ابن خلدون وابن الخطيب، الصداقة الفكرية والنكبة السياسية


فئة :  مقالات

ابن خلدون وابن الخطيب، الصداقة الفكرية والنكبة السياسية

ابن خلدون وابن الخطيب، الصداقة الفكرية والنكبة السياسية

محمد جلال

لا تقل "الرسائل الفكرية" المتبادلة بين المثقفين والعلماء أهمية عن مؤلفاتهم التي أنتجوها. والثقافة الإنسانية حافلة بالكثير من هذه الرسائل، التي ساهمت في إيضاح بعض الإشكالات المرتبطة بالزمان والمكان والبيئة التي احتضنت أصحابها، وأضاءت الكثير من الثغور المظلمة في حياتهم؛ فهي وسيلة فريدة اعتمد عليها المفكرون والأدباء والساسة، لإبلاغ المشاعر والمواقف والأفكار وحتى القرارات والأهداف. ولنا في ذلك شواهد كثيرة من المراسلات التي دارت بين ثلة من المفكرين في بلاد العرب وأوروبا وغيرهما.

في بادئ الأمر نسجل ملاحظة مهمة، وهي أن الكثير من المصنفات الفكرية العربية الإسلامية وضعت تحت اسم رسالة أو رسائل[1]، والاستعمال الاصطلاحي لكلمة "رسالة أو رسائل"، التي توضع لتسمية بعض المؤلفات في التراث الفكري العربي الإسلامي، يخلق بعض اللبس، كما أن السياق الذي ترد فيه كلمة "رسالة"، في هذا التراث، تتباين حسب المواضيع المطروقة. فقد نعثر على مؤلف كبير تحت مسمى "رسائل"، يحوي أنواعا مختلفة من النصوص الفكرية. وتوضع تسمية "رسالة" في عناوين الكتب بصرف النظر عما إذا كانت مرسلة إلى متلق مخصوص أو إلى عامة القراء.

لكننا لن نقدم في هذا المقام المؤلفات الموضوعة تحت اسم "رسالة أو رسائل"، بل سنخوض فقط في "الرسالة" التي تهم متلق بعينه، والتي ترد أحيانا تحت مسمى "المخاطبة أو المخاطبات"، التي نجد لها شواهد كثيرة في تراثنا الفكري العربي الإسلامي والتراث الفكري الإنساني عامة[2]. وبالنظر إلى الحاجة الإبستيمية التي تلزم الباحث بضرورة تقصي الأفكار وتمفصلاتها داخل المتن الفكري المدروس، وفي شموليته، فإنه من الضروري الوقوف عند هذه المراسلات (المخاطبات)؛ ذلك أن "الرسالة الفكرية" أسلوب ثقافي في مكنته أن يعري بعض الإشكالات المعرفية التي تتناغم مع الكتب الأخرى المؤلفة من لدن مؤلف ما، وتمكن بذلك من فهم إشكالات معرفية وتاريخية واجتماعية عديدة، اجتمعت مع بعضها لتؤلف المرجعية الفكرية لصاحبها. وهذا هو الحال مع ابن خلدون، مؤلِّف "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، وصاحبه لسان الدين ابن الخطيب، مؤلِّف "الإحاطة في أخبار غرناطة". وتساعدنا الرسائل الواردة في كتاب "التعريف"، إضافة إلى ما ورد في الإحاطة للسان الدين بن الخطيب، في فهم المناخ (السياسي والاجتماعي) الذي عاش فيه كل منهما.

نروم في هذا المقام الكشف عن خبايا العلاقة الوطيدة التي جمعت ابن خلدون مع ابن الخطيب، والجو السياسي والاجتماعي الذي عاصراه، زادنا في ذلك ما كتبه كل منهما حول شؤون السياسة وأخبار الأمراء والسلاطين، والعلاقة التي جمعتهما مع هؤلاء الأمراء داخل الأقطار المغربية والأندلسية.

هناك رأي سائد عند مجموعة من الناس ممن يعتقدون أن ابن خلدون عكف على تأليف كتاب العبر في قلعة بني سلامة، زاهدا في أحوال الدنيا غير آبه بما يحدث حوله من أحداث ووقائع، وهو رأي يجب التحرر منه كليه. فابن خلدون، قبل أن يؤلف كتاب العبر، انخرط في الحياة السياسية، وعاصر تقلبات اجتماعية وسياسية كان لها الأثر البالغ في فكره. وبذلك، فإن الرأي الذي يرى أن ابن خلدون كان منعزلا عن هموم زمانه وبلده رأي يجانب الصواب؛ إذ لم تكن أفكاره مجرد خيالات متعالية، بل كانت نتاج تجربة حياتية أولا، ثم قراءة تاريخية لأحوال الأمم ثانيا. كما عاين القلاقل السياسية والاضطرابات والحروب التي عصفت بدول المغرب، في مرحلة بداية النكوص العلمي والثقافي في الفضاء العربي الإسلامي.

ألف ابن خلدون "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر" في تسع سنوات ما بين 767هـ/776هـ، وهي تقريبا الفترة التي كان فيها ابن الخطيب منكبّا على تأليف مؤلفه "الإحاطة في أخبار غرناطة"، الذي انتهى من تأليفه سنة 771هـ[3]، وكانا، إبان هذه الفترة، قد تبادلا الكثير من المراسلات، التي سنورد فيما يلي بعضها لإيضاح أوجه العلاقة التي ربطت بينهما.

لم يكن ابن خلدون وابن الخطيب رجلا سياسة في بادئ الأمر، بل كان اهتمامها منصبا حول شؤون التاريخ والفكر والعلم والأدب، وبسبب ضلوع باعهما الثقافي انخرطا في الحياة السياسية، التي كانت آنئذ تعتد بوجود مثقفين داخل مفاصل الدولة، رغم أن الأصول التي ينتمي إليها كل منهما تشهد بانخراط آبائهما وأجدادهما في معترك السياسة.

لم يستكن ابن خلدون لشؤون السياسة على حساب انشغاله الفكري والثقافي، بل إن ضلوع باعه في الثقافة كان السبب الأساس في سطوع نجمه السياسي، ومن ثم اشتغاله حاجبا لدى بعض السلاطين في تونس والمغرب الأوسط، ولم يكن ليستقر له حال دون البحث عن قرين يحاوره ويتقاسم معه ما تجود به القرائح الفكرية، وما تطالعه عين المفكر في أحوال الأمم وشؤونها. فكان لسان الدين ابن الخطيب، الملقب بذي الوزارتين، أهلا لهذه الصداقة الفكرية الرفيعة، التي أرخ ميلادها سنة 761هـ، عندما حل الوزير ابن الخطيب مع سلطانه محمد بن يوسف ابن إسماعيل النصري من الأندلس عند السلطان أبي سالم بالمغرب، حيث التقى ابن خلدون مع ابن الخطيب في حفل أقامه السلطان أبو سالم بفاس إكراما للسلطان ابن الأحمر المخلوع ووزيره ابن الخطيب، وكان لكل من ابن خلدون وابن الخطيب وزن عند أهل زمانهما من الخاصة والعامة.

