المتخيل الديني الشعبي دراسة في الآليات والمضامين
فئة : حوارات
المتخيل الديني الشعبي دراسة في الآليات والمضامين[1]
د. بسام الجمل د. حسام الدين درويش
د. صلاح الدين العامري د. ميادة كيالي
د. ميادة كيالي:
يسعدني الترحيب بكم في لقائنا شبه الأسبوعي على منصّة «زوم» استكمالاً لسلسلة الندوات الحوارية حول أبرز المشاريع الفكرية التي تحتضنها مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» وترعاها. ويحطُّ بنا الرّحال اليوم في تونس الخضراء مع الدكتور صلاح الدين العامري. وقبل أن أنتقل للتعريف به وبكتابه، موضوع الحوار، لابد أن أتوقف عند الثقل التونسي المعرفي في مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وعند رأي الدكتور نادر حمامي مشكوراً «أنَّ المؤسسة تكاد تكون متونسة»، وتقودنا هذه الملاحظة إلى تأكيد أهمية الحضور الفكري المغاربي، على العموم، في مؤسسة «مؤمنون بلا حدود». ويتعزّز هذا الحضور بالمساهمة الفعّالة للعقل المشرقي، حتى يجوز لنا القول إنَّ المؤسسة قد «لمّت الشامي على المغربي»، على رأي المثل، فجمعت درر المشرق العربي مع درر المغرب العربي، لإنتاجٍ معرفيٍّ رصين نفخر به جميعاً.
كتاب «المتخيّل الدّيني الشّعبي: دراسة في الآليات والمضامين»، الذي نحن بصدد الحديث والتحاور حوله، اليوم، هو دراسةٌ تَعَمّق المؤلف، من خلالها، في موضوع المتخيّل الديني الشعبي، وقدّم رؤيةً شاملةً له، من حيث المفهوم والخصائص والآليات والمضامين، مستنداً إلى مصادر متنوعةٍ من الثقافة الشعبية، كالحكايات والأساطير والمعتقدات الشعبية، ورموزٍ دينيةٍ ارتبطت بالأنبياء والأولياء، وبالممارسات الشعبية التي تعبّر عن الإيمان، وتسهم في تعزيز الروابط الاجتماعية وتشكيل الهُوية الثقافية.
لقد بحث الدكتور العامري، بعمقٍ، في كيفية تجسيد القيم الأخلاقية والدينية، من خلال المتخيّل الشعبي، وكيف تؤثر تلك القيم في سلوك الأفراد والمجتمعات، وفي عرض آليات تشكّل هذا المتخيّل وأهم مضامينه في الثقافة الشعبية، من خلال فصول الكتاب الثلاثة التي جاءت عناوينها على النحو التالي: الفصل الأول: في تأصيل المدوّنة، الفصل الثاني: صورة آل البيت في المُتخيّل الشعبي التونسي، الفصل الثالث: مرجعيات المتخيّل الشعبي التونسي، ثم خاتمة عامة.
وقد أشار الدكتور بسام الجمل، في معرض تقديمه للكتاب، إلى قضيةٍ مهمّةٍ جدّاً، وهي ندرة البحوث الأكاديمية في قضايا المتخيّل الديني داخل الثقافة العربيّة والإسلاميّة، التي تدبّرت تلك القضايا في باب الثقافة الشعبيّة، وأكّد أنّ ما أُنجز في هذا الغرض، ويستحقّ حقّا صفة البحث العلمي الرصين، ما يزال محدوداً جدّاً. ويعزو الدكتور بسام الجمل هذا الرأي إلى «احتراز الباحثين من منتجات الثقافة الشعبيّة عموماً، والنظر إليها بعين الريبة لما وقر في ضميرهم من أنّ هذه الثقافة تعبّر عن الهامش والمنسيّ غير الجدير بالاهتمام والدراسة. وتزداد هذه الخشية حدّة ورسوخاً، إذا ما تلبّست تلك الثقافة بالشأن الديني. فهنا، تحديداً، تسخّر المؤسّسات الدينيّة الرسميّة كلّ طاقاتها وأدواتها وأعوانها، من أجل محاصرة المتخيّل الشعبي الديني، وفرض رقابةٍ شديدة عليه. ولذلك، يروّج القائمون على هذه المؤسّسات، والمحتكرون للمعرفة الدينيّة في المجال الإسلامي، 'مقالة تمثيل الثقافة الإسلاميّة العالمة للإسلام تاريخاً وعقيدة وطقوساً ورؤية معيّنة للعالم ولأزمة البدايات والدنيويّات والأخرويّات»[2]. ويؤكد الدكتور الجمل أنَّ «كلّ بحثٍ يدور على قضايا المتخيّل الديني الشعبي يحوج إلى أن يكون صاحبه مطّلعاً، كأحسن ما يكون الاطّلاع، على ضروب العلاقات القائمة أو الممكنة بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبيّة من ناحيةٍ، وأن يكون متمكّناً من مناهج المقاربات العلميّة الكفيلة بتفكيك خطاب المتخيّل الديني عموماً، والمتخيّل الشعبي خصوصاً، من أجل تفهّمه بروح نقديّةٍ عاليةٍ، من ناحيةٍ أخرى»[3].
ويَحْسب الدكتور الجمل أنّ صلاح الدين العامري في كتابه هذا قد جمع بين الاثنين؛ أي الاطلاع المعرفي والتمكّن المنهجي، وأنّه وُفِّق من خلال الفصول الثلاثة التي قام عليها الكتاب، في رصد الدلالات الرمزيّة التي يمكن أن تنطق بها شخصيّات آل البيت في خطاب المتخيّل الشعبي التونسي، متعقّباً رحلة ذاك المتخيّل، زماناً ومكاناً، من المشرق إلى المغرب. والإضافات المعرفيّة والمكاسب المنهجيّة التي يمكن للقارئ أن يغنمها من هذا الكتاب عديدة كما يشير الدكتور الجمل؛ منها إمكان توظيف المعارف والمناهج المجراة على المتخيّل الديني في إطار الثقافة العالمة والرسميّة في دراسة المتخيّل الديني الشعبي التونسي أو غيره. وليس هذا فحسب، بل إنه وظّف، في تفهّم صورة آل البيت في المتخيّل الشعبي التونسي، مجموعةً من تقنيات تحليل الخطابات السرديّة مثل «الومضة الورائيّة» و«الومضة الاستباقيّة»، واختبر آليّات جديدة اقترح لها تسميات غير مسبوقة من قبيل «المثلنة» و «آليّة التبخيس» و«الانتقاء» و«الاختزال».
أختم بالاقتباسات الثلاثة التالية، التي مهد بها الدكتور العامري لكتابه:
«الخيال أهم من المعرفة، فالمعرفة محدودة بما نعرفه الآن وما نفهمه... بينما الخيال يحتوي العالم كلّه وكل ما سيتم معرفته أو فهمه إلى الأبد». (ألبرت أينشتاين)
«فكلّ ما ينتجه الإنسان من مفاهيم أو قيم أو تمثّلات واعية وغير واعية مندرج في التماسه المعنى حتى تستقيم حياته على الصعيدين التاريخي الواقعي والرمزي المتخيّل». (بسام الجمل)
«أكثر المُتَخيَّلَاتِ استمرارية تلك التي تنجح في تقديم أكبر قدر ممكن من التفسيرات والآليات لمواجهة متطلبات اليومي، وأفضلها تلك التي تُظهر نجاعةً أعلى في تأطير مخاوف المستقبل وتوجيهها من خلال آلية التحفيز». (صلاح الدين العامري).
أشكر لكم حضوركم، وأحيل الكلمة إلى الدكتور حسام الدين درويش لإدارة الحوار حول مضمون الكتاب، ولا يفوتني أن أنوّه بجهده المتميز في السهر على نجاح هذه اللقاءات. أهلاً وسهلاً بكم.
د. حسام الدين درويش:
جزيل الشكر لك دكتورة ميادة، ولكل الحاضرات والحاضرين، وللدكتور صلاح الذي لبّى الدعوة وتفاعل معها بكلّ إيجابية، وأهنئه وأهنّئ مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» على هذا الكتاب القيم الذي يتضمن بالفعل إنتاجاً معرفيّاً جديداً ورصيناً، فهو لا يقتصر على عرض أو مناقشة معرفة موجودة مسبقاً، وإنما يقدم، من خلال البحث الميداني، والتفكير النظري، والاستناد إلى النصوص السابقة، معرفةً جديدةً تحاول أن تسدّ ثغرةً موجودةً في هذا الإطار. فالكتاب أصبح مؤسّساً أو أساسيّاً في مجاله، وهو يتضمن محاولةً لإبراز هامشية المهمش.
سأبدأ بما يبدو أنه المدخل الأساسي أو الأهم لهذا الكتاب، وهو العنوان: المتخيل الديني الشعبي. المسألة الطريفة هي أن تعريف المتخيل الديني الشعبي من وجهة نظرك، دكتور صلاح، يأتي في آخر بضعة أسطر من الكتاب؛ طبعاً أنت ناقشت هذه المسألة، كثيراً، في المدخل، وأوردت تعريفاتٍ كثيرةً، ومنها تعريف د. بسام الجمل، لكن التعريف الأخير الذي توصلت إليه كان في الخاتمة. حبّذا لو توضِّح المقصود هنا بموضوع الدراسة، المتخيل الديني الشعبي عموماً، والتعريف الذي قدمته في هذا الخصوص؟
د. صلاح الدين العامري:
شكراً د. حسام، شكراً د. ميادة، شكراً مؤمنون بلا حدود، ومرحباً بالأصدقاء والزملاء والسادة الباحثين الحاضرين معنا، للإسهام في النقاش والحوار حول هذا الكتاب الذي سأقول، مع القائلين، إنه يمثل جهداً محترماً، وإضافةً نوعيّةً في مبحث المتخيّل الدّيني. أقول هذا، بعد تلقّي تقييماتٍ إيجابيةٍ من شخصياتٍ علميةٍ اعتباريّةٍ عدة، من بينها بسام الجمل، ونادر الحمامي، وعبيد الخليفي، وامبارك الحامدي، ومحمد الجويلي، ومهدي مبروك وغيرهم من المختصّين الذين اطلعوا على الكتاب.
