اَلشِّيعَة فِي عَصْرِ اَلْخُلَفَاءِ اَلرَّاشِدِينَ


فئة :  ترجمات

اَلشِّيعَة فِي عَصْرِ اَلْخُلَفَاءِ اَلرَّاشِدِينَ

اَلشِّيعَة فِي عَصْرِ اَلْخُلَفَاءِ اَلرَّاشِدِينَ

تأليف: ا. د. والفرد مادلونغ

ترجمة: د. عبد الكريم مُحَمَّد عبد الله الوظّاف

مقدمة المترجم

صدرت هذه المقالة ضمن مجلدٍ بعنوان "التراث الشِّيعيّ: مقالات في التراث القديم والحديث"، "Shi'ite Heritage: Essays on Classical and Modern Traditions"، من الصفحة 9-18. يحتوي على عدة مقالات. وصدر هذا المجلد عام 2001 عن دار Global Publications، بنيويورك.

والفرد مادلونغ (26 ديسمبر 1930-9 مايو 2023م) هو مستشرق ألمانيّ. ولد في شتوتغارت في ألمانيا، وفي سنة 1947 انتقل مع عائلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث درس في جامعة جورج تاون قبل أن يذهب إلى القاهرة عام 1951 الدراسة الأدب العربيّ والتأريخ الإسلاميّ. وهناك كان تلميذًا لـمُحَمَّد كامل حسين (1901-1961)، الذي قام بتحرير العديد من النصوص الإسماعيليَّة في العصر الفاطميّ. وعند قيام ثورة يوليو؛ غادر إلى ألمانيا، حيث أكمل دراساته العليا وحاز على درجة الدكتوراه سنة 1957 عن أطروحته التي كانت بعنوان "القرامطة والفاطميون: علاقاتهم المتبادلة وتعاليمهم في الإمامة"، ثم في سنة 1958 شغل منصب الملحق الثقافيّ في سفارة ألمانيا ببغداد لمدة سنتين، وبعد ذلك درس في جامعة شيكاغو، حيث شغل منصب أستاذ التأريخ الإسلاميّ، وبعدها شغل منصب أستاذ اللغة العربية بجامعة أكسفورد من سنة 1978 إلى 1998. ومنذ عام 1999، أصبح عضوًا في الأكاديمية البريطانية، وكبير باحثي معهد الدراسات الإسماعيليَّة في لندن. وفي عام 2013، حصل على جائزة الفارابيّ الدوليَّة من وزارة الإرشاد والثقافة الإسلاميَّة الإيرانيَّة لمساهماته الكبيرة في مجالات الدراسات الإسلاميَّة والإيرانيَّة.

ومن أجل ذلك، كانت أعمال مادلونغ، وعلى وجه الخصوص، ما يتعلق بالشَّيعَة بكافة مذاهبها ذات قيمة علميَّةٍ من شخصية أكاديميَّة وعلميَّة لها تعمق في هذا الجانب. ومن ذلك هذه المقالة التي تُصادفنا، وهي جزء يسير من نتاج مادلونغ العلميّ الذي يتنوع بين المؤلفات والمقالات العلميَّة.

وتدرس هذه المقالة حركة التشيّع ونشأتها خلال ما يُسمى بعصر الخلفاء الراشدين، رغم أن هذه الدراسة كانت مركزة على التشيّع في عهد الخليفة عُثمَان، والخليفة عَلِيٍّ بن أبي طَالب. قد ربط مادلونغ أصول التشيَّع بشخصية عبد الله بن سَبَإ، وناقشها بصورة سريعة، وأبدى رأيه بدوره ووجوده التأريخيّ والمعتقدات التي أعلنها، وكذا موقف عَلِيّ بن أبي طالب من الخليفتين أبي بكر وعُمر بن الخطّاب. كل ذلك في ورقات قليلة العدد غزيرة المعنى.

وتجدر الإشارة إلى الدكتور شون ويليم أنتوني، أستاذ التأريخ الإسلاميّ، قد قام بالتوسع في موضوع أصول التشيَّع ودراسته من خلال شخصيَّة ابن سَبَإ، وصدر ذلك في كتاب كبير الحجم، ستصدر ترجمته لي إلى اللغة العربيَّة في القريب العاجل، في مشاركتي الثقافيَّة العلميَّة الفكريَّة في تعريف القارئ العربي بما يُكتب عن مجال الدراسات الإسلاميَّة في الدراسات الغربيَّة.

وفي الأخير، فهذه ترجمتي؛ فإن استحقت الرضا، فذلك من الله، وإن كان من خطأ، فهو مني.

تنويه للقارئ:

كل ما يُوضّع بين معقوفتين [ ] في المتن أو الهامش، فهو من إضافة مادلونغ، وما كان من إضافة أو تعليق مني؛ فقد وضعته بين حاصرتين { }؛ تمييزًا لإضافات أو تعليقاتي. وما كان من تعقيبٍ مني أو توضيح، فقد وضعته في هامش، وجعلت له إشارة (*).

