مرجفة الصيرورة حوار مع باتريس منيجلييه
فئة : ترجمات
مرجفة الصيرورة
حوار مع باتريس منيجلييه
أجرى الحوار: سفين أورتوليه
ينبغي التفكير، بالنسبة إلى دولوز Deleuze))، في ما هو في طور الحدوث: الفن، السياسة، العلوم ...كل شيء على ما يرام. شريطة، يشير الفيلسوف باتريس مانيجلييه Patrice Maniglier))، الارتقاء إلى مستوى الحدث.
ترجمة: الحسن علاج
*- إذا ما أجبرتم على إيجاز خصوصية دولوز في كلمة، ماذا كنتم ستقولون؟
باتريس منيجلييه: لقد قال دولوز ذلك بنفسه: لقد كان فيلسوف زمانه، وكيف ما كان الحال ذلك الذي تفلسف بشكل غاية في البراءة ـ من دون أن يتأثر بمسألة موت الفلسفة. إنه فيلسوف خالص، أعني ميتافيزيقي! يبدو أنه كان يتصدّى لكبريات المسائل المعروفة (الرأسمالية، التحليل النفسي، إلخ)، لكنه أقام لنفسه نسقا فلسفيًّا. ثمة جانب باطني لديه. فهو خلافا لفوكو، ليس ذلك الشخص الذي يرغب في الحديث إلينا عن أمور جديرة بالاهتمام حول المسائل التي تشغل بالنا (الجنسانية، السجن، اللغة، إلخ). إنه يستهدف بناء هذا الشيء الطريف الخفي الذي يُطلق عليه "فلسفة". تشبه الفلسفة حصنا داخليًّا، مكونا من فكر صاف، يقضي المرء وقته فيه، وهو يصنع بداخل رأسه أشبه بصبي في بيته أو في كوخه، ومتأملا من أجل ذاته. لا تستعمل كتبه لتغيير آراء الناس حول هذا الموضوع أو ذاك، بل لإخبارهم عمّاذا يحدث في ذلك الحصن؛ لأن في هذا فائدة لهم، كما يعتقد، لفائدة قضاياهم الصغرى، بدلا من متابعة هذه المغامرة الطريفة. وهو السبب الذي يجعل منها على الدوام غير مبينة. ينبغي قراءتها مثلما نشاهد لوحات تشكيلية. إنها موضوعات نصية أكثر منها أدوات للتواصل: مثل خرائط صغيرة لمنح فكرة عن الحصن. إنه يكرر ذلك: تعتبر الفلسفة بالنسبة إليه مسألة ابتكار، وليست مسألة مناقشة؛ فهي لا تكمن في نقل الأفكار أو الدلالات، بل في فهم موضوع ما، هذا المجلد الطريف الذي هو "فلسفة". هذه هي الميتافيزيقا: محبة الأنساق الفلسفية لذاتها. لقد جسد دولوز من أجل عصرنا الفلسفة في شكلها الأكثر صفاء؛ وذلك بشكل حرفي، بمعنى بمعية جسده، كما يُلاحظ في الفيلم الوثائقي L’Abécédaire)). فما كان القروسطويون يقولون عن أرسطو، ينبغي قوله في الوقت الراهن عن دولوز: ال فيلسوف.
*- يقول فوكو: "قد يصبح العصر دولوزيا في يوم من الأيام" ماذا تعتقدون؟
باتريس منيجلييه: كان يريد القول: بالنسبة إلى الحظة الراهنة (كان ذلك في نهاية الستينيات 1960)، فإن فكر دولوز يحلق في سماء الميتافيزيقا، لكنه في يوم من الأيام، سيحط على أرض الممارسات العلمية، الغرامية، السياسية، إلخ. سوف ينتهي به الأمر إلى إحداث تغيير في الممارسات. أعتقد أن ذلك كان ذو طبيعة تنبؤية: ثمة بالفعل، منذ الآن فصاعدًا، إناسة دولوزية (إدواردو فيفيروس دو كاسترو Eduardo Viveiros de Castro)))، تحليل نفسي دولوزي (سيلفيا ليبي Silvia Lippi))، فن معاصر دولوزي (حتى إنه لا يتم عد الأسماء بعد الآن)، ثمة نظرية للعلوم الدولوزية (برونو لاتور Bruno Latour)) إزابيل ستينجرس Isabelle Stengers)) أو دونا أرواي Donna Haraway)))، أو بيولوجيا دولوزية (العلماء الذين اقتفوا أثر لين مارغغوليس Lynn Margulis)) ويتحدثون عن التطور المتناسق)، نسويات دولوزية، فقهاء قانون دولوزيون...عديدة هي القطاعات التي طالها التغيير بفضل تأثير دولوز. لكن بالرغم من ذلك: فبخصوص القضايا الصعبة للحداثة، على سبيل المثال الاقتصاد والذكاء الاصطناعي، فإن دولوز لم ينجح في تجاوز ذلك. ثمة بعض المحاولات: أفكر في خوان لويس غاستالدي (Juan Luis Gastaldi) أستاذ كلية الفنون التطبيقية في زوريخ، الذي حاول وضع دولوز مباشرة في الخوارزميات، إلا أن ذلك يظل نادرًا وصعباً. ثمة مجهود آخر أيها الرفاق، قد يصبح العصر في حقيقة الأمر، عصرًا دولوزيا في يوم من الأيام.
