الأحاسيس العمياء، والمعرفة المُبصرة


فئة :  مقالات

الأحاسيس العمياء، والمعرفة المُبصرة

وضع أفلاطون تناقضًا صريحًا بين الشَّاعر والفيلسوف، وفصلهما بهوَّة لا سبيل إلى ردمها؛ الشَّاعر كائن أعمى. أما الفيلسوف، فإنسان مبصر. يحوم الشَّاعر حول الحقائق فلا يطرقها، ولا يباشرها، بل يُشبِّه له ذلك، فعمله ملتبس لأنه تخليط مبهم، فيما ينشدها الفيلسوف، ويحيط بها، ويستوعبها، ويستوفيها، ويتمكَّن منها. ويغلب الظَّنُّ، بقليل من التأويل، أن أفلاطون رمى إلى غاية بعيدة بالتفريق الجازم بين الاثنين، إذ قصد من ذلك إلى تثبيت الفرق بين هوميروس شاعرًا، وبينه فيلسوفًا، فيكون عمى صاحب الإلياذة عمى مجازيًّا لا صلة له بالآفة التي تخرِّب البصر، بل عمى الشَّاعر الذي يحاكي عن بُعد «المُثل العقليَّة»، فيموِّه الحقائق، ويفتري عليها، لأنه لا يراها، فيتعذَّر عليه تصوُّرها. الشَّاعر، إذن، مزوِّر، وغشَّاش، ومُداهن، وناسخ خبيث غير مؤتمن، فهو يُلبس الحقائق بالباطل، فيُفسدها، ويُظهرها بخلاف ما هي عليه في الأصل؛ ذلك أن صدق المحاكاة عند أفلاطون يقترن بأمانة التصوير، وتلك مهمَّة الفيلسوف.

ومع أن قيمة الشعر ترتبط، في أغلب الأحيان، باللَّذة التي هي من نتاج الخيال الحسِّي، فما وضع أفلاطون في اعتباره شيئًا من ذلك، بل ذمَّها، وثلبها، وبها استبدل صدق التعبير، وبذلك حلَّت المعقولات لديه محلَّ التخيُّلات؛ لأنه أراد إحلال التفكير العقلي محلَّ التفكير الأسطوري. وفي حال الأخذ بهذا التمييز الصريح الذي سنّه أفلاطون، نصبح بإزاء رتبتين من رُتب الكلام: أولاهما رتبة الكلام القائم على الإيحاء ووسيلته المجاز، ويُمثله الشعر بضروبه الملحميَّة والغنائيَّة والتمثيليَّة، وثانيتهما رتبة الكلام القائم على المباشرة ووسيلته الجدل، وتمثله أعمال الفلاسفة. أشاح أفلاطون بنظره عن الأولى، واحتفى بالثانية، وتلك زحزحة مقصودة لمواقع الكلام، فتقديم ضرب منه على آخر، يُفضي، لا محالة، إلى خفض قيمة المتقدِّم عن المتأخِّر. وعلى الرغم من أن التفريق بين السَّرد الشعري والفكر التاريخي حديث عهد، فإنَّ أفلاطون سعى إلى فصم الصلة الموروثة بينهما، حينما وضع مسافة فاصلة بين خطاب الشَّاعر وخطاب المفكِّر؛ فخطاب الأول حامل لوقائع التاريخ المرويَّة، فيما خطاب الثاني حامل للتأملات العقليَّة حولها. وغابت عن أفلاطون وظيفة السَّرد في بناء الأحداث، وصوغ الهويات، واكتفى بالنظر إليه على أنه محاكاة نائية للحقائق.

الربط الذي اقترحه أفلاطون بين الكلام والفائدة المباشرة أَلحَقَ ضررًا بالغًا بالشُّعراء الذين أجروا تمثيلا لأمجاد الأمم القديمة، فقد نزع عنهم الشرعيَّة الجليلة التي أصابوها عبر الأزمان حينما وصمهم بالعمى، وترتَّب على ذلك قلب المعايير القديمة في تقدير الكلام الشعري المُعبِّر عن الفطنة، والحصافة، ونفاذ البصيرة، فأن تلوذ بهوميروس وأضرابه من الشُّعراء، فذلك أمر كان يستحق الافتخار والمباهاة فيما مضى، غير أنه هُجر وحلَّ محله معيار جديد، وهو مرافقة الجدليِّين والسجاليِّين.

