داء العنف ومأزق الأصوليَّة


فئة :  مقالات

داء العنف ومأزق الأصوليَّة

لم يخلُ التاريخ الإنسانيّ قديمه وحديثه من العنف، فالدّول العظمى لم تستغنِ عن استراتيجيّات الهيمنة التي وسمت سياساتها الخارجيَّة حفاظاً على مصالحها ودرءاً للمخاطر المحتملة التي تهدّد أمنها واستقرارها. والحركات الأصوليّة ما انفكَّت تبرّر بطرائق مختلفة عنفها ضدّ بعض الأنظمة السياسيَّة أو ضدّ تيّارات تختلف عنها في مرجعيّاتها الفكريَّة والإيديولوجيَّة، فاعتبرتها عائقاً يحول دون تحقيق مشاريعها وبلوغ مقاصدها. "فالمقاربة التاريخيَّة مثلاً تأخذ بعين الاعتبار تطوُّر الوسائل والآليّات التقنيَّة والاجتماعيَّة التي يعتمدها الإنسان في العنف بدءاً بوسائل الصّيد وتكوينه مجموعات مختلفة تدافع كلّ واحدة منها عن مصالحها. والعنف منزع طبيعي في الإنسان، إذ استطاع تصريف العنف في مسار تطوُّره عبر وسائل رمزيَّة معقدة".[1]

ولئن طُرحت مسألة العنف في إطار تنازع بين محاولة إكسابه شرعيَّة قانونيَّة وأخلاقيَّة أو نفيها، فقد كان خطاب كلّ جماعة برّرت العنف ووظّفته في سياستها يستبطن وثوقاً من أنَّها تدافع عن الحقّ "فالجماعات الإسلاميَّة في الغالب تستوحي أفكارها الإصلاحيَّة من الإسلام وهو في إطار المجتمعات المسلمة حقّ مطلق لا وجود فيه للنسبيَّة".[2] وإنَّ الناظر في خطاب الطرفين المتنازعين عن الشرعيَّة ليجد أنَّ لكلّ طرف مبرّراته للعنف الذي يمارسه ضدّ الآخر. فقد غلبت لغة المصلحة والأمن العالميّ والشرعيَّة الدوليَّة على الأنظمة المهيمنة، بينما غلب على الحركات الأصوليَّة العنيفة الخطاب الدّيني الذي كثيراً ما يحوّل الاختلاف إلى خلاف والحرب إلى "جهاد في سبيل الله" ويتّخذه وسيلة لقيام الحكم الإسلاميّ، ويبرّر عنفه اعتماداً على قسمة العالم إلى فسطاطين. فيُوجِد معقوليَّة دينيَّة دعائمها رؤية سلفيَّة وقراءة تأويليَّة تحتكر لنفسها الحقَّ في العنف المقدَّس حسب زعمها. إلّا أنَّ سؤال الأخلاق يظلُّ غائباً من حساب الطرفين، فالعنف وسيلة ناجعة تحقّق لا محالة مصالح الدّول العظمى، وقد تحقّق للجماعات نجاحاً في جمع المقاتلين ونيل دعم المتعاطفين، ولكنَّها لا تستطيع إيقاف العنف أو القضاء على أسبابه، وكثيراً ما تتجاهل سلطةُ الغالب حقوق الشعوب وحاجات الأمم. فللعنف آثار عاجلة وآثار آجلة؛ تتعلّق الأولى بردود أفعال مباشرة تكتسب شرعيّتها من قانون المحاكاة ومواجهة العنف بالعنف، وأمَّا الآثار الآجلة، فتتمثّل في غرس بذور الكراهية وإيجاد مبرّرات كافية لخطاب الاستعداء ومنطق المواجهة فيؤثّر في مسارات الخلق والإبداع وتواصل البشر. ولعلَّ القاسم المشترك بين الهيمنة الأمريكيَّة والحركات الأصوليَّة هو بحثهما عن عدوّ يبرّر عنفهما. "فالأصوليون يعادون الغرب وبالذات الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ويصرّون بدرجات متفاوتة على تقويض الحداثة الديمقراطيَّة وتدميرها".[3] وبالمقابل، فبمجرَّد سقوط الاتحاد السوفييتي كان هاجس الإدارة الأمريكيَّة البحث عن عدوّ جديد يبرّر عنفها ويضمن مصالحها وأمنها. ففي سنة "1987 قام "جيورجي أرباتوف" (Georgiy Arbatov) وهو كبير مستشاري الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف بتحذير الأمريكيين: "لقد فعلنا شيئاً فظيعاً لكم، فقد حرمناكم من عدوّ. وهم فعلاً فعلوا ذلك".[4] ولكنَّ الولايات المتحدة الأمريكيَّة سرعان ما وجدت العدوّ المثاليّ الذي برَّر عنفها في أفغانستان والعراق، وما يزال يبرّره في مناطق أخرى من العالم الإسلاميّ. فقد حلَّ الإرهاب محلّ الشيوعيَّة واستثمر العَدُوَّان في العنف والكراهية.

