أهمية الفارابي في الفلسفة الإسلامية


فئة :  مقالات

أهمية الفارابي في الفلسفة الإسلامية

يعتبر كثير من المؤرخين للفكر الفلسفي الإسلامي أن الفارابي هو المؤسس الحقيقي للدراسات الفلسفية في العالم العربي، والمنشئ الأول لما نسميه الآن الفلسفة الإسلامية؛ فقد شيد بنيانها، ووضع الأساس لجميع فروعها، ولا نكاد نجد فكرة عند من جاءوا بعده من فلاسفة الإسلام إلا لها أصل لديه، وهو أعرف فلاسفة الإسلام بتاريخ الفلسفة ونظريات الفلاسفة، ويتحدث في مؤلفاته حديث الخبير عن المدارس اليونانية، ويبين الفوارق بينها[1].

إن الفلسفة كلها مثالية، لأنها محاولة لتغيير الواقع في الآراء والسلوك، في المعتقدات وفى الأخلاق

إن أولى خطوات الفارابي (259 هـ - 339 هـ) - والذي يعتبر عند بعض الدارسين فيلسوف المسلمين بالحقيقة[2]، وأول مفكر مسلم بكل ما في الكلمة من معنى[3] - في التفلسف أنه قد آمن إيمانا مطلقا بوحدة الفلسفة في ذاتها، وما كان أمام الفارابي، إلا أن يعمد إلى فكرة وحدة الفلسفة، فيدافع عنها دفاعا يمكنه من الانتقال من فكرة وحدة الفلسفة إلى فكرة التوفيق بين الشريعة والحكمة (بناء على وحدة الحق)، فبدأ أولا بإزالة ما قد يتوهم من خلاف داخل النطاق الفلسفي، حتى إذا ما أصبحنا أمام حقيقة فلسفية واحدة، انتقل ثانيا إلى التوفيق بين الدين والفلسفة، باعتبارهما مظهرين لحقيقة واحدة[4]. يقول ابن سبعين [5]في الفارابي: "وهذا الرجل أفهم فلاسفة الإسلام وأذكرهم للعلوم القديمة، وهو الفيلسوف فيها لا غير، وهو مدرك محقق".

وإذا كان الشائع عن فلسفة الفارابي أنها فلسفة مثالية، فالحقيقة أن الفلسفة كلها مثالية، لأنها محاولة لتغيير الواقع في الآراء والسلوك، في المعتقدات وفى الأخلاق؛ فهي تصوير لفكرة الفيلسوف عن المثل الأعلى للفرد وللإنسانية، فكل فلسفة إذن هي مثالية بهذا الاعتبار؛ فالمذهب الذي يرسمه الفيلسوف، إنما هو مذهب يؤمن بأن من الممكن تحقيقه، وفى هذا الإطار يمكننا فهم فلسفة الفارابي.

كما حظي أبو نصر الفارابي خلال العصر الوسيط بتقدير عال من قبل فلاسفة كبار، أمثال ابن سينا في المشرق الإسلامي وابن رشد في المغرب الإسلامي، ولئن تراجعت شهرته جزئيا، فيما بعد، أمام خليفتيه العظيمين، فقد اعتبر رغم ذلك كأهم فيلسوف مدني في تلك الحقبة، وقد تأكد هذا الحكم أثناء النصف الثاني من القرن العشرين بعد نشر ما تبقى من أعماله الفلسفية المدنية[6]، وكثرت البحوث في فلسفته، وقد تناولت هذه البحوث مشكلات عديدة: منها ترتيب مؤلفاته الزمني، والسبب في الفروق الموجودة بينها، وطريقته في الكتابة وكذلك العلاقة بين الدين والفلسفة[7]، والعلاقة بين السياسة والميتافيزيقا، وطريقة فهمه لفلسفتي أفلاطون وأرسطو، ورأيه في العلاقة بينهما وتأثره في فلسفته السياسية وغيرها بمن سبقه، وبهذين الفيلسوفين خاصة[8]، وغير ذلك من المشكلات[9].

ويعدّ الباحث المقتدر محسن مهدي الذي درس على يد الباحث الأمريكي Leo Strauss من الدارسين الأوائل لفلسفة الفارابي، غير أن أول باحث عربي قدير في العصر الحديث كتب بنفاذ في فلسفة الفارابي هو إبراهيم مذكور الذي أنجز أطروحتين في باريس عام 1934 حول مكانة الفارابي في الفلسفة الإسلامية..[10]

وتقدم الدكتور محسن مهدي أستاذ الدراسات العربية الإسلامية بجامعة شيكاغو لتحقيق العديد من كتبه، وكذا فعل الدكتور فوزي متري نجار الأستاذ في جامعة ولاية ميشغن ... هذا إلى غير ذلك من البحوث والدراسات التي قدمت عنه وعن آثاره.

