التديُّن وتجربة المزج بين العقلانية والمعنوية؛ مصطفى ملكيان أنموذجاً


فئة :  مقالات

التديُّن وتجربة المزج بين العقلانية والمعنوية؛ مصطفى ملكيان أنموذجاً

ربّما الإنسان هو الكائن الوحيد الذي قُدّر له أنْ تكون تجربته في هذه الحياة سعيٌ، ورغبة، وإرادة، وبحثٌ عن المعنى لوجوده منذ لحظة تفتقّ الوعي الأولى. هي لحظات التشكّل الواعي للإنسان، يعبِّر فيها عن الرّفض العبثي لوجوده من خلال المعنى، ليس لأنّه كائن ماورائي فحسب، ولكن لأنّ طبيعته وعدم قدرة عقله على التحوّل إلى عقل خالص تدفع به إلى خوض غمار هذا البحث، ولعلّ أهم ما يميّز هذه المحدودية هو: [1]أوّلاً: عقولنا محدودة الأبعاد، لأنّ وعينا منحصر في مساحة محدودة وحاضر أبدي، وهو ما يمنعنا في كثير من الأحيان من الوصول إلى المعلومة الضروريّة لإصدار حكم متوازن، ثانيا: هو محدود أيضاً ثقافيّا، لأنّه يفسّر المعلومات على أساس تمثّلات سابقة، ثالثا: هو محدود معرفيّاً لأنّ قدرتنا على معالجة المعلومات ليست لانهائيّة، ولأنّ تعقّد بعض المسائل يتجاوز إمكانيّات الحسّ السّليم لدينا.

إنّ ما يميّز الإنسان عن باقي الكائنات، هو ما سمّاه روسو: "قابلية التّحسين"؛ أيْ قدرة الإنسان على تحسين ذاته طوال حياته

ربّما هو الكائن الوحيد، لأنّ ما يميّزه عن الحيوان مثيرٌ حدّ الغرابة. فبالرغم من أنّ غالبية النّاس ترى بأنّ العنصر المميّز الوحيد هو العقل، أو الإحساس والعاطفة كما يرى البعض الآخر، أو العيش ضمن سياق اجتماعي كما يرى أرسطو. فقد استفاض لوك فيري[2] في الحديث عن هذه الجزئية ضمن التفريق بين الحيوانية والإنسانية، ليعطيها بعداً آخر يستحقّ التأمّل والتوقّف. فعند ديكارت مثلاً لا يؤخذ فقط بمعيار العقل والذّكاء، بل يضاف إلى ذلك معيار الانفعال والإحساس؛ أيْ بتعبير آخر الحيوانات هي عبارة عن آلات دون مشاعر وانفعالات، خلافا للكائن الإنساني، وهو تفسير راجع لعدم قدرتها على التّعبير والكلام. هذا التوجّه الفكري والفلسفي في النّظرة إلى الفرق بين الإنسان والحيوان، سيأخذ بعداً آخر مع روسو؛ أيْ رفض فكرة أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك الانفعال والإحساس. لسبب بسيط هو أنّ هاتين الخاصيتين وربّما اللّغة أيضاً، غير كافية لتجعل من الإنسان عنصرا مميّزا، بل إنّ ما يميّز الإنسان عن باقي الكائنات، خاصّة الحيوانية، هو ما سمّاه روسو: "قابلية التّحسين"؛ أيْ قدرة الإنسان على تحسين ذاته طوال حياته. ففي الوقت الذي يخضع فيه الحيوان لنظام طبيعي غريزي صارم، يملك الكائن الإنساني القابلية للتمرّد عليه، وهو ما تنبّه إليه روسو.