وقد وجدت من المفيد، في المستوى المنهجي، ألّا أقدّم تعريفاً مسبقاً للمتخيل الديني، قبل تتبّع آلياته ومضامينه، وحرصت على أن يكون التعريف خلاصةً تتوّج مراحل البحث ونتائجه. واستناداً إلى هذا الخيار، اشتغلت بمادة المتخيل الديني، وتوقفت عند آلياته ومضامينه، مثل ما يؤكد العنوان. وفي النهاية، توجت الخاتمة العامّة بتعريف المتخيل الديني؛ وعرّفته بأنّه حركةٌ ذهنيّةٌ انسيابيّةٌ تتوسّع وتغتني بمرور الزّمن. وتتحوّل في الشّعور الجمعيّ باستمراره شكلاً ومضموناً، ويكون دورُها صناعة أجوبةٍ لأسئلة الوجود والمنشود. وغالباً ما تكون الإجابات في صورة قصصٍ ومفاهيم وتأويلاتٍ وشعائر وطقوسٍ وصورٍ ورموزٍ. أمّا وظيفتها، فتلبيةُ حاجات منتجيها الثقافية والنّفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
أودّ الإشارة إلى أنّ هذا الكتاب يتنزّل ضمن سلسلة أعمالي المتعلّقة بالمتخيل الديني، وهي مجموعةٌ من النماذج التطبيقية المستمدة من الفكر الديني عموماً، ومن الفكر الديني الإسلامي تحديداً. ويعدّ مبحث المتخيل من المباحث الراهنة والمعقدة، أيضاً، والعابرة للتخصصات المعرفية. وهذا ما جعل الاصطلاح عليه يتعدّد بتعدّد زوايا النظر والمقاربة والمجال. وصنّف المختصّون المتخيل الثقافي والمتخيل الاجتماعي والمتخيل التاريخي والمتخيل الديني وغيرها من التعريفات. وجاء الاهتمام بدراسة المتخيل، في سياق الرد على المقاربات الوضعانية والمادية لفهم الإنسان، وحصر حقيقته في ما هو ظاهر للعيان، وفي سياق الرد على الانتصار للمرجعية العقلانية المحضة، مع الفلسفة الديكارتية، التي استبعدت المرجعيات الأخرى، وحصرت فهم الإنسان، والبحث في هويته، في العقل وآلياته، وتجاهلت خصوصيات الهويات المركّبة للأفراد، وللجماعات، وتعسّفت على ثراء ثقافتهم وقيمهم وتاريخهم، والقفز على آليات البناء والتحوّل ومراحله المتعددة. وقد بينت المقاربات الجديدة أن واقع الإنسان، وتاريخه، وتاريخ الجماعات، لا يحركه العقل والعناصر المادية والاقتصاد، فحسب، بل تحرّكه، أيضاً، أحلام البشر ورغباتهم وخيالاتهم وطموحاتهم النفسيّة والذهنيّة عموماً. وهذا ما يثبته التحليل الأنثربولوجي لنشأة الأفكار والمعتقدات، وحتى النظريات العلمية العقلية أيضا فيها شيءٌ من هذا. وهذا ما تؤكّده مشاهدة بعض أفلام الخيال العلمي مثلاً؛ إذ حين يعجز الإنسان عن تحقيق شيءٍ ما، يبتكر له حلّاً مُتَخيَّلاً «fiction» بواسطة المخيال. وبعد مرور مدةٍ من الزمن تتفاجأ أن ذاك الحلّ المُتَخيَّل قد صار واقعاً عمليّاً عن طريق العقل؛ وقد عبّرت د. ميادة عن الإطار العام لهذا المعنى، من خلال سرد بعض التصديرات المضمّنة في مداخل كتاب المتخيّل الدّيني الشعبي.
اشتغلت في أعمالي الأولى بالمتخيل العالم (Scholarly)، بوصفه قاعدةً للمتخيّل الشعبي (popular). واهتممت بالنصوص الرسمية التي تمثل الثقافة في الأديان الثلاثة الكبرى، وفي الديانات بصفةٍ عامّةٍ، واخترت أن أشتغل ببعض المفاهيم المشتركة في الديانات الكتابية الثلاث. وأنجزت دراسةً مقارنةً لمفهوم الشهادة والشهيد، في المتخيّل الدّيني الكتابي، من خلال شخصيّتيْ يسوع المسيح والحسين بن علي، لأهمية الشخصيتين في المنظومتين، الإسلاميّة والمسيحية، بتمايز فروعهما. وقادني الجهد إلى مجموعةٍ من النتائج؛ منها:
- أنّ الشخصيّتين التاريخيتين، تحولتا إلى منظوماتٍ رمزيةٍ بعد الموت، وإلى مجموعةٍ من الرؤى الفكرية والذهنية، ينطلق منها الأتباع في فهم نظام الوجود وتفسيره، والإجابة عن الأسئلة التي تطرح عليهم، استناداً إلى سيرتيْ يسوع والحسين، وما نسب إليهما من أقوال وأفعال. وهذه النتيجة مهمّةٌ جدّاً؛ لأنني أتتبع البحوث وأستنتج، وكلما وجدت مسلكاً سلكته. حاولت أن أتتبّع أدق تفاصيل اشتغال المتخيّل الدّيني وآلياته الموظّفة في بناء الصّور والرّموز والمعاني، ولم أكن أتوقع أن تكون العلاقة بين المتخيل والتاريخ بهذا الشكل، وأنهما متداخلان ومتمايزان، في الآن ذاته، إلى الحدّ الذي وقفنا عليه في صياغة الاستنتاجات. ففي الجانب التاريخي، كانت شخصيات مثل يسوع والقديس والحسين والصحابي تعيش بين النّاس، بشكلٍ طبيعيٍّ، ومنشدّة إلى طبيعتها البشريّة، مع بعض الخصوصيات، ومقبولةً لدى البعض، ومرفوضةً من البعض آخر، ولكنّها تتحوّل، بعد الموت، إلى منظومةٍ رمزيةٍ، ومنظومةٍ تواصليةٍ، ومنظومةٍ عقديةٍ، ومنظومةٍ اجتماعيةٍ، ومنظومةٍ أخلاقيةٍ لدى من شهدها، أو سمع عنها، على حدٍّ سواء. وهذا هو معنى التحوّل من التاريخ إلى المتخيّل الذي اشتغلت به في أغلب الأعمال.
- النتيجة الثانية هي التمييز الواضح بين الشخص التاريخي والشخص المتخيل. فحين تقرأ الأخبار، سواءٌ في سيرة يسوع المسيح، بالنسبة إلى الأدبيات المسيحية، أو في سيرة الحسين، بالنسبة إلى الأدبيات الإسلامية والشيعية تحديداً، تقف على التمايز الواضح بين التاريخ والمتخيل، ويبدأ ذهنك في الاشتغال، وتتبّع كيفيّة الانتقال من محطّةٍ إلى أخرى، والحفر في الآليات الموظّفة في ذلك. وقد واجهت مجموعةً من الأسئلة، منها: لماذا حصل هذا التحول؟ ما وظائفه؟ ما آلياته؟ ما مضامينه؟ كلّ هذه الأسئلة تبادرت إلى ذهني، وقادتني في باقي أعمالي، وأختزلها أو أختار منها: ما الحد الفاصل بين التاريخ والمتخيل؟ وما آليات الانتقال من التاريخ إلى المتخيل؟ وما وظائف المتخيل؟ وأيّ موقفٍ من التاريخ، بعد أن يتحول في قسمٍ مهمٍّ منه إلى متخيل؟
تدرجت، في أعمالي اللاحقة، للإجابة عن هذه الأسئلة، وتوصلت إلى مجموعةٍ من النتائج، أختار منها ما يلي:
- المتخيّل هو منهجٌ وآليةٌ صنعها الإنسان، واعتمدها في بناء وجوده وتنظيمه، وإعادة إنتاجه، دوريّاً، لخلق قدرٍ من التوازن والانسجام مع محيطه، انطلاقاً من أحداثٍ ووقائع تاريخيّةٍ حدثت كلياً أو جزئياً. وعند اللحظة التي ينتهي فيها الحدث التاريخي، زماناً ومكاناً، يبدأ المتخيل في التشكل والتمدد والتوسّع، فيعيد المخيال كتابة التاريخ، ويحيّنه بشكلٍ مستمرٍّ، وفق ما يتوفر من معطياتٍ جديدةٍ، وطبقاً لرغبات الجماعة المنتجة وحاجياتها وتطلعاتها المواكبة لشروط واقعها المتطور والمتحول في التاريخ.
- للرمز والصورة دورٌ مهمٌّ في بلورة الوعي الجمعي، وبناء التاريخ الثقافي والفكري للجماعات. ويمكن أن تتحول الرموز والصور إلى قوةٍ ماديةٍ دافعةٍ للأحداث التاريخية، اجتماعيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً.
- احتراز الدراسات الإسلامية من مفهوم المتخيل، ورفض الحديث عنه، ضمن الفكر الديني الإسلامي؛ لأنه في أدبياتها قرين الوهم والأسطورة والخرافة في معانيها القديمة السلبية، وهذا ما تطرق إليه د. بسام الجمل في تقديم كتابي هذا.