لقد كانت الصداقة -السياسية- بين السلطان أبي سالم والسلطان محمد بن يوسف بن إسماعيل النصري أقدم من هذا الحدث، الذي ذكرناه، إذ سبق للسلطان محمد أن استقبل السلطان أبي سالم، وأكرم نزله، عندما حل منفيا من تونس، بعد أن نفاه شقيقه السلطان أبي عنان الذي استبد بالأمر، ولما هلك أبو عنان عاد السلطان أبي سالم لاعتلاء كرسي الحكم، فظلت أواصر الود قائمة بين السلطان أبي سالم والسلطان محمد بن يوسف بن إسماعيل النصري، فكان هذا الاستقبال، الذي حظي به السلطان محمد ووزيره ابن الخطيب، حلقة ضمن حلقات التآخي الدبلوماسي بين السلطانين وأتباعهما.

على بساط العلم والفكر، وتحت راية السياسة، قامت، إذن، الصداقة الفكرية التي جمعت ابن خلدون بلسان الدين ابن الخطيب، في جو من الحوار الفكري الرصين، الذي أحاط بالإشكالات (السياسية والفكرية) الكثيفة التي عرفها الغرب الإسلامي والعالم الإسلامي قاطبة آنئذ، بل والدخول في معتركها من باب واسع. ولعل كتاب "التعريف" لابن خلدون، الذي يشبه بعض الشبه ما نسميه اليوم بـ "السيرة الذاتية"، نظرا لأن المؤلف سرد فيه أحداثا كثيرة من حياته الخاصة ومن أحداث مجتمعه، يساعدنا في استخلاص أبعاد هذه الصداقة، التي وصلت ابن خلدون بصاحبه لسان الدين ابن الخطيب، إضافة إلى ما أورده صاحب الوزارتين في مؤلفه الكبير "الإحاطة في أخبار غرناطة".

صداقة ابن خلدون وابن الخطيب، لم تكن من نوع صداقات المصلحة، القائمة على النفع المتبادل، بل هي صداقة تحاكي نوع الصداقة الفاضلة التي تحدث عنها أرسطو، فصداقة ابن خلدون وابن الخطيب صداقة تامة قوامها الفضيلة والمعرفة، ويصدق فيها تعريف أرسطو، عندما اعتبر أن "الصداقة التامة هي صداقة الأخيار المتشابهين بالفضيلة، فإن هؤلاء يريدون الخيرات بعضهم لبعض بنوع التشابه على أنهم أخيار بذاتهم."[4] ولعل الفضيلة التي يتشارك فيها ابن خلدون وابن الخطيب هي فضيلة المعرفة، التي هي أرقى الفضائل بإطلاق.

مع مرور الزمان، وتبدل الأحوال، توطدت علاقة ابن خلدون وابن الخطيب حتى صار كل منهما يعرف الآخر حق المعرفة، في أحواله وشؤونه ومؤلفاته، حتى أن ابن خلدون لخص أرجوزة أصول الفقه لابن الخطيب، بحسب ما يقوله ابن الخطيب ذاته: "شرع في هذه الأيام في شرح الرجز الصادر عني في أصول الفقه، بشيء لا غاية وراءه في الكمال."[5]

السلطة العلمية والسلطة السياسية

لقد كان هناك تداخل جلي بين السلطتين العلمية والسياسية زمن ابن خلدون وابن الخطيب، ولا نجازف، إذا قلنا إن السلطة العلمية التي كانت لهذين الرجلين هي التي أهلتهما لاعتلاء السلطة السياسية. فابن خلدون الذي شغل منصب الحجابة، وهو منصب سياسي خطير، شُهد له بطول باعه في العلم والفكر قبل أن يرتقي المنصب الذي شغله. وقام، على المستوى السياسي، بمهام جليلة لا يؤديها أي اتفاق، والشاهد عندنا على ذلك هي المسؤوليات الجسام والمهام الجليلة التي أداها أيام حكم السلطان أبي سالم؛ فقد قام بدور سياسي خطير بلغ حد التدخل في شأن تعيين الحكام القائمين على بعض الثغور. فتدخل لدى السلطان أبي سالم لبعث بعض الأمراء إلى الثغور التي سيحكمونها، وهو في ذلك يقول: "كان لي المقام المحمود في بعث هؤلاء الأمراء إلى بلادهم وتوليت كبر ذلك مع خاصة السلطان أبي سالم وكبار أهل مجلسه، حتى تم القصد من ذلك."[6]

ومنصب الحجابة وهو منصب سياسي رفيع يشبه بعض الشبه ما يسمى عندنا اليوم بـ "رئيس الوزراء"، لكنه يختلف عنه بعض الاختلاف من جهة أن الحاجب يحجب السلطان عن العامة وأحيانا حتى الخاصة، يقول ابن خلدون "معنى الحجابة -في دولنا بالمغرب- الاستقلال بالدولة، والوساطة بين السلطان وبين أهل دولته، لا يشاركه في ذلك أحد"[7]، كما يتولى الحاجب أخذ البيعة للسلطان عند توليه سدة الحكم، ويفاوض الرعية إن تطلب الأمر ذلك ويتدخل لفض النزاعات التي قد تطرأ لأسباب سياسية، تحت إمرة الحاكم القائم على أمر البلد، ويجهز أسفاره ورحلاته.

لم يرق ابن خلدون إلى منصب الحجابة؛ لأنه كان صاحب سيف، ولم يثبت عندنا أنه ولج حربا أو شارك في قتال، بل ارتقى إلى هذا المنصب الرفيع بسبب سلطته العلمية المشهودة عند حكام بلاده وأهل زمانه. وحاله في ذلك يشبه بعض الشبه حال لسان الدين ابن الخطيب، فلسان الدين ابن الخطيب كان من خاصة السلطان ابن الأحمر بغرناطة، كما تقدم، وشغل منصب الوزارة عند ثلاثة سلاطين من سلاطين بني الأحمر، وكان معروفا بضلوع باعه في الفكر والشعر والأدب عند ساسة وفقهاء ومفكري زمانه، وحتى عند العامة منهم. ووصل طول باعه إلى دول المغرب، خاصة وأنه كان يلقي شعره أمام الملأ، فيعبر بأشعاره عما يخالج نفسه من غايات وأهداف.