هي القابلية للتحسّن، كما أشار روسو ما يميّزنا عن غيرنا، وهذا لا يعني الأفضلية؛ فالاختلاف لا يعني شيئا غير الاختلاف، كما يحبّ أنْ يوحي لنا بعض من يعتبرون كلّ ميزة فضيلة، وكلّ اختلاف هو مدعاة للتّفاخر. ولأنّ تديننا المعاصر يخلق ارتباكاً على جميع المستويات، بحكم انهيار النّماذج التي بني عليها، وأيضا بسبب اختلاف السّياقات التاريخية، صار لزاماً أنْ نبحث عن حدود العقل والمعنى داخل هذه الأنساق الدّينية، لا لكي نُدينها، أو نحاربها فقط، ولكنْ لكي نصحّح مسارها، حتى تغدو أكثر إنسانية، وربّما أكثر واقعية من مثالية خلقتْها تجارب سالفة لم تصنع في الحقيقة إلاّ كلّ النّزعات التّدميرية التي نعيشها اليوم، وربّما في المستقبل المنظور. هنا يأتي الحديث عن تجربة مصطفى ملكيان من خلال كتابيه: "التدين العقلاني" و"العقلانية والمعنوية"، ليرصد لنا إمكانية المزج بين العقلانية والمعنوية في أنساق تديناتنا، والتحديات التي تواجهها هذه الأنساق مع صدمات معاصرة تتمثل في نظام الحداثة وما تفرّع عنه من أشكال الحكم، والتّسيير والتّدبير الشّخصي والعام لمجتمعاتنا المعاصرة.

هل بوسعنا الجمع بين العقلانية والمعنوية؟

هكذا يتساءل مصطفى ملكيان، وهكذا نتساءل أيضا عن هذه الإمكانية، خاصّة في سياق موتور بين تيارات متناحرة فيما بينها. ففي الوقت الذي يصرّ المتديّن على استحضار نماذجه الماضوية، محاولا استنساخها في واقع لا يمتّ لها بصلة، يصرّ أيضا الطّرف الآخر، أو البعض منه على محاولة استئصال التديّن من كلّ المجالات، باعتباره المؤشّر الأول على التخلّف، وأنماط التّفكير الخرافية. هذا يعني أنّ لا مكان لطريق ثالث بحسب هذه التّيارات تقف عند حدود المعقول، ولا تلغي المعنى أو المعنوية. فمن حق هذا الأخير أنْ يبحث عن معنى لوجوده أو كينونته، ما لم يعتد بهذا الوجود الذّاتي على موجودات أخرى. قد يكون ممكنا أنْ ننحت طريقا ثالثا، طريق المزج بين العقلانية وبين المعنوية لولا هذا الوهم المسيطر علينا باسم الهوية. هذه الكلمة الأكثر خداعاً في مجال تداولنا اللغوي، لأنّ الكلمات التي نزعم أنّها الأكثر شفافية غالبا ما تتحوّل إلى الكلمات الأكثر خيانة على حدّ تعبير نبيل معلوف[3]. هكذا تعلِّمنا الحياة، وهكذا يبسُط التّاريخ وضوحه؛ فالهوية مثلاُ ونحن نزعم أنّنا ندرك معناها، أو نمسك بغموضها، نستمر بالوثوق بها وإنْ راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة.

