سؤال العولمة: هل تغير النظام الدولي؟ قراءة في نظريَّة إيمانويل فالرشتاين "النظام العالمي الجديد"


فئة :  مقالات

سؤال العولمة: هل تغير النظام الدولي؟ قراءة في نظريَّة إيمانويل فالرشتاين "النظام العالمي الجديد"

 سؤال العولمة: هل تغير النظام الدولي؟

قراءة في نظريَّة إيمانويل فالرشتاين "النظام العالمي الجديد"


بشكل مبسَّط ومباشر؛ تهدف النظريَّات -بشكل عام- وفي العلوم الإنسانيَّة بشكل خاص إلى محاولة اجتراح حلول للمشاكل والمعيقات التي تواجه البشر في حياتهم اليوميَّة.

وهنا نتحدَّث عن نظريَّات في مجال التنمية الاقتصاديَّة والعلاقات الدوليَّة والعولمة. حيث يلاحظ أنَّ هذا الاتجاه قد خفَّ بشكل كبير في السنوات الأخيرة وسط ما يمكن وصفه بتفوُّق مناهج "الوضعيَّة" في السياسة والعلاقات الدوليَّة والاقتصاد السياسي الدولي والعولمة، واستمراريَّة سيطرة تطبيقات النظريَّة الواقعيَّة التي تركّز على أربعة مفاهيم رئيسة: (الدولة، والفوضى، والعقلانيَّة، والقوَّة)، حيث يمكن ملاحظة اشتغال عدد كبير من المنظّرين الأمريكان في العلاقات الدوليَّة (ستيفن والت، جون ميرشايمر، روبرت جارفيس، فريد زكريا، ريتشارد نيد ليبو، وغيرهم كثير) على تجديد شباب هذه النظريَّة.

وهناك بعض الاتجاهات الهجينة في روسيا والصين والمحاولات كما في السعي لإعادة "الخلافة الإسلاميَّة" عند التنظيمات التكفيريَّة والتحرير، التي لا يمكن وصفها بمنتج لفرضيَّات ولنظريَّات أصيلة قابلة للتطبيق العملي، خاصَّة في السياسة والعلاقات الدوليَّة ونظريَّات العولمة.

ونحن نضعها هنا لكي لا نستثني أيَّة محاولة للتعاطي مع النظام الدولي المعاصر الذي ما يزال حتى اللحظة قائماً على وجود "نظام الدول".

فمنذ الستينات التي ظهرت فيها نظريَّات مدرسة التبعيَّة في أمريكا اللاتينيَّة، ثمَّ في 1974م حينما ظهرت نظريَّة عالم الاجتماع السياسي والمؤرخ والمُنظّر الأمريكي (إيمانويل فالرشتاين) التي تأثرت بمدرسة التبعيَّة، لا نكاد نجد ـحسب علمي ـ محاولة جادَّة في هذا المجال، وإن كان فالرشتاين قد استمرَّ في البحث والتنظير والنشر بالمقاربات السابقة نفسها حتى آخر كتبه: عام 2015م:

The World is Out of Joint: World-Historical Interpretations of Continuing Polarizations, 2015.

عالم اليوم، في الحقبة الحاليَّة من سيرورة العولمة، ليس بحالٍ أفضل كثيراً عن العالم الذي ظهرت فيه صرخات منظّري مدرسة التبعيَّة وتفريعاتها الحديثة من أوروبا وأمريكا اللاتينيَّة وأفريقيا وأمريكا (فرناندو كاردوسو، راؤول باربيش، جوندار فرانك، سمير أمين، إيمانويل أرغيري، جيوفاني أريغي، ... وغيرهم) عالم زاخر بالمشاكل والأزمات الحادَّة التي ساهمت سيرورة العولمة في زيادة إدراكها؛ ابتداءً من الفقر والبطالة وسوء توزيع الثروة إلى الاحتباس الحراري إلى انتشار العنف والنزاعات المسلحة، والتنظيمات القوميَّة والدينيَّة المتطرفة، والإرهاب، والشّعبويَّة.

لكن من جميع هذه المشاكل تبقى مسألة أزمة النظام الرأسمالي، ونظام الدول، وسؤال التنمية والتخلف الاقتصادي، هي الأبرز. حيث لم يتغير الكثير على الحال الواقعي لدول "العالم الثالث" أو "الدول النامية" أو "الدول المتخلفة".

فباستثناء القفزة التي حققتها دول النمور الآسيويَّة الأربع (كوريا الجنوبيَّة، سنغافورة، تايوان، هونغ كونغ) بين 1960-1990م، والتي يدَّعي البنك الدولي أنَّها حققت هذه القفزة بسبب تبنّيها لسياسات "ليبيراليَّة جديدة"، بقيت دول العالم الثالث أو ما بعد الاستعمار تدور في فلك ونير التخلف والفشل الذريع لبرامج التنمية.