*- من أيّ بوتقة ثقافية جاء؟
ب. م: لقد انبثق من حدث مزدوج: فمن جهة، الثورة العلمية، لاسيما في القرن التاسع عشر، التي أفقدت الفلسفة دورها التأسيسي لصالح العلوم والتكنوقراطية؛ ومن جهة أخرى، في بداية القرن العشرين، "أزمة الأسس" التي عرفتها العلوم ذاتها، مع ميكانيكا الكم، الهندسات غير الأقليدية، إلخ. أتاحت فلسفات الوعي ـ الوجودية بشكل خاص ـ الترويح عن النفس وذلك بتغيير تراجيديا الحاجة إلى منح معنى إلى هذا العالم غير المكترث في شكل مبدأ كوني يكون بإمكان البشر التواصل من خلاله، وسوف يكون أيضا مجالا مخصصا للفلسفة. ثم تأتي البنيوية، مع رفضها للوجودية وفكرتها عن "موت الإنسان". لن يكون هناك أساس، ولا حتى ذات، الوعي أو الكينونة؛ لأن البنيات، الأنساق، تكون متقدمة "بالفعل دائما" على المعنى والإرادة. يصبح معنى الفلسفة غامضاً. يعيده دولوز إليها من جديد مؤكدًا أن الفلسفة هي نشاط إبداعي، من بين أنشطة أخرى. فهي ليست هنا من أجل بناء نظرياتنا أو ممارساتنا. إنها هنا بهدف مواكبة ابتكار إمكانيات جديدة للوجود؛ وذلك بفضل حقيقة أنها هي ذاتها مبدعة. وفي حقيقة الأمر، فإن دولوز بنيوي، لكنه يبرز أن البنيوية هي فكر صيرورة، فكر حدث. تساعد الأنساق على تشخيص الأحداث. منذ الآن سيكون الأمر الحقيقي: كن في مستوى ما يحدث. لا تحاول تحسين ضمان حياتك الفكرية والعملية على أسس مؤكدة تماما، بل حاول أن تكون أقرب إلى أحداث تخصك. وسوف ترى أنه ثمة معيارية جديدة هناك، ثمة توجه ما: التركيز على الصيرورة وليس على الكينونة.
*- ماذا يقصد بالـ"صيرورة"؟
ب. م: الشيء نفس بالنسبة إلى برغسون: تعدّ الصيرورات واقعية في ذاتها، بمعزل عن الأشياء التي تصير؛ فهي ليست مجرد انتقالات الفساد، التلف، تغيير ما هو موجود؛ إنها توجد في ذاتها. لا وجود لسيارات بها حوادث، بل حوادث تتحقق في سيارات ـ ثم إن السيارات لا تفيد في الأساس إلا هذا الأمر، إذا جاز لي قول ذلك، لقياس الأحداث: تتم مقارنة الأمر قبل وبعد، فيتم الحصول على فكرة عن الحدث...على أنه لا يتم إدراك الحدث في ذاته، قيد الحدوث.
فإذا كنتم لا ترغبون في تقديم تعريف لحدث من خلال الاختلاف بين حالة سابقة وحالة لاحقة، فماذا أنت فاعله؟ جواب دولوز: تغير البنية، هو ذا معيار الحدث. تعدّ أدوات البنيوية جيدة للغاية لفهم ماهية الأحداث: تغييرات في أسلوب تنظيم الأشياء وفي علاقاتها مع الأشياء الأخرى. لقد قام دولوز في آخر المطاف بفعل ما كان برغسون يرغب في فعله ـ استخلاص الجزء الوقائعي البحت، جزء الصيرورة الخالص، الذي يوجد في التجربة ـ، لكن باستعمال أدوات البنيوية. هاكم معادلتي الصغيرة: برغسون + بنيوية = دولوز. إذا كنتم تودّون فهم دولوز، سيتعين عليكم قراءة سوسير، ليفي ستراوس، لاكان، فوكو والمجموعة البنيوية برمتها وما بعد البنيوية.