أنْ يجمع الإنسان بين العقلانية والمعنوية كما يسمّيها مصطفى ملكيان معناه أنْ يطرح السّؤال حول دور الدّين في الحياة الخاصّة والعامّة. فليس الدخول في الحداثة اختياراً يمكن للإنسان قبوله أو رفضه، ولا حتى التّقليل من حجم نتائجه، إذا ما اعتبرنا أنّ للحداثة سلبيات، ولكنّ الحداثة هي هذا التّفكير الذي نعيش في ضوء منتجاته، ونرفض خوض تجربته، باعتبارنا مجتمعات تعيش أزمة هويات قاتلة، وانغلاقات تُبعدنا شيئا فشيئا عن تلمّس الصّواب من الطرق المتاحة. فكلّنا نقرّ بما في ذلك الأصوليون أنفسهم أنّنا في زمان مغاير لما عرفته العصور القديمة، وأنّ كل المحاولات الاجتهادية هي تعبير عن واقع أفرزها وأنتجها لتعبّر في الأخير عن العقل المبدع لها. وبالتّالي، فلا مناصّ من قراءات أو تأويلات تنحرف بنا إلى حيث اللقاء مع الأسئلة الكبرى، التي يبدعها العالم المعاصر. وإذا كان الإقرار بصدق أطروحة ضرورة الخروج من أزمة التّفكير الديني، أو التديّن بشكله الماضوي، فقد يجد الإنسان نفسه أمام معضلتين أساسيتين أشار إليهما مصطفى ملكيان[4]: الأولى: أنْ يتخلى عن الدّين بشكلٍ مطلق، ويتخلّى عن كلّ المزايا الإيجابية الكامنة فيه، على الأقلّ على المستوى الفردي، وبالتّالي يعيش الفراغ الرّوحي. الثّانية: أنْ يقبل بفهمٍ جديد للدّين، أو لنقل بشكل أدق بتأويل جديد للدّين يسمح للإنسان أنْ يجترح مساحات للعقلنة، وكلّ قيم التسامح والخير والعدل. وهذا هو ما يسمّيه مصطفى ملكيان بـ "المعنوية" أو التديّن المعنوي، ذلك التديّن المفارق والمختلف عن القراءات المحافظة أو التقليدية للدّين، والتي لم تنتج إلا صورة مشوّهة عن الدّين والإنسان على حدٍّ سواء.

إذا كانت غاية الدّين هو تحقيق سعادة الإنسان، أو وضعه في سياق يرى فيه المعنى لوجوده، فهذا أيضا هو وظيفة الفلسفة منذ نشأتها الأولى. لكنْ هذا الجري الإنساني وراء تحقيق السّعادة ليس إلا وهما وخداعا. ليس فقط بسبب أنّ الإنسان من الكائنات المحكومة عليها بطبيعة الفناء. لكنْ أيضا لأنّ رغباتنا محكومة بطابع التّناقض والتغيّر المستمرّ، حيث يصعب علينا في بعض الأحيان تحديد أو تعريف جاهز للسّعادة، كما يقول فيري: "لأننا ندرك بوضوح ما يجعلنا تعساء، ولكن يصعب علينا تحديد معرفة ما يسعدنا بالدّرجة نفسها من الوضوح"[5]. بمعنى آخر، لا يمكننا الاعتماد صراحة على تمارين ذاتية أو أساليب خاصّة كي يصل الإنسان في منتهاه إلى نهاية سعيدة، إلا إذا كان يؤمن بالأوهام بالقدْر نفسه الذي يؤمن به بالحقائق الثّابتة. هذا الشيء نفسه تحدّث عنه فيليب فان دان بوسش[6]، فالقول بأنّ السّعادة هي الهدف الأخير للنّاس، لا يكفي مع ذلك لتحديدها، لأنّ شخصا ما يعتقد بأنّه وجد سعادته في الحب، فقد يجدها الآخر في الشّهرة. وهنا يختلط علينا الأمر بشكل كبير بين السّعادة، وبين وسائل تحصيلها. وهو الأمر القريب مما أشار إليه لوك فيري، وهو يتحدّث عن مفارقات هذه السّعادة، وربّما تناقضاتها العجيبة. فالحبّ مثلا وهو مصدر كلّ سعادة، حينما نجد من نهتمّ به ويهتمّ بنا، أو نتعلّق به ويتعلّق بنا، قد يصبح بالقوّة نفسها مصدرا لتعاستنا حينما نفتقد بشكل طوعي أو كرهي من نحبّ[7]. وهذا لوحده من شأنه أنْ يجعل أصحاب الأطروحة الأولى، أو المهووسين بالاشتغال بتنمية الذات، وبأساليب التّطوير الذاتي على المحكّ، حيث تصير كلّ هذه الأحاسيس والمشاعر النّبيلة كما يراها الجمهور هي مصدر آخر للتّعاسة الإنسانية. وهنا المفارقة، كما أنّ المشتغلين بهذه المجالات تواجههم مآزق أخرى لعلّ أكبرها هو تحوّل البحث عن السّعادة إلى حزن وألم، حينما يعجز الإنسان تحت ظرف من الظّروف على تحقيق ما يصبو إليه، وسيكون الوعد المذهل بالشّعور بالغبطة محفوفا بتهديد التحوّل إلى طغيان ما أسماه باسكال بروكنر بطريقة معبّرة بـ "النّشوة الدائمة".