نشأ التشيّع كحركةٍ دينيَّةٍ، وفقًا للنظرة الغربيَّة الحديثة التقليديَّة، بعد وفاة عَلِيٍّ. ولا شك بوجود شِّيعَة عَلِيّ أثناء الحرب الأهليَّة الأولى بين المسلمين (الفتنة)، ولكنهم كانوا، ببساطةٍ، من المؤيدين النشطين لخلافة عَلِيّ، تمامًا كما كان هناك شِّيعَةٌ لعُثمَان – سلف عليّ - والذين يتألفون مِن كل مَن سعى للانتقام لمقتله في المدينة المنورة. وكان الصراع بين الطرفين، وفقًا للرؤية الحديثة، سياسيًا بحتًا. وقد سعى عَلِيٌّ - في خلافته بعد وفاة عُثمَان العنيفة - للسير على الأسس نفسها التي سار عليها أسلافه الثلاثة، إلا أنه واجه معارضةً قويَّةً، أولًا من عَائشة ومكة القُرشيَّة، ثم من مُعاويَة وأهل الشام. ولم يبدأ بعض أنصار عَلِيٍّ في الكُوفَة، الذين خاب أملهم بسبب فشل قضيتهم واستيائهم من انتقال السُلطة السيادية إلى الشام، في بناء فكرة الحق الخاص لأهل بيت النَّبِيّ مُحَمَّدٍ إلا بعد مقتل عليٍّ وتنازل ابنه الحَسن عن الخلافة لصالح مُعاويَة. ومن أجل رفعة مكان عليٍّ بن أبي طَالب؛ نسبوا إليه معرفةً فائقةً بالإسلام؛ تلقاها من النَّبِيّ، كما نسبوا إليه، في بعض الأحيان، صفاتٍ خارقةٍ للطبيعة. وفي الوقت المناسب، ادعى أكثر أنصاره تطرفًا أنه وخطًا من نسله هم وحدهم من يحق لهم الزعامة الدينيَّة والسياسيَّة للمجتمع، وأن أسلافه الثلاثة وكذلك الخلفاء اللاحقين كانوا مغتصبين غير شرعيين. وكلما ابتعد الشِّيعَة عن الواقع السياسيّ؛ أصبحوا أكثر عرضةً للتطرف الدينيّ.

تم تقديم صورة مختلفة لأصول التشيّع، كما هو معروفٌ، مِن قِبل المؤرخ الكُوفيّ المُبكر سَيف بن عَمرو في أوائل العصر العباسيّ. ووفقًا لروايته، فقد أسس عبد الله بن سَبَإٍ التشيّع، وهو يهوديّ يمنيّ اعتنق الإسلام. وقد بدأ نشاطه في عهد خلافة عُثمَان عندما سافر من الحجاز إلى الشام؛ فأثار الاضطرابات والتمرد في مصر والبصرة والكُوفَة، وحرّض المتمردين المصريين على قتل عُثمَان. وقد بشر بأن لكل نبيٍّ وصيٍّ، وأن عَلِيًّا هو الوصي المُعيَّن إلهيًا لمُحَمَّدٍ. ومثلما كان مُحَمَّدٌ خاتم الأنبياء؛ كان عَلِيٌّ "خاتم الأوصياء"([1]). كما كان ابن سَبَإٍ مسؤولًا عن اندلاع القتال بين جيشي عَلِيّ وعَائشة في البصرة. ووفقًا لمصادر سُّنِّيَّة وشيعيَّة أخرى، فبعد وفاة عَلِيٍّ، قام بتدريس الأفكار المرتبطة لاحقًا بالمتطرفين الشِّيعَة (الغُلاة): لم يمت عَلِيّ، لكنه كان يركب السَّحاب، وسيعود لملء الأرض عدلًا. ولطالما رُفضَ سَيفٌ بن عَمرو كمصدرٍ موثوقٍ مِن قِبل المؤرخين الغربيين العاصرين، بدءًا من فلهاوزن Wellhausen. في حين حاول بعضهم إعادة تأهيله مؤخرًا، لكن قصته عن عبد الله بن سَبَإٍ لم تجد حظوةً. فهي تُشبه إلى حدٍ كبيرٍ قصصًا مُماثلةً عن أصول الطوائف غير الأرثوذكسيَّة {التقليديَّة}؛ بحيث لا يُمكن الاعتراف بها كأسطورةٍ سوداءٍ أرثوذكسيَّةٍ أنموذجيَّةٍ. ولكن في نقطة واحدة، فإن وجهة النظر الغربيَّة الحديثة والأسطورة السوداء(*) لابن سَبَإٍ تتوافق. وهذا يعني التأكيد أن عَلِيًّا نفسه لم يكن له علاقةٌ بصعود التشيّع الدينيّ وعقيدته. وبدلًا من ذلك، يُقال إن عَلِيًّا لم يُنكر معتقدات ابن سَبَإٍ، وقام، بدلًا عن ذلك، بنفيه من الكُوفَة إلى المدائن.

ومن أجل دراسة شخصيَّة شِّيعَة عَلِيّ في زمن الخلفاء الراشدين؛ فلا بد من العودة إلى التراث التأريخيّ الكُوفيّ الصادر عن غير سَيف. روى عوانة بن الحكم الكلبيّ عن الشعبيّ عن جُندب بن عبد الله الأزديّ الكُوفيّ عن نشاطه في دعم عَلِيٍّ في بداية عهد عُثمَان. وكان جُندب، وفقًا لروايته الخاصة، حاضرًا في المدينة المنورة في وقت انتخاب عُثمَان. وقام بزيارة المقداد بن عَمرو (الأسود)، وهو من أشد المؤيدين لعَلِيّ، وقد خاب أمله لانتخابات عُثمَان، وسمعه يُجادل عبد الرحمن بن عوف - الذي لعب دورًا حيويًّا في تلك الانتخابات. ثم زار عَلِيًّا وعرض عليه الاستعانة بمناشدة أهل مسقط رأسه في الكُوفَة لدعمه لقضيته. فأجابه عَلِيٌّ بأن الوقت لم يحن بعد. وبُعيد عودته إلى العراق، تحدث جُندب باسم عَلِيٍّ، ولقي معارضةً شديدةً، وأدانه والي عُثمَان على الكُوفَة، الوليد بن عُقبة بن مُعيط، الذي سجنه. فشُّفع فيه؛ فأطلق سراحه([2]).

ولعله لم يمض وقتٌ طويلٌ، وفقًا لأبي مِخنف، حتى بدأ عَمرو بن زُرارة بن قيس وكُميل بن زياد بن ناهيك، كلاهما من بني النخع من قبيلة مدلج اليمنيَّة، يدعوان علانيَّةً لعزل عُثمَان ومبايعة عَلِيٍّ. وأخبر عَمرو بن زُرارة الناسَ أن عُثمَان قد تخلى عن الحق وهو يعلمه، واضطهد الأتقياء، وعيَّن أسوأ الناس ولاةً.