- انبناء المتخيل على التاريخ، دون الالتزام بمضامينه وقيوده وآلياته، مع العلم أن كتابة التاريخ، بدورها، لا تخلو من متخيل المؤرخ وسياقه الفكري والنفسي والإيديولوجي بروافده المتعددة. ولهذا السبب، أتعامل مع السرديات الرسميّة، بوصفها تشكيلاتٍ خطابيّةً لحقيقة الوقائع والأفكار، أكثر منها تعبيراً عن الحقيقة التي ينشدها البحث العلمي وغير العلمي.
- التاريخ والمتخيل يتمايزان حيناً، ويتضاربان ويتناقضان، أحياناً، في كثيرٍ من التفاصيل، ولكنهما، أيضاً، يتقاطعان في جانبٍ آخر، ويتكاملان، وينبني أحدهما على الآخر أو يتمّه، ويحتاج كلاهما، أيضاً، إلى الآخر. ومثلما يحتاج المتخيل إلى التاريخ، كي يتشكل، وإلى الانطلاق منه، أو من نقطةٍ من نقاطه حتى يبني عليها، فإنّ التاريخ يحتاج إلى المتخيل، حتى يتواصل في التاريخ، ويتجدّد، ويكون لهذا التاريخ معنىً وفائدةٌ ووظيفةٌ.
د. حسام الدين درويش:
د. صلاح، سأبدأ بإثارة مسألة الحقيقة في المتخيّل، أو حقيقة المتخيل أو علاقة المتخيل بالحقيقة والتاريخ أو المتخيل الرسمي. من ناحيةٍ أولى، أنت تقول إنك تعلِّق مسألة الحقيقة في بحثك، ولا تبحث في مسألة (عدم) تعبير المتخيل عن الحقيقة، في الفصول الثلاثة، التي يتكوَّن منها كتابك؛ لكن في المدخل، أنت تؤشكل العلاقة بين المتخيل والحقيقة، وحتى في النتائج التي تقدمها تقول يمكن للتاريخ أن ينبني وأن يمحص ويفحص ويدقق في الصورة التي يقدمها المتخيل، وينبني عليها. وهذا يعني أنها تعبر، لدرجةٍ ما، عن حقائق. حبّذا لو تشرح هذه العلاقة بين المتخيل والحقيقة أو التاريخ. فأنت، من ناحيةٍ أولى، تقول إنك لا تقدم حقائق، وهذا المتخيل لا يقدم حقيقةً، لكنك، من ناحيةٍ أخرى، تقول إنه مادةٌ خامٌ لهذه الحقائق.
د. صلاح الدين العامري:
نعم، د. حسام أنا أعلّق الحديث في الحقائق التاريخيّة عند الاشتغال بالمتخيّل؛ لأن التاريخ والمتخيّل في علاقةٍ جدليّةٍ يستعصي معها تحديد الحدود بينهما. وبعد أن اطلعت على مجموعةٍ من الأعمال المتعلقة بالمتخيل، توصّلت إلى مجموعةٍ من الخلاصات، وأهمّها أنخه يجب أن أترك مسألة الحقائق التاريخية جانباً لمن يراها على تحصيلها في هذا الدّرب التشبيكي المعقّد والمخاتل، وأعفيت جهودي ورهاناتي البحثيّة من تحصيل الحقائق التاريخية للمسلمين، ولباقي الحضارات الأخرى أو الديانات أو الجماعات التي كتبت حولها، واهتممت بموروثها وتراثها. وحين اشتغلت بصورة الشهيد في المسيحية والإسلام، وأنجزت دراسةً مقارنةً بينهما، لم أهتم بالخلافات بين المسيحيين والمسلمين، ولم أتطرق إلى مسألة الخطأ والصواب التي اشتغل بها الفكر اللاهوتي مثلاً، ولم أنشغل بأسئلة «هل عيسى موجودٌ أو غير موجودٌ؟» «هل مات أم لم يمت؟»، «هل رفع أم لم يرفع؟»، «هل خروج الحسين على بني أميّة كان مشروعاً أم غير مشروعٍ؟»، إلّا من زاوية تدقيق المقاربة وتحقيق رهاناتها البحثيّة. لم آخذ المسائل الجدليّة والإيمانيّة التقليديّ في الحسبان، إلّا عند الحاجة إليها في تفكيك المصطلح أو الفكرة أو الظاهرة أو الحالة. ولم أجد أنّ الانخراط في التفاصيل اللاهوتية والعقديةّ مفيدٌ في سياقي البحثي، أو أنّني يمكن أن أحمل إضافةً لو خضت فيها مع الخائضين الذين سبقوني منذ خمسة عشر قرناً. وما راهنت عليه هو تفكيك الصورة أو الظاهرة، والاجتهاد في فهم مضامينها، وتحديد القوانين التي اشتغلتْ بها والآليات التي تم توظيفها في بناء تلك الصورة، أو تلك الفكرة، بقطع النظر عن الخطأ من الصواب، وهذا ما قادني مثلاً في اشتغالي بمسألة البنية الرمزية للمزارات الشيعيّة، لا بوصفها شيعيّةً، بل بوصفها منظومةً رمزيّةً لجماعةٍ دينيّةٍ تتماثل مع غيرها من الجماعات، وتتمايز عنها. بحثت في هذه المنظومة الرمزية من حيث هي مكانٌ وزمانٌ وطقوسٌ وسلسلةٌ من التفاصيل التي يتقاطع فيها المحلّي مع الكوني. ولم يكن من أهدافي البحثية أن أقول هذا خطأٌ وهذا صوابٌ. ولم أرجّح رأياً على رأيٍ، ولم أربط بين الحقيقة والمتخيّل، مثلما تفضّلت، بل بين التّاريخ والمتخيّل، بوصفه رهاناً أساسيّاً في الكتاب.
د. حسام الدين درويش:
هناك حقيقةٌ أخرى أنت تؤكدها، د. صلاح، ويمكنها أن توضح معنى المتخيل الديني الشعبي، وما يقابله. فأحياناً تُعرف الأشياء بأضدادها. فالمقابل للمتخيَّل الشعبي هو التاريخ الرسمي. ولأنّ المتخيل الشعبي يشكل، من وجهة نظرك، جزءاً من الهوية التونسية، بغض النظر عن مدى كونه موضوعيّاً أو حقيقيّاً، فإن التاريخ الرسمي يقصي المتخيل الشعبي الذي يتناوله كتابك. هذا التقابل بين المتخيل أو التاريخ الرسمي الذي يسمّى أحياناً بالسنّي الرسمي، والمتخيل الشعبي وما يتضمنه من استبعاد لبعض الصور والأفكار المتعلقة بآل البيت، يجعل العلاقة بين الطرفين علاقة تقابلٍ أو تناقض. لكنك، تتحدث أيضاً عن وجود تكاملٍ بين الطرفين. فحبّذا لو تشرح العلاقة الجدلية والمركبة بين المتخيل الديني الشعبي والمتخيل أو التاريخ العالم الرسمي؟
د. صلاح الدين العامري:
العلاقة بين التاريخ والمتخيّل هي نظير للعلاقة بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية؛ فالمتخيل الديني العالم الرسمي الذي يكون في العادة مسنوداً من جهات القائمين على الثقافة الرسمية سياسيّاً واجتماعيّاً، عادةً ما يكون المنطلق لبناء المتخيّل الشعبي. فأحداثٌ مثل اجتماع السقيفة، وحرب الجمل، وحرب صفّين، وواقعة كربلاء، وغيرها من الأحداث المؤثرة في التاريخ الإسلامي، حدثت في مكانٍ ما، وفي زمانٍ ما، وانتهت وتوقفت. وبعد ذلك يبدأ المخيال في الاشتغال، ليبني متخيّلاتٍ عالمةً وشعبيّةً، حسب سياقات الطّلب والتلقّي. ويمكن القول، في هذا السّياق، إنّ المتخيل العالم حُدّدت أدبياته، منذ القرون الهجرية الأولى، ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل واصل التوسّع والاغتناء، من مجموعةٍ من الرّوافد الموروثة والمستجدّة بواسطة المخيال، خارج ضوابط المتخيّل العالم ومرجعياته وآلياته. وكل ما أنتج من ثقافةٍ شعبيةٍ متمايزةٍ، بدرجة أو بأخرى، مع الأدبيات الرسميّة، هو ما نقصده بالمتخيل الديني الشعبي في هذا الكتاب. ونعتقد أنّ أغلب مضامينه تأسست على المتخيل الديني العالم، ولكنه كان أكثر تحرّراً من ضوابط المرجع، وشكّل مفاهيم أخرى، ورسم صوراً أخرى ترتبط بواقع منتجها وبتطلّعات متلقّيها وبظروفه النفسية والاجتماعية والسياسية وبالموروث والمواريث التي كان يستبطنها. وهذا ما تناولته، مثلاً، في الفصل الثاني والثالث من كتابي، الذي نحن بصدد مناقشة فصوله.
د. حسام الدين درويش:
هناك نقطةٌ قد تبدو إشكاليةً أو غير واضحةٍ، وهي مسألة صلة آل البيت بالشيعة و/ أو بالسنّة. فلآل البيت، عموماً، مكانةٌ مرموقةٌ في كلّ الأدبيات أو في كلّ المتخيلات الشعبية الإسلامية، ومنها المتخيلات السنّية، لكن أنت تقول إن التقابل موجودٌ، هنا، بين المتخيل الشعبي والمتخيل الرسمي السنّي الذي يحاول، لأسبابٍ سياسيةٍ، بالدرجة الأولى، أن يقصي هذا البعد المتعلق بآل البيت. لكن، بأيّ معنىً يمكن القول إن هذا البعد سنّيٌّ أو شيعيٌّ، إذا كانت مكانة آل البيت، في السنّة أو الشيعة، قويةٌ في المتخيل الشعبي والرسمي السنيين، في كثيرٍ من الأحيان. لا أعرف إذا كانت للمسألة خصوصيةٌ في تونس، ففي البلاد الأخرى ليست هناك محاولة إقصاء مسألة آل البيت.
