الإنسـان، الأشـواق الوجوديـة


فئة :  مقالات

الإنسـان، الأشـواق الوجوديـة

بانتظار أن ينتقل الإنسان من كائنٍ متوقعٍ في (رَحِم أمه) إلى (رَحِم) استيلادي يخرج منه العالَم، فإني سأتحدث عن مقتضيات تلك الولادة، بصفتها مأثرة للتعايش بين بني البشر، ودعوة للتصالح بينهم، بما يجعل منهم - نهاية المطاف - كائنات أخلاقية تسمو فوق خلافاتها واختلافاتها، بما لا يهدر وقت الإنسان على صراعات وكراهيات وأحقاد وشروخات لم تحطّ من قيمتهم الوجودية فقط، بل وأورثتهم نُدباً قبيحة أيضاً. فعبر هذه الولادة الوجودية أمكن للإنسان أن يتسغل وقته في تشييد معمارٍ وجودي عظيم يتنعم بالسكن فيه، ويتركه من ثمّ للأجيال القادمة بدل أن يترك لها مزيداً من الأوجاع والآلام.

الإنسان شريك حقيقي للبشرية جمعاء، على المستوى الجسدي، قبل أن يكون شريكاً لها على المستوى المعنوي  

في البداية، لا بُدّ لي من التأشير على أن الإنسان شريك حقيقي للبشرية جمعاء، على المستوى الجسدي، قبل أن يكون شريكاً لها على المستوى المعنوي، أعني أن ولادته مادياً وخروجه من رَحِم أمه، تأشير جسماني واضح على أنه نقطة (بدء/ انتهاء) بالنسبة إلى السلالة البشرية، فهو إذ يخرج من رَحِم أمه، فإن خروجه يقترن بتأسيسٍ قَبْلي في (أصلاب/ أرحام) شتّى قبله، فهو يعود القهقرى إلى الوراء - المرة تلو الأخرى - وصولاً إلى أول خلية في هذا الوجود، إلى أن يتجلّى خروجاً عيانياً من رَحِم أمه، مُنهياً بذلك حبساً طويلاً لنُطفة كانت قد تموضعت لفترة طويلة في الداخل، وها هي تشقشق لتخرج من شرنقة الرّحِم الأمومي. ومن هنا، فهو يمثّل نقطة (انتهاء) على المستوى الجسدي؛ لكن انبثاقه إلى العالَم وشروعه في ممارسة حياته خارج رَحِم أمه جعل منه نقطة (ابتداء) على المستوى الجسدي أيضاً، فهو إذ (يُنهي) توارياً لسُلالة بشرية و(يبتدئ) بإشهار تلك السلالة، فعليه يقع عبئاً كبيراً، عبئاً وجودياً بالدرجة الأولى، فعمارة الكون وإقامة معمار الحضارة الإنسانية عمل منوط به تحديداً، كنوعٍ من إبراز قيمته الأنطولوجية المُتمثلة في سؤال، لماذا أنا موجود في هذا العالَم؟

ففي معرض الإجابة عن هذا السؤال، ثمة سؤال قبله، كيف للإنسان أن يكون نقطة (بدء)، ويتسنّى له أن يَلِدَ العالَم، وهو متموضع في نقطة زمانية محدّدة وبقعة جغرافية بعينها ومُتصّل سيكولوجياً واجتماعياً وثقافياً بمنظومات بعينها دون غيرها من المنظومات؛ فالبوذي الذي يُولد لأمٍّ بوذية وأب بوذي يكون خاضعاً لأنساق بوذية بالضرورة، فالجين الأُسري/ المجتمعي/ الأيديولوجي/ الطائفي/ العقدي، يصيرُ جيناً بيولوجياً يُورَّث توريثاً للأبناء من قبل الآباء، وبالتقادم يتحوّل هذا الجين البيولوجي إلى جين أنطولوجي، يمنح صاحبه قيمته الوجودية في هذا العالَم، حيث يصير الانخلاع أو الانسلاخ عن هذا الجين مسألة محفوفة بالمخاطر، على مختلف الصُعد والمستويات؟

إذن، كيف للإنسان أن يكون نقطة (بدء) في العالَم، وهل يكفي وجوده الجسدي لتهيئته للانتقال من مرحلة (الولادة المادية) التي انتقل بموجبها من رَحِم أمه إلى الواقع المعيش، إلى مرحلة (ولادة العالَم)؟

كيف له أن يَلِدَ العالَم؟

أية نُطف تلك اللازمة لإحداث إخصاب ذاتي، يتحوّل - مع مرور الزمن واكتمال فترة الحَمْل - إلى جنين يصير قادراً على النهوض بالمشروع الحضاري الإنساني؟

أنا أقول، لا بُدّ من تجاوز إحداثية الجسد، أعني تجاوز إحداثية السُلالة البشرية التي تموضعت أخيراً في جسد شقشق إلى العالم الواقعي، وخضع لأنماطٍ من التصنيف السيكولوجي/ الاجتماعي/ العقدي...إلخ، ومنحته نهاية المطاف قيمته الوجودية؛ والبحث - كتجلٍّ لمرحلة التجاوز - عن رَحِم آخر أمكنه استيعاب كل النُطف الإنسانية الأخرى، دون أن يكون ثمة تزاحم غير طهراني بين النُطف، حيث تستأثر نطفة بعملية التلقيح على حساب النُطف الأخرى.