القاسم المشترك بين الهيمنة الأمريكيّة والحركات الأصوليّة بحثهما عن عدوّ يبرّر عنفهما .

أمَّا العنف الأصوليّ الذي يقدّم أصحابه أنفسهم باعتبارهم حاملين لمشاريع إنقاذ غايتها مواجهة العدوّ الخارجيّ وإصلاح ما أفسدته الأنظمة السياسيّة التي "لم تحكم بما أنزل الله"، فقد كان يخدم أعداءَه المعلنين أكثر من خدمته مصالح الأمَّة التي فوَّض نفسه للدفاع عنها. وكثيراً ما كانت تثنيه نزاعاته الداخليَّة عن النزاعات الخارجيَّة؛ فيغرق في تصفية الحسابات ضدّ خصومه وينسى في غمرة تلك الصّراعات أنَّه أقام مشروعه على أساس الإصلاح لا الصراع. فكم من مشروع أصوليّ ادّعى الإصلاح فأفسد! وكم من تنظيم أسسّ لتوحيد المسلمين ففرَّق بينهم!

تحوَّلت المشاريع التي يفترض أن تكون إصلاحيَّة إلى فساد في الأرض، وأضحى الحلم بالصَّحوة كابوس عنف أزهق الأرواح وخرَّب الديار. والأمثلة أكثر من أن تُحصى في العراق وسورية وليبيا واليمن. فقد كان للنّظم التي حكمت "ديار المسلمين" بعد الاستعمار قدر من العقلانيَّة والوضوح في مساراتها التنمويَّة، على ما ارتكبته من أخطاء تعلّقت بسياسة الحزب الواحد ومحدوديَّة القدرة على تحقيق التنمية المتوازنة. إذ كثيراً ما غرقت في الفئويَّة وآثرت أطيافاً من الشعب على أطياف أخرى، واستعملت آلة القمع لصدّ معارضيها وضمان بقائها أطول وقت ممكن في الحكم، إلّا أنَّ مشاريع الأصوليَّة المعادية لتلك الأنظمة استهدفت هدم كلّ ما أنجزته الدول السابقة لها، فاستعدت المأسسة القانونيَّة والعلم والمعرفة، وفرضت أشكال التديّن التي يؤمن بها دعاتها على جميع النّاس وحاسبتهم على عقائدهم وأزيائهم وحركاتهم. فصيّرت تلك التنظيمات ما كان من الحريَّة بديهيّاً أمراً محظوراً، وأقحمت الجماعات التي خضعت لها في صراعات هوويَّة ونزاعات دمويَّة. فخاضت رحلة هروب من ساحات التنافس العقلانيّ والسباق البشريّ من أجل الخلق والإبداع إلى سجون قروسطيَّة تُحرس بقوَّة السلاح وبطش المقاتلين، فلا حريَّة تضمنها ولا اعتراض على أحكام أصحاب السلطة فيها. وما البشر سوى كائنات خاضعة للقانون "الإلهيّ" والانضباط الطّقوسيّ الذي لا تسامح في أدائه ولا هوادة في عقاب من يخرج عن قوانينه. ذلك هو التجسيد "المثاليّ" للمشروع الأصوليّ الذي بشّر به دعاته. وكان تحويله من النظريَّة إلى التطبيق خير كاشف لحقيقته. فمتخيّل الدّولة الإسلاميَّة يصوّرها جنات أرضيَّة وتجسيده الواقعيّ جحيم دنيويّ تزهق فيه الأرواح وتسبى فيه النّساء في القرن الحادي والعشرين وتباع في سوق النخاسة. فأيّ صحوة تغرق الناس في ظلمات العصور الوسطى؟ وكيف يمكن أن يظلّ مشروع الأصوليين باعثاً على الثقة والأمل؟ وهل يستطيع المسلم تجديد ثقته في مشاريع الدولة الإسلاميَّة وقد صارت رمزيَّة الدّولة التي احتكرته دالّة على التسلّط والعنف وانتهاك حقوق الإنسان؟ فقد حطّم مشروع الدولة الإسلاميَّة متخيّلاً طوباويّاً حالماً بنعيم دنيويّ وعدالة اجتماعيَّة تستعيد التجربة العمريَّة. ولم يكن العنف مجرَّد إزهاق للأرواح، وإنّما كان إهداراً لرأس مال رمزيّ سعى خطاب الجيل الأوَّل من الإصلاحيَّة الإسلاميَّة إلى تأسيسه وعقلنته كي يصير مشروعاً واعداً بالنهضة والتقدُّم.

سيظلُّ توظيف البشر للعنف قائماً مادامت المصالح الإنسانيَّة متضاربة. ولكنَّ ذلك لن يمنع التّسامح من أن يكون سمة إنسانيَّة تنأى بالبشر عن العنف الغريزيّ وتستبدل منطق القوَّة بقوَّة المنطق. ويحتاج المُسلمون أكثر من أيّ وقت مضى إلى تغليب أخلاق التّسامح في منظومتهم الدينيَّة، لأنَّ التسامح يخدم سعيهم إلى تحقيق حلم فريق منهم بالصَّحوة الإسلاميَّة. فالصَّحوة لا تعني سبات العقل وجمود الدين. فلكلّ عصر نظمه السياسيَّة وتصوُّراته الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة ومنازعه الفكريَّة. وليس الارتهان إلى نظم جاهزة يتصوَّرها أصحابها حلولاً نهائيَّة لكلّ محنهم سوى بحث عن السبل السهلة وغرق في أوهام القداسة التي يمكن أن تؤسّس متخيّلاً للصَّحوة ولكنَّها لا تستطيع تحويله إلى واقع. فمستقبل الحركات التي ترفع شعارات هوويَّة إمَّا أن يؤول إلى تحطّم نظمها الإيديولوجيَّة على صخور الممارسة السياسيَّة فيكون مأزقها أنَّها تناقض ما دعت إليه وتتبنّى ما عارضته سابقاً، وهو المثال الذي جسّدته بعض الحركات التي انقلبت على عقبيها بمجرد وصولها إلى الحكم بطريقة ديمقراطيَّة، وإمَّا أن يؤول إلى مشاريع دول قروسطيَّة تمارس عنفها ضدّ المختلفين وتفرض قوانينها على كلّ من يقع في دائرة نفوذها فتصادر كلَّ أشكال الحريَّة وخاصَّة ما تعلّق منها بالنساء، وهو ما جسَّدته التجربة الداعشيَّة.

يحتاج المُسلمون أكثر من أيّ وقت مضى إلى تغليب أخلاق التّسامح في منظومتهم الدينيّة .