د. صلاح الدين العامري:
بيّنت في كتاب آخر، موسوم بــــ«التشيع في البلاد التونسية بحث في النشأة والتحوّلات»، أن النظام السياسي في تونس يؤمن بأهمية وحدة المجتمع وضمان تناغمه وتكامله، بضمان ترسيخ مجموعة من المقوّمات مثل العرق واللغة والدّين والمذهب والسرديات الرسميّة. وقد أثّر هذا الخيار السياسي في المفاهيم الثقافيّة والاجتماعيّة ذات الصّلة الوثيقة بالدّين والتديّن. ومن بين المفاهيم التي تأثّرت مفهوم التشيع الذي تبدل نهائيّاً في تونس، وتحوّل من تشيعٍ وجدانيٍّ سياسيٍّ أسّس له الفاطميون إلى تشيعٍ اجتماعيٍّ؛ يعني وجود طبقةٍ اجتماعيّةٍ ذات خصوصياتٍ فرضت مجموعةً من الامتيازات الماديّة والنفسيّة، ترجمتها صفة «الأشراف» التي تعني تشكيل طبقةٍ اجتماعيّةٍ، مثلما ذكرنا، آنفاً، لها تبجيلٌ ومحبّةٌ، ولها احترامٌ من قبل التونسيين خاصّةُ وعامةً، وتحظى بمجموعةٍ من الامتيازات. حتى إن العديد ممن ينتسبون إلى طبقة الأشراف تصدّروا المراكز العلميّة بين الحنفية والمالكية. هذه المسألة هي خصوصيةٌ في تونس، وهو ما جعل ابن أبي الضياف مؤرخ البلاط الحسيني يقول: جُبل التونسيون على محبة علي وأبنائه، لكن دون نصب العداء لباقي الصحابة؛ فالتونسيون تعلّقوا بأفقٍ جميلٍ وصورةٍ مفارقةٍ صنعها الدّعاة العبيديون، عند قدومهم واستقرارهم بين منطقتيْ الزّاب في الجزائر (المغرب الأوسط) وتالة في الوسط الغربي لتونس (إفريقيّة).
حاولت الاشتغال بهذه الصورة الخاصّة لآل البيت في المتخيّل الشعبي التونسي، وبيان وجوه الطرافة فيها، بوصفها تجمع بين النقيضين اللّذين أنتجهما المتخيّل الدّيني المشرقي، بشقّيْه العالم والشّعبي، وقدرة الذهنيّة التونسيّة خاصةً، والمغربيّة عامةً، على إنتاج ثقافة التواصل والتكامل والقفز على وجوه الصّراع الذي كرّسته المدارس المشرقيّة إلى اليوم. وندرج هذا الجهد، في سياق البحث في الهوية التونسية، بكونها سؤالاً مركزيّاً في كتابي، وهي هويةٌ متمايزةٌ ومتميّزةٌ، في الآن ذاته، بقدرتها على الصهر الإيجابي للتنوّع والاختلاف، وعلى تحويله إلى طاقةٍ إيجابيّةٍ للبناء والحوار، وتحييده عن الصّراعات التي لم تجن منها البشريّة عبر تاريخها غير مزيدٍ من القتل والدّماء.
د. حسام الدين درويش:
يتضمن كتابك أحكاماً قد تتجاوز مضمونه؛ مثل الحديث عن الخصوصية التونسية أو الهوية التونسية أو هذا البعد التونسي. وتتحدث عن إجماع الباحثين التونسيين والأجانب على أن مجتمعات بلاد المغرب، وتونس تحديداً، هي مجتمعاتٌ مرابطيةٌ، تمارس تقديس الرموز الدينية بشكل يتجاوز ما يوجد في المشرق؛ لكن إذا أخذنا مسألة آل البيت، نجد أنه هناك، أحياناً، في المشرق، تأليهٌ لهم. ولا أدري إن كان التقديس في تونس قد وصل إلى ما بعد التأليه؛ وهذه الأحكام في حاجة إلى ضبطٍ ومناقشة.
د. صلاح الدين العامري:
هل تقصد أن هذا موجود في كتابي هذا؟
د. حسام الدين درويش:
نعم، فأنت تقول في كتابك: «أجمع الباحثون التونسيون والأجانب أن مجتمعات بلاد المغرب وتونس تحديداً هي مجتمعات مرابطيةٌ تصنع رموزها الدينية وتمارس تقديسها بشكل يتجاوز ما يوجد في المشرق أحياناً. وأن آل البيت النبوي يتمتعون بمكانةٍ خاصةٍ في وجدان التونسيين، وأن لهذه المكانة خصوصيةٌ». يبدو أن آل البيت النبوي يتمتعون بمكانةٍ خاصةٍ في وجدان التونسيين، وهذا ينطبق عموماً على المتخيل والمعتقد الديني لدى عموم المسلمين؛ فبأيّ معنى هناك خصوصيةٌ تونسيةٌ، في هذا الصدد؟
د. صلاح الدين العامري:
في ما يخصّ الجزء الأوّل من السؤال، نعم، المجتمعات المغاربيّة مجتمعاتٌ روحيّةٌ، قبل الإسلام وبعده، ومارست التديّن الشعبي، قبل وصول خبر آل البيت إليها، في منتصف القرن الثاني الهجري، وهذا ما أكّده عدد من السوسيولوجيين الغربيين في دراساتهم عن المجتمع المرابطي في بلاد المغرب، ومن بينهم وأبرزهم إيدمون دوتّي. وأما الخصوصيّة في التديّن الشعبي التونسي، فلها وجهان: وجه أوّل تمثّل في فتح الذاكرات الدينيّة والثقافيّة المتعاقبة على هذه الرقعة الجغرافيّة والثقافيّة على بعضها البعض، وعدم تهيّب التلاقح بينها، مثلما يحرص المتخيّل الدّيني العالم والرسمي. ويتمثّل الوجه الثاني في القدرة على تجاوز ما تبنّته الأدبيات المشرقيّة بشقّيها الشعبي والعالم، دون القطيعة معها، والتصادم مع أطروحتها التأسيسيّة. والمقصود بالتجاوز، هنا، هو تجاوز المفاهيم والإيديولوجيا الشيعية في المشرق. وهنا نقف على دور المتخيل الشعبي، حين لم يلتزم بالنموذج الأصلي المشرقي، ولم يتقيّد بأدبياته وأهدافه التي أتت إلى تونس، فكانت غالباً إطاراً عامّاً، وشقّ له طريقاً في صناعة المفاهيم والطقوس والسرديات. وفكر التونسي في آل البيت، وفي الزعامات الدينية الإسلاميّة، من خلال بيئته ونفسيته وثقافته، ومن خلال ذهنيته وتطلّعاته وحاجاته، وهذا ما بيّناه مثلاً في الإجابة عن سؤال: لماذا كانت فاطمة الزهراء أكثر حضوراً من بين شخصيات آل البيت، بمن في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجها علي بن أبي طالب. هذا هو معنى التجاوز الذي أردناه، وهذا شكلٌ من أشكال التجاوز، وقد فسرته بمكانة المرأة في ذهنية المجتمع الأمازيغي وحضورها وفاعليتها وقداستها. وهي صورةٌ معاكسةٌ، تماماً، لصورة المرأة في المشرق. وليس من الصدفة أن تتميّز المقاربة المغاربيّة في مسألة تحرير المرأة، وفي تونس تحديداً، وتتقدّم على نظيرتها المشرقيّة، مقارنة بباقي الدول العربية. وهذا محكومٌ، في رأيي، بمرجعيات المتخيل التي نتحدث عنها، وبالذاكرة الطويلة المدى التي اختزنها وجدان سكان شمال إفريقيا.
د. حسام الدين درويش:
إذا بقينا في سؤال الهوية، الفصل الأول يتضمن تأصيل المدونة؛ بمعنى إثبات هويتها التونسية، وهذا يتم، كما ذكرت أنت، من خلال مستويين: الأول هو علاقة النصوص المجموعة في الذاكرة التونسية من حيث اللغة ودرجة الانتشار، والثاني هو مدى انسجام مضامين النصوص مع السياق الثقافي التونسي في أبعاده المتعددة. حبّذا لو تشرح معنى تأصيل المدونة أو توثيقها وربطها بتونس أو بالهوية التونسية؟
د. صلاح الدين العامري:
شكراً د. حسام على هذا السؤال الجيّد، أوّل شيء كوّننا فيه أساتذتنا في البحث العلمي، هو مسألة الصرامة العلمية والأمانة في التوثيق والحرص على تحقيق النصوص. ومن هذا المنطلق، فكّرت في هويّة النصوص التي جمعتها من أمكنة متعددة. وكيف سأضمن ثقة المتلقي في تصنيفها تونسية المرجع؟ وكيف أثبت ذلك؟ لذلك، بذلت الجهد، في الفصل الأول، لكتابة تلك النصوص الشفوية، وأعدت كتابتها وشكلتها، ثم قمت بشرحها كلمةً كلمةً؛ لأنها مجموعةٌ من جهاتٍ تونسيةٍ مختلفةٍ من الشمال إلى الجنوب. وكان لا بد، في كثيرٍ من الأحيان، من الاستعانة بأصدقائي، بخصوص الكلمات التي لم أفهمها، نظراً إلى تنوّع البيئة الثقافيّة التونسيّة في مستوى العبارات، على الرغم من صغر هذا المجال الجغرافي التونسي. وأخذت في الحسبان حاجة القارئ العربي وغير العربي لمثل هذا الشرح، ليستمرّ مع الكتاب، ويتجاوب مع ما أكتبه مثلما يشاء. وكان الهدف الثاني، من الفصل الأول، هو أن أجمع مادةً لم تكن موجودةً، كي يشتغل بها غيري؛ لأن هذا الكتاب، منذ إحالته إلى النشر، لم يعد ملك كاتبه، بل أصبح ملكاً للقارئ، ويمكن لأي شخصٍ اليوم، يريد أن يشتغل بمسألة الذاكرة الشعبية أو المتخيل الشعبي أو النصوص الشعبية أو الثقافة الشعبية، أن يعود إلى كتابي، ليأخذ منه النصوص التي لم يكن يعلمها، أو لم يكن ليعثر عليها مكتوبةً مشروحةً.
