الفلسفة والفن: نحو مساءلة إبستمولوجية في ضوء آرثر دانتو

فئة :  مقالات

الفلسفة والفن: نحو مساءلة إبستمولوجية في ضوء آرثر دانتو

الفلسفة والفن: نحو مساءلة إبستمولوجية في ضوء آرثر دانتو

مقدمة:

إن الفلسفة منذ بداياتاتها الأولى والعميقة لم تنفصل عن الفن، سواء في شكل منازعة حول مفاهيم الجمال والمحاكاة، أو في هيئة تساؤلات حول طبيعة العمل الفني وحدوده ومعناه. لكن التحول الأكبر الذي شهده القرن العشرون – تحديدًا في الفكر الجمالي المعاصر – جعل هذه العلاقة تتخذ طابعًا نقديًا جديدًا، لم يعد يُعنى فقط بمسألة الذوق والمعايير، بل أصبح معنيًا بما يمكن تسميته بـ"إبستمولوجيا الفن": أي كيف نفهم الفن؟ وما هي الشروط المعرفية التي تسمح بتحديد ما هو عمل فني وما ليس كذلك؟

يبرز فكر آرثر دانتو، لا بوصفه دفاعًا عن نهاية الفن فحسب، بل بوصفه محاولة فلسفية جذرية لإعادة بناء المفاهيم التي تؤطر المعرفة الفنية في عالم ما بعد حداثي، حيث تراجعت السلطة الجمالية، وتعددت الأشكال التعبيرية، وتهاوت السرديات الكبرى.

إن هذا العرض يسعى إلى مساءلة العلاقة بين الفلسفة والفن من زاوية إبستمولوجية نقدية، اعتمادًا على كتاب "بعد نهاية الفن: الفن المعاصر وحدود التاريخ" لدانتو، وبالاستناد إلى ثلاثة فصول محورية:

  • الفصل الأول الذي يقدّم تأطيرًا تاريخيًا لمفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة والمعاصرة؛
  • الفصل الثالث الذي يناقش نقد السرديات الكبرى والمبادئ التي كانت تدّعي امتلاك سلطة تفسير الفن؛
  • والفصل الخامس الذي يعالج التحوّل من الجماليات إلى النقد الفني.

أولًا: من الجمال إلى الفكرة – تحولات العلاقة بين الفلسفة والفن

يفتتح دانتو الفصل الأول بطرح ثلاثة مفاهيم مركزية تحدد علاقة الفن بالفكر عبر العصور: الحديث، وما بعد الحديث، والمعاصر. هذه الفترات ليست مجرد مراحل زمنية بل تدل على تحولات في طرائق التفكير في الفن نفسه، أي في "الإطار المعرفي" الذي يحكم ما يُعدّ فنًا وما لا يُعدّ كذلك.[1]

في الحقبة "الحديثة"، كانت الفلسفة لا تزال تبحث عن تعريف شامل وجوهري للفن، وهو ما يراه دانتو استمرارًا للمشروع الفلسفي الكلاسيكي الذي كان يسعى إلى إنتاج مفاهيم كلية. لكن ما أن دخلنا فترة "ما بعد الحداثة"، حتى سقطت هذه الوحدة، وأصبح "كل شيء ممكنًا" في الفن، يقول دانتو: "ليس للفن المعاصر أسلوب محدد، ولا مضمون مشترك، ولا استراتيجية موحدة. ما نراه هو تشتت، بل تفكك للمعايير."[2]

هذا التفكك ليس فقط أزمة في الممارسة الفنية، بل هو أيضًا أزمة إبستمولوجية: إذ كيف يمكن للفلسفة أن تستوعب فنًا لا يخضع لأي قاعدة ثابتة؟ هنا تصبح العلاقة بين الفلسفة والفن علاقة سؤال دائم، لا علاقة يقين معرفي.

ويذهب دانتو إلى أبعد من ذلك؛ إذ يربط بين هذا التحول وبين نهاية "السردية الفلسفية للفن"، مؤكدًا أن الفن لم يعد بحاجة إلى شرعية من خارج ذاته، ويقول: "لقد أصبح الفن معاصرًا حين توقف عن أن يكون في خدمة فلسفة تحاول تأويله من الخارج."[3]

وبالتالي، فأن الفلسفة لم تعد تملك مفاتيح تعريف الفن، بل أصبحت في موقع مساءلة أمام التحولات التي يعيشها الفن المعاصر.

