215
2016 )9(
العدد
وجوده بالقوانين بكيفية عادلة ما أمكن. كما أنّ السياسة، عند حنا
أرندت، تعني الحرية، وتتعارض مع كلّ أشكال الهيمنة والعنف
التي تعّ عن الشر الذي سيحتل الفضاء العمومي ويُفرغه
من إنسانيته. إنّ الشر يشكّل مظهراً للأزمة التي مسّت النظام
السياسيدولاً وأفراداً.
التوليتارتية أو الشر السياسي
ففي كتابها العمدة «أصول التوتاليتارية» الصادر سنة
عملت حنا أرندت على فهم أسباب تحول ألمانيا إلى نظام
1951
للهيمنة المطلقة. فالتوليتارتية، كتجسيد للشر المحض، حدث غير
مسبوق في التاريخ السياسي تأتي بذورها من الحداثة ومن عجزها
عن تدبير مشكل العيش المشترك. فالشر قبل كلشيء فعل عنيف
وسلوك عدواني يتم في المجال السياسي ويسعى إلى تدمير الغير
وإخضاعه والتحكم فيه. تتمظهر صوره القصوى بالنسبة إلى حنا
أرندت في معادية السامية والتوليتارتية والاستعمار. فقد عرضت
في كتابها معالجة نوعية وخاصة للتوتاليتارية ساهمت في كشف
نقط الاشتراك ما بين النازية والستالينية وكل الأنظمة الشمولية
التي تجسد تجربة الخراب، فعلى تعبير حنا أرندت فإنّ هذه التجربة
تبرز أنّ الجحيم ليس هو الآخرين، وإنّما هو غياب الروابط مع
.
11
الآخرين ومع الذات
يُفهم من التوليتارتية ذلك النظام السياسي الذي يجعل الأفراد
خاضعين لسلطوية هيئات سياسية واجتماعية، وبمعنى آخر، فإنّه
يتأسس على وجود نظام وحيد تنصهر فيه كلّ السلط؛ التشريعية
والقضائية والتنفيذية، لتكوين سلطة قاهرة تمارس سيطرة شاملة
على الأشخاص وأنشطتهم، وتتدخل في كل تفاصيل حياتهم،
، ويصيرون
12
وبلغة جوليا كريستيفا، تحولهم إلى «جثث حيّة»
غرباء عن ذواتهم ويفقدون الإيمان بأنفسهم.
وتمثل التوتاليتارتية الوجه القبيح والأبرز للشر المطلق في القرن
العشرين، ومنعطفاً خطيراً في التاريخ الإنساني. ولهذا جعلت منها
أرندت عنواناً بارزاً للتعبير عن الأزمة الشاملة للحضارة الغربية،
11 - Christian Delmas, Hannah Arendt une pensée trinitaire, une
nouvelle approche de son ouvre, Harmattan, 2006, p : 10.
12 - Kristeva Julia, le génie féminin, tome 2, p.229.
brèche
وعلامة دالة على ثغرة عميقة وخرقاً في التاريخ بشكل عام (
وفي التاريخ السياسيبشكل خاص.
)dans l’histoire en général
فقد أسست لقطيعة جذرية مع كل الأنظمة السياسية التي وُجدت
من قبل كالأنظمة المستبدة والديكتاتورية. وإنّ تحليل حنا أرندت
للتوتاليتارتية قادها إلى اكتشاف التجسيد المتطرف وغير المعلن
للمقولة الكانطية «الشر الجذري» الذي يطرح تحدياً أمام الفكر،
بمعنى أننا لا نملك ما يحيل إلى فهم هذه الظاهرة التي هي بمثابة
الواقع المرهق الذي يمتنع عن استجوابه واستنطاقه ويكس كل
، إنّه بتعبيرحنا أرندت«الجحيمفي الأرض».
13
المعايير المعروفة عندنا
قاربت حنا أرندت سؤال/مشكل الشر من منظور سياسي
بعيداً عن كلّ التفسيرات اللاهوتية والقيمية، فهو بالنسبة إليها
لا يرتبط بأيّ ميل ميتافيزيقي، ولا يستند إلى أيّ مبادئ مطلقة
تحيل إلى ما هو مقدّس أو ديني، إنّما هو إنساني ولا يمكن أن يفهم
إلا في علاقته بما هو إنساني، وعبر اقترافه فإنّ الناس يخرجون من
إنسانيتهم. فهو كما وصفته ثقب أسود، هاوية جليدية، والمكان
الأعمق في جهنم بلغة الشاعر الإيطالي دانتي، فهذا الثقب الأسود
.
14
يلتهم كلّ شيء، ولا يترك سوى رعب المطلق اللاإنساني
فالشر هو ما يجعل الكائن البشري يعيش تمزقاً بين إنسانيته وبين
اللاإنساني، إنّه غياب تطابق الإنسان مع ذاته. ومن مفاعيل هذا
التمزق واللاتطابق صعوبة الإمساك بمعنى الشر وفهم دلالته،
فهو ما لا يقبل الفهم أو ما يتعارض معه. فالشر حضور ممتنع،
وكلما ازداد حضوراً وتعددتصوره، ازداد امتناعاً عن الفهم.
حالة أيخمان
ستعيش حنا أرندت حدثاً مزعجاً ومثيراً، عندما
1961
في سنة
أرسلت لتغطية محاكمة الموظف النازي كارل أدولف أيخمان
. وانطلاقاً من هذا الحدث ستبدع
)Karl Adolf Eichmann
(
مفهوماً جديداً «تفاهة الشر» بديلاً للمفهوم الكانطي «الشر
الجذري» الذي كانت تستعمله من قبل. فتضعنا حنا أرندت أمام
مفهومين حاولت من خلالهما التعرف على طبيعة الشر، ممّا يدعو
إلى التساؤل: هل توجد قطيعة أم استمرارية بين هذين المفهومين؟
13 - Hannah Arendt, Les origines du totalitarisme. Vol. III, Le
système totalitaire Paris, Seuil, 1972, p. 201.
14 - Dario de Facendis, p. 54.
حنا أرندت ...الإنسان في مواجهة تفاهة الشر
مقالات