د. حسام الدين درويش:
بالفعل، في تقديمٍ سابقٍ للكتاب، أشار الدكتور عبيد الخليفي إلى أنه سيستخدم إحدى القصائد من المدونة الشفهية التي وثقتها في كتابك في أبحاثٍ أخرى. هذه، طبعاً، تصبح مادةً موثقةً يمكن الاستعانة بها من قبل باحثين. إذا انتقلنا إلى الفصل الثاني المعنون بــــ«صورة آل البيت في المتخيل الشعبي» وجدنا فيه عرضاً لمضامين المتخيّل الشعبي المدروس وللآليات التي ينبني من خلالها، وهذا هو العنوان الفرعي لكتابك. ومن حيث المضامين، أنت تتحدث عن أربع صورٍ أساسيةٍ لآل البيت: الاصطفاء والشفاعة عند فاطمة، وسيادة شباب الجنة عند الحسن والحسين، وصورة البطل الشعبي أو البطل الديني عند علي بن أبي طالب. أرجو أن تحدثنا عن هذه الصور الأساسية الأربع لآل البيت في المتخيَّل الشعبي التونسي.
د. صلاح الدين العامري:
شكراً د. حسام، دعني أذكّر بأنني اعتمدت مجموعة من المخطوطات التي حققها أحمد الطويلي إلى جانب القصائد التي جمعتها، وهي مخطوطاتٌ قيروانيةٌ تتحدث عن آل البيت في تونس. وصنّفت ما جمعه أحمد الطويلي ضمن ثقافة الشفوي التي صنعها المتخيّل الثقافي الشعبي التونسي. وسعيت في تناول هذه العناصر، (وهي الاصطفاء والشفاعة وسيادة شباب الجنة، ثم البطل الديني)، إلى بيان التّعالق بين المتخيل الديني العالم والمتخيل الديني الشعبي. فقد انطلقت من مقولاتٍ أساسيةٍ في المتخيل الديني العالم، بمرجعيّتيه السنيّة والشيعية الرسمية، ثمّ تدرّجت في بيان آليات تشكّل الخصوصية في الذاكرة الشعبية التونسية، وقد كانت الغالبية الساحقة من التونسيين، في ذلك الزمن، تتبنّى الثقافة الشعبية، وغير متمكّنةٍ من الثقافة العالمة إلّا ما قلّ وندر؛ لأن تعميم التعليم في الدول العربية جاء متأخراً مع دول الاستقلال تقريباً. وهذا ما أكسب الثقافة الشعبيّة، عموماً، والمتخيّل الدّيني الشعبي، خصوصاً، أهميّةً في دراسة الهويّة التونسيّة، وتاريخاً أكثر تعبيراً عن حقيقتها أو ما هو قريبٌ من حقيقتها. وللوقوف عند تفاصيل الانتقال من التاريخ العلمي إلى المتخيّل، انطلقت من عناوين تنتمي في الأصل إلى المتخيل الديني العالم، وتتبّعت كيفيّة انتقالها وتحوّلها وتطورها في المتخيل الديني الشعبي. ولا شكّ في أنّ صورة آل البيت ذات المرجعيّة المشرقيّة قد استفادت من ثقافةٍ شعبيةٍ أخرى موازيةٍ لها، هي ثقافة أولياء الله الصالحين التي كرسها التديّن الصّوفي. ومن التحوّلات الأساسيّة التي أحدثها المتخيّل الشعبي التونسي في المفاهيم المشرقيّة (السنيّة والشيعيّة) ربط مفهوم الشفاعة بفاطمة الزهراء، على الرغم من العودة إلى أبيها محمد صلى الله عليه وسلم. وقد استندنا في بيان هذا التحوّل إلى هيمنة فاطمة الزهراء تقريباً. ففي كل القصائد توسّلٌ بها وإليها لتحقيق الخلاص. كما أخذ مفهوم سيادة شباب الجنة، بدوره، خصوصيةً تونسيةً، وبيّنت، من خلال بعض الأمثلة، أنّ الفهم والعبارة والتعابير التونسية التي عبّرت عن معنى السيادة تكاد تقطع الصلة بأدبيات الفكر الديني الشيعي العالم؛ أي إنّ المخيال الشعبي التونسي أخذ الوعاء المشرقي وملأه بمنتوجٍ تونسي، لغةً ومفهوماً وصورةً وطموحاتٍ وحتى رغباتٍ. فربما تختلف رغبات الإنسان البسيط، والمتدين، في تونس، في بعض تفاصيلها، عن رغبات المتدين في المشرق، وهذا معنى التجاوز الذي تحدثنا عنه سابقاً.
د. حسام الدين درويش:
إذا تحدثنا عن آليات إنتاج هذه الصور المتخيلة، يمكن القول إنك راكمت على الآليات التي تحدث عنها باحثون سابقون، مثل بسام الجمل، وراكمت على أعمال آخرين، وناقشتها مثل أعمال أركون أو غيرها. لكن إضافةً إلى التقنيات والآليات التي كانت موجودة سابقاً أو تحدثت عنها، كالمحاكاة وإعادة الإنتاج أو الإنتاج والتضخيم والتبئير... إلخ، أنت قدمت إضافةً معرفيةً مهمةً، في هذا الخصوص، وأضفت آلياتٍ أو تقنياتٍ جديدةً تستخدمها هذه المخيلة في إنتاج هذه الصور، مثل الومضة الورائية المؤسسة، الومضة الاستباقية المؤسسة، التبخيس والترذيل، الانتقال، الاختزال، المثلنة... إلخ. هل يمكن توضيح هذه الآليات أو التقنيات؟
د. صلاح الدين العامري:
فعلاً، حاولت الاستفادة من جهود السابقين البارزين في هذا المجال البحثي مثل جيلبار ديران وكاستورياديس ومحمد أركون وبسام الجمل ونادر الحمامي وغيرهم. وعملت، في السياق ذاته، على نحت مسارٍ خاصٍّ بي، وتحقيق إضافةٍ معرفيّةٍ تجعلني أنخرط في جهود هذا المبحث، وأنتمي إليه، بشكلٍ إيجابيٍّ. وكان الخيار الأمثل في نحت مفاهيم جديدةٍ، مثل التي تفضّلت بسردها، بعد توسيع دائرة الاطلاع والإحاطة بسرديات المتخيّل الشعبي التونسي خاصةً، والمتخيّل الدّيني الشعبي عامةً. وتراوح النحت بين الاستفادة من بعض الآليات المتاحة في مجال السرديات - والنص المنقبي نصٌّ سرديٌّ بالأساس - والنحت والإنتاج. وتحدثت، في هذا السياق، عن الومضة الورائية أو الومضة الاستباقية المؤسسة. وقد ساعدني، في هذا الاقتباس للنحت، ميزة المتخيل الديني الشعبي المتمثّلة في التحرّر من ضبط المرجع وقيوده المميّزة للمتخيل الديني العالِم، ومنها التدقيق والتحقيق واسترسال سلاسل السند وموثوقيتها التي توّجها علم الجرح والتعديل. وقد استفاد المخيال الشعبي بهذا الهامش اللامحدود من التحرّر في سرد ما شاء، بالإضافة والتعديل والمحاكاة والتضخيم والإنتاج وإعادة الإنتاج. ونلاحظ هذا التحرّر التام من قيود المرجع، اليوم، في ما يسمى المنابر الحسينية في العراق، أثناء المناسبات الدينيّة التاريخيّة. وقد تطرّقت، في إحدى مقالاتي، إلى ضرورة توسيع مجال مفهوم المتخيل الديني الشعبي، ليشمل ما نلاحظه في وسائل التواصل الاجتماعي. د. حسام الدين درويش:
ننتقل إلى الفصل الثالث المتعلق بالمرجعيات المؤسسة لهذه الصور أو المتخيل الديني الشعبي. أنت تتحدث عن خمس مرجعيات: التونسية، المغاربية، العربية، الدينية الإسلامية، الدينية الكتابية. حبّذا لو تقدم لنا شرحاً بسيطاً ومكثفاً لهذه المرجعيات الخمس؟ وعلى الهامش، أشير إلى أنه ليس واضحاً جدّاً، سبب إضافتك للمرجعية الدينية الكتابية مع أنها تبدو متضمنة في المرجعية الإسلامية. ولماذا يبدو أن البعد الأمازيغي أو البربري أو المرابطي الذي يسمى في الكتاب، حاضرٌ جدّاً في الشرح، لكنه ليس حاضراً كعنوانٍ، أو بوصفه مرجعيةً أساسيةً.