إذا كانت غاية الدّين هو تحقيق سعادة الإنسان، أو وضعه في سياق يرى فيه المعنى لوجوده، فهذا أيضا هو وظيفة الفلسفة منذ نشأتها الأولى

وهنا لا بدّ من استحضار مجموعة من المعطيات التّاريخية تلخِّص لنا فكرة السّعادة كما يراها لوك فيري، وتضعنا أمام سياقات مختلفة، ولكنّها مفيدة في رحلة بحث الكائن الإنساني عن سعادته والابتعاد قدر الإمكان عن مواطن الألم في حياته؛ بمعنى أنّ البحث عن المعنى داخل هذا الوجود، والبحث عن السّعادة أو الحياة الطيبة كما يسمّيها لوك فيري[8] هي مهمّة الفلسفة قديما وحديثا؛ أي تلك الرّوحانيات اللائكية على حدّ تعبيره، دون المرور بالإله أو المعتقدات، بل بوسائل العقل البشري والفكر وحدها. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السّياق، هو إذا كانت الفلسفات تسعى جاهدة إلى البحث والدراسة والتفكير في السّعادة فلماذا اختلفت في تحديدها أو في أجوبتها عنها؟. هنا يقدّم لنا لوك فيري جوابا يبدو منطقيا من الوهلة الأولى، وتحديدا لأنّه يعتبر تاريخ الفلسفة تاريخا يشبه إلى حدّ بعيد تاريخ الفنّ أكثر مما يشبه تاريخ العلم. ففي المجال الجمالي، يمكن للإنسان أنْ يحبّ رؤى للعالم مختلفة تماما. يمكن أنْ يحبّ الرومانسيين، كما يمكنه أنْ يحبّ الكلاسيكيين. ويمكن أنْ يحبّ الفنّ القديم، بالقدْر الذي يولع به آخر بالفنّ الحديث[9].