ولمّا عَلِمَ الوالي الوليد بهذا الأمر؛ عزم في بادئ الأمر الركوب إليهم، ولكن تم تحذيره من خطورة الأمر وأنه ينبغي عليه أن يكون حذرًا خشية إشعال التمرد. فعرض مالك بن الحارث الأشتر، زعيم بني النخع، التدخل؛ فهدأ قومه بسهولة وحذرهم من الفتنة. وبعد ذلك، كتب الوليد إلى عُثمَان بشأن الأمر؛ فأمره الخليفة بنفي عَمرو بن زرارة، الذي وصفه بأنه "أعرابيٌّ جلف"، إلى الشام. وتجدر الإشارة إلى أن عَمرو كان في واقع الأمر ابن زعيم وفد بني النخع الذي وفد على النَّبِيّ مُحَمَّد قبل وفاته بقليلٍ ليُعلن إسلامه، وأن عَمرو نفسه كان يُعتبر من صحابة النَّبِيّ([3]). ولمّا غادر عَمرو الكُوفَة؛ صحبه الأشتر ورجلان من النخع، الأسود بن يزيد بن قيس وعلقمة بن قيس بن يزيد. ثم عاد الحراس إلى الكُوفَة. وعلّق قيس بن قهدان بن سلمة من بني بدا مِن كندة على الحادثة بأبيات شِّعرٍ، وأقسم على خلع أبا وهب (الوليد) وصاحبه "كهف الضلالة" عُثمَان بن عفّان([4]). ومن المعروف أن معظم هؤلاء الرجال كانوا من بين شِّيعَة عَلِيٍّ البارزين؛ وإذا نجوا كما نجوا كميل بن زياد، في الجيل الذي تلا وفاة عَلِيٍّ.

وعندما استبدل عُثمَانُ الوليدَ بن عُقبة بسَعيدٍ بن العاص، أمر الوالي الجديد بمعاملة الناس برفقٍ، وجذب سَعيدٌ قُراء القرآن والزعماء المحليين البارزين إلى صحبته وقضى الأمسيات معهم. ويذكر أبو مِخنف عددًا لا بأس منهم، ويظهر العديد منهم، لاحقًا، كمؤيدين نشطين لعَلِيٍّ وكشخصياتٍ بارزةٍ في حركة التشيّع. ومن بين أولئك، إلى جانب الأشتر، صعصعة وزيد ابني صوحان من عبد القيس؛ وحرقوص بن زهير من سَعد تميم؛ وشُريح بن أوفى من عبس، وكلاهما أصبحا من الخوارج وقُتلا في النهروان؛ وكان من بين الحاضرين في هذه الأمسية: جُندب بن زهير الأزديّ؛ وكعب بن ذي الحبكة النهديّ، وهو أحد الزُهاد المتدينين؛ وعَدي بن حاتم، زعيم بني طيء؛ وزياد بن خصفة من بني تيم الله من ربيعة؛ ويزيد بن قيس الأرحبيّ. وفي إحدى هذه الاجتماعات المسائيَّة في قصر الوالي، أدلى سَعيدٌ بن العاص بتعليقه الذي لن يُنس بأن سواد العراق "بستانًا لقُريش"؛ مما أثار شجارًا؛ تعرض فيه قائد الشرطة لمعاملةٍ سيئةٍ. فكتب سَعيدٌ بن العاص إلى عُثمَان يشكو أنه بوجود الأشتر ورفاقه، الذين كانوا يُطلق عَلِيّهم قُراء القرآن ولكنهم كانوا مثيريّ شغبٍ في حقيقة الأمر، لن يكون لديه أي سيطرةٍ على الكُوفَة. فأمره عُثمَان بنفيهم إلى الشام، وأرسل إلى الأشتر رسالة توبيخٍ. فقام سَعيد لتوه بإرسال الأشتر؛ والأخوين زيد وصعصعة؛ وعائض بن حملة الطحاويّ من تميم – الذي أصبح في وقتٍ لاحق من مؤيدي حُجر بن عديّ - وكُميل بن زياد؛ وجُندب بن زهير؛ والحارث بن عبد الله الأعور الهمدانيّ؛ ويزيد بن المُخفف النخعيّ؛ وثابت بن قيس النخعيّ؛ وأسعر بن الحارث الحارثي، زعيم بني الحارث في معركة القادسيَّة، إلى المنفى في دمشق.

وقد كتب نفرٌ من قُراء القرآن إلى عُثمَان رسالة احتجاج. ويمكن الإشارة إلى أسماء عددٍ قليلٍ منهم: معقل بن قيس الرياحيّ، ويزيد بن قيس الأرحبيّ، وحُجر بن عديّ - الذي قتله مُعاويَة فيما بعد بسبب موقفه الموالي للعلويين، وعَمرو بن الحمق الخُزاعيّ، الذي ورد ذكره باعتباره من بين الثوار المصريين الذين حاصروا قصر عُثمَان في المدينة المنورة؛ وسليمان بن صرد الخُزاعيّ، زعيم التوابين الشِّيعَة؛ وكعب بن ذي الحبكة؛ وزياد بن النضر الحارثيّ، أحد القادة البارزين في معركة صفين. وقد أكدت الرسالة للخليفة ولاءهم له طالما أطاع الله، لكنها حذرته من أن اعتماده على الظالمين، مثل سَعيد، يُفكك المجتمع. ولم تكن الرسالة موقعةً؛ لذا سارع عُثمَان إلى الضغط على الرسول أبي ربيعة العنزيّ ليكشف عن أسماء كاتبيها، فضربه وسجنه. ولكن عَلِيًّا تدخل قائلًا إن أبا ربيعة لم يكن إلا رسولًا ينقل ما أُؤتمن عليه. أما كعب بن ذي الحبكة، الذي كتب رسالةً منفصلةً موقعةً؛ فقد جلده سَعيدٌ بن العاص عشرين جلدةً بناءً على تعليمات عُثمَان، ونفاه إلى الريّ. وقد قُتل فيما بعد باعتباره مُتعاطفًا مع العلويين في تثليث، بشمال اليمن، على يد قائد مُعاويَة بسر بن أبي أرطأة عندما أغار الأخير على الحجاز واليمن في آخر عامٍ من خلافة عَلِيّ([5]).