ها هو المستشرق الألماني فريدريش ديتريصي friederich dieterici، يعترف في مقدمة كتابه "الثمرة المرضية في بعض الرسالات الفارابية" صدر في ليدن سنة 1890، ثم أعقبها بعد ذلك بالمؤلف الرئيس "آراء أهل المدينة الفاضلة" سنة 1895. بأن الفارابي هو مؤسس الفلسفة العربية: "يجب علينا أن نقر بأن الفارابي هو مؤسس الفلسفة العربية، وهو ما اعترف له معاصروه ومن تبعهم حينما لقبوه بالمعلم الثاني، فإليه يعود الفضل في إعادة تأسيس العلوم لدى المسلمين".

الثقافة العربية الإسلامية مدينة للفارابي في مجال المنطق أكثر مما هي مدينة لغيره ممن جاءوا قبله وبعده

ونفس الأمر يقوله المستشرق داوري daouri في مقاله: "الفارابي المعلم الثاني مؤسس الفلسفة الإسلامية"، والذي نشر ضمن الكتاب الذي أصدره إبراهيم مذكور في الذكرى الألفية لوفاة أبي نصر الفارابي سنة 1983 حيث يذكر هو الآخر، في خاتمة المقال أن "الفلسفة الإسلامية هي تطور وتتويج لفكر الفارابي، هذا الفكر الذي استحوذت فيه الفلسفة على علم الكلام وعلى التصوف".[11]

ويقول المستشرق الفرنسي ماسينيون Massignon: "إن الفارابي هو أول مفكر مسلم كان فيلسوفا بكل ما للكلمة من معنى". كما قال المستشرق ما ترويغ materwerg: "إن تسمية الفارابي بالمعلم الثاني بعد أرسطو المعلم الأول قد جعل الفيلسوفين على قدم واحدة من المساواة".

ويعود للفارابي الفضل الأول في تأسيس علم المنطق الذي نبغ فيه نبوغا عظيما، فسمي الفارابي "المعلم الثاني" نسبة للمعلم الأول أرسطو والإطلاق بسبب اهتمامه بالمنطق؛ لأن الفارابي هو شارح مؤلفات أرسطو المنطقية.

والحق أن الثقافة العربية الإسلامية مدينة للفارابي في مجال المنطق أكثر مما هي مدينة لغيره ممن جاءوا قبله وبعده. '' فَبَذَّ جميع أهل الإسلام فيها –كما يقول صاعد الأندلسي- وأتى عليهم في التحقق بها فشرح غامضها وكشف سرها وقرب تناولها وجميع ما يحتاج إليه منها، في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة منبهة على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعليم ...، فكان بذلك ''فيلسوف المسلمين على الحقيقة'' واستحق لقب ''المعلم الثاني'' بعد أرسطو (المعلم الأول). بالفعل، لقد اهتم الفارابي بالمنطق اهتماما بالغا، واستوعبه تمام الاستيعاب، واعيا بعمق مركزَ الثقل فيه. لقد رأى فيه الوسيلة التي يمكن بواسطتها جعل حد للفوضى الفكرية السائدة في عصره. ومن هنا حرص على توضيح وظيفة المنطق الاجتماعية، أعني وظيفته على صعيد التعامل الفكري في المجتمع.

وهكذا، فإذا كانت ''صناعة المنطق تعطي بالجملة القوانين التي شأنها أن تُقوِّم العقل وتسدّد الإنسان نحو طريق الصواب''[12]، فإن مجال فعالية هذه القوانين يتعدى حدود ''ما نلتمس تصحيحه عند أنفسنا إلى ما نلتمس تصحيحه عند غيرنا أو ''ما يلتمس غيرنا تصحيحه عندنا''[13]؛ ذلك أنه ''إن كانت عندنا تلك القوانين والتمسنا استنباط مطلوبٍ وتصحيحَه عند أنفسنا لم نُطلق أذهانَنا في طلب ما نصححه مهمَلةً، تسبح في أشياء غير محدودة وتروم المصير إليه من حيث اتفق...، بل ينبغي أن نكون قد علمنا أي طريق ينبغي أن نسلك إليه (مطلوبنا)، وعلى أي الأشياء نسلك، ومن أين نبتدئ في السلوك، وكيف نقف من حيث تتيقن أذهانُنا، وكيف نسعى بأذهاننا على شيء منها إلى أن نُفضي لا محالة إلى ملتمسنا''[14]. ويضيف الفارابي قائلا: ''وتلك تكون حالنا فيما نلتمس تصحيحه عند غيرنا، فإنا إنما نصحح الرأي عند غيرنا بمثل الأشياء والطرق التي نصححه عند أنفسنا، فإن نازعنا في الحجج والأقاويل التي خاطبناه بها في تصحيح ذلك الرأي عنده، وطالَبَنا بوجه تصحيحها له...، قدرنا أن نبين له جميع ذلك. وكذلك، إذا أراد غيرنا أن يصحح عندنا رأيا ما، كان عندنا ما نمتحن به أقاويله وحججه التي رام أن يصحح بها ذلك الرأي...، فنقبل ما نقبله من ذلك عن علم وبصيرة، وإن كان غالط أو غلط تبين من أي وجه غالط أو غلط، فنزيِّفُ ما نزيفه من ذلك عن علم وبصيرة''.[15]