*- ما هو المعنى الذي يمنحه لمفهوم الحدث؟
ب. م: لفهم مفهوم الحدث فهماً جيّدًا، يتوجب معارضته بمفهوم آخر: هو مفهوم الحادث. فالحادث هو وضع خاص، جدير بالملاحظة. الحدث لا يكون جديرا بالملاحظة: ثمة في الحدث، اختلاف محض بصدد الحدوث. إنه التغيير الذي يفهم في حد ذاته. إن حادثاً ما، هو كون أن القط على بساط الباب. الحدث هو ما يعنيه هذا الحادث بالنسبة إلى النظام العام للنسق، حيث يحدث هذا الحادث: فإذا كان يشير إلى تغيير في البنية، فهناك حدث. وإلا فلا وجود لأي شيء.
*- مثال على ذلك؟
ب. م: لا يكفي، على سبيل المثال، أن أغير العشيقة أو الرفيق بهدف تغيير الحياة الغرامية. فربما غيرت الراكب، لكن نسق المقاعد يظل هو هو. ثمة اتصال. ليس هناك حدث. فالحدث تحديدًا، هو عندما يطرأ تغيير على البنية. إن الدور الذي يحتله الشريك العاشق في الحياة النفسية لن يكون في هذه المرة هو نفسه. ثمة انقطاع. فما يحدث لنا ليس حادثاً فقط. إنه يشبه إلى حد ما الصدمة. من المعروف أننا لا نستطيع التوصل إلى تذكر صدمة ما: فهي غير قابلة للتمثيل، لا يمكن وصفها، إلخ. حسنا بكل بساطة لأنه ليس حادثا، بل حدثا، أعني بنية جديدة، اشتغال للتكرار، ثم إن الصور التي تكون في حوزتنا هي من باب أولى رموز للحدث.
إن سؤال الحياة الأكبر هو: كيف يتم الجواب عن الحدث؟ استعاد دولوز هذه الجملة للشاعر الفرنسي جو بوسكيه Joe Bousquet)): "الجرح سابق علي في الوجود، لقد ولدت لكي أجسده." جرحي يتجاوزني، يفوقني كبرا، أكبر من وجودي الراهن. ثمة هنا شيء ما مثل أخلاق مشيدة ليس على مثل عليا أو قيم مجردة يسعى المرء فيما بعد إلى تسليط الضوء عليها في حياته، بل على كون أن شيئًا ما قد حدث حيث تتفوق طبيعته على الوسيلة التي تم بها، ثم إنه يتوجب على هذه الوسيلة، بصيغة ما، فسح المجال له.
*- قمتم باستحضار الصدمة، ماذا قدم دولوز للتحليل النفسي؟
ب. م: لفهم ذلك، ينبغي عدم التمسك كثيرًا بطريقة متطرفة بفكرة الـ"تحليل الفصامي" schizoanalyse)) الذي ينسب إلى دولوز وغوتاري Guattari)) ولا التشبث بنموذج العلاج الجماعي المفترض فيه أنه مورس بالمصحة الشهيرة (Clinique de La Borde). سيكون هذا اختزاليا؛ لأنه حتى في التحليل النفسي العادي الذي تتم ممارسته على الأريكة، قدم كل من دولوز وغوتاري الشيء الكثير. إن مهمة محلل نفسي، قبل كل شيء، هو أن يكون شديد الحساسية تجاه أصغر الصدوع في كلام شخصية ما، تلك التشوهات التي توحي بأن هناك شيء ما يشتغل بداخلنا من دون أن يكون واعيا. وبحكم تعريفه، فإن اللاشعور هو المجهول. لابد إذن من تحاشي الوثوقيات لو رغبنا في حسن الإنصات، ثم إن فلسفة الصيرورة لدى دولوز تعدّ مفيدة للغاية لأجل هذا بشكل خاص. إن محللاً نفسانيًّا لاكانيا يرتكز كثيرًا على الثنائية الجنسية على سبيل المثال، مع أب وأم محبوسين في سرداب. إن محللا أو محللة نفسانية دولوزية، مثل سيلفيا ليبي، والتي قمت بتأليف مشترك سنة 2023، لكتاب أخوات، من أجل تحليل نفسي نسوي، تنصت بشكل مغاير. سوف تشرع مذاك في الإنصات إلى شيء آخر. فبدلا من أن يتم، مثلا، إدراك البدائل الجنسية مثل تحولات الأوديب (L’oedipe)، الخرافات بالنسبة إلى مسار مذكر أو مؤنث يفترض في كونه سويًّا، فإنه بالإمكان فهمها بوصفها إنشاءات أصيلة للرغبة، أساليب لتشكيل جسد لا يمر عبر الأوديب.