جمعت بين ابن خلدون وابن الخطيب لقاءات كثيرة، سواء في بلاد المغرب أو الأندلس، وتوطدت علاقتهما مع مرور الزمان، حتى أصبحت الصحبة بينهما تتحدى سائر عوامل التفرقة والاختلاف، ويحكي ابن خلدون بعضا من أوجه هذه الصحبة الرفيعة، عندما حل يوما ضيفا عند ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب، الذي أكرمه غاية الكرم، وهو في ذلك يقول: "خرج الوزير ابن الخطيب فشيعني إلى مكان نزلي، ثم نظمني في علية أهل مجلسه، واختصني بالنجي في خلواته، والمواكبة في ركوبه، والمواكلة والمطايبة والفكاهة في خلوات أنسه، وأقمت على ذلك عنده"[8]

الغالب على مخاطبات ابن خلدون وابن الخطيب هي عبارات الود والتآخي، حيث نقرأ، على سبيل المثال لا الحصر، في هذا المقطع من إحدى مخاطبات ابن الخطيب المرسلة لابن خلدون: "يا سيدي إجلالا واعتدادا، وأخي ودا واعتقادا، ومحل ولدي شفقة سكنت مني فؤادا. طال علي انقطاع أنبائك، واختفاء أخبارك، فرجوت أن تبلغ النية هذا المكتوب إليك، وتخترق به الموانع دونك، وإن كنت في مباثتك كالعاطش الذي لا يروى، والآكل الذي لا يشبع، شأن من تجاوز الحدود الطبيعية، والعوائد المألوفة"[9]

إن عبارات من قبيل: سيدي -أخي- محل ولدي، إضافة إلى الشوق الكبير الذي عبر عنه ابن الخطيب بعبارات دالة، كلها تبرز حجم المكانة التي كانت لابن خلدون في نفس صديقه ابن الخطيب، وتنم عن عمق الرابطة الأخوية التي جمعتهما، بصرف النظر عن البعد الجغرافي والاختلاف في المواقع والمهام.

وابن خلدون نفسه، يرد على صاحبه بعبارات تبرز الإجلال الكبير الذي يجلّه، إذ يقول: "فأجبته عن هذه المخاطبات، وتفاديت من السجع خشية القصور عن مساجلته، فلم يكن شأوه يُلْحَقُ. ونص الجواب: سيدي مجدا وعلوا، وواحدي ذخرا مرجوا، ومحل والدي برا وحنوا. ما زال الشوق منذ نأت بي وبك الدار، واستحكم بيننا البعاد يرعي سمعي أباءك، ويخيل إلي من أيدي الرياح تناول رسائلك، حتى ورد كتابك العزيز على استطلاع."[10]

إن هذه العبارات، التي ردّ بها ابن خلدون على رسالة صديقة ابن الخطيب، تنم كذلك عن علو شان ابن الخطيب لدى صاحبه، ونفهم منها كذلك سبب ورود عبارة "محل ولدي" لابن الخطيب، وعبارة "محل والدي" لابن خلدون. إذ كان لسان الدين ابن الخطيب أكبر من ابن خلدون بما يقارب عقدين من الزمان.[11]

الظاهر من المخاطبات التي دارت بين ابن خلدون وابن الخطيب أن أواصر العلاقة بين الرجلين كانت تتجاوز حدود صداقة بين مؤرخين عالمين يتبادلان الأخبار ويقتفيان الآثار، بل كانت صداقتهما حميمية تهتم بالأحوال الشخصية قبل المسائل الفكرية، وإن كان كل منهما يجل الآخر لمكانته العلمية والأدبية.

أما المسائل العلمية، فكان لها نصيب في هذه المخاطبات، التي دارت بين ابن خلدون وابن الخطيب، فنجدهما من حين لآخر يخبران بعضهما بتأليف كتاب جديد أو الانشغال بالتأليف، كما يخبرنا ابن الخطيب في هذا القول، حيث يقول: "آخر ما صدر عني كناش سميته باستنزال اللطف الموجود، في أسر الوجود، أمليته في هذه الأيام التي أقيم بها رسم النيابة عن السلطان في سفره إلى الجهاد، بودي لو وقفتم عليه، وعلى كتابي في المحبة، وعسى الله أن ييسر ذلك."[12]

تشابه حال ابن الخطيب بحال ابن خلدون

لم تكن حياة ابن خلدون مستقرة إبان حكم أبي عنان (تولى الحكم من 752هـ إلى 759 هـ)، إذ طاردته الدسائس والمؤامرات التي قادها خصومه بعد أن ارتقى المراتب السياسة، ونال الحظوة الواسعة عند أبي عنان. فاشتدت نائرة الحسد والغبن في نفوس خصومه، الذين سعوا إلى بلوغ ما بلغ من شأن، فأوقدوا شرارة الغضب في نفس الأمير أبي عنان، بعد أن اتهموا ابن خلدون بالسعي وراء الفتنة ونزع الحكم من يده والتآمر ضده، فقبض عليه وزجه في السجن، وهو في ذلك يقول: "كثر المنافسون، ورفعوا إلى السلطان، وقد طرقه مرض أرجف له الناس، فرفعوا له أن الأمير أبا عبد الله اعتزم على الفرار إلى بجاية، وأني عاقدته على ذلك، على أن يوليني حجابته، فانبعث لها السلطان، وسطا بنا، واعتقلني نحوا من سنتين إلى أن هلك."[13] والأمير أبو عبد الله هذا، الذي اتهم ابن خلدون بالتآمر لصالحه، هو السلطان محمد أبو عبد الله الفحصي، الذي تولى حكم بجاية، قبل أن يخلعه السلطان أبي عنان، المستولي على سلطان أبيه، ويزجّ به (أي بالسلطان أبي عبد الله) في سجن فاس مع ابن خلدون.

لقد كان السلطان أبو عنان صارمًا جسورا في حكمه، وقد دفعه طموحه السياسي إلى خلع أبيه علي بن عثمان أبي الحسن. ولم يكن يتردد في قتل أي صوت معارض لحكمه، ولا يسمح بارتقاء من يشك فيه مواقع المسؤولية، ولا متساهل مع الخصوم والأعداء، وقد تم له بفضل هذا النهج، المستبد، حيازة ثغور كثيرة من المغرب الأوسط وتلمسان وبجاية.