وأقام المنفيون إلى دمشق في منزل عَمرو بن زرارة، الذي كان قد سبق ترحيله في عهد الوليد بن عُقبة. وفي بداية الأمر، عاملهم مُعاويَة معاملةً جيدةً. ولكن في النهاية، صدرت كلماتٌ حادة بينه وبين الأشتر؛ سُجن الأشتر جراءها. وذكّر عَمرو بن زرارة مُعاويَة بأن الأشتر له أنصار، كما أن الأمر قد يتفاقم بسبب سجنه إياه. كما حذر بقية المجموعة مُعاويَةَ من ضرورة احترام حقوقهم كجيرانٍ، لكنهم التزموا الصمت بعد ذلك. وسألهم مُعاويَة لماذا لا يتحدثون. فأجابه زيد بن صوحان: "وما نصنع بالكلام؟ لئن كنا ظالمين؛ فنحن نتوب إلى الله، وإن كنا مظلومين؛ فإنّا نسأل الله العافية". فأثنى مُعاويَة على زيدٍ وسمح له بالعودة إلى الكُوفَة، وكتب له كتاب توصيةٍ إلى واليها سَعيد بن العاص. وشكر زيدٌ مُعاويَةً الذي أطلق سراح مَن سجنهم بناءً على طلبه. ولكن بعد فترةٍ وجيزةٍ، عَلِمَ أن بعض أهل دمشق يُجالسون الأشتر وأصحابه؛ فكتب إلى عُثمَان يحذره من أن الرجال الذين أرسلهم إليه في المنفى قد يُفسدون رعيته. فأمره عُثمَان بإرسالهم إلى حمص، والذي كان واليها مِن قِبل مُعاويَة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد([6]).

وبعد وقتٍ قصيرٍ، اندلعت ثورةٌ عامة في الكُوفَة. وقد دُعي سَعيد بن العاص إلى المدينة لحضور مؤتمرٍ للولاة. وكان أهل الكُوفَة يأملون في استبداله على أساس الشكاوى المُقدمة. وعندما علموا بعودته؛ ثاروا عليه، واستولى الأشتر على الكُوفَة دون إراقة دماءٍ على أساس اتفاقٍ عام بين زعماء المدينة؛ مضمونه أنهم لن يسمحوا لسَعيد بن العاص بالعودة. ونصّب الأشتر أبا موسى الأشعريّ، الذي كان عُثمَان قد عزله مِن قَبل كوالٍ على البصرة، على الكُوفَة، ولم يكن أمام عُثمَان خيارٌ سوى تعيينه واليًا. وبعد حوالي عام، حاصر الثوار المصريون عُثمَانَ في قصره في المدينة المنورة. كما جاءت الجماعات الثائرة من الكُوفَة بقيادة الأشتر، ومن البصرة بقيادة حُكيم بن جِبلة العبديّ إلى المدينة المنورة، ولكنهم لم ينضموا إلى الحصار والقتال الذي تلا ذلك والذي قُتل فيه عُثمَان؛ استجابةً لتحذيرات عَلِيٍّ وعَائشة من العنف. وفي حين بدا أن الثوار المصريين مالوا إلى طلحةٍ كمرشحٍ لهم؛ فمن الواضح أن الأشتر لعب دورًا رئيسًا في تأمين الخلافة لعَلِيٍّ.

وهكذا، قاد نُشطاءٌ دينيون حركة التشيّع الأولى في الكُوفَة، وكان عددٌ غير قليلٍ منهم من قُراء القرآن ومن زعماء قبليين ذوي تميّزٍ عسكريٍّ كبير. وكانوا غير راضين إلى حدٍ كبيرٍ عن عُثمَان وولاة بني أميَّة؛ رغم ولائهم الأساسيّ للخلافة القائمة. ولا يُعرف لماذا كانوا مرتبطين بشكلٍ خاصٍ بعَلِيٍّ من بين كبار صحابة مُحَمَّد. وربما لم تكن علاقاتهم بعَلِيٍّ وثيقةً في هذا الوقت. ولقد كان عَلِيّ على درايةٍ بهم وبتعاطفهم، ولكنه لم يكن يعمل كمعلمٍ لهم أو يتحكم في تصرفاتهم. وكان موقفه صعبًا؛ لأنه كان من ناحيةٍ ينتقد سلوك عُثمَان بشدةٍ. ومن ناحيةٍ أخرى، فباعتباره أقرب أقرباء عُثمَان بين كبار صحابة مُحَمَّدٍ؛ فقد كان مُلزَمًا بحمايته بشكلٍ خاص. ولم يمض وقتٌ قصيرٌ قبل وفاة الخليفة حتى قَطع عَلِيٌّ علاقاته به بعد أن رأى قبضة أقارب عُثمَان الأمويين القويَّة عليه.

لقد هيمنت الفتنة الأولى على خلافة عَلِيٍّ. وعادةً ما يُفسَّر صراعه مع قُريش بقيادة عَائشة وطلحة والزُبير على أنه صراعٌ شخصيٌّ في الأساس، حيث كانت عَائشة مدفوعةً بالضغينة طويلة الأمد، بينما كان طلحة والزُبير مدفوعيْن بالطموح. ومن ناحيةٍ أخرى، يُنظَر إلى صراعه مع مُعاويَة على أنه صراعٌ إقليميٌّ؛ يعكس التنافس بين الشام والعراق على الهيمنة بعد تراجع دور المدينة المنورة. وفي كلتا الحالتين، كان الانتقام للخليفة المقتول بمثابة شعارِ حشدٍ.

