الخوف الداخلي والتخويف الخارجي: عن الإسلام ومشاعر المسلمين


فئة :  مقالات

الخوف الداخلي والتخويف الخارجي: عن الإسلام ومشاعر المسلمين

ثمة خلط في العالَم الإسلامي بين 1- الإسلام كنصٍّ معرفي موجود أولاً في المتون، وقابل للنقد ثانياً، وبين 2- مشاعر المسلمين المختلطة بتلك المتون؛ أيّ بين كونه نصّاً سالباً، لن تكون له أية فاعلية على المستوى المعرفي إلا عبر العمليات النقدية، وبين الإبقاء على هذه السلبية من خلال انصهارها مع الحالة الوجدانية للمسلمين. لذا ثمة تأجيل أو شبه تأجيل لمُساءلة النصّ الديني مُساءلة معرفية، بطريقةٍ تُفضي إلى تقصّي جدواه في الاجتماع الإنساني، إذ ستضغط الحالـة السيكولوجية للمسلمين على مسلكيات البحث في المجال الديني، تحت وطأة احترام مشاعرهم وعدم المساس بثوابتها الروحية التي نشأت عليها، وتأسست العلاقة في دفقيتها الأولى عليها. ووفقاً لاعتبارية هذه العلاقة المُلتبسة، على البحث الإبستمولوجي للدين أن يمرّ أولاً على الحاجز السيكولوجي للمتدين؛ أي أن يخضع لمقتضيات حالته الوجدانية، أكثر من خضوعه لشرط البحث المعرفي، الذي يمكنه أن يُسائل أي نصّ بعيداً عن رهنه لأي مقتضىً غير عقلاني.

السؤال كيف حدث الالتحام بين النصّ الديني الإسلامي ومشاعر المسلمين، بما أفضى إلى الخلط المذكور أعلاه، وتأثيره من ثمّ على البحث المعرفي؟

ابتداءً نشأت حالة وجدانية بين النصّ القرآني والمسلمين الأوائل، فتشكلت حالة من الحميمية تم تأسيس الدفقات الأولى للإسلام عليها، إذ تشرنق المسلمون حول بعضهم البعض، وصار الكلام القرآني شرنقتهم التي لم يحتموا داخل صدفتها فحسب، بل شكلّت لهم كينونتهم الجديدة. ففي البداية لم تنشأ أيّ جدالات حول طبيعة الدين الجديد، بل كان القبول به قبولاً تسليمياً على المستوى العقلي، لذا لم يُجادل "أبو بكر الصديق" أو علي بن أبي طالب أو غيرهم ممن آمنوا من البدايات، حول صدق النبي أو الكلام الجديد الذي أتى به، فقط آمنوا به دون أي جدال. وباستثناء حادثة خديجة بنت خويلد التي حاولت فيها اختبار حالة مُحمّد الكُليّة من جذورها، لكي يتأكّد النبي أولاً وخديجة ثانياً، من أن الذي يأتي النبي ويُملي عليه الكلام الجديد ملاك وليس شيطان. تحديداً تلك الحادثة التي أوردها ابن هشام في السيرة، فقد أخذت طابعاً درامياً اقترن بعاطفةٍ جيّاشة إذ أجلست خديجة بنت خويلد النبي في حجرها وبدأت عملية الاختبار: فـ "عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به. فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني، قالت: قم يا ابن عم فأجلس على فخذي اليسرى؛ قال فقام رسول الله صلى اله عليه وسلم فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاجلس على فخذي اليمنى؛ قالت: فتحول رسول الله صلى اله عليه وسلم فجلس على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قلت: فتحول فاجلس في حجري، قالت: فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها. قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قال: فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه؟ قال: لا، قالت يا ابن عم، اثبت وأبشر، فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان".

باستثناء هذه الحادثة التأسيسية - وهي في جوهرها حادثة عاطفية ومعزّزة للارتباط الوجداني بين عالمي السماء والأرض، فقد كانت غايتها تثبيت اللحظة الأولى على المستوى الداخلي لإكمال بناء المعمار على المستوى الخارجي -([1]) التي أرادت التأكّد من المصدر الذي يدعّي النبي - وليس من شخص النبي من حيث هو كذلك - أنه يتواصل معه، عبر إخضاعه لاختبار عملي، لم يتم طرح أسئلة جوهرية من قبل من دخلوا في الإسلام المُبكّر من شأنها أن تثير قلقاً معرفياً، بل كانت هناك غبطة من نوعٍ ما بهذا التلاحم، فقد اقترنت حالة التشرنق التي أشرت إليها أعلاه، مع خصوصية حظوتهم بكلامٍ منقطع النظير، كما تمّ الترويج لذلك. فالانقطاع المبدئي عن الناس، قابله اتصال مبدئي مع الله، لذا لم يكن لأحدٍ أن يقارن بين الكلفة الاجتماعية التي يدفعها الصحابة، بتلك الحظوة في علاقتهم الطازجة والمباشرة مع الإله الجديد، فهم القاطفون للقطفة الأولى، من هذا الشغف الميتافيزيقي.