إن واقعة اعتقال ابن خلدون تشبه، بعض الشبه، واقعة اعتقال صديقه ابن الخطيب، الذي عانى بدوره من تسلط الأمير ابن إسماعيل من ملوك بني الأحمر في غرناطة. فقد شهدت غرناطة زمن ابن الخطيب قلاقل سياسة واضطرابات اجتماعية عديدة، أبرزها اغتيال السلطان أبي الحجاج يوسف ابن الأحمر سنة 755هـ، لمّا كان يؤدي صلاة عيد الفطر في المسجد، والذي قتل على يد شخص مجنون، في ذاك اليوم. ثم الثورة التي تلت ذلك، والتي قادها ابن إسماعيل الأحمر (المتغلب على الأمر) ضد شقيقه محمد ابن يوسف ابن إسماعيل النصري.

لما ارتقى بن إسماعيل بن الأحمر (المتغلب على الأمر) سدة الحكم أبقى على ابن الخطيب في منصبه، لكن عندما كثرت الوشايات واشتعلت نائرة الحساد، أسقطه من هذا المنصب وأودعه السجن، ويقول ابن الخطيب في ذلك: "افتدى فيّ أخوه المتغلب على الأمر، فسجل الاختصاص، وعقد القلادة، ثم قطع الإبقاء، وعكس الاختصاص، وحل القلادة، ثم قطع الإبقاء، وعكس الاختصاص وحل القلادة، لما حمله أولو الشحناء، من أعوان ثورته على القبض علي فكان ذلك."[14]

بعد أن قضى ابن الخطيب مدة في السجن أفرج بن إسماعيل بن الأحمر عنه، بعد أن كاتبه السلطان أبي سالم، القائم على شأن تونس، إذ "كتب إلى ابن إسماعيل وشيعته يأمرهم بتخلية طريق الغني بالله للقدوم عليه، ويشفع في تسريح ابن الخطيب وتخلية سبيله، فأجابوه إلى ذلك وقدم الغني بالله بن الأحمر ووزيره ابن الخطيب على السلطان أبي سالم في السادس من محرم فاتح سنة إحدى وستين وسبعمائة."[15] وبقي ابن الخطيب في منفاه مكرما مع سلطانه الغني بالله في حضرة السلطان أبي سالم إلى أن عاد الحكم للسلطان محمد بن يوسف بن إسماعيل النصري في الأندلس، فعاد ابن الخطيب مع سلطانه سنة 763هــ. وبقت أواصر الصداقة بين ابن خلدون وابن الخطيب قائمة، بفضل العلاقة الجيدة التي جمعت بين سلطانيهما محمد الغني بالله وأبا سالم.

كما كان ابن خلدون وابن الخطيب يعرفان الخلال والأحوال النفسية لبعضهما البعض، من فرح أو قرح، فيشارك كل منهما الآخر أخباره وأحواله، فيخبر عما طرأ على صاحبه من تحول في الشؤون والأحوال، وقد كتب ابن الخطيب يقول عن ابن خلدون بعد عودته من الأندلس إلى بجاية، عقب توليه الحجابة لدى الأمير عبد الله[16]، القائم على شأن بجاية: "هو الآن قد بدا له في التحول، طوع أمل ثاب له في الأمير أبي عبد الله بن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص، لما عاد إليه ملك بجاية، وطار إليه بجناح شراع، تفيَّأ ظله، وصك من لدنه رآه مستقرا عنده، يدعم ذلك بدعوى تقصير خفي أحس به، وجعله علة منقلبه، وتجن سار منه في مذهبه وذلك في عام ثمانية وستين وسبعمائة. ولما بلغ بجاية صدق رأيه، ونجحت مخيلته، فاشتمل عليه أميرها، وولاّه الحجابة بها."[17]

تولى السلطان أبي عبد الله حكم بجاية تحت إشراف السلطان أبي سالم، وابن خلدون أخبرنا، كما تقدم، أنه توسط عند السلطان أبي سالم لبعث الأمراء إلى ثغورهم، ومنهم السلطان أبي عبد الله، الذي استقل بحكم بجاية، بسبب الود القديم الذي ربط بينه وبين ابن خلدون، الذي شغل منصب الحجابة عنده، كما مر، لكن هذا الأمر سيكون له ما بعده. وبالرغم من ترقي ابن خلدون، سياسيا، إلا أن هذا الأمر سيكون له آثار أخرى على علاقاته الاجتماعية، خاصة علاقته مع صاحبه ابن الخطيب.

على الرغم من قوة وصلابة صداقة ابن خلدون وصاحبه بن الخطيب، إلا أن هذه الصحبة عاشت بعض النكوص، فبعد أن حصل القرب بين ابن خلدون، وبين السلطان أبي سالم وأمرائه نشبت ضغينة خفية بينه وبين الوزير لسان الدين ابن الخطيب، ويظهر هذا الأمر من خلال رحلة ابن خلدون إلى الأندلس، التي كان يقيم بها ابن الخطيب، وفي ذلك يقول ابن خلدون: "رجعت مع السلطان إلى فاس ثم كان ما قدمته من انصرافي إلى الأندلس والمقام بها، إلى أن تنكر الوزير ابن الخطيب، وأظلم الجو بيني وبينه"[18]

إن لهذه الواقعة؛ أي تولي ابن خلدون منصب الحجابة عند الأمير أبي عبد الله بن أبي زكريا الفحصي، أثر سالب في العلاقة الحميمة التي جمعت ابن الخطيب مع ابن خلدون. بسبب انشغال ابن خلدون الكبير بشؤون السياسة وخدمة السلطان الجديد. كما كان لها أثر عكسي في علاقة ابن خلدون مع السلطان محمد المستعين بالله، بسبب تشنج العلاقة التاريخية بين سلاطين بني الأحمر في غرناطة وسلاطين بني أبي حفص في تونس.

كان ابن خلدون كثير الترحال، وكان لسفره إلى الأندلس أثر خاص، إذ كان يقوم بمهام دبلوماسية جليلة، فقد أوفده مرة السلطان محمد الخامس ابن الأحمر إلى بيدرو ملك قشتالة، بعد أن نزل عند السلطان ابن الأحمر قادما من تونس، حيث "أوفده السلطان سفيرا عنه إلى بيدرو القاسي ملك قشتالة، ومعه هدية فخمة، لإتمام عقد الصلح وتنظيم العلائق بينهما"[19] وهو ما تم فعلا، إذ عقد الصلح بين السلطان محمد بن يوسف بن إسماعيل النصري وملك قشتالة بيدرو بن ألفونسو الحادي عشر.

نجح ابن خلدون في مهمته الدبلوماسية، وعاد إلى السلطان محمد بن يوسف بن إسماعيل النصري ظافرا، وعلى شأنه عند السلطان محمد، إلى حد أنه أنزله منزل الأشراف في غرناطة، واستقدم أهله إلى هناك؛ فانفرج حال ابن خلدون واتسع رزقه ولبث هناك عزيزا مكرما مدة أشهر في عيش رغيد. إلا أن هذه المكانة، التي حازها ابن خلدون عند السلطان محمد النصري لم ترق ابن الخطيب، الذي أحس بتهديد وشيك بسبب المكانة الجديدة التي نالها صاحبه عند سلطانه ابن الأحمر.