وأُشير هنا إلى أنَّ أهمَّ نقد تعرَّضت له نظريَّة التبعيّة ثمَّ نظريَّة فالرشتاين "النظام العالمي الجديد" ـالتي سنتحدث عنها هناـ هو الادعاء بأنَّها فشلت في تفسير ظاهرة النمو في دول النمور الآسيويَّة، وأنَّ فالرشتاين أغفل الدور الذي يمكن أن تفعله العولمة الثقافيَّة، وركَّز على الجوانب الاقتصاديَّة فقط في تحليله للنظام الدولي.

كانت نظريَّة فالرشتاين مساهمة وإضافة نوعيَّة في المجال العملي والنظري في حقل النظريَّة الاجتماعيَّة والعلاقات الدوليَّة والاقتصاد السياسي الدولي، وتعتبر من أهمّ النظريَّات المفسّرة للسياسة العالميَّة والعولمة التي يرى فيها فالرشتاين وأتباعه من المنظّرين "مجرَّد مظاهر حديثة لاتجاهات تعود إلى قرون سابقة داخل إطار النظام العالمي وبنية الرأسماليَّة العالميَّة"[1].

وأُشير هنا إلى أنَّ أول منظّري التنمية والتخلف من الاقتصاد الماركسي كان الأمريكي بول باران، الذي طرح أنَّ التخلف هو نتاج للرأسماليَّة نفسها، وليس نتاجاً لأنماط الإنتاج ما قبل الرأسماليَّة التي كانت تهيمن في البلدان المتخلفة، وقد أدّى تطوّر الرأسماليَّة من وجهة نظره إلى انشطار العالم إلى شطرين هما: البلدان الرأسماليَّة المتقدّمة والبلدان الرأسماليَّة المتخلّفة، والتفاعل بين هذين الشطرين يتمُّ على ثلاثة مستويات هي: التجارة وحركة الفائض والهيمنة السياسيَّة[2].

لقد تأثرت نظريَّة فالرشتاين بشكلٍ كبير بمدرسة التبعيَّة. وسأحاول هنا استعراض بعض ملامح هذا التأثير.

ملامح تأثير مدرسة التبعيَّة على فالرشتاين

ثمَّة جملةٌ من الملامح التي تبيّن وتستكشف هذا التأثير؛ حيث يرى بعض الباحثين أنَّ نظريَّة فالرشتاين انشقاق عن نظريَّة التبعيَّة، خاصَّة أشكالها المختلفة الأولى؛ بمعنى محاولة تحليل التنمية بطريقة أكثر شمولاً (أمْـركةً) لنظريَّة التبعيَّة ـربما غمز من قناة فالرشتاين لأنَّه أمريكي ـ والتحليل الشامل للتنمية، ليس من منظور تاريخي فقط، بل تحليل منهجي للرأسماليَّة والنظام الاقتصادي العالمي.

ويرى (روبيرتس وهايت 2004م) أنَّ نظريَّة النظام العالمي جاءت واضحة المعالم، لأنَّها انبثقت من نظريات "التبعيَّة البنيويَّة" تحديداً. وهذا يعني أنَّ منظّرين مثل تشيس- دان، جاري جيرفي، بيتر إيفانز، كان لهم الباع الأطول بأعمال مبكرة يمكن تصنيفها على أنَّها مساهمة في نظريَّة النظم العالميَّة.

وقد ساعد باحثون في النظريَّة مثل (كريستوفر تشيس- دان، جاري جيرفي) من خلال استخدامهما لطرق البحث الكمّيَّة والمقارنة بتوسيع حدود نظريَّة النظام العالمي، وبذلك ساعدا على بلورة نظريَّة فالرشتاين وتجنيبها النقد الذي كان يوجَّه لنظريَّة التبعيَّة باتهامها بأنَّها مغرقة في الوصفيَّة.

كذلك اعتمد فالرشتاين التفصيل الجغرافي الذي اعتمده مُنظّرو (مدرسة التبعيَّة) بداية من راؤول باربيش، وحتى أحدثهم تشيس- دان بتقسيم العالم إلى "مركز" و"محيط"، وكانت إضافة فالرشتاين هي مصطلح (شبه المحيط) الذي يحمل ملامح من البلاد الفقيرة والبلاد الغنيَّة معاً، ويعمل كوسيط في عمليَّات استغلال المركز للمحيط، وذلك بهدف إعطاء حريَّة الحركة للدول في تراتبيَّة النظام العالمي الواحد.