في تمظهرات للقول الذي أدليتُ به آنفًا، أجتهدُ في اعتبار رأس الإنسان رَحِماً قابلاً لولادة العالَم، فهو المنطقة الأكثر خصوبة لتحويل الإنسان من إنسانِ أنساقٍ محدودة إلى إنسان صاحب نسق كُلّي. لكن ذلك يتطلّب اجتهاداً كبيراً من قبل الإنسان، ليتمكن من تجاوز قيمته الوجودية التي نُقلت إليه بالتتابع الجسدي والمنطقة الجغرافية وأحكام التاريخ والعقائد والأيديولوجيات، والتموضع - أخيراً - في العالَمين!.

لا بُدّ من تجاوز إحداثية السُلالة البشرية التي تموضعت أخيراً في جسد شقشق إلى العالم الواقعي، وخضع لأنماطٍ من التصنيف السيكولوجي/ الاجتماعي/ العقدي 

وفي تابعات هذا الاجتهاد، لا بُدّ من توافر نُطفٍ شتّى لإتمام عملية التلقيح، من منابت شتى لكي لا يبقى الإنسان مرهوناً لتصوّرات ذاتية عن العالَم الذي يعيش فيه، بل ينطلق في الآفاق بحثاً عن حقيقة تمثّله للمهمة المُناطة به وجودياً. ولكي تتوافر هذه النُطف، لا بُدّ للإنسان أن يتجاوز حالة الحِدِّية التي يعيش داخل أنساقها المُغلقة، ويعمل - عبر مكابدات معرفية وأخلاقية وجمالية، طويلة - على البحث عن نسقٍ كُلِّي يبقى مفتوحاً على خيار التطوّر والنماء، المرة تلو الأخرى، إلى أن يتهالك الشرط الجسدي لهذا الإنسان، ويعود غير قادر على تحمّل أعباء ما هو موجود في رأسه، بما يفضي، عقب هاته المكابدات الدائمة، إلى إنتاج عالَم يحكمه إنسان،

1- أخلاقي، يتوسّم خيراً في الناس، كما يتوسّم الخير في نفسه، ويتمنّى لهم ما يتمنّى لنفسه، حيث لا يمرّ وقت طويل، إلا وتكون سكاكين القتل وقد بدحت شفراتها، وبطل مفعول الأحزمة الناسفة والقنابل العنقودية وسرديات الكراهية، وبُشّر بزمن يتراحم فيه الناس - على اختلاف منابتهم وغاياتهم - ويتسامحون، بعد أن تعبوا - نتيجة الانتشار الكبير لثقافة التوسّم خيراً في الذات، والتوسّم شراً في الآخر - من التلاسن والتنابذ والتذابح، وأهدروا كثيراً من الوقت، كان يمكن أن يُستثمر في المشروع الحضاري الإنساني.

2- معرفي، لا يفتأ يبحث عن الجديد في المعرفة، أياً كان مُنتج هذه المعرفة، غير قارّ بالمرة على ما هو عليه، لأنّ الاستقرار انتحار. فهو دائم البحث عمّا يجعل من مشروعه الحضاري مشروعاً قائماً، لا مشروعاً مُتداعياً. فإنْ كان ابن أسرة (س) ووجد معرفة لدى أسرة (ص) تهمّ الإنسانية أخلاقياً ومعرفياً وجمالياً، وأخذ بها غير منحاز مبدئيًا لأسرته، فتلك مأثرة بحدّ ذاتها؛ وإنْ كان ابناً للحضارة العربية ووجد معرفة عند الحضارة اليونانية تهمّ الإنسانية وأخذ بها، فتلك ميزة عظيمة تُحسب له على مستوى جلب نُطف شتّى من أماكن كثيرة وأزمان عديدة، والعمل على استيلاد عالَمٍ جديد.

3- جمالي، إذ يتلمّس المظاهر والمعاني الجمالية أنّى تواجدت في الزمن والمكان، فإن كان هندوسياً سُعد بجماليات المكان في مكّة، وإنْ كان مسيحياً أبهرته معابد البوذيين، وإن كان عربياً استشعر عَظَمَة الإبداع النثري في ملحمة الرامايانا الهندية، وإن كان طائفياً ورأى لوحة فنية جميلة لفنان من طائفة مغايرة، اندهش بها...إلخ.