اضطرب ابن الخطيب بسبب المكانة التي أصبحت لابن خلدون في نفس سلطانه محمد بن يوسف بن إسماعيل النصري، إذ كان ابن الخطيب اليد اليمنى للسلطان محمد، كما قدمنا. ولم يكن ليقبل بدخول منافس جديد، حتى وإن كان هذا المنافس صديقا مقربا، كابن خلدون. وأحس ابن خلدون ذاته بتبدل حال ابن الخطيب، وأن المكانة الجديدة، التي نالها ابن خلدون، قد تفقده الصحبة العتيدة التي جمعته مع ابن الخطيب، لذلك فضل العودة إلى بجاية والانخراط مجددا في معترك الحياة السياسية.

عندما تم الحكم للأمير محمد أبي عبد الله على بجاية استدعى ابن خلدون، وفاء بالعهد الذي سبق أن قطعه، ليوليه منصب الحجابة، فقدم من الأندلس حيث كان يقيم في حضرة الأمير محمد بن يوسف بن إسماعيل النصري، كما تقدم. وكان ذلك سنة 766هـ. ويصف لنا ابن خلدون هذا الحدث وصفا دقيقا، فيقول: "وصل الخبر باستيلاء الأمير أبي عبد الله[20] على بجاية من يد عمه، في رمضان سنة خمس وستين، وكتب الأمير أبو عبد الله يستقدمني، فاعتزمت على ذلك، ونكر السلطان أبو عبد الله ابن الأحمر ذلك مني، لا يظنه لسوى ذلك، إذ لم يطلع على ما كان بيني وبين الوزير ابن الخطيب، فأمضيت العزم، ووقع منه الأسعاف، والبر والألطاف. وركب البحر من ساحل ألميرية، منتصف ست وستين. ونزلت بجاية لخامسة من الإقلاع، فاحتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي، وأركب أهل دولته للقائي. وتهافت أهل البلد علي من كل أوب يمسحون أعطافي، ويقبلون يديَّ، وكان يوما مشهودا."[21]

لم تكن النزاعات السياسية والعسكرية حالة مستغربة في منطقة شمال إفريقيا، خلال القرن الثامن الهجري، إذ إنه إبان انهيار دعائم الدولة الموحدية برزت عدة دول متناحرة ومتنافسة (دولة بني حفص في تونس، ودولة بني عبد الواد في تلمسان والمغرب الأوسط، ودولة بني مرين في فاس والمغرب الأقصى). وكانت هذه الدول، على المستوى الداخلي، مسرحا لثورات سياسية قوية، غيرت الخريطة الجغرافية ومواقع السلطة السياسية بين الحكام، فظهرت في هذه الدول وخارجها إمارات صغيرة متعارضة. وكانت دولة بني مرين، التي عاش ابن خلدون، فترة من الزمان، تحت رعاية وخدمة بعض من سلاطينها، هي الأقوى بين هذه الدول، إذ استطاعت فتح ثغور كثيرة في المغرب الأوسط وتونس. منذ الثورة التي قادها الأمير عبد الحق المريني ضد الموحدين، إلى أن ارتفعت راية الدولة المرينية على يد ابنه السلطان أبي بكر بن عبد الحق[22]، الذي فتح ثغورا كثيرة في المغرب الأقصى والأوسط، ثم السلطان أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق الذي سيطر على مناطق خارج المغرب، وغزا الأندلس عدة مرات.

كانت بجاية خاضعة للدولة الفحصية، لكن عندما استولى السلطان أبو يحيى اللحياني على تونس انتزعها وولى حكمها لابنه الأمير أبي زكريا، الذي حكمها حتى سنة 746هـ، وخلفه في الحكم الأمير محمد أبو عبد الله، لكن السلطان أبي الحسن زحف عليها وانتزعها من يد السلطان محمد هذا، الذي بقي منفيا في الثغور المغربية، إلى أن توفي السلطان أبي الحسن، فعاد الأمير محمد أبو عبد الله إلى حكم بجاية مدة، ثم انتزعها منه السلطان أبو عنان مرة أخرى، واعتقله في سجن فاس، وبقي هناك إلى أن هلك السلطان أبي عنان المريني، كما قدمنا. ثم عاد الأمير محمد أبو عبد الله إلى سالف عهده، وحكم بجاية كرة أخرى.

لكن حكم السلطان محمد أبي عبد الله ظل غير مستقر، على الرغم من سيطرته على حكم بجاية، والسبب في ذلك، كما يقول ابن خلدون، أن أهل بجاية "كانوا وجلين من السلطان أبي عبد الله بما كان يرهف الحد لهم، ويشد وطأته عليهم، فأجابوه إلى الانحراف عنه"[23]. وهذا السبب هو الذي سيؤلبهم ضده لاحقا، وسيسهل الطريق أمام الخصوم الذين أحاطوا الدوائر بالسلطان محمد أبي عبد الله. إضافة إلى الوضع الاجتماعي المتأزم في بجاية، والحروب التي كانت تقوم في أطراف الدول.

بسبب الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في بجاية، تدخل ابن خلدون لإنقاذ حكم السلطان أبي عبد الله من الإفلاس، خاصة بعد أن حدثت مشاحنات بينه وبين ابن عمه السلطان أبي عباس حاكم قسنطينة بسبب حدود الأعمال والرعايا والعمال، وبسبب المغامرات العسكرية، التي خاضها السلطان أبو عبد الله. يقول ابن خلدون في ذلك: "انهزم السلطان أبو عبد الله، ورجع إلى بجاية مفلولا، بعد أن كنت جمعت له أموالا كثيرة أنفق جميعها في العرب. ولما رجع أعوزته النفقة، فخرجت بنفسي إلى قبائل البربر بجبال المتمنعين من المغارم منذ سنين، فدخلت بلادهم واستبحت حماهم، وأخذت رهنهم على الطاعة، حتى استوفيت منهم الجباية، وكان لنا في ذلك مدد وإعانة"[24]، لكن محاولات ابن خلدون، لإنقاذ حكم السلطان أبي عبد الله لم تنجح، وآل حكم السلطان في الأخير إلى الزوال، بعد أن استولى ابن عمه السلطان أبي العباس على بجاية، وقتل ابن عمه السلطان محمد أبي عبد الله.