وأثّرَ مُنظّرو التبعيَّة بشكل عام على فالرشتاين فيما يخصّ الطريقة والعمليَّات التي تستخلص بها الثروة في النظام العالمي؛ من (أرغيري) السلسلة السلعيَّة، (جيرفي) السيطرة على التسويق، والقمع الفعَّال أو الخفي (كاردوسو)[3].

العولمة واستمرار بقاء نظام الدول

أعتقد أنَّ أهمَّ ملامح تأثير مدرسة التبعيَّة على فالرشتاين الاتفاق على استمراريَّة أهميَّة "الدولة" وبقائها ضمن بِنية النظام العالمي، واستمرار الاعتماد على الدولة القوميَّة "كوحدة لحلّ الأزمات"، وأنَّ سلوك الدول ما يزال يتشكّل، كما في الماضي، بسعيها نحو القوَّة والثروة ـ الشهوة للقوَّة، فمثلاً: يرى كرستوفر تشيس-دان "أنَّه من دون الدول الإقليميَّة لا مجال للحديث عن نظام رأسمالي"[4]. وهنا تبدو عمليَّة التماهي بين تركيز (فالرشتاين) ومنظّري التبعيَّة مثل سمير أمين على الدولة القوميَّة كأداة لحلّ أزمات النظام العالمي الرأسمالي.

ويُعبّر (تايلور وفلنت 2002م) عن هذه النقطة الإشكاليَّة على النحو التالي: إنَّ الدولة الحديثة ليست شيئاً أزليَّاً، وسوف تؤول إلى الزوال يوماً ما عندما يبلغ النظام العالمي الحديث نقطة انحلاله. غير أنَّه تبقى حقيقة مهمَّة، وهي أنَّ المنظومة الدوليَّة القائمة تُعدُّ جزءاً متمّماً من أداء الاقتصاد العالمي، ومن دون دول العالم المتعدّدة لن يكون أمام الشركات العملاقة ومشروعاتها الضخمة نوافذ تدخل منها، فهذه النوافذ في قبضة الدول التي تسمح أو لا تسمح لهذه الشركات أن تدخل منها، وهنا تكمن العلاقة الملغّزة بين الدول الإقليميَّة ورأس المال، وعلى حدّ تعبير كارل دوتيش: "تبقى الدول شيئاً لا غنى عنه وغير كفء في الوقت ذاته"[5].

ولعلَّ من أهمّ المؤشرات على تأثير منظّري المدرسة أنَّ فالرشتاين نفسه قد شارك كلّاً من سمير أمين، وأندريه جوندر فرانك، وجيوفاني أريغي، في ثلاثة كتب مشتركة حتى عام 1990م، وفي دراستهم المعنونة (الأزمة، أي أزمة؟ باريس 1982) والتي تبحث في أزمة النظام الرأسمالي خلال الفترة 1945-1980[6].

إنَّ ما يسجل لمنظّري مدرسة التبعيَّة هو امتلاكهم للرؤية الثاقبة والجراءة في التفكير المنفتح والرغبة الكبيرة في بناء مُسلّمة جديدة، وقد ظهر ذلك لدى (كاردوسو) و(سمير أمين) و(جوندر فرانك) تحديداً، وقد أثرت بذلك كثيراً على فالرشتاين، خاصَّة في سعيه المتواصل نحو بناء وتعزيز هذه المسلّمة، كتفسير جديد وبديل لنظريَّة التنمية والتحديث الرأسماليَّة التي كانت في أوجها لتحليل وشرح أسباب التخلّف في بلدان العالم الثالث. حيث كان فالرشتاين، حسب ما تنقله لنا (ثيدا سكوكبول)، يريد بناء "مُسـلّمة نظريَّة جديدة لفهم وتحليل تطوّر: الرأسماليَّة، والتصنيع، والقوميَّة"[7].

وبناء عليه يمكن القول إنَّ إنتاج (فالرشتاين) هو بالفعل جهد "تكميلي" لسعي وجهد منظّري التبعيَّة بهذا المجال، خاصَّة في ظلّ إدراك الطرفين أنَّ التحليل "الماركسي" لم يعد كافياً لشرح وتحليل تطوّرات الرأسماليَّة، وبالذات في القضايا التي أثارها سمير أمين حول صلاحيَّة قانون القيمة على المستوى العالمي، وبقاء نظام ما بين الدول.

لقد كان تأثير مدرسة التبعيَّة (القسريَّة تحديداً: جوندر فرانك، بول باران، سمير أمين) واضحاً على فالرشتاين فيما يخصُّ مسألة غاية في الأهميَّة؛ وهي التي تتعلق بصلب المنهج الماركسي الذي يعتبر من الأسس "لمدرسة التبعيَّة" وفالرشتاين، وهو ما يتعلق بموضوعي اضمحلال الدولة "كإطار سيادي مؤسسي، وذلك بحلول المجتمع الشيوعي عن طريق انتقال سريع إلى الاشتراكيَّة، وبالتالي انتهاء الصراع الطبقي، وإرسال الدولة إلى متحف التاريخ، حسب (إنجلز).