ومهما كانت الدوافع والشعارات الكامنة وراء الصراع؛ فإن الدلالات الدينيَّة سرعان ما برزت إلى الواجهة. فخلال معركة الجَمل، تحدّث معارضو عَلِيّ عن "دين عَلِيّ". فقَتل عَمرو بن يثربيّ البصريّ من بني ضبّة، وهم أقوى أنصار عَائشة، ثلاثةً من أتباع عَلِيّ، من بينهم زيد بن صوحان العبديّ. وفي بيت الرجز أعلن:

إن يقتلوني فأنا ابن ‌يثربي

 

قاتل علباء وهند الجملي

 

ثم ابن صوحان على دين عَلِيّ

 

ووقع ابن يثربيّ في الأسر، فجاء إلى عَلِيّ، فأمر أمير المؤمنين بقتله، وكان هو الأسير الوحيد الذي لم يُعف عنه. ولما سُئل عن ذلك فيما بعد، قال: إنَّه زعم أنَّه قَتَلهم على ‌دين ‌عَلِيٍّ، ودينُ عَلِيٍّ دينُ مُحَمَّدٍ([7]).

وروى مُحَمَّدٌ بن الحنفيَّة ابن عَلِيٌّ بن أبي طالب أنه هاجم ذات يوم رجلًا من خصومه. فلّما هم أن يطعنه برمحه، قال الرجل: "أنا على دين عَلِيٍّ بن أبي طَالب"؛ ففهم مُحَمَّدٌ ما يعنيه؛ فتركه. "ووفقًا لخبرٍ آخر، فإن الأزد البصريين، عندما أُجبروا على الفرار؛ صاحوا من أجل إنقاذ حياتهم: ""نحن أتباع دين عَلِيّ بن أبي طَالب""([8]).

فماذا كان يعني دين عَلِيّ في هذا الوقت بخلاف قبول خلافته؟

يمكننا أن نستدل على ذلك من بيتين آخرين من شعر المعركة ألقاهما شيخٌ مجهول من عديّ. وكان بنو عديّ البصريون من اتحاد القبائل في الرباب، مثل بني ضبّة، وهم من أشد المؤيدين لعَائشة، وقد قُتل العديد منهم دفاعًا عن فضلات جَملها. وقد أنشد الشيخ وهو يحمل لجام جَمل عَائشة:

نحن ‌عديّ نبتغي عَلِيًّا وبيضة وحلقا ملويا

 

نحمل ماديا ومشرفيا نقتل من ‌يخالف الوصيا

ولقد فسَّر غورغيو ليفي ديلا فيدا G. Levi delta Vida، الذي كان أول من نشر وترجم هذين البيتين {إلى اللغة الإنجليزيَّة} باقتباسهما من كتاب "أنساب الأشراف" للبلاذريّ، على أنها إشارةٌ إلى عَلِيّ([9]). وعلى ما يبدو أنه لم يلحظ التناقض الذي زعمه أحد أنصار عَائشة البصريين بأنه ورجال قبيلته يقتلون معارضي عَلِيٍّ. فضلًا عن ذلك، فقد روى القصة والشِّعر عالمٌ معروفٌ من بني عديّ؛ لابد أنه كان على درايةٍ تامةٍ بتأريخ قومه. ومن غير المعقول أن يدس فيهما قطعةً من الشِّعر المؤيد للعلويين. فقد كان بني عديّ، على حد تعبير الشيخ، "يبحثون عن عَلِيّ بحرابهم وسيوفهم" ليُحاسبوه على مقتل الخليفة عُثمَان. ولم يكن عَلِيّ هو الوصيّ الذين يعتزمون قتل خصومه؛ بل كان أبو بكر، والذي كانوا يدافعون عن ابنته في تلك اللحظة.

ويُطلق على أبي بكر عادة لقب وصيّ مُحَمَّدٍ. ومن الواضح أن استخدام هذا المصطلح بالنسبة إليه كان مُثيرًا للجدل، حيث كان الهدف منه التصدي لزعم أتباع عَلِيٍّ بأن ابن عم النَّبِيّ كان وصيه. بيد أنه كان لهذا المصطلح أساسٌ قويٌّ في جدال أنصار لقب أبي بكر السابق للخلافة. فقد زعموا، عمومًا، أن أمر مُحَمَّدٍ لأبي بكر بإمامة صلاة الجماعة أثناء مرضه الأخير كان بمثابة تعيينٍ غير مُباشرٍ له كخليفةٍ لقيادة الأمة، وهي وجهة النظرة التي دأبت عَائشة على الترويج لها.

إن حقيقة أن أتباع عَلِيّ أثناء خلافته كانوا يُطلقون عليه عادةً لقب وصيّ مُحَمَّدٍ أمرٌ مُؤكد على نطاقٍ واسعٍ في شِّعر المدح المعاصر لحياته([10]). ولا يبدو أن عَلِيًّا أطلق هذا المصطلح على نفسه، ولكنه بالتأكيد كان موافقًا عليه. ولقد كان هذا يعني ادعائه بأنه كان له الحق في خلافة مُحَمَّدٍ، على وجه التحديد، كزعيمٍ للمجتمع الإسلاميّ، وبالتالي، كان من المُحتم أن يُثير استياء المعجبين بخلافة أبي بكر وعُمر. أما أولئك الذين حاولوا السخرية من هذا الادعاء؛ فقد أطلقوا عليه "دين عَلِيّ".

وفي التراث الشِّيعيّ، فيشهد لقب عَلِيّ - باعتباره وصي مُحَمَّد - عادةً بالحدث الذي وقع في غدير خُم، حيث ورد أن النَّبِيّ أعلن للمسلمين المجتمعين: "من كنت مولاه، فعَلِيٌّ مولاه". وفي مقالها عن غدير خم في موسوعة الإسلام Encyclopedia of Islam2، تُشير لورا فيتشا فاليري L. Veccia Vaglieri إلى أن هذا الحديث في ضوء انتشاره على نطاقٍ واسعٍ في المصادر السُّنِّيَّة لا يمكن اعتباره، ببساطةٍ، خيالًا متأخرًا في التشيّع الُمبكر. ومع ذلك، فهي تُذكر جانبًا من الحديث له أهميةٌ خاصةٌ في السياق الحاليّ. فالعديد من الاقتباسات من هذا الحديث في المصادر السُّنِّيَّة، مثل مُسند ابن حنبل، قد بدأت بخبر مفاده أن عَلِيًا ناشد المسلمين المجتمعين في الرحبة، وهي الساحة أمام مسجد الكُوفَة، طالبًا من الذين سمعوا كلمات النَّبِيّ في غدير خُم أن يشهدوا على ذلك. فتقدم اثنا عشر أو ثلاثة عشر من صحابة مُحَمَّد، وشهدوا بأنهم سمعوا هذه الكلمات. ومن الواضح أن عَلِيًّا نفسه كان عازمًا على نشر الحديث الذي يعني ضمنًا أنه الخليفة المُختار للنَّبِيّ.

