216
2016 )9(
العدد
وكيف يكون الشر تافهاً وهي في الوقت نفسه تتحدث عن الشر
في فصل «من الشر الجذري إلى تفاهة الشر» ضمن
15
الجذري؟
كتاب «حنا أرندت والمسألة اليهودية» سيعمل ريتشارد برينشتاين
على تتبع مسار تشكل دلالة الشر ليؤكد أنّ الشر الجذري وتفاهة
الشر ليسا إلا لحظتين لسيرورة واحدة يمكن تسميتها بديالكتيك
. وأثناء هذه السيرورة يصل الشر إلى مرحلته المطلقة التي
16
الشر
تتساوق مع المرحلة النهائية للتوليتارتية فيصير شراً محضاً. فهو
محضلأنّه لا تتم إحالته إلى دوافع إنسانية، وبدون هذه التوليتارتية
لم يكن بالإمكان أبداً التعرف على الطبيعة الجوهرية للشر.
يمكن أن نفهم من «حالة أيخمان» معنيين متداخلين؛ فمن جهة
يمكن النظر إليها كمشكلة أو كشيء شبيه بالأحجية، فكيف
أمكن لإنسان لم يكن متعصباً ولا معادياً للسامية أن ينخرط في
عملية «الحل النهائي»، بمعنى إبادة الملايين من الأشخاص؟
وكيف لإنسان لم يكن منحرفاً، ولم تكن لديه نزوعات للقتل،
وكان عاجزاً عن اغتيال رئيسه في العمل ليحل مكانه، أن يقترف
جرائم شنيعة؟ وكيف يمكن أن نفهم إنساناً لا يستشعر الشر
الذي ارتكبه؟ ومن جهة ثانية تمثل هذه الحالة مثالاً متميزاً،
فأيخمان هو النموذج الأكثر دلالة على تفاهة الشر. ولا ينبغي لهذا
المفهوم أن يضللنا، فهو لا يقصد أن يجد لأيخمان ظروف التخفيف
أو التقليل من الشر الذي ارتكبه. بل على العكسمن ذلكيجسد،
في التاريخ، نوعاً جديداً من الجريمة أو شراً جديداً: إنّه متطرف
ولكن لا يمكن ربطه بأيّ دافع ولا بأية إرادة لفعل الشر من أجل
. إنّ الشر المرتكب من طرف أيخمان ليس
17
الشر، ولا بأيّ تعصب
جذرياً، لأنّه ليست له جذور في داخله ولا يتضمن أيّ إرادة لفعل
. فالشردائماً متطرف وليسجذرياً
18
الشرمن أجل الرغبة في الشر
أبداً، في حين أنّ الخير دائماً عميق وجذري.
وتحمل عبارة «تفاهة الشر» جانباً آخر، ليس الشر ولكن
التفاهة. فالوصف الأساسيلأيخمان، حسب أرندت، هو سطحي
15 - Ibid.p.52.
16 -Ibid.p.52.
17 - Catherine Valleé, Histoire et Justice, peut-on juger l’histoire ?
Éditions de l’Emmanuel, le collège supériuer, 2002 p : 123.
18 - Ibid. p .129.
بكل المقاييس. ولهذا لا يمكن تفسير ميله للشر إلا ككليشيهات
أو لقطات كلها حقيقية ممّا يدل على غياب الفكر لديه. وربما تظهر
عبارة «غياب الفكر» في الوهلة الأولى كأحجية: فأيخمان ككل
الأشخاص يعي وجوده، فكما أكدت حنا أرندت أنّه لم يكن غبياً
ولا بليداً، فقد كان يملك القدرة على التمييز بين العدل والظلم،
بيد أنّه لم يكن قادراً على التفكير. فخلال أطوار
19
وبين الخير والشر
المحاكمة كما لاحظت أرندت أنّ أيخمان كان يتكلم بلغة نمطية
، فقد كان يتكلم كموظف
20
وسطحية ذات طابع رسمي وإداري
بيروقراطي ينفذ أوامر سادته دون أن يملك الجرأة على التفكير.
تمثل عبارة «غياب الفكر» من جهة عمق تحليل حنا أرندت
للشر، ومن جهة ثانية لحظة لفهم طبيعة النازية وباقي الأنظمة
التوليتارتية. فهي تضعنا أمام الكيفية التي يمارس من خلالها ناس
عاديون الإبادة والتطرف والعنف كأوجه للشر. ويمكن أن نشير
هنا إلى أنّ مفهوم «تفاهة الشر» يحمل دلالة سياسية يمتد مفعولها
إلى حدود نقد الحركة الصهيونية التي تعتبرها حنا أرندت مسؤولة
عن المعاناة التي عاشها يهود أوروبا. إنّ شخصية أيخمان هي التعبير
الأكثر وضوحاً عن تفاهة الشر الذي جلبته الأنظمة التوتاليتارتية
للعالم الإنساني، والذي تحوّل إلى عالم لا إنساني أو مضاد-إنساني.
ومن أجل رسم صورة عامة، جاز لنا القول إنّ الشر بالنسبة
إلى حنا أرندت هو فعل إنساني، ولا يخرج عن العالم الإنساني.
فهو يصدر عن الإنسان، ويقع على الإنسان. فليس فيه شيء
من الشيطان، وليس له أيّ مظهر ميتافيزيقي، ولا يرتبط بأيّ
من المبادئ الخالدة للعقل الإلهي. فالشرّ كله إنساني. وإنّ الشر
بكلّ تمظهراته، الجذري والتافه والمطلق، المعنوي والمادي، يتمثل
بالنسبة إلى حنا أرندت، واقعياً وتاريخياً وسياسياً، في «الخطيئة
الأصلية للصهيونية».
19 - Ibid. p: 133.
20 - H. Arendt, Eichmann à Jérusalem. Rapport sur la banalité du
mal, (1963), traduit de l’américain par A. Guérin revue par M.-I. B.
de Launay, Paris, Gallimard, 1966, p.p. 8586-.
إبراهيم مجيديلة
مقالات




