239
2016 )9(
العدد
ويمكن القول إنّ الإلزامات القانونيّة إنما هي ضرب من
ضروب العنف، أو ما س ّه «ريكور» ذات مرّة الاستعمال المشروع
للقهر، وهو ما يتجّ واضحاً فيما تضطلع به الدولة من وظيفة
عقابيّة في ظلّ مؤسسات تمنح قوّة قهريّة للأخلاق العامّة تحت
حراسة دولة القانون، ولا مناص لنا هنا من الإشارة إلى أنّ
العلاقة بين القاضي من جهة ما هو ممثل للقانون ومُؤوّله والفرد
الذي نستجيز لأنفسنا افتراض أنه «آثم» إنما هي علاقة مفارقة.
وهكذا وفي الآن ذاته الذي يظهر القاضيفيه إنساناً حاملاً لكل
الدلالات الأخلاقيّة، تستلزم منه المهمة المناطة بعهدته أن يعامل
هنا هو التساكن في المدينة الواحدة، والشاهد على رد الأخلاق إلى السياسة عند
الإغريق أمران:
- إنّ أفلاطون يطابق بين الفضائل الأخلاقيّة وبين الطبقات المكونة لسكان
المدينة، فالحكمة التي هي فضيلة القوة الناطقة تقابل طبقة الحكام التي تتوّ
وظيفة الإدارة، والشجاعة التي هي فضيلة القوة الغضبيّة تقابل طبقة الجند
التي تتوّ وظيفة الدفاع، والعفة التي هي فضيلة القوة الشهوية تقابل طبقة
العمال التي تتولى وظيفة الإنتاج.
- إنّ أرسطو يستهلّ حديثه عن الأخلاق في «الأخلاق إلى نيقوماخوس» بالكلام
عن الخير الأسمى ـ كما سبق أن أشرنا- بوصفه المقصد الأقصى الذي تتجه إليه
أفعال الإنسان» البحث فيه ينبغي أن يختص بأفضل العلوم مرتبة وألا علم
أشرف من علم السياسة، إذ هو الذي يعّ من بين العلوم أوجبها للمدن ويعّ
من بين اصنافها أوجبها لكلّ طبقة من مواطنيها، كما أنه هو الذي إليه تردّ
العلوم الأخرى كالحرب والاقتصاد والخطابة، ومتى كان علم السياسة يستخدم
كلّ العلوم العمليّة الأخرى وكان هو الذي يشرع ما يجب فعله وما يجب
تركه فإنّ مقصد هذا العلم شامل لكلّ المقاصد وهو الخير للإنسانيّة على وجه
Aristote.Ethique à Nicomaque I.1093.2a.1094b10 »
التحقيق
ولا تتمثل الحجة في إلحاق الأخلاق بالسياسي قدر اعتنائها بانتظام تراتبيّ بين
الفاعلين المعنيين،«وأنه وإن كان الخير لإنسان واحد وللمدينة واحد بعينه فقد
يظهر أنّ الخير للمدينة أعظم وأكمل وأنّ تناوله وحفظه ألا يزول، قد يستحب
للواحد فقط، إلا أنه للأمّة والمدن أفضل»
.Aristote.Ethique à Nicomaque I.1094.b7.1094b10
الأولويّة إذن للسياسي بالمعنى الذي جعله أرسطو له اتباعاً لأفلاطون، وهو بهذه
الحال صناعة تدبير المدن، إلا أنّ هوبز كان عليه أن يقلب علاقة التماثل هذه
بين خير الفرد وخير المدينة، وهي التي كانت بمعنى ما سمة مشتركة بين كافة
الفلسفات الأخلاقيّة والسياسيّة للقدامى.
شريكه في الإنسانيّة كآخر لا تربطه به صلة، ومن ثمّة تنفصم عرى
الرّوابط الأخلاقيّة. ونعلم أنّ هذه الصعوبة مهما استعصت فإنا
إذا ارتدّت أمارات تدفع إلى اشتراط دقة أشدّ وأوفى لمعنى الحقّ،
وكانت الاستعاضة عنه بما ليس هو: العنف.
استقام لدينا حينئذ أنّ الحق الذي يتعارض مع القانون إنما هو
الحق الذي لكل واحد فينا لحظة غياب القانون. بيد أنه ما إن
يعلن عن شبكة مفهوميّة ينهض نسيجها على السلطة والشرعيّة
والقانون حتى يكون الحق مقاماً، إلا أننا مطالبون بأن ننتبه إلى
أنه لو يكون لنا الحق في أن نفعل ما نشاء ينقلب أمرنا ضرورة
إلى حرب «الجميع ضد الجميع»، إنه التنافس والتوجس والفخر.
وقصد الفصل بين الحق بصفته حرية لا حدود لها وبين القانون
الباعث على التحريم، قد حلّت أوامر يجوز القول عنها إنا من
جنس شبه أخلاقي ما دامت تحاكي قواعد الأخلاقيّة الإلزاميّة،
ولو تعقبنا وجودنا الاجتماعي لتبّ لنا أنه لا يخلو من القوانين
الملزمة. وفي هذا الطور من النظر ينعطف «ريكور» إلى تحليل
القانونيّة ويردها إلى ثلاثة شروط: أوّلها هو المنع من حيث هو
الوجه الصارم الذي يوجهه القانون ضدنا، فهو قمع يتخلل
وصايا تضع حدوداً للفعل ارتباطاً بالتمييز بين الخير والشرّ، غير
أنه لا يخفى أنه للمنع وظيفة بنائيّة، فهو يضبط العلاقات ويرتب
السلوك الإنساني، وأمّا ثانيها فالكونيّة ـ رغم نسبيّة التشريعاتفي
ارتباطها باختلاف المجتمعات واختلاف عاداتها وطبيعة نظرتها
للعالم ـ حيث إنّ القوانينتميل دوماً لادعاء الكونيّة أي الصلاحيّة،
وعلى هذا النحو فإنّ «منع القتل» يفقد صفته المعياريّة إذا لم نحكم
عليه بكونه صالحاً للجميع في كلّ الظروف دون استثناء، في حين
يتمثل ثالثها في الارتباط بالنوع الإنساني، والمقصود بذلك: أنّ ما
يمنع كونياً هو مجموع التجاوزات والمظالم التي تلحق بالآخر.
وبعد الفراغ من استعراض شروط القانونيّة لا يجد «ريكور»
بُدّاً من استخلاص مفاده أن تكون المسب نحو الوعي بالذات
باعتباره ليس سوى وعي بالهويّة الذاتية لا ينفصل عن التوجه
الأخلاقي للذات، بل إنما هو تحققه ضمن الفضاء السياسي، ومرد
ذلك أن يلزمنا القانون بطاعة القواعد الخارجيّة أي بمطابقتها في
سلوكنا، بينما تجبرنا الأخلاق كما يرى «كانط» على احترام القانون
حباً للواجب. ويقودنا ذلك إلى استخلاص مؤداه أنّ القانون
الفعل الإنساني بين الحق والقانون
مقالات