ولكن، بشكلٍ عام، فعَلِيٌّ لم يُؤسس حقه في الخلافة على تعيينٍ ضمنيٍّ مِن قِبل النَّبِيّ؛ بل إنه ادعى أنه كان يحمل أفضل لقبٍ على أساس خدمته المُبكرة والمُتميِّزة للنَّبِيّ وقضية الإسلام وقرابته الوثيقة بمُحَمَّدٍ. وكان من حيث الفضل الدينيّ أفضل الرجال بعد مُحَمَّدٍ. ولقد ظل هذا الرأي ثابتًا في خطاباته ورسائله، وكذلك في خطابات ولاة عهده، مثل قيس بن سعد بن عبادة ومُحَمَّدٍ بن أبي بكر في مصر. ولم تكن هذه أطروحةَ ثانويَّةً طوّرها الشِّيعَة بعد وفاته؛ بل كانت جزءًا أساسيًا من رسالته أثناء حكمه.

إذن، ما كان موقف عَلِيٌّ من أسلافه؟

لقد أثنى عَلِيٌّ على سلوك أبي بكر وعُمر باعتبارهما زعيمين للأمة وعلى إنجازاتهما في خدمة قضية الإسلام. ومن الواضح أنه كان معجبًا بشكلٍ خاصٍ بزهد عُمر الشخصيّ وإخلاصه الصادق للإسلام. ولم يلم في العادة أبا بكر وعُمر على حرمانه من حقه السابق في الخلافة؛ بل لام المجتمع في خُطبه لابتعادهم عنه بعد وفاة النَّبِيّ. ومن ناحيةٍ أخرى، كان ينتقد بشدةٍ سلوك عُثمَان الذي كان في نظره سببًا في إثارة تمرد الناس بسبب بدعه وأفعاله التعسفيَّة. ورغم أنه لم يتغاض صراحةً عن مقتل الخليفة؛ إلا أنه رفض إدانة الثوار. ونأى بنفسه عن أي تورطٍ في الصراع بعد فشله في إقناع عُثمَان بتغيير أساليبه.

وفي السنوات الأخيرة من خلافته، بعد خيبة أمل صفين والتحكيم وانشقاق الخوارج، يبدو أن عَلِيًّا بذل جُهدًا خاصًا لتعليم أتباعه الأكثر إخلاصًا. ويُقال إن أبا أيوب الأنصاريّ خطب في الكوفيين في ذلك الوقت وحثهم على الالتفاف حول عَلِيٍّ: "إنه أنزل ابن ‌عم ‌نبيكم بين ظهرانيكم؛ يُفقهّكم ويُرشدكم ويدعوكم إلى ما فيه الحظ لكم"([11]). وهناك خبرٌ يعود إلى جُندب بن عبد الله الأزديّ الذي قاتل مع عَلِيٍّ في معركتي الجَمل وصفين، وفيه أن خمسة رجال هم: عَمرو بن الحمق؛ وحُجر بن عديّ؛ وحَبان بن جوين العرنيّ البجليّ؛ والحارث الأعور الهمدانيّ؛ وعبد الله بن وهب بن سَبَإٍ الهمدانيّ، قدموا على عَلِيٍّ وهو في حالةٍ من اليأس والحزن لفتح مُعاويَة وعَمرو بن العاص مصرًا، فسألوه عن رأيه في أبي بكر وعُمر، فعاتبهم عَلِيّ:

هل فرغتم لهذا؟! وهذه مصر قد افتُتحت، وشيعتي بها قد قُتلت، أنا مخرجٌ إليكم كتابًا أُخبركم فيه عما سألتم، وأسألكم أن تحفظوا من حقي ما ضيعتم [مِن قَبل]. فاقرأوه على شيعتي، وكونوا على الحق أعوانًا.

ووفقًا لرواية البلاذريّ، فقد أعطاهم بعد ذلك كتابًا ليقرؤوه على أتباعه في كل وقتٍ لخيرهم. وكان عند ابن سَبَإٍ نسخةً، ولكنه حرّفها. وقد حذف البلاذريّ نفسه نص الرسالة؛ معلقًا بأنه لم يُنتفع بذلك الكتاب([12]).