علاوة على ذلك، والشيء الأهم يظل هو سؤال الأوديب. هل ثمة اعتقاد بأن تلك الأسطورة تبنين بطريقة تتخطى كافة التماهيات، كافة استثمارات الرغبة؟ أم هل تتم العودة إلى أطروحة فرويدية أكثر قدما، هي أطروحة الغريزة، العرض، تحولات الجسد المتعددة؟ طور فرويد في نظريته للجنسانية، فكرة أن الجسد ليس موحدًا، لكنه مكون من غرائز جزئية: شرجية، فمية، منظارية، إلخ. وهو ما يطلق عليه دولوز وغوتاري "آلات راغبة". يتكون الجسد الليبيدي، الغريزي من إثارات موضعية، وهي ليست موحدة. وكل مأساة الكائن البشري، أخيرا، هي توحيد لهذا ـ الهو ـ ضمن الأشخاص بصفة عامة، مثل الـ"أنا". فلو تم حبس كل هذا في الأوديب، سوف يتم التصرف كما لو أن كل شيء يمر بين الناس قاطبة. على أنه يتم فقدان جزء كبير من القصة. فيصبح المرء أصمّ. لقد أظهر كل من دولوز وغوتاري براعة كبيرة في فتح أذهان المحللين النفسيين.
*- مع فكرتيْ الجذمور والتعايش، هل يعدّ دولوز رائدًا في الإيكولوجيا؟
ب. م: بكل تأكيد! فليس من قبيل الصدفة أن شريكه في التأليف، فليكس غوتاري، سوف يكتب في عام 1989 كتاب ثلاث إيكولوجيات، كتاب يصر أيضا على الإيكولوجيا الذهنية، التي نحن في أمس الحاجة إليها في الوقت الراهن. وبالإمكان التفكير في دونا هاراوي، إيزابيل ستنجرس أو بابتيست موريزو Baptiste Morizot)): ثمة مرجعية دولوزية لدى كافة هؤلاء الأشخاص. وأعتقد أن السبب الوجيه هو كون أن دولوز تحديدًا، يسمح بالتفكير في البيئة ليس انطلاقا من مفهوم النظام البيئي écosystème))، تلك الكلية الكبرى الشاملة التي ستشكل منها أجزاء وظيفية، بل من خلال مفهوم التطور المشترك (co-évolution). أفكر علاوة على ذلك في نموذجه للزنبور وزهرة الأوركيد، الذي يعود إلى برغسون، والذي يثير اهتمامه؛ لأنه يسمح مرة أخرى بالتفكير في الصيرورة مع فصلها عن الأشكال التي يمكن ملاحظتها. يتطور الدبور وزهرة الأوركيد بشكل مشترك معا، إلا أن تضفيرهما لا ينتج شكلا واحدًا فقط. ومن باب أولى، فهو يشكل قالبا لشكلين متعارضين: أصل الدبابير وزهور الأوركيد. يتم الانضمام إلى شيء مثل هذا النوع مع نظرية التعايش لصاحبتها لين مارغوليس، وهي تتمتع بأهمية بالغة أيضا للتفكير في الأرض، غايا Gaia)). أولى دولوز اهتماما كبيرا بتلك الصورة لأسباب ميتافيزيقية؛ لأن ذلك يعمل على تحريك شيء ما في إدراكنا للواحد والمتعدد. إلا أنه يزود الانتقال بأنطولوجيا قوية من أجل فكرة إيكولوجية معينة، تلك التي لا تؤمن بالانسجام الكبير للطبيعة الشاملة، بل تؤمن باللقاءات غير المتوقعة التي تغير هوية المصطلحات التي يتم جعلها في علاقة. لقد حاولت في كتابي الصادر سنة 2021 حول الأرض والفيروس، بإبراز أن الأرض مكونة من تلك "الأوضاع المعقدة"، مثلما يسميها.
