Next Page  214 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 214 / 362 Previous Page
Page Background

214

2016 )9(

العدد

بياناً فلسفيّاً في نقد الحداثة وتعرية أزماتها. وإن كانت اهتمت في

هذا الكتاب، في أغلبه، بمظاهر متنوعة للفاعلية الإنسانية، فإنّا

كذلك تساءلت فيه عن الوسائل التي بواسطتها يمكن للمجتمع

أن يحمي بها نفسه ضد فتنة الكليانية والدكتاتورية والاستبداد.

وقصدها هو إرادة تحقيق الشروط الواقعية لإمكانية الوجود

الإنساني من خلال «إعادة النظر في الشرط الإنساني من وجهة

.

8

النظر المستفادة منتجاربنا الأكثر جدّة، ومن بعضها الأكثر قدماً»

ويمكن نشير هنا انطلاقاً من ملاحظة أوردها بول ريكور في

مقدمة ترجمة كتاب حنا أرندت «شرط الإنسان الحديث» تفيد

أنّ الخيط الناظم بين هذا الكتاب وكتابها العمدة حول «أصول

التوتاليتارية» هو التماس طريقة جذرية لمقاومة الجرائم التي تنتج

. ومن موقع فيلسوفة السياسة فإنّ حنا

9

عن النظام التوتاليتاري

أرندت تعتبر أنّ نقطة ارتكاز مقاومة النظام التوتاليتاري تقع

في تأسيس أنثروبولوجيا سياسية جديدة، في إطارها يتحدد

الإنسان كحيوان سياسي، يعيشفي مجتمع سياسيمنظم بالقوانين

والمؤسسات. فإنسان الشرط الإنساني ليس كائناً منعزلاً ولا

وحيداً، إنّه يُوجد بمعية الآخرين ويشاركهم الوجود في العالم.

كأنّ مفهوم الإنسان يتحقق بشرط العيش المشترك.

وحتى يتسنى لحنا أرندت أن تؤسس أنثروبولوجيا سياسية

جديدة، فإنا ستعود إلى إحياء الكثير من المفاهيم السياسية من

التراث الفلسفي لأرسطو وماكيافيلي ومونتسكيو، إلى جانب

استحضار التجربة التاريخية الرومانية التي عرفت إبّان تدهورها

وسقوطها أزمة تتشابه في كثير من معالمها مع الأزمة التي عاشتها

المجتمعات الأوروبية الحديثة. وهدفت من هذه الأنثروبولوجيا

السياسية إلى رفضكلّ اغتراب واستلاب يمسّ الإنسان، ومعارضة

الأنظمة الاستبدادية والتوتاليتارتية. وإنّ السمة البارزة المميزة لهذه

الأنظمة، التي وجهت إليها حنا أرندت سهام النقد، هي الرعب

الشامل. وبلغة واضحة تعتبر أنّ الرعب الشامل متأصل في الأنظمة

الشمولية، ودخل بدخولها للعالم الإنساني. فهو يمثل أحد الأوجه

8 - Arendt Hanna., La Condition de l`homme moderne,

traduction de Georges Fardier, Calmann-Lévy, Paris, p.27.

9 - Ricoeur. P., Préface à La condition de l`homme moderne,

Pocket Agora, Paris, 1994, p.9.

القبيحة لأزمة الحداثة السياسية، وقد أدى إلى نتائج مدمرة، وأحدث

قطيعة مع كلّ التقاليد التي تنظم حرفياً «كلّ مقولاتنا السياسية

. ويبدو أنّ الأنثروبولوجيا السياسية

10

ومعاييرنا للحكم الأخلاقي»

لحنا أرندت تعّ نوعاً ما عن نوستالجيا تعكسحنيناً إلى الماضي.

في هذه الأنثروبولوجيا السياسية الجديدة ستعنى حنا أرندت

بإعادة النظر في مفهوم الإنسان من خلال استحضارها لبُعد كان

مهملاً بين الفلاسفة، يتجلى هذا البعد في الشرط السياسي. من

وجهة نظرها، فالإنسان لا يملك طبيعة إنسانية قبلية، ولا يمكن

تعريفه بماهية سابقة. وربما يعكس هذا المفهوم جانباً من جوانب

تأثرها بأنطولوجيا مارتن هيدجر، وهي بذلك تكون أقرب إلى

الفلسفات الوجودية منها إلى الفلسفات الماهوية التي تحدد

الإنسان من خلال ماهية قبلية وثابتة وكونية. وحتى لا تقع في

تصور ميتافيزيقي للإنسان ستركز على مظاهر فاعليته (الشغل،

الفعل، الحرفة)، أو حياته النشيطة، فهو كائن فاعل، والسياسة من

بين المجالات التي يظهر فيها هذه الفاعلية وذاك النشاط. وتبعاً

لمفهوم الشرط الإنساني، وتحت تأثير الفكر السياسي لأرسطو،

zôon poli�

فإنّ حنا أرندت تعرّف الإنسان كحيوان سياسي

(

، يعيشفي مجتمع سياسي، وإن لم يكن كذلك اعتبر أسمى

)tikon

من البشر(إلهاً) أو عُدّ كائناً سافلاً (حيواناً). فالسياسة هي المجال

الأبرز الذي يحقق فيه وجوده، ويختبر فيه حريته. فالفعل السياسي

هو ما يعّ عن حرية الإنسان، وكأنّ السياسة هي مسكن الوجود

الإنساني، أو المجال الذي يتيح للإنسان الخروج من فتنة «نسيان

الوجود» التي هي أحد تجليات أزمة الحداثة. ويجب الإشارة إلى

أنّ تعريفحنا أرندت للإنسان بالحيوان السياسي، ربما هو أقرب

إلى هوبز وماكيافيلي منه إلى أرسطو. فإنسان هوبز كائن قاتل

وعنيف، ومنجذب للقوة والحرب (حرب الكلّ ضدّ الكلّ)، فهو

كائن يسعى إلىصيانة وجوده البيولوجي، ويتصرف وفق رغباته.

وإنسان ماكيافيلي يتخذ صورة الأمير الذي يجب عليه أن يتصرف

كالحيوان، وأن يقلد الأسد والثعلب معاً.

إنّ تعريف الإنسان بالحيوان السياسي يعني كذلك أنّ السياسة

قيمة مطلقة، وأنّ الإنسان موجود من أجل السياسة، وأنّه ينظم

10- Enegrén. A., « Compréhension et politique » in Esprit, juin

1980, p.68.

إبراهيم مجيديلة

مقالات