إلا أنه قد حفظ نص الرسالة في كتاب الغارات لإبراهيم بن مُحَمَّد الثقفيّ([13]). وليس من الواضح ما إذا كان هذا النص هو الأصليّ أم النسخة التي حرّفها ابن سَبَإٍ، على حد قول البلاذريّ. ولكن محتويات الرسالة لا تختلف جوهريًا عما نعرفه عن آراء عَلِيٍّ في رسائله وخطبه الأخرى. فهو يُبدي انزعاجه الشديد بعد وفاة النَّبِيّ عندما وجد الناس يبتعدون عن أسرته ويهرعون إلى أبي بكر ليبايعوه. وكان عَلِيٌّ قد امتنع عن مبايعة أبا بكرٍ لبعض الوقت؛ معتقدًا أنه أحق بمكانة رسول الله من أي شخصٍ آخر. وأخيرًا، دفعه ارتداد بعض الناس إلى وضع قضية الإسلام فوق مصلحته الشخصية، وبايع أبا بكر وساعده بالنصيحة الصادقة. ورغم أنه لم يكن مقتنعًا بأن أبا بكر سوف يُسلمه في النهاية الحُكم الذي كان قد تنازعه معه؛ فإنه لم يكن يائسًا من أن يفعل ذلك. وكان يعتقد أنه لولا الرابطة الخاصة بين أبي بكر وعُمر؛ لما منعه أبو بكر من الحُكم من بعده. ولكن عندما تُوفي أبو بكر؛ دعا عُمرًا بدلًا منه وعيَّنه خليفةً له. فأطاع عَلِيٌّ، وساند عُمرًا بإخلاصٍ، وكان سلوك عُمرٍ مرضيًا ومباركًا بالنجاح. وعندما أوشك عُمرُ على الموت، كان عَلِيٌّ واثقًا مرةً أخرى من أنه لن يُحوِّل الحُكم عنه، ولكن عُمر جعله واحدًا من ستة مرشحين، وتبين أن هؤلاء الأشخاص هم الأكثر معارضةً لحُكمه. والسبب في ذلك أن عَلِيًّا كان قد جادل أبا بكر قائلًا لقُريش: "لنحن - أهل البيت - أحق بهذا الأمر منكم. أما كان مِنّا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالِم بالسُّنَّة، المُضطلع بأمر الرعية؟". وعلى هذا، فقد خشي أعضاء المجلس الانتخابيّ أن يتولى عَلِيٌّ الحُكم؛ فلا يكون لهم نصيبٌ في الحكم مدى حياتهم؛ فاتفقوا بالإجماع على تنصيب عُثمَانَ وحرمان عَلِيٍّ من الحُكم لعلهم ينالونه. وقالوا لعَلِيٍّ إنه لا بد أن يُبايعَ عُثمَانَ وإلا قاتلوه، وقد فعل ذلك مكرهًا. ويُواصل عَلِيٌّ رسالته بالدعاء إلى الله بالنصر على قُريش الذين قطعوا قرابتهم منه، وحرّموه حقه، وحطوا من شأنه، وتواطأوا على منازعة حقٍ كان له قَبل أيٍّ منهم. فلمّا نظر حوله؛ لم يجد من ينصره أو يُدافع عنه إلا أهل بيته، أي بني هَاشم. وحذّر من أن ينزل بهم بأسًا، فكبح جماح غضبه.

بعد ذلك، يُذكّر المؤمنين كيف غضبوا على عُثمَان، فجاءوا إلى المدينة وقتلوه. ثم توجهوا إلى عَلِيٍّ ليبايعوه. فقاوم في البداية، ولكنهم في نهاية المطاف ضغطوا عليه بشدة، مؤكدين له أنهم لن يرضوا إلا به؛ فقَبل. ثم يروي قصة خلافته، وتمرد طلحة والزُبير، ورفض أهل الشام الاستجابة لدعوته، وتمرد جيشه في صفين، وفشل المحكميْن في الحُكم وفقًا للقرآن، وتمرد الخوارج، وهروب معظم أنصاره الكوفيين من حملته الثانية ضد الشاميين. وأخيرًا، يُناشد عَلِيٌّ أتباعه القيام بواجبهم في الدفاع عن الإسلام، حين يستولي أعداؤهم على مدنهم، ويقتلون شيعته، ويُغيرون على أراضيهم.

إن التشيّع في زمن عَلِيٍّ كان يعني أكثر من مجرد دعمه، باعتباره الخليفة الرابع. فقد كان يعني الاعتراف بحق عَلِيٍّ في خلافة مُحَمَّدٍ بعد وفاته كزعيمٍ للمجتمع الإسلاميّ على أساس فضائله البارزة وقرابته الوثيقة بالنَّبِيّ. وعلاوةً على ذلك، كان هذا اللقب سيظل ينتمي إلى آل مُحَمَّدٍ ما دام أحدهم "قارئًا لكتاب الله، فقيهًا في دين الله، عالِمًا بالسُّنَّة، مُضطلعًا بأمر الرعية". ولم تتطور هذه الأطروحة الشيعيَّة الأساسيَّة بين الشِّيعَة إلا بعد وفاة عَلِيٍّ وانتقال الخلافة إلى دمشق. إن قصة سَيف بن عَمرو عن أصول التشيّع صحيحةٌ بقدر ما تضع الاعتقاد بأن عَلِيًّا كان وصيّ مُحَمَّدٍ في مركز تعاليمهم. ويتلخص تشويهه في تحويل عبد الله بن سَبَإٍ إلى منشئ هذا الاعتقاد، والإيحاء بأن عَلِيًّا، وهو صحابي كأسلافه، لم يكن له أي علاقة بهذا الأمر. وفي الواقع، كان عَلِيٌّ نفسه أول وأهم مُعلمٍ للشِّيعَة، وهي حقيقةٌ تأريخيَّة غير مقبولةٍ إلى حدٍ كبير لدى أهل السُّنَّة. ومن هنا جاءت الأسطورة السوداء عن عبد الله بن سَبَإٍ.

ولا يبدو أن هذا الأخير كان عضوًا في التشيّع المُبكر. وقد ورد ذكره لأول مرةٍ في رسالة عَلِيٍّ، والتي يمكن تأريخها إلى حوالي ربيع الأول 38هـ/أغسطس (آب) 658م. ويبدو أن هناك ذكرًا آخر له عند البلاذريّ([14]) بعد ذلك بوقتٍ ليس ببعيدٍ، عندما قيل إنه تلقى تعهد الولاء من ألف رجلٍ لحملةٍ جديدةٍ لعَلِيٍّ ضد مُعاويَة. وقد وردت أسماء ثلاثة زعماء آخرين من الشِّيعَة، وهم حُجر بن عديّ، وزياد بن خصفة، ومعقل بن قيس الرياحيّ، معه باعتبارهم من نجحوا في تجنيد أهل الكوفة للحملة. وإذا كان ابن سَبَإٍ قد نفاه عَلِيٌّ إلى المدائن بسبب معتقداته المُنحرفة، كما تقول الروايات الشيعيَّة اللاحقة؛ فلابد أن ذلك كان في أواخر عهد عَلِيٍّ. والأرجح أن تعاليمه المُنحرفة، التي تضمنت على وجه الخصوص إنكار وفاة عَلِيٍّ وتوقع رجعته وأتباعه لحُكم الأرض، لم تبدأ إلا بعد وفاة عَلِيٍّ. ومن المُرجح أن يكون اعتناقه لليهودية جزءًا من الأسطورة السوداء؛ رغم أن اليهودية لم تكن نادرةً بين اليمنيين قبل الإسلام. ويبدو من غير المحتمل أن يكون عميلًا لهمدان كما قيل مؤخرًا([15]). وباعتباره عميلًا، فمن غير المرجح أن يكون قادرًا في ذلك الوقت على تجنيد ألف رجلٍ لحملة عَلِيٍّ. وربما كان من رجال قبيلة همدان العاديين دون تمييزٍ كبيرٍ سابقٍ. ومِن خِلال معتقداته، أصبح مؤسسًا للتشيّع المسيانيّ(*) المتطرف كما ظهر لأول مرةٍ في حركة المُختار. وكان دوره في الهيئة الرئيسة للتشيّع المُبكر هامشيًا.