ثانيًا: السرديات الكبرى ونهاية التفسير الفلسفي:

يركز دانتو في الفصل الثالث على تفكيك ما يسميه "السرديات الكبرى" التي حاولت تأطير تاريخ الفن ضمن منطق خطي وتقدّمي. وقد كانت هذه السرديات – بحسبه – تُفهم كـ"مقولات فلسفية" لا كتحليلات وصفية. ومن هنا كانت تدّعي سلطة إبستمولوجية لفهم الفن، عبر مفاهيم مثل "النقاء"، "التقدم"، أو "الضرورة التاريخية".[4]

غير أن الفن المعاصر فضح هشاشة هذه السرديات؛ لأن الأعمال الفنية لم تعد تخضع لتلك المعايير. يكتب دانتو: "الفن لم يعد يتقدم نحو هدف محدد، ولا يخضع لمنطق غائي. كل عمل يمكن أن يكون الأخير، أو الأول، أو المنعطف."[5]

إن ما يسقط هنا هو شكل من أشكال المعرفة الفلسفية الشمولية للفن، وهي لحظة مفصلية إبستمولوجيًا؛ إذ تُجبر الفلسفة على إعادة النظر في طريقتها في فهم الفن. فبعد أن كانت الفلسفة تُقدّم تفسيرًا نهائيًا (كما فعل هيغل أو غرينبرغ)، أصبحت تواجه عالَمًا لا يقبل أي تفسير نهائي.

وهكذا يطرح دانتو سؤالًا ضمنيًا: هل يمكن إنتاج نظرية للفن بعد سقوط كل النظريات؟

هذا السؤال هو جوهر الإبستمولوجيا الحديثة في الفن، التي لم تعد تبحث عن معيار ثابت، بل تحلل شروط الإمكان والتعدد والتأويل.

هنا، يظهر جليا كيف انقلب دور الفلسفة من سلطة شارحة للفن إلى فكر مضطر لتفكيك أدواته ومفاهيمه أمام واقع فني منفلت.

ثالثًا: من الجماليات إلى النقد الفني – تحوّل إبستمولوجي جذري:

في الفصل الخامس، يُعمّق دانتو تحليله للتحول الذي شهده الفكر الجمالي حين انتقل من الجماليات التقليدية إلى النقد الفني. لم تعد القيمة الفنية تُقاس بمدى تحقق "الجمال"، بل أصبحت مرتبطة بتأويل العمل، وسياقه، ونيّته المفهومية. وهذا تحول من "معايير حسية" إلى "مقولات تحليلية"؛ أي من معيارية الجمال إلى تحليل نقدي. ويقول دانتو في هذا السياق: "النقاد اليوم لا يبحثون عن الجمال، بل عن مغزى، عن أثر، عن سياق. لقد ماتت الجماليات، وولدت مقاربة فكرية جديدة."[6]

هذا التحول، بحسب دانتو، ليس فقط تحولًا في الذوق أو التلقي، بل هو تحول إبستمولوجي في كيفية إنتاج المعرفة الفنية: أصبح الحكم على العمل الفني يتطلب خلفية فلسفية وسوسيولوجية وتأويلية، وليس فقط ذوقًا فنيًا.

ومنه، فإن العلاقة بين الفلسفة والفن لم تعد مجرد تنظير مسبق، بل أصبحت علاقة جدلية:

Ü                       الفن يُنتج مفاهيمه من داخل التجربة.

Ü                       الفلسفة تُعاد تشكيلها أمام حدود تأويل هذه المفاهيم.

خاتمة:

وختاما، فإن ما يُبرزه فكر دانتو في هذا الكتاب - وفي الفصول التي تم الاشتغال عليها خصوصًا - هو أن العلاقة بين الفلسفة والفن لم تعد علاقة إرشاد وتوجيه، بل أصبحت علاقة قَلَق معرفي، وتحفّز نقدي. فالفن لم يعد يُنتظر منه أن يُعبّر عن مفهوم الجمال، ولا أن يُرضي نظريات تاريخية، بل أصبح مجالًا حرًا للتجريب، للتفكيك، ولإعادة النظر في مفاهيم أساسية مثل "التمثيل"، "المعنى"، و"الحقيقة".

ومن هنا تنشأ الإبستمولوجيا الجديدة للفن، بوصفها سؤالًا دائمًا حول شروط الفهم:

        ü        متى يكون الشيء فنًّا؟

        ü        ما الذي يُميّز العمل الفني عن غيره؟

        ü        ما الذي يجعلنا نعرف أن هذا العمل "يجب أن يُفهم" وليس فقط أن يُشاهد؟

هذه الأسئلة لا تحسمها الفلسفة من موقع علوي، بل تخوضها إلى جانب الفن، في تواطؤ إبداعي ونقدي لا ينتهي.

 

قائمة المصادر المراجع:

كتاب "بعد نهاية الفن الفن المعاصر وحدود التاريخ"، ل آرثر سي دانتو، ترجمة هادية العرقي.

الفصل الأول: من ص: 33 إلى ص. 63

الفصل الثالث: من ص: 97 إلى ص. 126

الفصل الخامس: من ص: 127 إلى ص. 155

[1] آرثر سي دانتو، بعد نهاية الفن الفن المعاصر وحدود التاريخ، ترجمة د. هادية العرقي، ص، ص: 33، 34. (بتصرف)

[2] المصدر نفسه، ص، ص: 44. (بتصرف)

[3] المصدر نفسه، ص: 50. (بتصرف)

[4] المصدر نفسه، ص : 97. (بتصرف)

[5] المصدر نفسه، ص : 101. (بتصرف)

[6] المصدر نفسه، ص: 127