لكن على الرغم من العلاقة الوطيدة التي جمعت ابن خلدون بالسلطان أبي عبد الله، إلا أنه ناصر السلطان أبي العباس، بعد أن دحر وقتل سلطانه السابق. وساعد السلطان الجديد في بسط السيطرة على بجاية وهو في ذلك يقول: "خرجت إلى السلطان أبي العباس، فأكرمني وحباني، وأمكنته من بلده، أجرى أحوالي كلها على معهودها، وكثرت السعاية عنده في، والتحذير من مكاني، وشعرت بذلك، فطلبت الإذن في الانصراف بعهد كان منه في ذلك، فأذن لي بعد لأي."[25] وتغير الموقف، هذا، يمكن أن نرجعه إلى خوف ابن خلدون من جبروت السلطان الجديد (أبي العباس)، الذي لاحق ابن خلدون في مراحل لاحقة، على الرغم من الولاء الظاهر الذي أبداه ابن خلدون للسلطان أبي العباس.

تحرك ابن خلدون، إذن، في جو سياسي واجتماعي سمته الأساسية هي التنازع والصراع حول السلطة، وانخرط في حياة سياسية متقلبة، بدءا من تقلده مهمة رسم كتابة السلطانية عند السلطان أبي إسحاق، الذي كان حدثا ضعيفا، ثم تحمله من تحمله مهمة كاتبة السر والإنشاء عند الأمير أبي عنان المريني، ثم الكتابة والقضاء عند شقيقه السلطان أبي سالم، ثم وتوليه منصب الحجابة عند السلطان أبي عبد الله الفحصي. لكن كثرة القلاقل السياسية والصراعات العنيفة، التي شهدها ابن خلدون حول مواقع السلطة بين الحكام والأمراء في سائر أنحاء المغرب، دفعته إلى اعتزال السياسة وشؤونها، خاصة حينما عايش واقعة قتل أبي عبد الله، الذي كان قائما على شأن بجاية في تونس، الذي قتل على يد ابن عمه أبي العباس حاكم قسنطينة، كما قدمنا. فتراجع ابن خلدون عن نشاطاته السياسية، ورفض تقلد مهمة الحجابة ثانية، والتي كانت بطلب السلطان أبي حمو، الذي حارب السلطان أبي العباس، ومني بهزيمة نكراء أمامه. وفضل ابن خلدون أن يتنازل عن المهمة لأخيه أبي يحيى ابن خلدون، ويقول في ذلك: "بعثته إلى السلطان أبي حمو كالنائب عني في الوظيفة، متفاديا عن تجشم أهوالها، بما كنت نزعت عن غواية الرتب وطال علي إغفال العلم، فأعرضت عن الخوض في أحوال الملوك، وبعثت الهمة على المطالعة والتدريس."[26]

حينما انقطع ابن خلدون عن السياسة شرع في تأليف كتابه الخالد الموسوم بـ "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، وألحقه بالتعريف بمؤلفه، وكانت قلعة سلامة معتكفه في العلم والتأليف، واستمر في مخاطبة صديقه ابن الخطيب، الذي سينتهي بدوره إلى نفس النتيجة التي وصل إليها ابن خلدون، وهي الإعراض عن شؤون السياسة والانكباب على العلم والتأليف.

لم يكن ابن الخطيب أحسن حالا من ابن خلدون، فالصراعات السياسية التي حدثت في غرناطة حول السلطة، والاضطرابات الاجتماعية هناك، أثرت على صفاء ذهن ابن الخطيب، الذي أصبح بدوره يفضل ترك مسافة فاصلة مع السياسة وشؤونها والاهتمام بالعلم والأدب والتأليف. ونجده يشكو تبدل حاله لصاحبه ابن خلدون بعبارات صريحة، إذ يقول: "أما البواطن فمما لا يتأتى كثرة وضنانة، وأخص، بالصاد، ما أظن تشوفكم إليه حالي. فاعلموا أنني قد بلغ بي الماء الزبى، واستولى علي سوء المزاج المنحرف، وتوالت الأمراض، وأعوز العلاج، لبقاء السبب، والعجز عن دفعه، وهي هذه المداخلة جعل الله العاقبة فيها إلى خير، ولم أترك وجها من وجوه الحيلة إلا بذلته. فما أغنى ذلك عني شيئا، ولولا أنني بعدكم شغلت الفكر بهذر التأليف، مع الزهد، وبعد العهد، وعدم الإلماع بمطالعة الكتب، لم يتمش حالي من طريق فساد الفكر إلى هذا الحد."[27]

بعد أن خاض ابن الخطيب غمار الحياة السياسية، وعاش تقلباتها والمحن التي عادت عليه بفعل أهواء السلاطين والحكام، والنكبة التي حصلت له من السلطان إسماعيل ابن الأحمر النصري، اعتزل الحياة السياسية وتفرغ للنظر والتفكير في آثار الأقدمين، ويقول أبو العباس أحمد بن خالد الناصري في ذلك: "كان ابن الخطيب رحمه الله عندما حصلت له هذه النكبة وخلصه الله منها بانتقاله إلى بلاد العدوة قد عنّ له رأي في التزهد والانقطاع إلى الله تعالى واغتنام العمر فيما يعود نفعه في العاجل والآجل ورفض السلطان وأسبابه، وترك ما يلجئه للوقوف ببابه، فتلطف في استئذان السلطان أبي سالم رحمه الله وطلب منه الإذن في الذهاب إلى جهات مراكش والوقوف على آثار الأقدمين بها.".[28]

الظاهر من الأمر أن الحياة السياسية بتقلباتها لا ترضي العلماء والفلاسفة ولا تجذبهم، وليس بدعا أن يكره الفلاسفة رئاسة المدن، لما في ذلك من متاعب تنغص صفاء فكرهم وتدفعهم إلى المشاحنة والصراع لضمان استمرار الحكم، ويفضلون بدلا من ذلك أن يجعلوا لأنفسهم مساحة خاصة للنظر والتفكير في الإشكالات النظرية والعملية دون الانخراط المباشر في معترك الحياة السياسية، لما تحمله من محن ومصاعب، وما تتطلبه من استعداد دائم نحو الصراع.

محنة لسان الدين ابن الخطيب ومقتله

لم يستعد ابن الخطيب، بعد عودته من المنفى مع سلطانه الغني بالله إلى غرناطة، مكانته ومنزلته كما في السابق، إذ طاردته الدسائس والمؤامرات، التي أراد أصحابها دحر ابن الخطيب وتنحيته عن المنصب الذي هو فيه. واشتدت نائرة الخصوم إلى حد أنهم ألبوا ضده الفقهاء واستغلوا السلطة الدينية لتكفيره والنيل منه، وهو ما جعل ابن الخطيب يبحث عن مخرج من الدائرة التي أحاطته، بفعل حملة التكفير والتشهير، التي قادها الخصوم والأعداء.

