Next Page  209 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 209 / 362 Previous Page
Page Background

209

2016 )9(

العدد

ويكون هذا عبارة عن مثاقفة تتحدّد في «سيرورة دينامية غير

، لا تنتهي بإعدام الثقافات لبعضها بعضاً، لأنّ كل

46

مكتملة»

ثقافة تحافظ على ميزتها أو سمتها، تنفرد بالثقاف الذي يشكّل

ac

قاعدتها التاريخية والأنطولوجية. مسوّغ الانحمال هو أنّ البادئة

ومعناها

ad

(مثاقفة)، تحيل إلى البادئة اللاتينية

acculturation

من

، أي أنّ كل ثقافة تندفع نحو

47

«حركة نحو» أو «اندفاع نحو»

ثقافة أخرى بباعثلا يمكن دائماً فقهه: يمكن أن يكون الرغبة في

التعارُف أو في الاعتراف، ولا ينجرّ عن ذلكصراع سوى عندما

يتمّ استبدال نظام الواقع بنظام المتخيّل، وتدخل كل ثقافة في إدراك

إيهامي لثقافة أخرى. لكن في الأصل، كل ثقافة تنحمل بأن تندفع

نحو ثقافة أخرى، لتتفاعل معها وتستفيد منها، لأغراض متنوّعة

كامنة في الشرط الطبيعي والأنطولوجي لهذه الثقافة.

كذلك، يمكن أن تكون المثاقفة داخل كل ثقافة على حِدة عندما

تتفاعل الأقليات مع الأغلبية وعكسه، فتكون العلاقة بينهما هي

التعايُش والتحاوُر والتفاهُم والتسامُح، بعدما كانت في بعض

الحالات قائمة على القهر والعنصرية والحرمان من الحقوق (مثلاً:

التمييز العُنصري الذي طال الأمريكيين السود من أصول إفريقية

في فترات عصيبة من تاريخ الولايات المتحدة). تقوم المثاقفة

إذن على حركة دينامية من التفاعُل بين شركاء الحوار أو العيش

المشترك. لا ينجرّ عن المثاقفة إدغام قسي أو إدماج قهري لثقافة

تفقد بموجبهما علة وجودها أو سمة تميّزها. بل هذا يُنفي عن

المثاقفة أساسيات فاعليتها وهي الانحمال. إذا أصبح الانحمال

مدعاة للانحلال، بأن تنحل عناصر ثقافة في ثقافة أخرى، فهذا

ينزع عن المثاقفة علتها التفاعلية. يمكن القول مع هركوفتس

في التعبير اليومي. الشأن نفسه مع الكلمات الإسبانية في أمريكا بهجرة مجتمعات

من أمريكا اللاتينية (المكسيك، كوبا، غواتيمالا،... إلخ) نحو الولايات المتحدة،

فدخلت عبارات إسبانية في التعبير الإنجليزي. أو أيضاً اقتحام تعابير إنجليزية في

الكلام اليومي لدى العديد من الشعوب.

46. Alain Cambier, Qu’est-ce qu’une civilisation ? Paris, Vrin, 2012,

coll. « Champs philosophiques », p. 62.

47. Michel Grenon, « La notion d’acculturation entre

l’anthropologie et l’historiographie », Lekton, vol.2, n°2, Automne

1992, p. 14.

. واللقاء

48

إنّ المثاقفة هي نوع من اللقاء أو التماس بين الثقافات

أو التماس لا يفترض الانحلال (تذويب ثقافة في ثقافة أخرى)

أو الاحتلال (هيمنة ثقافة على ثقافة أخرى)، وإنّما الانحمال بأن

تنحمل كل ثقافة عندما تحتمل شيئاً من ثقافة أخرى، وتتحمّل

جوانب من موهبتها التاريخية أو خصائصها الثقافية. المثاقفة هي

ذات طبيعة دينامية يؤكد هركوفتس، لأنّا تُبرز نظام تمفصل

ثقافة بثقافة أخرى عبر أشكال التبادُل المعرفي أو التجاري، تبعاً

). فالمثاقفة هي دينامية كل ثقافة

diffusion

لنظام النشر أو البث (

في عملية انحمالها: «أثبتت أعمال النشر، من هذا المنطلق، كيف

أنّ الشعوب تواصلت فيما بينها بسبب التماثلات الملحوظة بين

.

49

ثقافاتها في الوقت الذي ندرسها فيه»

عندما ترى الثقافات التماثُل الكائن بينها، وكأنّا مرايا بعضها

بعضاً، فإنّ هذا يُبرز التشاكل من جهة، ويُظهر نظام المثاقفة من

جهة أخرى. تعكس دينامية المثاقفة نوعين من السلوك الثقافي

يمكنني حصره في مفردتين كنتُ قد استعملتهما من قبل، وهما:

الإمداد والامتداد. كل ثقافة تمدّ الأخرى بمقوّمات وجيهة تخص

المعرفة أو السلوك تكون بمثابة مصحّحات للنظام العام الذي

تحيا فيه الثقافة (كل ثقافة لا ترى ذاتها سوى بوسيط غيرها)؛

وتمتدّ في الأخرى في شكل أطر معرفية أو قيمية، مقبولة أو

مرذولة، تعّ عن الشكل الدينامي للمثاقفة. بدلاً من الانحلال،

لدينا الإمداد الذي يجعل الثقافات تمدّ بعضها بعضاً ما يدعّم

عناصرها ويقوّم سماتها عوض أن يُعدمها؛ وبدلاً من الاحتلال،

لدينا الامتداد الذي يجعل كل ثقافة تمتدّ في الأخرى كتشكيلات

رمزية قابلة للتداوُل. يعمل الإمداد والامتداد على تغيير كل ثقافة

) حتى إن لم تتغّ في نظامها

phénotype

في أشكالها الظاهرة (

)، لأنّ كل ثقافة تمدّ غيرها بأفكار أو معارف

génotype

الباطني (

فهي تتغّ من جرّاء الابتكار التقني أو الإبداع الفني الآيل نحو

الإمداد؛ وتتغّ عندما تمتدّ بفعل الانتشار والشيوع، لأنّ عناصر

من هذه الثقافة يتمّ أقلمتها في الثقافات الأخرى لتصبح جزءاً

منها وعنصراً داخلاً في تشكيلها.

48. Melville J. Herskovits, Acculturation. The Study of Culture

Contact, Gloucester Mass., 1958, p. 6.

49. Herskovits, Les bases de l’anthropologie culturelle, Paris,

François Maspero éditeur, 1967, p. 206.

التشاكُل الحضاري وأنظمة الاختلاف

مقالات