د. صلاح الدين العامري:
حين فكرت في إنجاز هذا البحث، كنت على يقين بأن الذاكرة والمتخيل الديني الشعبي التونسي، والمتخيل الديني الشعبي بصفة عامة، يتشكّلون، بالضّرورة، من مجموعةٍ من الطبقات الثقافيّة، ومجموعةٍ من الذاكرات الحضاريّة، ومجموعةٍ من المرجعيات النفسيّة والذهنيّة والاجتماعيّة، وأنّ الإضافة النوعيّة للكتاب تتحقّق في جانبٍ منها على الحفر في مجموع الطّبقات، لتبيّن أثرها القريب والبعيد والصّريح والضمني في صناعة المتخيّل الثقافي التونسي عامةً، والمتخيّل الدّيني الشعبي خاصّةً. وتعلمون جيّداً أن بلاد المغرب قد مرت بها حضاراتٌ متعددةٌ ومتنوعةٌ. وميزة سكان هذه المنطقة الجغرافية المفتوحة أنهم تفاعلوا مع الوافدين كلّهم. فجميع الحضارات التي أتت إلى بلاد المغرب استقرت لأزمنةٍ، وتفاعلت مع موروثها، وهذه خصوصيةٌ في الأمازيغ، مثلما يحرصون على تسمية أنفسهم. وكان لا بد أن أثبت المرجعية التونسية لمضامين النّصوص الشفوية، ثم المرجعية الجغرافية لبلاد المغرب بصفةٍ عامةٍ، ثم المرجعية العربية، بعد أن استوطن العرب هذا المجال الجغرافي، وأثروا فيه، حتى صار السكان الأصليون عرباً في تفاصيل حياتهم. ثم حفرت حول المرجعية الإسلامية أيضاً. كما بحثت في المرجعية الكتابية، بعد ملاحظة وجود بعض المفاهيم التي تتجاوز الثقافة الإسلامية، لتنفتح على الثقافة المسيحية واليهودية. وهذا منتظرٌ بالنسبة إليّ، باعتبار أن المسيحية واليهودية قد وصلتا قبل الإسلام، وقد استوطنتا وتستمران إلى اليوم. وإذا ما عدنا إلى خمسين سنة خلت، نجد أن أعدادهم كانت مرتفعةً جدّاً، وكانوا يعيشون في انسجامٍ، مثلما حدث في الأندلس بين هذه الديانات الثلاث. وكان من المنطقي أن يُحدث التعايش حركة تأثرٍ وتأثيرٍ. ولم يكن من المنطقي ألّا يثير هذا المعطى التاريخي الموضوعي أرضيّة التفاعل بين الذاكرات الدينية، والتداخل والتثاقف بينها. وهكذا، قادنا هاجس الحفر في هذه الذاكرات، حتى نتبين الطبقات التي تقاطعت، وتكاملت، وتناغمت، في تكوين الهوية التونسية والهوية المغربية. وأمّا اختياري للفظتيْ المغربية والأمازيغية، فيعود في جزءٍ منه إلى اللغط الذي تثيره عبارات مثل البربر التي ترتبط بمعانٍ سلبيّة، أو توظّف في مداخل حقوق الأقليات، أو الأصلي والوافد التي تراهن عليها قوى خارجيّةٌ في إحداث بلبلة داخل هذه الجغرافيا الممتدة.
د. حسام الدين درويش:
أضيف سؤالاً يتعلق بالبعد السياسي. فالكتاب يرى أن المتخيل الشعبي يندرج ضمن التاريخ الاجتماعي الديني، لا السياسي، على الرغم من صعوبة الفصل بين الأمرين؛ ما دور السياسي في المتخيل (الشعبي)، وفي البعد الاجتماعي الديني عموماً؟
د. صلاح الدين العامري:
هل للعامل السياسي أثرٌ في المتخيل الديني الشعبي؟ أقول نعم، ولكنّه أثرٌ غير مباشر في رأيي، وضعيفٌ، باعتبار أنّ القسم الأكبر من الذين ساروا في ركب الدولة الفاطميّة، ولا أدري إن كان يصحّ أن نصفهم بالشيعة في تونس، تحوّل إلى طبقةٍ اجتماعيّةٍ عُرفت بالأشراف، وتمذهب عناصرها بمذاهب أخرى منتشرةٍ مثل الحنفيّة والمالكيّة. ولم تدخل هذه الطبقة في صدامٍ مع الأنظمة السياسيّة المتلاحقة، بل عاشت معها في انسجامٍ وتبادلٍ للمصالح، وهذا ما يجعل أثر السياسة في المتخيّل الديني الشعبي محدوداً، وإن كان موجوداً. ونعتقد أنّ الأثر الأكبر يرتبط أكثر بالذاكرة التاريخيّة للبلاد التونسيّة، وبالمرجعية الإسلامية عموماً.
د. حسام الدين درويش:
أضيف سؤالاً يتعلق بمنهجية الكتاب أو بمنهجية الباحث، والذي يقول إنه جمع فيها بين الهرمينوطيقا أو محاولة الفهم والتفكيك. كيف جمعت بين طرفين - الهرمينوطيقا والتفكيك - يبدو أنهما متضادّان، وأنت تعلم أن خلافاً بين أقطاب هذين الطرفين غادامر وريكور ودريدا ودو مان، هذا من ناحيةٍ أولى. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، أنت تتحدث ليس فقط عن التفكيك، وإنما عن إعادة تركيب، وهذا يتجاوز مسألة التفكيك الذي لا يتضمن، بالضرورة، إعادة التركيب. فإذا سمحت، هل يمكن أن تشرح منهجية الكتاب من حيث جمعه بين الهرمينوطيقا والتفكيك، وسعيه إلى التفكيك وإعادة التركيب؟
د. صلاح الدين العامري:
لا أزعم أننّي متمكّن تمكّناً كليّاً من هذه المناهج، رغم تعدّد الإشادات بتوظيفها في الكتاب. ومع ذلك أسمح لنفسي بالقول إنّ اطلاعي على المناهج التي ذكرت وعلى تطبيقاتها، سواء في أعمالي السابقة أو في أعمال غيري، جعلني أراهن على إمكانيّة تكاملها في المبحث الواحد، إذا ما أحسنّا توظيفها. وتساعد طبيعة المسائل الثقافيّة والدّينيّة - وهي مسائل شديدة التركيب والتعقيد - في تحقيق هذا الرهان المنهجي. واستناداً إلى المعطيات السّابقة الذّكر، حصل الاقتناع بأنّ المتخيّل الديني الشعبي، والمتخيّل الثقافي عامّةً، يتكون من طبقاتٍ عدّةٍ لا يمكن أن يحيط بها الباحث، إذا توسّل بمدخلٍ منهجيٍّ واحدٍ، أو من خلال مدرسةٍ بعينها. وقد يكون الزمن المنهجي قد تجاوز البنيوية، وأتانا بمناهج أخرى بعدها، غير أنّها، بالنسبة إليّ، ما زالت صالحةً، ويمكن أن نفهم، من خلالها، بعض المسائل أو بعض النصوص أو بعض المرجعيات، ونسحب الحكم ذاته على التفكيكية والتأويلية والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، ونعدّها مداخل تتكامل في تفكيك الظاهرة وإعادة تركيبها.
ما معنى إعادة التركيب وإعادة البناء؟ هو في رأيي مجموع الاستنتاجات التي يخرج بها الباحث بعد أن يقوم بعملية الفهم والتأويل والتفكيك وما إلى غير ذلك من آليات الفهم. وحين نقول تأويلية أو تفكيكية، فالهدف هو فهم مسألة معينة والإحاطة بها. لذلك، أنا من أنصار الرأي الذي يقول: يجب أن تتنوع المداخل لفهم مسألة ما، وأنا أطبقه حتى في الدروس الجامعية، وأدعو طلبتي إلى الاطلاع على مختلف المناهج؛ المنهج التاريخي، المنهج التأويلي، والتفكيكي، والأنثروبولوجي والسوسيولوجي، ولو بقدرٍ محدودٍ على الأقل، حتى حين تدخل إلى دراسة نصٍّ، أو دراسة مدونةٍ تنوع المداخل. وكلما نوَّعت المداخل في رأيي، أحكمت الفهم أكثر في المسألة المبحوثة، وشكراً.