*- وفي المجال السياسي؟ ما هو التأثير؟
ب. م: لا شك أن دولوز قدم أفضل الأدوات من أجل سياسة للأقليات. على أنه مرة أخرى، كما هو الحال بالنسبة إلى الحدث، لابد من إلحاق أقليات في حد ذاتها، أقليات لا ترغب في أن تتحول إلى أغلبية، حتى إنها لا تسعى وراء الاعتراف أو الانضواء في فضاء مشترك. يتم التركيز على اختلاف ما، أعني ليس كيانا موجودًا من قبل ومتميزا عن شيء آخر، بل على العكس من ذلك تحول ممكن، انتقال، تحريف لـ"شيء آخر"، ثم يتم الإصرار على تلك السيرورة، يتم اقتلاع هذا الشيء الآخر من هويته، من كل هوية، من دون الانشغال بالعواقب. إن الاختلاف كتفاوت متوافق الجنس الذي ينفلت وينصهر من جميع الجوانب، مثل شخصية من شخصيات مونش Munch)). فأن تكون مثليا، أقليا بصفة عامة، ليس أن تكون شيئا آخر، بل أن تكون مغايرًا ذلك هو كلام جوديت بتلر Judith Butler)). وتعدّ سياسة الأقلية بالنسبة إليه سياسة صيرورات. ولنفس السبب، فهي سياسة لا هي مركزة على الدولة ولا على مسألة أفضل نظام قانوني معياري من أجل إقامة الـ"خير"، بل تسعى إلى منح كامل أهميتها إلى ما هو بصدد الحدوث هنا والآن، حتى وإن لم يكن ذلك من أجل إقامة عالم مثالي. فما يهم، مرة أخرى، هو معرفة ما إذا كان المرء في مستوى ما يحدث لنا. ومن المحتمل أن دولوز قدم الفلسفة الأكثر قربا من ماي ـ 68، فلسفة ثورة لم تحدث في شكل استيلاء على السلطة وداخل سردية تاريخية كبرى، بل تشترط بالرغم من ذلك تحولات نسقية، وتحديدًا من أجل الأخذ في حسبانها الحدث. لقد أبرز أنه ثمة مكان لشيء آخر غير التناوب بين خطاب الـ"خطوات الصغرى" وخطاب الـ"مساء العظيم".
*- تحدثتم عن مايو ـ 68. هل ثمة شيء ما أصبح من الماضي إلى حد ما في فكر دولوز؟
ب. م: أحيانا، أعتقد، فعلا، أن سياسة الصيرورات الخالصة قد أهملت، بسرعة إلى حد ما، التاريخ، وأنه تتم حاليا الرغبة أكثر في الاستيلاء على الدولة، إسقاط أكبر على المدى الطويل، وربما رؤية شاملة لصيرورة بأتمها للأرض وبفكرة معينة حول البشرية. على أنه يتم قياس قوة فكر دولوز في كون أنه يسمح حتى بالتفكير في ما قلته؛ لأنه إذا ما كان ثمة فكرة معينة عن الكلية ذات أهمية في الوقت الراهن، فلن تكون ذات معنى إلا إذا كانت فكرة جديدة للكلية، ما لم تكن تشكل عودة. افترضوا ماذا يحدث لنا تحت اسم الاحتباس الحراري. يصدر التقليل المعمم للفكر وتخيل مجتمعاتنا تحديدًا عن رفض الأخذ بعين الاعتبار هذا الحدث، عن التعنت في التصرف كما لو أن لا شيء قد حدث. المشكلة ليست فقط في أننا لم نتكيف مع الواقع، بل في كون أننا لم نتأثر بما يسترعي انتباهنا، حيث إننا لا نصنع شيئا ذاتيا، لا نحيا بعد الآن، ندفن أنفسنا في قشرة معينة من الصمت، الإنكار، السخط أو العجرفة. خلافا لذلك، يتوجب ابتكار مؤسسات ترحب بهذا الحدث الذي تسمونه كما يحلو لكم، "اقتحام غايا"، "حقبة التأثير البشري" أو شيئا آخر. الأرض هي حدث والمهمة الأكثر تميزًا للحاضر هي الارتقاء إلى مستوى هذا الحدث.