لقد حاولت الحركات الأصوليَّة العنيفة إظهار الإسلام في خطر، ولكنَّها صيَّرت بسياستها حياة الناس في خطر. وأقامت مشروعيتها على أساس الدّفاع عن رؤية سلفيَّة تتجاهل الواقع وحاجات البشر للحريَّة والاختلاف، وتناست أنَّ الإنسان هو محور الإسلام وكلّ الأديان، فاستبعدته وقضت باغترابه عن واقعه حين توهّمت أنَّه مجرّد عبد لقوانينها وصيَّرته كائناً مسلوب الإرادة. فهي ما تزال تعيش وَهْمَ استرضاء القوانين المقدَّسة ومنطق الحاكمين باسم الإرادة الإلهيَّة؛ ممَّا يجعل مُصَادرة الحريَّات نتيجة حتميَّة لتأويلها ونظمها في عصر صارت فيه حقوق الإنسان من أهمّ الأسس التي يمكن أن تفتح آفاق الخلق والإبداع وتحرّر البشر من كلّ قيد يمكن أن يعطّل ملكاتهم ويحدّ من طاقاتهم. وليس عنف المغلوب سوى مبرّر إضافيّ لهيمنة الغالب وعنفه. فسبيل التسامح هو الذي يمكن أن يعيد للمسلمين ثقتهم بهويَّتهم المؤسَّسة على تراث بلغ مجده بالانفتاح على الآخر ومنح لقب مسلم لكلّ من شارك في رسم معالمه وتطوير علومه وإعلاء شأنه، وإن اختلف تصوُّر "المسلم بمفهومه الواسع" عن القراءة الصراطيَّة التي يفرضها الناطقون بلسان السماء وورثة الفرقة الناجية. فالعنف "مرض من أمراض التخاطب والتواصل البشريين، فهو نتيجة الخطاب المشوّه السائد بين الأصوليين وغيرهم. إنَّه خطاب مشوّه، لأنَّه لا يعترف بالآخر كما هو"[5]، ويحلم بتحويل الناس إلى قوالب بشريَّة فاقدة للإرادة وكائنات قابلة للبرمجة الأخلاقيَّة والطقوسيَّة. وليس على البشر سوى أن يواصلوا سعيهم للقضاء على الأوبئة التي هدَّدت وجودهم وأزهقت كثيراً من أرواحهم اعتماداً على مقاربة علميَّة ورؤية عقلانيَّة لا تتجاهل عناصر العلّة، وهي البيئة والجسد الموبوء ونوعيَّة الوباء. وإنَّ أخطرها في عصرنا داء العنف والأصوليَّة.


[1]- Encyclopidie Universalis, tome23, 1er édition, France, Maury à Malsherbes, 1990, p 672.

[2]ـ علي عبد الرحيم أبو مريم، أصحاب الحقّ دراسة في نقد الجماعات الإسلاميَّة، ط1، قطر/ لبنان، مركز الجزيرة للدراسات/ الدار العربيّة للعلوم، ناشرون، 2014، ص 93.

[3]ـ شيريل بيراند، الإسلام الديمقراطيّ المدنيّ، الشركاء والموارد والاستراتيجيّات، (ترجمة: إبراهيم عوض)، ط 1، مصر، تنوير للنشر والإعلام، 2013، ص 15.

[4]ـ صمويل هنتنجتون، من نحن؟ المناظرة الكبرى حول أمريكا (ترجمة: أحمد مختار الجمال)، ط1، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2009، ص ص 336، 337.

[5]ـ محمّد ميساوي، السياسة بين التواصل والعنف في المجال السياسيّ العربيّ، محاولة للفهم في ضوء نظريَّة الفعل التواصليّ لهبرماس، ضمن كتاب العنف والسياسة في المجتمعات العربيَّة، مقاربات سوسيولوجيَّة وحالات، ج1، ط1، قطر، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2017، ص 64.