انقضى، بحسب التصنيف الأفلاطوني، عصر العميان (= الشعراء)، وظهر عصر المبصرين (= الفلاسفة). لم يكتف أفلاطون بذلك، بل أراد إرسال الشُّعراء، وممثلهم الأكبر هوميروس، إلى الدَّرك الأسفل من العمى، حيث لا شفاء من ذلك الكَمَه الأبدي، حينما فرَّق بين الشُّعراء على قاعدة الاعتراف والإنكار، وربط ذلك بالإبصار والعمى، فقد أورد على لسان سقراط في محاورة «فيدروس» تفسيرًا لعمى هوميروس «لم يمتلك الذكاء، أبدًا، كي يكتشف عماه، بل الذي استنبط ذلك هو ستاسيخوروس، الذي عرف سبب وجوب ذلك. ولهذا السبب، فإن هوميروس عندما فَقَد عينيه، كانت تلك هي العقوبة التي نزلت عليه لِشَتْمِهِ هيلين الجميلة. وأما هو (ستاسيخوروس)، فطهَّر نفسه في الحال، وكان التطهير اعترافًا علنيًّا بالخطأ، والذي بدأ هكذا: «إنها باطلة تلك الكلمة التي تخصُّني، الحقيقة هي أنها لم تركب متن سفن جيدة التنضيد، ولم تذهب إلى حصن طروادة أبدًا». وعندما أتمَّ قصيدته المسمَّاة «الاعتراف علنًا بالخطأ»، فإن بصره عاد إليه في الحال». ما إنْ يرعوي الشَّاعر، ويقرُّ بخطئه، ويفصح عن ندمه، حتى يَبْرأ من عماه.

لم يُدرك هوميروس الكبوة التي ارتكبها، وما خطر له الاعتراف بها، ثم الاعتذار عنها. أما ستاسيخوروس، فقد أدركها، وسارع إلى الاعتراف بها، فاستعاد بصره. عاش الشَّاعر المُنْكِر بعينين اختمر الكفاف فيهما، وعاش النادم مبصرًا، بيد أنَّ القاعدة هي عمى الشُّعراء، والاستثناء إبصار مَنْ انكفأ عن ضلاله. أصبحت تلك الفئة المميزة بين الناس، ممن كانوا أفطن من سواهم، وأشعر، وأبصر، جماعة من الضالِّين يعمهون في ظلمة لا نهاية لها. قوبل عناد الشُّعراء بسخط الآلهة وامتعاضهم. وما دام الأمر قد اتَّخذ هذه الصِّيغة، فوجب نبذهم، وطردهم، فلا فائدة من عميان يسيئون إلى العالم بأوهام لا فائدة منها.

استند موقف أفلاطون من الشِّعر إلى فكرته عن الإبصار والعمى، فذلك الشِّعر، مُمثلًا بهوميروس، محاكاة عمياء للحقائق بحكم العادات الشعريَّة، وهو أشبه بالأعمى الذي يتوهَّم الإبصار؛ ففي ختام الكتاب السادس من محاورة الجمهوريَّة عالج موضوع ثنائيَّة الإبصار والعمى رابطًا إياها بالمعرفة المُبصرة والجهل الأعمى، فلم يمنح أهميَّة للأفكار من دون السياق الحاضن لها، وهو الفهم «إن كل الآراء المجرَّدة سيئة، وإن أفضلها أعمى»، لأنَّ «الذين لديهم نظريَّة حقيقيَّة بدون فهم يشبهون الرجال العميان الذين يستشعرون اتجاههم بموازاة الطريق الصحيح». وبغية توضيح ذلك توسَّع سقراط في مجادلة مُحاوِرَيه: كلوكون، وأديامنتوس، بقوله: إنَّ البصر هو العضو الذي يمكن به «رؤية الأشياء المنظورة»، بل هو «القطعة الأكثر نفاسة وتعقيدًا إلى حدٍّ بعيد، التي استنبطها صانع الحواس أبدًا». ومن دون إضافة بعض الطبائع الأخرى لا توجد رؤية، أو وجود مرئي؛ لأن البصر موجود في العينين، لكن العين بذاتها عاجزة عن النظر من دون النور، فالصلة بين العين والنور هي التي تُحدث البصر، فتكون العين «أكثر الحواس شبهًا بالشمس»، لأنّ القوَّة التي تمتلكها العين هي نوع من التدفُّق الموزَّع من الشمس، وعلى هذا فإن الشمس ليست البصر، «بل مبدعة البصر»؛ ذلك أن «العينين عندما يوجههما الشخص باتِّجاه الأهداف التي لا يكون مشعًّا عليها ضوء النهار بعد، بل ضوء القمر والنجوم فقط، فإنه يرى بخفوت ويكون أعمى تقريبًا»، وما إنْ تشعُّ الشمس عليها حتى «ترى بجلاء ويوجد بصر فيها».