*- قلتم إنه كان رؤيويا؟
ب. م: بالتأكيد، لأنه كان فيلسوفا كما أعتقد. شيء طريف؛ لأننا نتصور، علاوة على ذلك، أن الفلسفة وجدت لابتكار حقائق أبدية، في حين أنها نظارة تسمح برؤية البدايات. ومع ذلك، فإن ذلك يُفهم بسهولة، عندما يتم التفكير فيه؛ لأنه إذا كان شيئًا ما يستوجب من المرء تغيير مقولاته الأكثر أصالة للفكر، فإذا كان هذا يغير المعنى الذي يتم منحه لمفاهيم الواحد والمتعدد، المثيل والمختلف، الشيء والحدث...إلخ، وهو ما يفيد أنه حدث بالغ الأهمية! تقدم التصورات قياس الأحداث. يهتم دولوز بشكل محدد بالانتقالات المفاهيمية في كل ما يقع تحت ناظريه ـ فن، سياسة، علوم ... لقد أصبح راصدًا مدهشاً للزلازل. إنه يتعقب بعض الإشارات الضعيفة التي تحدث في تلك المجالات في عصره، لكن مع العمل على تضخيمها عبر مفاهيم، فقد توصل إلى رؤية ما قد يصير إليه الواقع. أعتقد أن هذا هو سر ملاءمة دولوز في الوقت الراهن.
*- أصبحت الهوية موضوعة مركزية في الوقت الراهن. وبالرغم من ذلك، فإن دولوز انتقدها، مدافعاً عن الانسحاب من الهوية. أليس ثمة توتر هنا؟
ب. م: لا شكّ أن لدى دولوز ارتيابًا حيال فكرة الهوية. بيد أنه، من وجهة نظر سياسية، لا يرى تعارضًا بين المطالبة بالهويات وبين القدرة على ابتكار أمور غير مسبوقة، فريدة، ومتفرّدة. ما يزعجه في مسألة الهويات هو الاعتراف: كونها معروفة سلفًا بشكل افتراضي، ثم يُعترف بها، كما لو أن ما حدث كان مطابقًا لما كان يمكن توقعه مسبقًا. لكن ثمة استعمال للهويات ضد أنساق الاعتراف، استعمال استراتيجي في مناهضة العنصرية، النضالات النسوية، نضالات أقليات النوع، أقليات جنسية، إلخ. فحتى حينما يُقال ظاهريا "أعرف من أكون"، يأتي هذا التصريح للتشويش على كل ما يعتقد الناس معرفته حول معنى أن تكون، وهذا مهم للغاية. تصوروا مثلا بعض التصريحات حول النوع، التي لا تتطابق مع النوع المحدد عند الولادة. ثمة الكثير من تصريحات كائن ما، يقين ما، لا يُعاش مثل رغبة في انتقال لكن على الأصح مثل تقويم لخطأ ("أنا امرأة"). ومع ذلك، فإن هذا الكائن يغير نسق رصد النوع والجنس برمته. ومن وجهة النظر هذه، إنها صيرورة محض! وبشكل أعم، فإني أعتقد أن أفضل نظرية للانسحاب من الهوية هي نظرية تفسر وظيفة الإثباتات الهوياتية في الانسحاب من الهوية ذاتها، ليست نظرية تختزل في القول: "كل الهويات أوهام". خذوا مالكوم س، الذي كان يتبناه كل من دولوز وغوتاري. فقد كان يرى وضعه وضعا انفصاليا للغاية. فهو لا يقول: "ينبغي الانصهار مع الآخرين في الشواش والصيرورة"، بل يقول: "يتوجب الانفصال". ومع ذلك، فإن هذا الادعاء يضعنا في علاقة مع هذا الشواش، حيث تشتغل الصيرورة المحض، وحيث النزعة العنصرية تستعصي على التعريف، تشرع في التسرب مثل وجه شمع ينصهر. هذا هو الجميل مع فلسفة للصيرورة: ينبغي عليها أن تعيد الكرة باستمرار؛ لأنه لا يمكن تحديد الشكل العام للصيرورة. الصيرورة تصير أيضا!
ـــ
باتريس منيجلييه (Patrice Maniglier) أستاذ بجامعة نانتير Nanterre))، متخصص في الفلسفة الفرنسية المعاصرة، العلوم الاجتماعية، الاستثيقا ونظرية السينما، من بين أعماله: الحياة الملغزة للعلامات (Léo Scheer,2006) والفيلسوف، الأرض والفيروس (Les Liens qui libérent,2021). يشارك في تسيير سلسلة "Métaphysiques S" بدور نشر PUF وعضو في لجنة تحرير مجلة الأزمنة الحديثة.
مصدر النص: Philosophie magazine hors – Série N 63