لا يستطيع الإنسان المعاصر الاحتجاج بوهم الهوية، ليدفع عنه هذا التّصادم بالحداثة ومنتجاتها المادية والفكرية، ولعلّ العقلانية أهمّ تجلياتها. فالإقرار بضرورة الخروج من المأزق الحضاري الذي تضعنا فيه أشكال تديّناتنا المعاصرة يجعل من المعنوية، أو الدّين المعنوي كما يسمّيه ملكيان ضرورة تفرضها تحديات الواقع، وإكراهات الاندماج الحضاري والثّقافي. وبما أنّ غاية الدّين والفلسفة عموما هي تحقيق الحياة الطيّبة، أو السّعادة الإنسانية، فإنّ الخروج من الحالة المعاصرة يقتضي الانفتاح على تجارب وأفكار وربّما فرضيات أخرى. لأنّ هذا القلق يسكن في ثنايا العقل المنفتح، ثم ينشأ، ثم يرافق العقل في مسيرة لا متناهية. إنّ المنفتح ابن فوضى المفاهيم التي يخلقها الواقع بتجلّياته المختلفة. واقعٌ كلّ همِّه إيقاف حركة العقل والتاريخ والجغرافيا لتستقرّ فقط في ما أنتجه القدماء، أو عبَّر عنه السّلَف، أو صادق عليه سدنة الأفكار وحرّاسها الأوفياء. واقعٌ يجعل التَّفكير في الممكن مستحيلا، خاصّة إذا كان يبحث عن معنىً مختلف ومغاير لصورة مرسومة سلفاً. واقع ينحاز إلى الماضى، ويقيم فيه ليشعر بالأمان، ويخاف على نفسه قلق المستقبل، والانفتاح على المجهول. أنْ تقلق يعني أنّك خرجت إلى ذاتك وحقّقت التواصل معها وبها، فالذّات ليست سوى الخروج عن العقلية الجاهزة والبحث عن منافذ الخلاص. الذات هي الدخول في تحطيم الأصنام، سواءٌ كانت أصناما مادية أو ذهنية، حيث إنّ هذه الأخيرة أشدّ خطراً من غيرها لخفائها وخطورتها، وهي ليست سوى الأشياء التي تبقى مصونة في الذّاكرة القومية، حيث إنّ الانقطاع عنها يمثّل انقطاعا عن الجذور، وبالتالي اغترابا يقذف صاحبه إلى هاوية العدمية كما كان يرى فرانسيس بيكون[10]. لهذا، فالقلق المنبثق على واقع الحال ليس وصولاً إلى نهايات يتمّ رسمها سلفاً من طرف العقل المنفتح، فهذا مجرّد وهمٍ، بل كلّ ما يصل إليه العقل في أبعاد انفتاحه هو مجرّد نماذج بشرية، أو مشاريع قابلة للنقد، والتطوير، وخاضعة لصيرورة النشوء والارتقاء.

لكن كيف يمكننا أنْ نحقّق هذه الطّفرة؛ أيْ الخروج من حالة الاستعصاء الثقافي التقليدي؟ أو لماذا الإصرار على أنْ تكون المعنوية في مقابل الفهم التقليدي للدّين؟. هنا يجيبنا مصطفى ملكيان[11] من خلال ثلاث مقدمات تبدو مهمّة لتيسير الفهم نجملها فيما يلي:

المقدمة الأولى/ القابلية للتعميم: بما أنّ للمعنوية سماتٌ وخصائص، فهذا يجعلها فرضية قابلة للتّعميم، باعتبارها بديلاً محتملاً لفهم تقليدي أورث كلّ أشكال الدّمار الذاتي والجماعي. وبالرّغم من أنّ تطبيقها قد ينطبق عليه ما ينطبق على غيرها من مشاكل نظرية، فهذا لا يعني أنّ بقاءها، باعتبارها نموذجا يحتذى تمنعها من التّعميم.

المقدمة الثانية/ المعنوية ذات مراتب ودرجات: الإنسان في عمومه كائنٌ معنوي، ولا يوجد كائن معنوي في مقابل آخر غير معنوي، بل هناك فقط تفاوتات في درجات المعنوية.

المقدمة الثالثة/ الهدف من بحث المعنوية:

أ- قصور الفهم التقليدي عن معالجة آلام الإنسان: لا يمكن أن يكون التقليد مدعاة لحياة إنسانية قوامها السعادة والحياة الطيبة، لأن التقليد في نهاية المطاف هو مجرّد محاولات لاسترجاع الماضي، وإسقاطه على واقع جديد أفرزته ثورة معلوماتية هائلة، وتواصل تكنولوجي منقطع النظير. هذا الحنين هو ما يمنع التواصل مع معطيات الواقع الجديد واقع العولمة الجامحة، والذي لا يمكن أنْ يصمد أمامه إلا من انخرط بشكل إيجابي في بناء المنظومة الإنسانية، بعيدا عن براثن التقليد، وذل التبعية؛ ذلك لأنّ التقليد في شموليته هو إماتة للعقول، وقضاء على عناصر الحياة فيها. فبه يظل الإنسان رهين التبعية، وبه ينغلق عن الانفتاح على الآخر بما يمثّله من هويّة مستقلّة، لها ما لها وعليها ما عليها. وحينما يغيب الإبداع والمشاركة الفعالة تحضر كل مظاهر التخلّف، وإذا ساد التخلف الاجتماعي سقط الإنسان في براثن التبعية، وكانت نهايته الحتمية انحدار من سلَّم الحضارة إلى هوة الذل والمسكنة.