ولما تقين ابن الخطيب أن خصومه عازمون على أمر إطاحته كاتب سلطانه الغني بالله يشكوه حاله، بعد ضاقت عليه دوائر الخصوم، فقال: "قد علمتم ما كان مني حين مفارقة صاحب تلمسان، واضمحلال أمره، من إجماع الأمر على الرحلة إليكم، والخفوف إلى حاضرة البحر للإجازة إلى عدوتكم، تعرضت فيها للتهم، ووقفت بمجال الظنون، حتى تورطت في الهلكة بما ارتفع عني ما لم آته، ولا طويت العقد عليه، لولا حلم مولانا الخليفة، وحسن رأيه في وثبات بصيرته، لكنت في الهالكين الأولين، كل ذلك شوقا إلى لقائكم، وتمثلا لأنسكم، فلا تظنوا بي الظنون، ولا تصدقوا في التوهمات، فأنا من علمتم صداقة، وسذاجة، وخلوصا، واتفاق ظاهر وباطن، وأثبت الناس عهدا، وأحفظهم غيبا وأعرفهم بوزن الإخوان ومزايا الفضلاء."[29] لكن هذه الرسالة لم تصمد أمام قوة العداء الظاهر والباطن، المحمل بالشحناء تجاه ابن الخطيب، وكانت نائرة الحساد وغبن الخصوم أقوى من استجداء ابن الخطيب، ما جعله يفر ناجيا بنفسه.

لم يجد ابن الخطيب مكانا يهتدي إليه أفضل من الدولة المرينية، التي قطع أميرها عهدا لابن الخطيب، لاستقباله وحمايته. وبعد أن أحاط المقربون من الغني بالله الدوائر بابن الخطيب، وتوافقوا على إطاحته من منصبه، فر ناجيا بنفسه، قادما عند السلطان عبد العزيز المريني، رغم أن السلطان محمد بن إسماعيل بن الأحمر صم أذنه عن سماع اتهامات خصوم ابن الخطيب، إلا أن هذا الأخير استشعر قوة وإصرار الخصوم على السعاية فيه لدى سلطانه، مما جعله يطلب الإذن من السلطان ابن الأحمر ليتجه نحو العدوة المغربية، والنزول عند السلطان عبد العزيز المريني.

نزح ابن الخطيب إلى المغرب الأقصى، واستقر عند بني مرين، وأكرم السلطان عبد العزيز المريني وفادته، ووفر له الأمن والأمان، واستقدم أسرته من غرناطة، ورفض تسليمه لابن الأحمر، وبقي عزيزا مكرما، إلى أن استولى السلطان أبو العباس على الأمر، فاعتقل ابن الخطيب، بعد أن طاب الخصوم في عدوة غرناطة تسليمه، تحت ذريعة الزندقة والكفر[30]، التي أشهرها خصومه وأعداؤه، وسجلوا عبارات قالوا أنها وردت في بعض كتبه، فقبض عليه وأعدم وأحرقت جثته سنة 776هـ (1374م).

خاتمة

لقد جاء ابن خلدون وابن الخطيب في مرحلة كانت فيها شمس الحضارة العربية الإسلامية آخذة في الأفول، بفعل القلاقل السياسية وانتشار الأمراض والأوبئة وتسلل الفكر الخرافي إلى أذهان الناس، وكان ابن خلدون واعيا بهذا التراجع الحاصل، فعبر عن ذلك بقوله: "وأما لهذا العهد، وهو آخر المائة الثامنة، فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه، وتبدلت بالجملة، واعتاض عن أجيال البربر أهله على القدم بمن طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كسروهم وغلبوهم وانتزعوا منهم عامة الأوطان، وشاركوهم في ما بقي من البلدان لملكهم هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف المائة الثامنة من الطاعون الجارف، الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها"[31]

لقد كان ابن خلدون واعيا، تمام الوعي، بالنكوص الحاصل في العالم العربي الإسلامي، وتجلى وعيه في فكره التاريخي القائم على فكرة "دورة العمران". كما أن اتصال ابن خلدون بالسلاطين والمفكرين في زمانه جعله يقف على أساس بناء الدول، فاعتبر أن العصبية هي قوام الحكم، لكن حكم الحكام لم يكن يستقر على حال في هذا الزمان، نظرا للاضطرابات السياسية والاجتماعية التي سادت في أرجاء البلاد المغربية. وقد كان لهذه الاضطرابات تأثير بارز في حياة ابن خلدون، الذي بدأ حياته السياسية بالعمل عند الوزير ابن تافراكين، واشتغل بعدها مع أمراء وحكام كثر، استخلص من تجاربهم أن السلطة السياسية في بلاد الغرب الإسلامي بلغت من الوهن حدا جعل الدول تأكل نفسها.

لقد قام ابن الخطيب، في الأندلس، بنفس الدور الذي قام به ابن خلدون، في دول المغرب. وكان كل منهما عالما بأحوال عصره وبيئته، متفننا في عوالم الفكر والعلوم. وجمعت بينهما أواصر صداقة متينة وتقدير كبير، وإن طرأت على علاقتهما، في بعض الأحيان، طوارئ عكرت صفو الجو بينهما، إلا أن صداقتهما كانت عظيمة بعظمة فكرهما، الذي طرق جل المسائل المتصلة بالحياة الإنسانية الواصلة إلى زمانهما، الزاخر بالأحداث والتقلبات السياسية والاجتماعية.

 

*- لائحة المصادر والمراجع المعتمدة

- ابن الخطيب لسان الدين، الإحاطة في أخبار غرناطة، حقق نصه ووضع مقدمته وحواشيه محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي بالقاهرة، مصر، المجلد الرابع، الطبعة الأولى سنة 1977

- ابن الخطيب لسان الدين، الإحاطة في أخبار غرناطة، حققه ووضع مقدمته وحواشيه محمد عبد الله عنان، منشورات مكتبة الناجي مصر القاهرة، المجلد 1 الطبعة 1 سنة 1975

- ابن الخطيب لسان الدين، الإحاطة في أخبار غرناطة، حققه ووضع مقدمته وحواشيه محمد عبد الله عنان، منشورات مكتبة الناجي مصر القاهرة، المجلدالثاث، الطبعة 1 سنة 1975

- ابن خلدون عبد الرحمان، التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، عرضه بأصوله وعلق حواشيه محمد بن تاويت الطنجي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، مصر القاهرة، سنة 1951

- ابن خلدون عبد الرحمان، كتاب المقدمة، تحقيق عبد الواحد وافي، دار النهضة، مصر، ج1، ط7، سنة 2014

- أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الدولة المرينية، القسم الثاني، الجزء الرابع، تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري، منشورات دار الكتب، الدار البيضاء المغرب، سنة 1997

- أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الدولة المرينية، الجزء 3، تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري، منشورات دار الكتاب، الدار البيضاء المغرب، سنة 1997

- أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخوس، ترجمة إسحاق ابن حنين، حققه وشرحه وقدم له عبد الرحمان بدوي، منشورات وكالة المطبوعات، الكويت ط1 سنة 1979

- عنان محمد عبد الله، ابن خلدون حياته وتراثه الفكري، مطبعة دار الكتب المصرية، مصر القاهرة، ط 1 سنة 1933

[1] من ذلك على سبيل المثال لا الحصر: رسالة الكندي في "حدود الأشياء ورسومها" ورسالة الفارابي الموسومة بـ "جوابات لمسائل سئل عنها" ورسائل ابن رشد الطبية، إلى غير ذلك من المؤلفات الموضوعة تحت مسمى "رسالة أو الرسائل".

[2] يمكننا استحضار المراسلات التي دارت بين المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي، وفيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة أبي العلاء المعري، كما نجد في العصر الحديث رسالات كتبها فولتير في منفاه بإنجلترا بين عامي 1726 و1728، وفي الحقبة المعاصرة انتعشت بشدة المراسلات الفكرية بين المثقفين والعلماء والفنانين، ويمكننا أن نستحضر هنا رسائل الفيلسوف الماركسي جورج لوكاش، خاصة تلك التي دارت بينه وبين صديقه الناقد والفنان ليو بوبر، أنظر مراسلات جورج لوكاش، ترجمة نافع معلا، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، سوريا دمشق، سنة 2010

[3] هكذا نجد في الترجمة التي كتبها ابن الخطيب عن نفسه في آخر كتاب "الإحاطة في أخبار غرناطة". انظر لسان الدين ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، حقق نصه ووضع مقدمته وحواشيه محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي بالقاهرة، مصر، المجلد الرابع، الطبعة الأولى سنة 1977، ص 446

[4] أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخوس، ترجمة إسحاق ابن حنين، حققه وشرحه وقدم له عبد الرحمان بدوي، منشورات وكالة المطبوعات، الكويت ط1 سنة 1979، ص 279

[5] لسان الدين ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، حققه ووضع مقدمته وحواشيه محمد عبد الله عنان، منشورات مكتبة الناجي مصر القاهرة، المجلد الثالث، الطبعة 1 سنة 1975، ص 507

[6] ابن خلدون التعريف، عبد الرحمان ابن خلدون، التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، عرضه بأصوله وعلق حواشيه محمد بن تاويت الطنجي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، مصر القاهرة، سنة 1951، ص 97

[7] المصدر السابق، ص 97

[8] المصدر السابق، ص 84

[9] المصدر السابق، ص ص 115-116

[10] المصدر السابق، ص 123

[11] ولد لسان الدين ابن الخطيب في شهر رجب سنة 713هـ، بينما ولد ابن خلدون في شهر رمضان سنة 732هــ.

[12] ابن خلدون، كتاب التعريف، مصدر سبق ذكره، ص 129

[13] المصدر السابق، ص ص 95-96

[14] لسان الدين ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، مصدر سبق ذكره، ص 443

[15] أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الدولة المرينية، القسم الثاني، الجزء الرابع، تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري، منشورات دار الكتب، الدار البيضاء المغرب، سنة 1997، ص 9

[16] أخبرنا ابن خلدون بكلمات صريحة أن هذا السلطان سبق أن وعده بأن يمنحه منصب الحجابة متى حصل على العرش، والود الخفي الذي كان بين ابن خلدون والأمير عبد الله هذا هو سبب نكبته على يد الأمير أبي عنان. انظر تعريف ابن خلدون، مصدر سبق ذكره، ص 97

[17] الإحاطة في أخبار غرناطة، ج3، مصدر سبق ذكره، ص 516

[18] التعريف، مصدر سبق ذكره، ص 97

[19] محمد عبد الله عنان، ابن خلدون حياته وتراثه الفكري، مطبعة دار الكتب المصرية، مصر القاهرة، ط 1 سنة 1933، ص 40

[20] يشير ابن خلدون في تعريفه إلى أن هذا السلطان كان قد قطع له عهدا بأن يوليه الحجابة متى تم له الحكم، يقول: "كتب لي الأمير عبد الله بخطه عهدا بولاية الحجابة متى حصل على سلطانه" انظر كتاب "التعريف" مصدر سبق ذكره، ص 103

[21] التعريف، مصدر سبق ذكره، ص ص 97-98

[22] يسرد لنا أبو العباس أحمد بن خالد الناصري تاريخ بني مرين بدءا من زعيمهم الأول عبد الحق المريني الذي قاد مجموعة من الثورات ضد الموحدين في المغرب الأوسط، ثم من تبعه من بينيه وأحفاده الذين وسعوا نفوذ الدولة وقادوا مجموعة من الحروب للسيطرة على الثغور المجاورة في المغرب الأقصى والأوسط. انظر أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الدولة المرينية، الجزء الثالث، تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري، منشورات دار الكتاب، الدار البيضاء المغرب، سنة 1997، الصفحات 3-19

[23] التعريف، مصدر سبق ذكره، ص 99

[24] المصدر السابق، ص 98

[25] المصدر السابق، ص 99

[26] التعريف، مصدر سبق ذكره، ص 103

[27] التعريف، مصدر سبق ذكره، ص 129

[28] الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج4، مرجع سبق ذكره، ص 13

[29] رسالة ابن الخطيب إلى سلطانه محمد بن إسماعيل ابن الأحمر، أوردها ابن خلدون، في كتاب "التعريف"، مصدر سبق ذكره، ص 142

[30] كان تلميذه المشهور بابن زمرك السبب الأساس في المحنة التي لحقته، إذ تولى الوزارة مكان ابن الخطيب، وادعى أن ابن الخطيب يذهب مذهب الفلاسفة القائلين بالحلول والاتحاد. انظر بهذا الخصوص المقدمة التي وضعها محمد عنان لكتاب الإحاطة في أخبار غرناطة، لابن الخطيب، حققه ووضع مقدمته وحواشيه محمد عبد الله عنان، منشورات مكتبة الناجي مصر القاهرة، المجلد 1 الطبعة 1 سنة 1975، ص 5

[31] عبد الرحمان ابن خلدون، كتاب المقدمة، تحقيق عبد الواحد وافي، دار النهضة، مصر، ج1، ط7، سنة 2014، ص ص 325-326