وهذا ما سيتعاظم بالتقادم، إذ ستتم إحاطة النص القرآني بسياجٍ عاطفي جيّاش، فما حضر النصّ القرآني إلا وحضرت حالة الوجد معه، إلى درجة أن قراءته وترتيل آياته وحفظه عن ظهر قلب، طغى بشكل لافت للنظر على فهمه وإخضاع متنه لمُساءلة العقل النقدي. وحتى يومنا هذا ما زال هذا هو التوجّه العام السائد، فما ذُكر القرآن وإلا واقترن بحالةٍ وجدانية أكثر منها حالة عقلانية. فالدفقة السيكولوجية المقترنة بمشاعر جيّاشة ستتفوق على التساؤل العقلاني، إلى حدّ سيصبح معه طرح أي تساؤل نقدي حول النصّ القرآني، أمراً مقروناً بخطرٍ كبير.

وقد كان لتقدّم الحالة السيكولوجية وتأخّر الحالة المعرفية، في العلاقة بين النصّ وحاملي هذا النصّ، أن يُؤسّس لـ:

1- خوف داخلي ترسّخ في أعماق الوعي الجمعي، ثمّ انتقل إلى الوعي الفردي، بما جعل منه أقرب ما يكون إلى الكروموسوم اللاهوتي المُخيف. فثمة شعور إثمي يطال الفرد في حال أراد الاقتراب من النص القرآني اقتراباً نقدياً، وإذا ما استطاع الفرد تجاوز محنة هذا الشعور، طاله الشعور الإثمي الجمعي، وجعله يشعر بالعار لمجرد اقترابه من النصّ القرآني، فعوضاً عن قداسته التي تم تثبيتها والقطع فيها قطعاً نهائياً، فهو حالٌّ في وجدان المسلمين، وأي اقتراب منه هو اقتراب بالضرورة من مشاعر المسلمين وتطاول عليها.

2- تخويف خارجي، إذ تمّ سنّ حزمة من العقوبات القاسية، لكل من يتطاول على نقد النصّ القرآني خارج ما هو مُتعارف عليه من قبل المؤسسة الرسمية. فإذا ما حدث عجز في منظومة الخوف الداخلي التي يُربّى عليها المسلم، سواء في صيغته الجمعية أو صيغته الفردية، وتجاوز هذا المسلم إرثه الخائف، وتمكّن من طرح أسئلته، ستواجهه منظومة التخويف الخارجي بعقوباتها المُنتظرَة، التي قد تبتدئ بالتحذير وقد تنتهي بالإبادة الجسدية. وثمة أمثلة قديمة وحديثة على مثل هذه النتائج، التي صدرت عن مقدمات تخويفية كانت عُرفية في البدايات، ثم تحوّلت إلى قانونية في فترات لاحقة. حتى أنها طالت أموراً أقل حضوراً من النص القرآني ذاته، تحديداً ما تعلق منها بأمور العبادات. لكن بقي الحضور الأخطر لهاتِهِ العقوبات لأولئك الذين يقتربون من النص القرآني أو أحد المفاهيم الأساسية التي أتى بها هذا القرآن وأقرتها السُلطات المُتلاحقة. فثقافة التخويف، ثقافة فاعلة - في صيغيتيها العالِمة والشعبية - تكاد تحجر على أي مقاربة معرفية للنصّ القرآني، إلا في بعض الحالات التي تحرّر فيها البعض من:

1- مخاوفهم الداخلية، إذ أعادوا إنتاج وعيهم من جديد بطريقة تؤكد حريتهم الفردية وإنتاج وعي جديد قادر على أن يتعامل تعاملاً نقدياً مع العالَم، أياً كانت مواضعاته، خلافاً للوعي القديم الذي رهن الحرية الفردية لسياق جمعي، حيث يتم تنميط تلك الحرية وجعلها تخضع لشرطٍ جمعي مسبق، لا لشرطٍ بحثي مستقل.

2- نظام التخويف الخارجي، سواء أأخذ صيغة شعبية، من خلال النبذ الاجتماعي أو الازدراء النفسي أو الطعن في الشخصية أو التعريض بها، أو أخذ صيغة رسمية من خلال الحرمان من الوظيفة أو النفي أو التهديد أو القتل.