ب- ضرورة التّمييز بين المقدور والمأذون: هذا يبيّن لنا الحاجة إلى المعنوية في عالمنا المعاصر. فالإنسان قديماً احتاج للدّين لتنظيم حالته الاجتماعية، وتيسير حياته اليومية، لكنّه لم يكن يملك القوّة على التأثير على نظامه الاجتماعي. هذا الأمر لم يعدْ ممكنا في عالمنا المعاصر، حيث ازدادت الإمكانيات، بل تضاعفتْ، لتتضاعف معها القدرة على الإصلاح، وكذلك الإفساد والتّدمير. هذه القدرة الهائلة على التّدمير تجعل من الحاجة إلى المعنوية ضرورةً قصوى، لأنّه في غيابها يغيب النّظام وتحلّ الفوضى. إنّها بمثابة الحلّ والبديل عن الفهم التقليدي للفكر الديني.

المقدمة الرابعة/ المعنوية تستبطن نحواً من العلمنة: هكذا يرى ملكيان، فالهاجس الأوّل للمعنوية هو الآن والمكان. ولا يعني هذا بحال إنكار البعث أو ما بعد الموت؛ فعلى العكس من ذلك يمكن للإنسان المعنوي أنْ يتديّن بما شاء، ويعتقد ما يشاء. غير أنّ هذا الجانب المعنوي وهذا الاهتمام بالآن والمكان، يستطيع من خلالهما الإنسان تأمين تطلّعاته. وبما أنّ العلمنة هي تدبيرٌ للحقل الديني، وإبعادٌ له عن تجاذبات السّياسة، وحياد الدّولة اتجاه عقائد النّاس وأنماط تديناتهم، فيبدو أنّ المعنوية قريبة من هذا المفهوم، إنْ لم نقل تتطابق معه.

المقدمة الخامسة/ تخفيف الألم والمعاناة: إنّ القضية الأولى التي تشغل الإنسان المعنوي، ليس هي تفاصيل الحياة كما يراها الفهم التقليدي للدّين، ولكن هي التّخفيف من معاناة الإنسانية وآلامها. ولكي يحقّق الإنسان المعنوي هذا الهدف الأسمى كان لزاماً أنْ يرفع من قيمة العمل، ذلك العمل الذي يخفّف من وطأة الألم الجماعي، والمشاركة مع الناس، والمساهمة في تطوير وتقدّم المجتمع.

إذا كانت المعنوية تمرّ من خلال دوافع عبَّر عنها مصطفى ملكيان بمقدّمات، فلا بد أنّ هذا الإنسان المعنوي يتميّز بصفات تميزه عن المتديّن بشكلٍ تقليدي، أو المتديّن المحافظ، فما هي أبرز هذه الصفات؟

صفات الإنسان المعنوي وسماته:

يمكن أنْ نصنّف هذه السّمات ضمن ثلاث دوائر كبرى تتمظهر في ثلاث ساحات رئيسة: ساحة العقائد، وساحة العواطف والمشاعر، وساحة الإرادة.

- ماذا أصنع؟: الإنسان المعنوي، لا تهمّه الأسئلة الوجودية من قبيل سؤال النّشأة والمصير، والغاية، بقدْر ما هو مهووس بسؤال ماذا يمكنني أنْ أصنع؟. بمعنى أدق الإنسان المعنوي يرى أنّ الإرادة والاختيار هي الشيء الوحيد الذي يضعني خارج إطار العالم، دون أنْ يذوب أو يستهلك وجودي في العالم ويصير جزءاً منه.