انتهى سقراط الأفلاطوني إلى أن الروح شبيهة بالعين، حينما تستقر فوق الموضوع الذي تشعُّ عليه، فإنَّها بالحواس تدرك الحقيقة وتفهمها، ويتعذَّر عليها الفهم حينما لا يتوفَّر لها ذلك، فتكوِّن آراء عارضة عن الحقيقة: «النور والبصر شبيهان بالشمس، ومع ذلك فهما ليسا الشمس»، كما أن «العلم والحقيقة يمكن اعتبارهما شبيهين بالخير، ولكن من الخطأ أن نعتقد أنهما الخير. الخير له مكان شريف أعلى فوق ذلك». وقد شرح «هيدغر» في كتابه «نداء الحقيقة» مفهوم الحقيقة عند أفلاطون على خلفيَّة من ثنائيَّة العمى والإبصار، بقوله: «كلُّ ما يمكن أن يُرى مباشرة، ويُسمع، ويُلمس، ويُقدَّر حسابه، يظل في نظر أفلاطون مجرَّد انعكاس باهت للمُثُل؛ أي مجرَّد ظلٍّ. هذا الشيء القريب من الإنسان أشدَّ القرب، هذا الذي يبقى ظلًّا على الرغم من كلِّ شيء، هو الذي يأسر الإنسان ويُقيِّده في حياته اليوميَّة. إنه يحيا في سجن، ويترك جميع «المُثُل» وراء ظهره».

رأى أفلاطون أنَّ عالم المُثُل هو العالم الحقيقي الذي يجب أن يعرفه الإنسان. أما العالم الواقعي، فهو تقليد شائه له، وعلى هذا لا يبصر الإنسان العالم الحقيقي، بل ظلاله؛ فالعمى عند الإنسان يذهب به إلى الواقع، فيما الإبصار يجب أن يذهب به إلى المُثل، كأهل الكهف الذين يتوهَّمون الظلال حقائق، فيرفضون الحقائق مُتعلِّقين بظلالها لاعتيادهم عليها، بسبب جهلهم لها. وكما يتحتَّم على العين الجسديَّة أن تثابر على تغيير عاداتها في بطء ودأب، سواء أرادت أن تتعوَّد على النور الساطع أو على الظلام الدامس، كذلك يتحتَّم على النَّفس، أيضًا، أن تأخذ نفسها بالصبر والتأنِّي على مجال الوجود الذي تواجهه وتتعرَّض له، غير أن هذا التعوُّد يتطلَّب أولًا من النفس أن تتحوَّل بكليتها نحو الاتِّجاه الأساسي الذي تنزع إليه، شأنها في ذلك شأن العين التي لا يمكنها أن ترى الرؤية الصحيحة الشاملة، إلا إذا سبق الجسم كله اتِّخاذ الوضع الملائم لذلك.

وبما أنَّ أفلاطون افترض أن المعرفة تمثلها النماذج البدئية العليا، وأنَّ الأقوال البشريَّة محاكاة لها، فسوف يكون التعبير الشِّعري أبعدها عن ملامسة تلك الحقيقة لأنه ينزلق عنها، وينأى، بحكم طبيعته المجازيَّة، من أجل أن يحافظ على هويته الأدبيَّة. وبهذا انصرف اهتمامه إلى البحث في نوع من التمثيل المجازي للعالم. وكما قال ريكور، فقد بحث أفلاطون في «التصوُّر الحاضر لشيء غائب»؛ أي إنه بحث في المرئي لكي يصل إلى اللامرئي، وفي ضوء ذلك اعتبر الجهل؛ أي تشويه الحقيقة، هو المعطى الإنساني الحاضر، فيما المعرفة، اللابثة في مُثُل عليا، هي المعطى الإلهي الغائب، وما دام فعل الإنسان وأقواله محاكاة للنماذج البدئيَّة العليا، فهو في حال ابتعاد عنها بأقواله وأفعاله، ولعله يكون مفيدًا إذا ما قدَّم عنها صورًا قريبة لها، ولكن ما فائدته إذا مضى في قطع صلة المماثلة القريبة، وشذَّ عن قانون المحاكاة المفيد، الذي وصفه توينبي بأنه «تقليد آلي وسطحي للأصالة المُلهمة»، وأفرط في تخيل العالم بطريقة تثير الأهواء، وتوقد الرغبات، وتطعن الآلهة، وتخرِّب هيبة الأبطال العظام؟ لا سبيل إلا إخراجه من جمهوريَّة تتحدَّد فيها مواقع الأفراد طبقًا للمنافع التي يأتون بها، فكيف إذا كان الشُّعراء، ومثالهم الأعلى هوميروس، يأتون بالضَّرر إلى معقل الجمهوريَّة بتخريب عقول النشء، وإفساد نفوسهم، بتخيلات وأباطيل!.