([1]) مُحَمَّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: دي خويه وآخرون، 4 مجلدات في 13 مجلدًا (ليدن: دار بريل، 1879-1901م)، 1/2942-2943

(*) هو مصطلح سياسيّ تستخدمه المعارضة لتشويه صورة حركة أو فئة بحيث تظهر كحركة شريرة بشكلٍ فريد (شيطانيَّة). ويُقابها مصطلح الأسطورة الذهبية. المترجم.

([2]) عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق: مُحَمَّد أبو الفضل إبراهيم، 20 مجلدًا (القاهرة: دار إحياء الكتب العربيَّة، 1378-1384هـ/1959-1964م)، 9/56-58. وكان جندب بن عبد الله، المعروف بجندب الخير، على قول الكلبيّ، هو الذي قتل الساحر الذي كانت حيلته تُسلي الوالي الوليد. ثم سجنه الوليد، لكنه هرب. وبحسب مصادر أخرى، بل القاتل هو جندب بن كعب الأزديّ (أحمد بن يحيى البلاذريّ، أنساب الأشرف، المجلد الخامس، تحقيق: شلومو غوتين [القُدْس: مطبعة الجامعة العبريَّة، 1936م]، ص31-32). ويبدو أن تحديد الهويَّة الأخيرة يبدو أكثر موثوقيَّةً. وكان عبد الرحمن، ابن جندب بن عبد الله، مصدرًا يُستشهد به على نطاقٍ واسع عن الأحداث في تأريخ الشِّيعَة المُبكر.

([3]) ابن حَجر العسقلانيّ، كتاب الإصابة في تمييز الصحابة، 8 مجلدات (القاهرة: مطبعة السعادة، 1323-1325هـ/1905-1907م)، 4/297، حيث وُصِف عَمرو بن زُرارة بأنه "أول خلق اللَّه تعالى خلع ‌ُعُثمَان". ومن غير المؤكد ما إذا كان على قيد الحياة في عهد عَلِيّ. ويُقال إن وفد بني النخع كان يتألف من مائتي رجلٍ وصلوا المدينة المنورة في 11 محرم/أبريل (نيسان) 632م، وكانوا قد بايعوا مُعاذًا بن جبل في اليمن. ويُقال إن زُرارة بن قيس كان مسيحيًا قبل الإسلام. مُحَمَّد بن سعد، كتاب الطبقات الكبرى. تحقيق: إدوارد سخاو، 9 أقسام، 15 مجلدًا (ليدن: دار بريل، 1905-1940م)، القسم1/المجلد1/77

([4]) البلاذريّ، الأنساب، 5/30

([5]) المصدر السابق، ص40-43

([6]) المصدر السابق، ص43

([7]) أبو بكر مُحَمَّد بن الحَسن بن دُريد، الاشتقاق، تحقيق: عبد السلام مُحَمَّد هارون، الطبعة الثانية (بغداد: مكتبة المُثنى، 1399/1979)، ص413

([8]) عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي شيبة، كتاب المُصنّف في الأحاديث والآثار، تحقيق: سعيد مُحَمَّد اللحام، 9 مجلدات (بيروت: دار الفكر، 1409هـ/1989م)، 8/711؛ والطبريّ، التاريخ، 1/3189-3190

([9]) "خلافة عَلِيّ حسب كتاب أنساب الأشراف للبلاذريّ"، "II califfato di 'Ali secondo il Kitāb Ansāb al-Aŝrāf di AI-Balāḏurŝī," Rivista degli srudi orientali 6 (1913): 444.

([10]) انظر اقتباسات الشِّعر التي جمعها ابن أبي الحديد، الشرح، 1/143-150

([11]) البلاذريّ، أنساب الأشراف، المجلد الثاني، تحقيق: مُحَمَّد باقر المحموديّ (بيروت: مؤسسة الأعلميّ للمطبوعات، 1394هـ/1974م)، ص478

([12]) المصدر السابق، ص382-383.

([13]) تحقيق: جلال الدين المُحدث (طهران: انتشارات إسلامي، 1395هـ/1975م)، ص302-322

([14]) البلاذريّ، الأنساب، 2/478. من الواضح نسب عبد الله بن وهب بالسمنيّ ظاهر الفساد، وينبغي قراءته بالسّبئيّ.

([15]) هاينز هالم، الغنوصيَّة الإسلاميَّة: الشِّيعَة المتطرفون والعلويون، Heinz Halm, Die islamische Gnosis. Die extreme Schia und die 'ALawiten (Zurich: Artemis Verlag. 1982), 35.

(*) المسيانيَّة او المسيحانيَّة، في أصلها هي الإيمان بقدوم المسيح الذي يعمل كمخلصٍ لمجموعة من الناس. ثم تبلورت الإسلام لتعني ظهور المُخلص، والذي تختلف شخصيته من مذهب إلى آخر، كصورة رجعة عَلِيٍّ عند غُلاة الشِّيعَة أو رجعة الإمام محمد بن الحسن العسكريّ عند الاثني عشريَّة، أو المهدي المنتظر عند السُّنَّة. المُترجم.