- الإنسان المعنوي يهنأ بحياة لا استعارة فيها: يحدّثنا ملكيان أنّ الإنسان المعنوي يتميّز عن غيره بحياة أصيلة لا استعارة فيها، وليقرّب لنا هذا المعنى يستعين بهايديجر في كتابه الوجود والزمان، وهو يتحدّث عن أننا نعيش في وجود يمكن وصفه بثلاثة نعوت:

1- العبثية، الفوضية، واللاهدفية: أي إنّ كلّ أعمالنا وأقوالنا تطبعها هذه الثلاثية، فلسنا سوى سراب، فحتّى معلوماتنا التي نكتسبها من المحيط محكومٌ عليها بهذه الفوضوية، لننقلها بدورنا إلى غيرنا دون أنْ ندرك منها شيئا.

2- المرور العابر للكلمات: أيْ إنّنا لا نمنح أنفسنا فرصة الفهم والتّدقيق والتحليل، فنحن عادة ما نفتح كتابا لنقرأه، حتى نذهب للاطلاع على غيره دون أنْ نمنح لأنفسنا فرصة التمكّن من هضم الأول.

3- الحيرة وعدم التأمّل والتدبر: هذا الأمر مرتبط بالسّابق، فحينما لا نتمكّن من هضم الأمور، وقراءتها وتحليلها نصاب بالحيرة. فالحيرة هي النّتيجة الطبيعية لإنسان تعوَّد على ضياع فرصة التمكّن من المعلومات والأشياء.

وباختصار شديد، فإنّ الإنسان المعنوي، هو ذلك الشّخص الذي يتخذ قراره بنفسه، محاولاً الخروج من دوامات المتاهة التي يفرضها الواقع، وتفرضها أسئلته الوجودية، دون أنْ يذوب في المجموع، بل يذوب فقط في قناعاته، وما يفرضه عليه بحثه الجادّ عن إمكانيات وجوده.

الإقرار بضرورة الخروج من المأزق الحضاري الذي تضعنا فيه أشكال تديّناتنا المعاصرة يجعل الدّين المعنوي ضرورة تفرضها تحديات الواقع

- الإنسان المعنوي يرفض التقليد:

يأبى العقل المعنوي أنْ يكون الغباء فلسفته المتجدّدة، فالأفكار تفقد بريقها بكثرة التكرار. لهذا أشار هشام شرابي أيضا إلى خطورة التّلقين عند دراسته للمجتمع العربي[12]، حيث يغيب النّقد والبحث والسّؤال، ويحضر الجواب النّهائي، والمسلّمات، والخطوط الحمراء. فالمنفتح ليس ملقِّنا، لهذا يرفض أنْ يكون داعية لاتجاه، أو عقيدة، أو أدلوجة، أو فكرة. إنّه ليس سوى ذلك الكائن المحرِّض، والمحفِّز، والمستفزّ للعقول كي تتحرّك من سُباتها، أو هو ذلك المصباح الذي يهدي من لا يقنع من السّؤال كي يتحرّك في رحلة لا نهاية لها، تتّسع في عزلتها كي تعانق اللاّمحدود. وبذلك ترفض كلّ أشكال القداسة والخضوع والدّوغمائيات التي تتميز بسمات: المعتقد الاصطفائي – اليقين الدوغمائي – الفكر الأحادي – المبدأ السكوني.