وإلغاء "قانون فائض القيمة" باعتباره وسيلة للتراكم الرأسمالي، والاستلاب السلعي، واعتباره وسيلة بيد الرأسماليين كأداة للاستغلال المنهجي والقمع، ومراكمة رأس المال[8].

لكن فالرشتاين ومدرسة التبعيَّة، خاصَّة سمير أمين، يفترقون ويختلفون عن الماركسيَّة بالتركيز على ضرورة وجود "نظام الدول"، و"ما بين الدول" الذي يعتبر وجوده من الأمور الحيويَّة لاستمراريَّة عمل وحيويَّة الاقتصاد العالمي الرأسمالي[9].

إنَّ المعضلة التي بقيت بلا حلٍّ مقنع لدى منظّري التبعيَّة، ثمَّ لدى فالرشتاين، وحتى لمنظّري العلاقات الدوليَّة خارج المنظومة المعرفيَّة للماركسيَّة الحديثة هي:

ما البديل لشكل النظام الدولي الحالي (الرأسمالي) القائم على الدول؛ خاصَّة بعد أن بدأت سيرورة العولمة بتفكيكه بتوسُّعٍ وعمق، رغم كلّ المعيقات التي تعترضها؟ وما هو شكل هذا النظام؟ وهل أخفق فالرشتاين في بناء "مُسـلّمة نظريَّة جديدة لفهم وتحليل تطوُّر: الرأسماليَّة، والتصنيع، والقوميَّة؟

المراجـع

1- أمين، سمير، إشكاليَّة الاشتراكيَّة وما بعد الرأسماليَّة، القسم الأوَّل: ماهيَّة الاشتراكيَّة وطبيعة أزمتها الراهنة والقسم الثاني: طبيعة نظم الاشتراكيَّة المحققة وما بعد الرأسماليَّة، في مجلة المستقبل العربي، العدد 96، شباط عام 1987م.

2- وين جونز، ريتشارد وهوبدن، جونز (2004) نظريَّة النظام العالمي، الفصل السابع في سميث، ستيف وبيليس، جون، عولمة السياسة العالميَّة، ترجمة ونشر: مركز الخليج للأبحاث ط1 2004، ص 265.

3- عبد الله، سليم، (1994) نظريَّة الإمبرياليَّة: (2) نقد مسألة التبعيَّة، مجلة الاشتراكيَّة الثوريَّة http://revsoc.me/theory/nzry-lmbryly-2-nqd-msl-ltby/

4- روبيرتس وهايت، من الحداثة إلى العولمة: رؤى ووجهات نظر في قضيَّة التطوُّر والتغيّر الاجتماعي ترجمة: سمر الشيشكلي، ومراجعة: محمود ماجد عمر، سلسلة عالم المعرفة، الجزء الأول، الكويت، تشرين (نوفمبر 2004م).

5ـ تيلور، بيتر وفلنت، كولن، الجغرافيا السياسيَّة لعالمنا المعاصر: الاقتصاد العالمي، الدولة القوميَّة، المحليَّات، ترجمة: عبد السلام رضوان وإسحق عبيد، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد (282)، مطابع السياسة، الكويت، يونيو 2002 م.

Sanchez, Omar, The Rise and fall of the Dependency Movement: does it inform underdevelopment today? University of Oxford, on: http://www.tau.ac.il/eial/xiv2/ Sanchez. Html 11 /21/2006.

Vela-Martinez, Carlos, World systems Theory, Esd.B3-Fall 2001, on http://web.mit.edu/esd.83/www/notbook/world system.pdf.11/4/2006.


[1]- وين جونز، ريتشارد وهوبد، جونز (2004) نظريَّة النظام العالمي، الفصل السابع في سميث، ستيف وبيليس، جون، عولمة السياسة العالميّة، ترجمة ونشر: مركز الخليج للأبحاث ط1 2004، ص 265.

[2]- عبد الله، سليم، (1994) نظريَّة الإمبرياليَّة: (2) نقد مسألة التبعيَّة، مجلة الاشتراكيَّة الثوريَّة:

http://revsoc.me/theory/nzry-lmbryly-2-nqd-msl-ltby/

[3]- روبيرتس وهايت 2004م، ص 30 ـ 32.

[4]- أمين، سمير 2003م، ص 86.

[5]- تيلور وفلنت2002م، ص 324.

[6]- أمين، سمير 2003 م، ص 86.

[7]- Sanchez, 2006, P.5 & vela, 2001, P2.

[8]ـ أمين1987م، ص 43.

[9]ـ هوبدن وجونز2004م، ص ص 289-290.