إذن، ثمة نسق مُخيف يُسيطر على العمليات المعرفية المُتعلقة بمقاربة النص القرآني، وبالجدار السيكولوجي المحيط به، والمتمثل بمشاعر المسلمين الدفاقة. مرةً يتجلّى - أعني النسق المُخيف - في الداخل على شكل مورثات ضاغطة تجعل من المرء أقل شأناً من أن يقترب - غير صيغة القُربى التسليمية - من النصّ القرآني. ومرةً يتجلّى في الخارج على شكل عقوبات تستبيح حُرمة كل من يتطاول على النص القرآني وفقاً لمواضعاته التفسيرية التي أقرتها السُلطات الرسمية على مدار قرون طويلة.

وقد شكلت حالة الخلط بين ما هو معرفي وما هو سيكولوجي، في العلاقة بين النص القرآني كنصٍّ معرفي، وبين مشاعر المسلمين، وما نتج عنها من خوف داخلي وتخويف خارجي، إلى:

1- الحَجْر المبدئي على حرية البحث المعرفي، وعدم السماح بتجاوز نقاط بعينها تمّ الاصطلاح عليها جمعياً، تحت وطأة العقاب الشديد لكل من يتجاوزها على المستوى الفردي.

2- ممارسة نوع من الوصاية الطهرانية على النصّ القرآني، وافتراض أن إحاطته بهكذا طهرانية تجعله أكثر قداسة في نظر الناس. لكن يبقى سؤال يتم التغاضي عنه واعتباره جزءاً من تاريخ تلك الطهرانية التي لا تُناقش أيضاً: كيف افترض من اجترح تلك الطهرانية على أن تلك المواضعة للنص القرآني هي المواضعة التي تجعله أكثر قداسة فوق قداسته المبدئية، وما هي الحالة الوثوقية التي افترضها لكي يعتقد اعتقاداً جازماً أن ذلك يحقّق مُراد الله في الزمن والمكان أفضل تحقّق؟

3- افتراض حالة من الصدام المبدئي ليس بين الباحث والنصّ القرآني فحسب، بل وبين المسلمين أيضاً. فالباحث الذي لا يخضع لمسلمات بحثية قرّت في الذهن الجمعي الإسلامي، في صيغتيه العالِمة والشعبية، هو باحث ناقد وحقود ويسعى إلى تقويض الدعائم الروحية التي يستند عليها المسلم في تسيير أمور حياته، الدنيوية والأخروية، لذا يصير عقابه عقاباً صارماً واجباً أممياً.

وهكذا، تعاظمت الهوّة بين البحث المعرفي والنص القرآني، نتيجة للجدار السيكولوجي العتيد، الذي تمّ بناؤه منذ اللحظات الأولى للدعوة المحمدية، وأخذ يكبر شيئاً فشيئاً، إلى أن حال إلى جدار قاسٍ، كان تجاوزه مُكلفاً، وسيكون كذلك، إن لم يتعرض لعوامل الحتّ والتعرية؛ والدخول من ثمَّ في حالة من السجال تضع حداً إلى أنه لا علاقة لمشاعر المسلمين السيكولوجية بنصهم المقدّس. فهذا شيء وذاك شيء آخر، والخلط بينهما يضرّ أكثر مما ينفع، وإن كان الظاهر - على الأقل بالنسبة للمسلم - يشي بغير ذلك. فالوقوف في المنتصف تحت حجّة الحفاظ على طهر النصّ القرآني من دنس أي مقاربة معرفية لا تنسجم مع ما هو مُتعارف عليه، يضع النصّ القرآني ذاته في حرج ثيولوجي أساساً، لناحية أن قداسته الإعجازية المُفترضة ما هي إلا قداسة هشّة، ولا سبيل إلى استمراها إلى بإحاطتها بمشاعر فياضة قادرة على حمايتها حماية سيكولوجية؛ أي أنه نصّ غير مؤهل لأي سجال معرفي من الأساس، وما تلك المآثر التي يتغنى بها المسلم لناحية حثّ النص القرآني على البحث والمعرفة، إلا من باب ذرّ الرماد في العيون ليس إلا، فهو يُحيط به من كل جانب لكي يحميه، في استعادة حميمة لزمنٍ ماضوي، التصق فيه المسلم بنصّه المقدّس التصاق الجنين بالمشيمة، فمنحه الثاني معناه الأنطولوجي في هذا العالَم، لذا صار عليه أن يدافع دفاعاً مستميتاً عن هذا النصّ، ولكي يكون الدفاع أكثر جدوى يأخذ بُعدا عاطفياً أكثر منه بُعداً عقلياً.


[1] في تعقيبه على هذه الحادثة، كان "فتحي بن سلامة" قد أشار في كتابه (ليلة الفلق)، إلى أن عالَم السماء قد تثبّت في حِجر امرأة. وكأنه يخصّ المرأة بالحظوة، إذ ثمة تشابه بين رِحِم المرأة القادر على استيلاد المعاني الناسوتية في العالَم، وبين الرَحِم المُطلق القادر على استيلاد المعاني اللاهوتية في العالَم.