د. حسام الدين درويش:
بما أن الحديث يدور حول التفكيك، يمكن القول إن التفكيك الأهم أو الأكبر الذي يحتل المكانة الأكبر، في هذا السياق، هو هذا التقابل بين المتخيل الشعبي والمتخيل أو التاريخ الرسمي. فهنا يحدث تفكُّك بمعنى إعادة الاعتبار، وهذا متابعة لمدرسة الحوليات، وإعادة الاعتبار للمهمش. وبعد إقامة التقابل المثنوي بين الطرفين المذكورين، تقوم أنت بعملية القلب أو العكس، حيث تجعل المهمش مركزياً، والمركزي مهمّشاً أو هامشيّاً. ويبدو، أحياناً، أنك تقتصر على عملية القلب المذكورة، ولا تقوم بتفكيك ذلك التقابل. وعلى العكس من سبر إمكانية نقد هذا المتخيل الشعبي الذي تحدث عنه د. صابر سويسي، أنت تعيد لهذا المتخيَّل الاعتبار بطريقةٍ تجعله أعلى، بمعنىً ما، من المتخيل الرسمي، فتقول مثلا: «فالمتخيل الشعبي التونسي رسم صورةً حضاريةً متينةً ومعمَّقةً للرموز الدينية العلوية، بقطع النظر عن الخيارات المذهبية. وبين تفكيكه أن الثقافات الشعبية لا تصنع الرداءة والاختزال والسطحية، وأنها عمليةٌ عقليةٌ وإبداعيةٌ تعبِّر عن واقع الجماعات بأكثر وضوح وصدقية. وأثبتت عملية إعادة التركيب أن المتخيَّل الشعبي المتحرر من ضوابط التقنين هو الأكثر تعبيراً عما تصطلح عليه الثقافة العالمة حقائق». وهنا يبدو أن ما كان مهمَّشاً أصبح مركزيّاً، والعكس صحيحٌ. في المقابل، يبدو، في سياقاتٍ أخرى، أنك تبحث عن التكامل بين الطرفين، وليس الصراع والمفاضلة بينهما. ما رأيك؟
د. صلاح الدين العامري:
ذكرت لك منذ البداية، أنّني لا أريد الدخول في معارك حول الحقائق التاريخيّة والدّينيّة التي نالت حظّها من الجدل والصّدام والحروب، ولا أطمح إلى أن تكون أعمالي جزءاً من هذه الثقافة السلبيّة. وقد تعزّزت هذه القناعة بعد أن انفتحت على أدبيات مدرسة الحوليات الفرنسية؛ في مفهوم التاريخ الجديد الذي ترى أطروحاته أنّ التاريخ الرسمي لا يعبر عن كل الحقائق ولا عن روح الجماعات والمجموعات، وأعاد الأهمية والقيمة للهامش والمهمش. تعرفون أن ميشال فوكو ذهب إلى المستشفيات وتحدث إلى المجانين من الوزراء والقواد والجند، علّه يلتقط بعض ما يجده عندهم من معلومات، وأنا، من هذه الزاوية، اشتغلت بالمتخيّل الشعبي المهمّش، وليس من باب الانخراط في الصراع، أو الانتصار لمتخيلٍ ضد متخيلٍ. والبحث في المتخيل الديني الشعبي الذي ترفضه الثقافة الرسميّة وتبخّسه، يجعل الباحثين يخضعون لسلطة المتخيل الديني العالم أو المتخيل الثقافي العالم الذي يكرس وجهة نظرٍ ورؤيةٍ معينةٍ وثقافةٍ معينةٍ. ودور الباحثين هو تحقيق الإضافات، من خلال الثغرات. أنا، دائماً، أستحضر نصّاً جميلاً للتوحيدي يتحدث فيه عن نسبية المعرفة. قال: ذهب أربعة عميانٍ إلى فيلٍ لمعرفته، وكل واحدٍ منهم جسّ الفيل من مكانٍ، واعتقد أنّ الجزء الذي جسّه هو الفيل؛ فمن جسّ خرطومه ظن أنه كائنٌ رخوٌ، ومن جسَّ ساقه أو قائمته ظنّه أسطواني الشكل، ومن جسّ ظهره ظن أنه هضبةٌ. قال التوحيدي، في كلامٍ معبّرٍ ينطبق على سياق فهمنا للمسألة: فانظر إلى الحق كيف جمعهم، وإلى الباطل كيف فرّقهم؛ لأنّ كل واحدٍ منهم يقول: والله أنا عرفت الفيل، وفي الواقع، هو لم يعرف إلا جزءاً من الفيل، ولم يعرف الفيل كلّه. ولو جمعت هذه المعارف، لكان مجموعها معرفةٌ أقرب إلى حقيقة الفيل. وأنا على رأي التوحيدي، في منهج البحث عن المعارف وحقائق المسائل، والتنسيب للمطلق هو أنسب المداخل للبحث العلمي الرصين والمتين.
د. حسام الدين درويش:
سأعطي الكلمة الآن للصديق العزيز الدكتور بشام الجمل، وهو المختص والخبير بهذا الموضوع وبهذا المبحث عموماً، وهو الذي كتب تقديماً لهذا الكتاب. وأطلب منه تقديم رؤيته العامة للموضوع والمبحث في السياق التونسي، من جهةٍ، والتعبير عن وجهة نظره في الإضافة المعرفية التي يتضمنها كتاب الدكتور صلاح، من جهةٍ أخرى. تفضل، دكتور بسام.
د. بسام الجمل:
مرحباً بالحضور الكريم، ومرحباً بالدكتورة ميادة، الصديقة العزيزة، وبالصديق حسام الدين، وكل الإخوة، وصلاح الدين.
في الحقيقة، المدرسة التونسية متميّزةٌ في باب المتخيّل عموماً، وفي باب المتخيّل الديني أو الأدبي بصفة خاصةٍ. ويُعدّ عالم الاجتماع الجامعي عبد الله بوحْديبة أوّل من اهتم بالكتابة في باب المتخيّل، إذ كان أوّل من التفت إلى المتخيّل والحكايات الشعبية، وقد دوّن هذه القصص، وتميّز، كثيراً، في جزءٍ من أطروحته لنيل دكتوراه الدولة. ثم، بعد ذلك، تقريباً، منذ عقد السبعينيات أو أواخر السبعينيات، ننتظر بداية عقد التسعينيات، لنرى الأستاذ محمد عجينة يكتب ويناقش أطروحته، ثم ينشرها عن أساطير العرب في الجاهلية ودلالاتها، وقد نشرها تحت عنوان موسوعة أساطير العرب. هو أيضاً نبّه إلى هذا القطاع المهم أو هذا الجانب الكبير من مكوّنات المتخيّل بصفة عامة، سواء الديني أو غير الديني، بما فيه الأدبي. بعد ذلك، تقريباً المحطة البارزة هي كتاب الأستاذ وحيد السعفي عن «الغريب والعجيب في كتب التفسير»، من خلال تفسير ابن كثير، وقد كانت أطروحته لنيل دكتوراه الدولة. ومن بين الأسماء أيضاً أستاذنا في جامعة صفاقس، التي أنتمي إليها، الأستاذ فرج بن رمضان، الذي كتب عدداً من الأعمال عن الإسراء والمعراج من خلال قراءة أدبية، كما كتب عن الكرامة الصوفية، وغيرها من المؤلفات والمقالات العديدة في باب المتخيّل بصفةٍ عامةٍ، وخاصة المتخيّل الأدبي. تقريباً هذه أهم الأسماء التي أستحضرها، الآن، في إطار المدرسة التونسية واهتمامها بقطاع المتخيّل. وقد تم الاعتراف بهذا المتخيّل، فعلاً، بصفةٍ رسميةٍ، تقريباً، منذ عقد الأربعينيات من القرن العشرين. وأوّل من اهتمّ به، وأبرزه، بشكل جيد هو غاستون باشلار، الذي كان مهتمّاً بالابستيمولوجيا أو تاريخ العلوم، ومن خلال تاريخ العلوم انتبه إلى قيمة المتخيّل، واعتُبرت كتاباته منعطفاً في تاريخ دراسات المتخيّل بصفة عامة. والسؤال الذي طُرح يتعلّق بهذا الانتقال من الخيال إلى المتخيّل. هو، فعلاً، انتقالٌ ارتبط بما لحق بالكلمة من تصوّراتٍ ومن دلالاتٍ سلبيةٍ. وهذا كان معروفاً منذ أفلاطون وأرسطو؛ فالأول اعتبر أن الخيال ينتج الصور، وهذه الصور غالباً ما تكون مظلِّلةً أو خادعةً. ثم ننتقل إلى أوغسطين، الذي استبدل الكلمة، إذ كان الخيال يُسمّى، عند أرسطو، فانتازيا، وفيها دلالةٌ سلبيةٌ. أما (imaginatio) فهي أول ما استعمله أوغسطين، وقد اعترف، نسبيّاً، بقيمة الخيال، فلم يعد مجرّد مَلَكة، بل صار منتجاً للصور، حاملاً لمعنىً إيجابيٍّ نسبيّاً. لكن، مع بروز عصر الحداثة الغربية، تم تهميش الخيال لصالح تفوّق العقل، في سياق صعود العلوم. بعد ذلك، ننتظر ما سيكتبه سارتر في كتابيه عن «الخيال» و«المتخيّل» في أربعينيات القرن العشرين، غير أن أهمّ الكتابات التي أسّست، بصورةٍ جليةٍ، لمفهوم المتخيّل جاءت على يد غاستون باشلار وتلميذه جيلبير دوران، ثم توالت الأسماء، كما تعلمون.
ما أريد الإشارة إليه، هنا، هو قيمة كتاب الدكتور صلاح الدين العامري، وقد أتاح لي، مشكوراً، فرصة تقديمه. تكمن قيمة هذا الكتاب، في الحقيقة، في تنبيهه إلى أمورٍ قد لا نكون منتبهين لها من قبل؛ فهو بيّن أن هناك متخيّلاً رسمياً وآخر شعبياً، وأن الفرق بينهما جوهريٌّ. فالمتخيّل الشعبي متخيّلٌ شفهيٌّ، يُتداول ويُحفظ في الذاكرة الجمعية، بينما المتخيّل الرسمي أو «العالِم» متخيّلٌ مكتوبٌ ومدوّنٌ. وهناك صراعٌ خفيٌّ بين هذين الضربين من المتخيّل؛ لأن المتخيّل الشعبي يفلت من رقابة المؤسسة والمجتمع، وهو حرٌّ في كل ما ينتجه، وهذا في نظري فارقٌ جوهريٌّ. كما أن المتخيّل الشعبي يُعبّر عن ذاكرة الشعوب والثقافات والأقليات والطوائف الدينية وغير الدينية. من هذه الجهة، أرى قيمة هذا الكتاب. أما التنبيه الثاني، أو الإضافة الثانية التي نبّه إليها الدكتور صلاح الدين العامري في كتابه، فهي تأكيده أن المتخيّل الديني، أو المتخيّل الإسلامي، ليس كُلّاً متجانساً، بل يمكن الحديث عن متخيّلٍ سُنّيٍّ، وآخر شيعيٍّ، وخارجيٍّ، وإباضيٍّ، وغير ذلك من أصناف المتخيّلات. وهذه إضافةٌ مهمّةٌ جداً في تقديري. وأعتقد أن المقاربة التي تبنّاها الدكتور صلاح الدين العامري مهمّةٌ من جهة أنه اكتفى بالتفهّم ولم يُبدِ موقفاً، وليس مُطالباً بذلك، سواء أكان متبنّياً لهذا المتخيّل أو رافضاً له. فقيمة الباحث في تفهّمه للظواهر، وهذا يكفي في نظري. وكلّ شخص يقرأ انطلاقاً من ذهنه، ومعارفه، وخلفيّته الدينية والفلسفية والمعرفية، ومن هواجسه، بل ومن مزاجه.