وكذلك برع الفارابي في الموسيقى، فوضع بعض الكتب المهمة وفي مقدمتها كتاب الموسيقى الكبير وصنع بعض الآلات الموسيقية، منها آلة القانون التي أبدعها أو طورها وأدخل عليها بعض الأوتار الجديدة بعبارة أصح.

إن مكانة الفرابي في الفلسفة الإسلامية تناظر مكانة سقراط أو أفلاطون في الفلسفة اليونانية

بالإضافة إلى مكانة الفارابي في تاريخ الفلسفة السياسية* باعتبار دوره في استعادة التراث الكلاسيكي وجعله معقولا داخل السياق الجديد الذي أمدت به الأديان الموحى بها.

كتاباته السياسية هي الكتابات التي تهتم بأنظمة الحكم السياسية وبلوغ السعادة عن طريق الحياة السياسية، إنها تصور مشكلة الانسجام بين الفلسفة والإسلام بمنظور جديد، أعني منظور العلاقة بين نظام الحكم الفاضل كما فهمه أفلاطون بصفة خاصة وقانون الإسلام الإلهي. فالفارابي تناظر مكانته في الفلسفة الإسلامية مكانة سقراط أو أفلاطون في الفلسفة اليونانية، وقد ألهمت أعماله أناسا مثل ابن رشد وابن سينا وابن ميمون وقد أعجبوا به بوصفه معلما ثانيا بعد أرسطو، وهو المفكر الوحيد لما بعد الكلاسيكية الذي فرضت سلطته عليهم الاحترام إلى جانب احترام القدماء.[16]


[1] أ/د على عبد الواحد وافى، المدينة الفاضلة للفارابي، لجنة البيان العربي، القاهرة، 1961، ص 11

[2] ابن صاعد، طبقات الأمم، تحقيق حياة العيد بوعلوان، دار الطليعة للنشر، بيروت، ط1، 1985، ص 72

[3] أ/د محمد على أبو ريان، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعرفة الجامعية، 2007، ص 328

[4] د أحمد الطيب، الجانب النقدي في فلسفة أبى البركات البغدادي، دار الشروق، القاهرة، 2010، ص 64

[5] ضمن مجموع نصوص لم تنشر متعلقة بتاريخ التصوف في بلاد الإسلام، لما سنيون. نقلا عن: د أبو ريان، تاريخ الفكر الإسلامي، ص 329

[6] محسن مهدي، الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية، ترجمة وداد الاحاج حسن، دار الساقي، بيروت، 2009، ص 17

[7] مقداد عرفة منسية، الفارابي فلسفة الدين وعلوم الإسلام، دار المدار الاسلامي، بيروت، 2013، ص 11

[8] انظر مثلا:

john watt: syriac and syrians mediations of greec political thought to islam in mélanges de l université saint joseph vol li 2004

Patricia crone: alfarabi imperfect constitutions, in mélanges de l΄ université saint joseph, vol lvii 2004

[9] انظر Miriam galston: politics and excellence the political philosophy of alfarabi

[10] Ibrahim Medkouri: la place d'Alabi dans l'école philosophique musulmane paris 1934

[11] ر. داوري، مقال الفارابي المعلم الثاني، ضمن كتاب جماعي: الفارابي في الذكرى الألفية لوفاته، القاهرة، 1983، ص 355

[12] الفارابي، إحصاء العلوم، تحقيق عثمان امين، دار الفكر العربي، القاهرة، 1949، ص 11

[13] ن. م، ص 13

[14] ن. م، ص 14

[15] ن. م، ص 14

* هناك باحث إيطالي ماسيمو كامبانيني massimo campanini يعتبر الفارابي رائدا اللاهوت السياسي بالتحديد الذي عرفه كارل شميت (في دراسته الفارابي وتأسيس اللاهوت السياسي في الإسلام ضمن كتاب islam the state and political authorithy edited by asma afsaruddin palgrave usa 2011) على خلاف الكثير من الباحثين الذين يعتبرون الفارابي مؤسس الفلسفة السياسية.

[16] محسن مهدي، الفارابي ضمن تاريخ الفلسفة السياسية، ص 305