210
2016 )9(
العدد
تقوم المثاقفة إذن على عتبة تواصلية إذا أخذنا المسألة في أوجهها
الظاهرة (التاريخية) من انتشار في المعارف ومبادلة في القيم
والرموز، وتقوم على عتبة لادونية إذا أخذنا المسألة في أوجهها
الباطنة (الأنطولوجية) من حيث أنّ كل ثقافة تتوقففي وجودها
على ثقافات أخرى، مساوِمة أو منافسِة. إنّ المنطق اللادوني الذي
يميّز نمط العلاقة بين الثقافاتيجعلها لا تنفك عن بعضها بعضاً،
لأنّ كل ثقافة لا تقوم دون ثقافات أخرى هي لها بمنزلة المرآة
) لشرطها النظري والعملي. هذا يفنّد
correctif
أو المصحّح (
النزوع التمركزي الذي نجده لدى فوكوياما أو هنتنغتن من حيث
إمكانية أن تترفّع ثقافة على ثقافات أخرى بشيء يخوّل لها الأسبقية
والأحقية والأفضلية: مثلاً، نظام سياسي قوي أو منظومة
حضارية وعلمية وتقنية متفوّقة. لم يرَ هنتنغتن التفاعل الدينامي
بين الثقافات من وجهة نظر تحتية (تكتيكية)، لكن من وجهة نظر
فوقية (استراتيجية)، رؤية شبه إلهية تُفخّم الثقافة الذاتية وتُقزّم
الثقافات الأخرى، لأنّا ترى الأشياء من بؤرة متعالية كوحدات
متراصّة أو متدافعة، ولا تراها من بؤرة تحتية كوحدات انحمالية،
تندفع نحو بعضها بعضاً، تنعطف على بعضها بعضاً، تتواشج،
وتتلاقى، وتتلاقـح.
خاتمة
إنّ التشاكل الذي حاولتُ إبراز معالمه الكبرى هنا يقوم على
مجموعة من الصيغ والأدواتوالأساليب، عملتهذه الدراسة على
تبيانا والنظر في طبيعتها وقيمتها من مبحث إلى آخر. فهي تشكل
كلها المعجم التشاكلي الذي أضعه كأفق فكرة تبحث عن الروابط
والمفاصل فيما وراء الهويّة والاختلاف. إذا أردفتُ في العنوان
التشاكل الثقافي بوصفه نظاماً في الاختلاف، فلأنّ هذا الأخير عُنصر
أساسي، أيوني أو باروكي، يدبّر من وراء حجاب كل منظومة ثقافية
في علاقتها بذاتها أو في اندفاعها نحو ثقافات أخرى. التشاكُل هو
صورة من صور الاختلاف، لأنّه بالمتقابلات تتعّ حقائق الأشياء.
لكن، لتفادي الصورة المبتذلة والكاريكاتورية حول «اختلاف» هو
تبايُن راديكالي، فإنّ التشاكُل يوفّر العلاقة البينية لهويّة واختلاف،
تماثُل وتمايُز، لأنّه يقف في عتبة مزدوجة الطبيعة والوظائف تقول
إنّ الشيء «هو لا هو»، إنّ الثقافة «هي» من حيث سماتها وطبائعها
(الثقاف/الثقافة)، و«لا هي» من حيث إمدادها وتمدّدها، أي من
حيث تحوّلها الذاتي (الثقف) ومن حيث تغ ّها اللادوني (المثاقفة).
بهذا المعنى، التشاكُل هو بذرة لنظرية في الثقافة تقول ما الثقافة في
محمد شوقي الزين
مقالات
ذاتها، وما الثقافة في غيرها؛ تشاكُل يقول بالمضاعفة الثقافية من
حيث العلاقة بالذات والعلاقة بالآخر؛ تشاكُل يحكي قصّة التلاقي
العابر للثقافات، لأنّ ثمّة شيئاً، لا يمكن فقهه دائماً، هو علّة انحمال
الثقافات لما يتجاوزها ويقول باغترابها.
مراجع
. ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال،
1
.
1983
،2
دراسة وتحقيق محمد عمارة، دار المعارف، القاهرة، ط
. ابن عربي، الفتوحات المكيّة، دار صادر، بيروت، د. ت.
2
. ابن عربي، فصوص الحكم، تحقيق أبو العلا عفيفي، دار
3
الكتاب العربي، بيروت، د.ت.
. ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، د. ت.
4
. محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة
5
.
2009
،
9
ط
العربية، بيروت،
فنون الأداء
1
. ميشال دو سارتو، ابتكار الحياة اليومية، -
6
العملي، ترجمة محمد شوقي الزين، الدار العربية للعلوم ناشرون/
.
2011
منشورات الاختلاف، بيروت،
. محمد شوقي الزين، الذات والآخر: تأملات معاصرة في العقل
7
والسياسة والواقع، منشورات ضفاف/منشورات الاختلاف،
.
2012
،
1
ط
بيروت،
. محمد شوقي الزين، ميشال دو سارتو: منطق الممارسات وذكاء
8
،1
الاستعمالات، ابن النديم للنشر/ دار الروافد الثقافية، ط
.
2013
. محمد شوقي الزين، «سؤال الثقافة من وجهة نظر فلسفية»،
9
، أكتوبر-ديسمبر
2
، العدد
43
مجلة عالم الفكر (الكويت)، المجلد
.
2014
. أيان ألموند، التصوف والتفكيك: درس مقارن بين ابن
10
عربي ودريدا، ترجمة وتقديم حسام نايل، المركز القومي للترجمة،
.
2011
،
1
القاهرة، ط
. مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية،
11
.
2004
،
4
القاهرة، ط
12. Cambier Alain, Qu’est-ce qu’une civilisation?
Paris, Vrin, 2012, coll. «Champs philosophiques».
13. De Chardin Pierre Teilhard, Le phénomène hu-
main, Paris, éditions du Seuil, 1955.
14. De Chardin, L’avenir de l’homme, Paris, éditions