وهكذا، يكون الإنسان (المعرفي/ الأخلاقي/ الجمالي) متواجداً (قبل/ بعد) مرحلة النُطف، حتى لا تكون (المُدخلات/ المُخرجات) ذات أثر سلبي عليه، وعلى البشرية جمعاء. فالذي يريد أن يتصدّى لما اصطلحتُ عليه بـ (ولادة العالَم) عليه أن يكون أميناً على حاضر - الحاضر هَهُنا يأخذ بُعداً تجاوزياً على المستوى الزمني، فهو (قبل/ بعد) طالما أن الإنسان متموضع به - العالَم، وما يمكن أن تقود إليه عملية جلب نُطف غير قارّة في رَحِم أخلاقي/ جمالي/ معرفي، فعملية،

1- الخروج من الأنساق الضيقة، الأُسرية/ المجتمعية/ الوطنية/ القومية/ الطائفية/ العقدية...إلخ؛ لغاية،

2- الدخول في نسقٍ إنساني مُتنامٍ، لا يُلغي خصوصية الإنسان، فهو لا يُهدّد قِيَمَه الأسرية/ المجتمعية/ الوطنية/ القومية/ الطائفية/ العقدية، ولا يعمل على تهديمها، بقدر ما يعمل على انفتاح الإنسان على الأذهان والأزمان، أنّى تموضعت في الأمكنة والجغرافيات.

هي عملية ( = الخروج من الأنساق الضيقة والدخول في نسقٍ إنساني مُتنامٍ) تتطلّب،

1- تفهمّا للشرط الإنساني كما هو كمرحلةٍ أولى.

2- هضماً لهذا الشرط كمرحلةٍ ثانية.

3- تطبيقاً لهذا الشرط كمرحلةٍ ثالثة.

4- تبشيراً بهذا الشرط كمرحلةٍ رابعة وأخيرة.

في مرحلة التفهّم، تتجلّى ثقافة الاعتراف بحقّ الآخر في الوجود كما الذات موجودة، بما يمنح الحياة تنوّعاً كبيراً في المنابت والأعراق والثقافات والديانات؛ فالهندي يتفهّم أن ثمة أناساً آخرين غيره في هذا العالم، ويختلفون عنه في الثقافة والدين واللغة...الخ؛ وهكذا بالنسبة إلى الآخرين.

وفي مرحلة الهضم، تتجلّى قدرة المرء على التعرّف على ثقافات وأديان وعادات الآخرين قدر المستطاع، دونما إلغاء لخصوصيته الثقافية، لكنه لا يتعامل معها بحِدِّيةٍ وأحادية، بل هي شريك حقيقي في صياغة المشهد الحضاري الإنساني.

وفي مرحلة التطبيق، تتجلّى قدرة المرء - بعد عملية الهضم التي تعرّف فيها على ثقافات مختلفة ومتعدّدة - على استجلابٍ يؤكّد حضوره (المعرفي/ الأخلاقي/ الجمالي)، بعيدًا عن فكرة التعصّب لفكرةٍ على حساب فكرة، حتى وإن كان قد تربّى على أفكار بعينها، بل الأولى وفقًا لمنطق مرحلة التطبيق، أن تتحوّل ثقافات وأديان وعادات وتقاليد الأمم الأخرى، إلى مسلكٍ واقعي، ولا يعود ثمة اغتراب بين الإنسان وأخوته في كل بقاع الأرض، قديمهم وحديثهم، حيّهم وميتهم، كبيرهم وصغيرهم...إلخ.

وفي مرحلة التبشير، تتجلّى قدرة الإنسان على تمثّل البشرية كاملة بين جنبيه، فالنُطف جميعها تجمّعت في رَحِم رأسه وعمل على تخصيبها وتمثّلها ذهنياً وتطبيقها عملياً، بصفتها جزءاً من ذاته الكُلّية، التي تفتّتت إلى ذواتٍ لا حصر لها، وها هو يعمل على التبشير بها، فهو شريك للبشر جميعاً في هواجسهم وآمالهم، بما يجعل منهم - كتجلٍّ نهائي لهذه البشارة - كائنات معرفيـة وجماليـة وأخلاقيـة، تكون شاهدةً على ولادة جديدة للعالَم على يد إنسان انتقل بـ (مُدخلاته) من مرحلة الأحادية إلى مرحلة التعدّدية، لذا ساهم في ولادة (مُخرجات) تجاوزت ولادته الجسدية، إلى ما اصطلحتُ عليه آنفاً بـ ولادة العالَم، فذاك الإنسان الخاضع لشرطٍ مكاني بعينه وشرطٍ زماني بعينه، سيتجاوز - إذ يُريدُ العالَم كُلّه - هذين الشرطين ليكون شاهداً على الزمن كُلّه والمكان كُلّه، ليس شاهداً سلبياً يتفرّج على ما يجري فيهما، بل مُحوّلاً لوجوده فيهما إلى وجود فاعل، من خلال التبشير بمولود جديد يحتكمُ إلى أرقى وأنبل القيم الإنسانية؛ معرفياً وأخلاقياً وجمالياً.