الإنسان المعنوي هو إنسان منفتح بالضرورة، والطبع، والفطرة. لا يخلق آلهة، ولا يصنع قداسة من جديد بأفقٍ اصطفائيّ كما يفعل مثقّفو اليوم، أو من يشتغلون بحراسة الأفكار، فهو ليس وصيّاً على النّاس، أو قائدا ملهماُ لهم. المنفتح يأبى اليقين، ولا يبحث عنه. إنّه ذلك السّاعي نحو التّطابق مع الذّات، والغوص في عوالم النّسبية، وكأنّه يحيا في عالمٍ ارتجالي يستوجب منه المشي في الشّارع وعيناه خارج المحيط، يقلِب كلّ المفاهيم، من أجل أنْ يحدُث ثقباً في جدار إسمنتي متين، يساعد على تعرّف الأفراد على ذواتهم، وتحرير الإنسان من نفسه بفعل الهدر الذي يتعرّض له من طرف ثلاثية: الديكتاتوريات/العصبيات/الأصوليات كما يسمّيها مصطفى حجازي[13]، وهي نفس الثّلاثية التي أشار إليها علي حرب في كتابه الإرهاب وصناعه[14]، حيث اختزلهم في المرشد، الطاغية والمثقف. المرشد: سخّر اسم الله، ليديم تسلّطه على رقاب الناس، وأبعد كل من خالفه العقيدة أو الفكر عن مسمّى الإنسانية. الطاغية: لم يتعامل مع الوطن إلا باعتباره مزرعة، ومِلْكاً خاصّاً. وبدل أنْ يمنح النّاس حقوقهم، جعل من عنفه شيئاً مشروعاً في حقهم. والمثقّف: بدل أنْ يطرح مشروعه بأفق إنساني، تحوّل إلى صانع للأزمات بدل أن يكون سببا في حلولها. لقد أراد تغيير العالم، لكنّه تغيّر بعكس ما فكّر فيه أو نظّر له. هكذا أهدرت إنسانيتنا.


[1]- قراءة في كتاب الفكر المتطرف كيف يصبح الناس العاديون متطرفون، ترجمة محمد أحمد سالم. على الرابط التالي:

http://www.mominoun.com/articles/الفكر-المتطرف-كيف-يصبح-الناس-العاديون-متعصبين-2621

[2]- فيري، لوك. تعلم الحياة. ترجمة سعيد الولي. دون دار النشر، أو طبعة أو تاريخ. ص: 167

[3]- نبيل، معلوف. الهويات القاتلة. بيروت، دار الفارابي، ط1، 2004. ص: 19

[4]- مصطفى، ملكيان. العقلانية والمعنوية. مقاربات في فلسفة الدين. ترجمة عبد الجبار الرفاعي وحيدر نجف. الدار العربية للعلوم ناشرون ومركز دراسات فلسفة الدين بغداد، ط1، 2010. ص: 30

[5]- فيري، لوك. مفارقات السعادة: سبع طرائق تجعلك سعيدا. ترجمة أيمن عبد الهادي. دار التنوير، ط1، 2018. ص: 8

[6]- فيليب دان بوسش. المقال السابق. انظر مقالا لفيليب فان دان بوسش حول السعادة في الفلسفة في كتاب: فلسفات عصرنا: تياراتها، مذاهبها، أعلامها، وقضاياها. جان فرانسوا دورتيي. تالييف جماعي مجلة العلوم الإنسانية. ترجمة ابراهيم صحراوي. منشورات الاختلاف، ط1، 2009. ص: 414

[7]- مفارقات السعادة. ص: 9

[8]- فيري، لوك. أجمل قصة في تاريخ الفلسفة. بالتعاون مع كلود كبلياي. ترجمة محمود بن جماعة. دار التنوير للطباعة والنشر، ط 1، 2015. ص: 21

[9]- المرجع السابق. ص: 25

[10]- درايوش، شايغان. الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية. ترجمة حيدر نجف. بيروت. دار الهادي. ط1. 2007. ص: 32

[11]- مصطفى، ملكيان. التدين العقلاني. ترجمة عبد الجبار الرفاعي وحيدر نجف. بغداد، مكتبة الفكر الجديد، ط1، 2012. ص: 27 وما بعدها.

[12]- شرابي، هشام. مقدمات لدراسة المجتمع العربي. الدار المتحدة للنشر. ط3. 1984. ص: 48

[13]- حجازي، مصطفى، الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005، ط1. ص: 24

[14]- حرب علي، الإرهاب وصناعه: المرشد، الطاغية، المثقف. بيروت: الدار العربية للعلوم، 2015، ط1. ص: 10