كلّ هذه العوامل هي التي توجّه القراءة وفعل التأويل، ومن هنا يختلف القرّاء. ولهذا أعتبر أن هذا المتخيّل الشعبي يرتبط أكثر بالمعيش، وبحرارة الحياة، وحرارة الوجود؛ فهو يعبّر عن دواخلنا، عن معيشنا، عن شواغلنا اليومية، بخلاف المتخيّل الرسمي، الذي يكون غالباً بارداً، بلا روحٍ. وهذا يُذكّر بالروح الرومانطيقية الألمانية؛ فالفلسفة الألمانية تفوّقت، لأنها ركّزت على مفهوم الروح، والدكتور حسام الدين أعلم مني بذلك بلا شك، فأنا أتكلم في مجال خارج اختصاصي. تقريباً، هذه أهم النقاط التي أراها مهمّةً في كتاب الدكتور صلاح الدين العامري، شكراً لكم.
د. حسام الدين درويش:
شكراً جزيلاً.
د. ميادة كيالي:
أضيف فقط ملاحظةً مهمةً. الدكتور بسّام هو أحد أبرز أعلام المدرسة التونسية في هذا الموضوع. وكان رئيس هذا القسم، وله مؤلفات عديدة في هذا المجال، ومن بين كتبه المهمّة ما نُشر لدى «مؤمنون بلا حدود».
د. حسام الدين درويش:
لدينا سؤال من الأستاذ أحمد. تفضل.
أ. أحمد:
أولاً شكراً لك دكتور، يشكِّل المتخيّل الشعبي محرّكاً للثقافة الشعبية، ويعمل على نسج صورٍ معينةٍ حول نماذج من الشخصيات التي تُشكّل المحور الأساسي في أي بيئة ثقافية. ومن بين الآليات والضوابط المنهجية التي اعتمدها علماء التفسير، مثلاً، آلية الجرح والتعديل. في المتخيّل الشعبي، أحياناً، يتمّ ترويج بعض المغالطات حول شخصياتٍ إسلاميةٍ. فكيف يمكن للباحث الأكاديمي أن يُمحّص بين ما هو علميٌّ وما هو متخيّلٌ شعبيٌّ؟ أو بصيغةٍ أخرى: ما المنهجية التي اعتمدتموها، دكتور صلاح، في بسط هذه المعارف؟ هل قمتم بجمع المادة من خلال الاستجوابات ثم نقدها، أم اكتفيتم بسرد المتخيّل وتركتم الحكم للقارئ؟ شكراً لكم.
د. حسام الدين درويش:
أظن أنّ هذا هو جوهر السؤال، أي: كيف نُميّز الحقيقي من غير الحقيقي في ما يُنتجه المتخيّل الشعبي؟ وهناك سؤال عن مدى إسهام محنة ابن حنبل في خلق المتخيَّل. ويمكنك أخيراً التعليق على مداخلة الدكتور بسام، إذا رغبت. تفضل
د. صلاح الدين العامري:
هذا مطلبٌ صعب يا أحمد، أن تبحث عن الحقيقة، البعض قال: إذا كان الواقع يُزيَّف أمامي، فكيف أُصدّق الماضي؟ إذا كان الحاضر اليوم يُزيَّف، فكيف أُصدّق الماضي؟ لهذا اخترت طريقاً آخر، أو ما يمكن أن نسمّيه «الطريق الثالث»؛ لأنني لا أزعم أنّني أُجري وراء الحقائق، ولا أبحث عنها، ولا أدّعي ذلك، بل أريد فقط أن أفهم المسائل، وأن أفكّكها، وأن أتبين آليات اشتغال العقل: كيف يبني الصور؟ كيف تتكوّن الشخصيات في المخيال؟ كيف نُميّز بين الصحيح والخطأ في هذا البناء. في الحقيقة، المسألة صعبة جدّاً. وثمّة بعض المنطق في محاولة العودة إلى دراسة البيئة، والجغرافيا، والعادات والتقاليد في زمن تلك الشخصية: هل ما يُروى يمكن أن يحدث أم لا؟ لكن، في الحقيقة، الأمر صعبٌ، ولا أستطيع أن أقدّم لك، يا أحمد، آليةٌ واضحةٌ. أنت تجتهد، وربما يتبقّى لك وجهة نظر.
السؤال الثاني: أخونا يسأل عن محنة ابن حنبل، وهل أسهمت في خلق المتخيّل؟ نعم، أشكره على هذه الملاحظة؛ لأنها دقيقةٌ. فهذه المحن تُصبح جزءاً من بناء الصورة، ومن بناء رمزية الشخصيات. محنة ابن حنبل كانت جزءاً من شهرته، وربما خلقت له أتباعاً وتعاطفاً، أكثر مما وفّرت له المعرفة والعلم. فمن وجهة نظري، كان هناك كثير من العلماء في زمنه، لكن بسبب ما تعرّض له، استفاد وانشهر، رغم وبسبب الأذى الذي لحق به.
هل نحن في مواجهة مع المتخيّل الشعبي؟
أقول: لا، حسب رأيي، لسنا في مواجهة. وربما محمد أركون ذهب إلى هذا التوجه أيضاً، حين قال إنه لابد من الاشتغال على المتخيّل لنظفر بالحقيقة. وأقول له: أنت علمٌ كبيرٌ، وأنت ربما أول من فتح مجال البحث في الإسلاميات التطبيقية في مسألة المتخيّل، وأشار إليها، لكن البحث عن الحقيقة في مثل هذه المسائل صعبٌ، جدّاً، في نظري. حتى لو كُتب لمحمد أركون أن يعيش مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، فلن يعطينا حقائق كاملة عمّا كان موجوداً، فالموضوع صعبٌ، من وجهة نظري.
وتعقيباً على كلام الأستاذ بسام الجمل، شكراً لك دكتور بسام، هذا من تواضعك. لكن حين أكتب في مسألة علمية، لم أكن أجامل الأستاذ بسام الجمل، بل كتبت ما أنا مقتنع به على الأقل. فمثلاً، إذا أخذنا محمد عجينة، أو منصف الجزار، أو بوحْديبة، أو غيرهم، فالحقيقة أنّ لا أحد منهم خصّص كتابات تطبيقية متخصصة في المتخيّل كما فعل بسام الجمل. حتى محمد أركون نفسه، لم يُخصّص المتخيّل ببحث مستقل، بل تحدّث عنه في سياقات أخرى، ولم يُفرده بمباحث أو دراسات مخصصة. وهذا لا يعني أنني أقول إن بسام الجمل أفضل من محمد أركون، ولا أنني أفاضل بينهما. كما قلت، هذا ليس من منهجي، لكني أقوّم الأمور وفق ما أراه علميّاً. وفي رأيي، ربما يكون الباحث الأول في التاريخ أو في الأدبيات العربية والإسلامية الذي خصص مبحثاً للمتخيّل نظرياً وتطبيقياً، هو بسام الجمل. وقد استفدنا من جهوده فعلاً، كما استفدنا من باقي الجهود بطبيعة الحال. نحن منفتحون على باقي التجارب، لكن اليوم، وبلغة التوصيف الموضوعي، لا يمكنني أن أقارن أعمال بسام الجمل بأعمال منصف الجزار، مثلاً. أنا لا أنقص من قيمة الأستاذ منصف الجزار شيئاً، ولا الأستاذ وحيد السعفي، وهو أستاذنا ونحبّه ونحترمه. لكن من باب الوصف الموضوعي، فإن بسام الجمل - في رأيي - هو رائد هذا المبحث.
وفي الختام، أجدد شكري للدكتورة ميادة، وللدكتور حسام، ولمؤسسة «مؤمنون بلا حدود»، ولكل الباحثين الذين صبروا معنا هذا الوقت، وأثروا الحوار والنقاش. هذا الكتاب، بطبيعة الحال، ليس سوى بدايةٍ، يمكن أن تُبنى عليها جهودٌ لاحقةٌ. أنا لم أدّعِ أنني أنهيت البحث أو أغلقته، بل يمكن البناء عليه، وهو بمنزلة درجةٍ أو لبنةٍ من اللبنات، قابلةٍ للتقييم، سلباً أو إيجاباً، للتعديل أو الإضافة. شكراً لكم، ومودّتي وتقديري.
د. حسام الدين درويش:
شكراً جزيلاً لك، دكتورة ميادة الكلمة لك.
د. ميادة كيالي:
شكراً لكم جميعاً، وشرفتمونا بهذا الحضور الجميل.
[1] - عقدت هذه الندوة عبر الزوم في 20 أإيلول/ سبتمبر 2024. وتجدون التسجيل الكامل لها على اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=qv9ZU0nZfH0&t=3s كما تجدون النص المنشور على موقع مؤمنون بلا حدود: https://www.mominoun.com/articles/اللقاء-الحواري-السادس-حول-كتاب-المتخيل-الديني-الشعبي-دراسة-في-الآليات-9496
[2] - صلاح الدين العامري، المتخيل الديني الشعبي، دراسة في الآليات والمضامين، مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2024، ص11.
[3] - المرجع نفسه.






