباره

مقالات