نيتشه في ما هو الأصل؟ جينيالوجيا التاريخ وتأويل العالم

فئة :  مقالات

نيتشه في ما هو الأصل؟ جينيالوجيا التاريخ وتأويل العالم

نيتشه في ما هو الأصل؟

جينيالوجيا التاريخ وتأويل العالم

إذا كان التاريخ يمثل سلسلة من الأحداث والوقائع الماضية، ثاوية كإلهٍ غامضٍ عن بصر الحاضر متوارية في ذاكرة الأسلاف، وسِجلٍّ يطرح ذاته في الراهن كمنظومة من الصراعات والحقائق التاريخية، فكرية أو مادية، وإذا كان كذلك يدّعي نفسه مرآة الماضي، مميطاً اللثام عن جملة من الحقائق المقصودة، هنا إذن يقف نيتشه الجنيالوجي بروحٍ بروميثيوسية، طالعاً بقوة أولمبية من جبال الأولمب، متسلحاً برصيد من القذائف النقدية الموجهة ضد قاعدة التاريخ "المزيفة"[1] والحفاوة التي تحظى بها "الحقيقة"[2]. إن البصر الثاقب لن يكون حينها سوى نقيض للبصر الفاقد لحيوته المأمولة، على أن هذا الأخير يشوبه مرض يعزو لحرفة التمثيل المتقن الذي عرفه مسرح التاريخ، من حركات المهرجين المهيجة للحواس.

إن "مسرح"[3] التاريخ من زاوية الجينيالوجي بنظرته المرعبة الراشقة والمتفحصة للغور و"السابرة له[4]"، لا يمكنها سوى زحزحة معنى الرموز وخشونة الدلائل، والرموز بما هي متاهة للمعنى تُحيي ذاتها ضمن قالب الدال، كان الجينيالوجي بما هو بروميثيوسي مغامر عاشق للمتاهات، حينها عازماً على تحديد الرموز وتصنيفها والنزوع برغبة جيّاشة لا سبيل "للبطالة[5]" أن تصدّه إلى كشف شفرتها والإعلان عن مدلولها، المدلول من حيث هو "أصل" والأصل قبله في حقيقة التاريخ "الموضوعي" كان شيئاً "ميتافيزيقياً"[6] دون موضوعيته الزاعمة، لا يتورع عن التعالي بوصفه جوهراً لكل الأشياء بل منها تفيض، هو البداية والنهاية.

المؤرخ المولع بالأحداث يصون الأصل، ويسهر على تمريره كتابةً، بذريعة حفظ الذاكرة واستمداد القوة الروحية، ليغدو الأصل بما هو جوهر حينها "شيئاً مشبعاً بالعقل؛ لأنه يعيش طويلاً حتّى نسي اللامعقول[7]" البيئة التي كانت حاضنة له في بدايته. أما الجينيالوجي كمؤرخ، فيحتار من هذا التاريخ ويتناقض[8] مع المؤرخين ذوي الهضم السيء؛ إذ إن البنية ورموزها قد كشفت عن المدلول بعد اختراق الدال في إيقاعه التاريخي الذي يشبه "كريشندو"(Crescendo)، وأنّى له أن يتجاوز العقل وهو مبتدعه[9]؟، الأصل الذي يهاب الإنسان ويجاهد على استنزافه من الطاقة، تلك التي قدّمها سقراط كقربان للأصل، الخطأ الذي ارتكبه سقراط في حق الأصل، أنه قدّم أرضية ستقام عليها طقوس أفلاطون ومن تبعه من دعاة الموت، تلك هي مآلات وعواقب "الفصل"، تدنيس الجسد من أجل نشوة الأنا، وتغطرس الذات المتنكرة لحقيقتها.

لقد غدا الإنسان عبر سقوطه في التاريخ في عين نيتشه، كائنا متشكلا من ثنائية مميتة من حيث هو "روح وجسد"، هذه الثنائية قوّضت فحولته بعد أن كان واحداً كقوة جسدية محبًّا للأرض وأصله، جهازاً عصبياً وقوة في العواطف، شرساً في الصيد والحرب، مصارعاً للآلهة في ميثولوجيا الإغريق، بل كان إلهاً بعقله، حينها كان الأصل مرادفاً للأسفل. أما بعد الحياة التأملية التي تمخضت عنها ألوان الخلود في نسيج الخيالات، فقد أضحى الإنسان في قوته العقلية التي تداعت، جنباً إلى جنب مع صفوف دعاة الموت، ما الذي صنعه الإنسان بنفسه؟ أمسى مريضاً مثيراً للشفقة وكيف للجينيالوجي ككونه مؤرخا جيدا أن "يُغيّر نظرةً خاطئة في عين مريض"، وكيف للبراهين أن تُقنع الإنسان أنّ لزرادشت قردًا يثبّ خلفه.

لكنّ مهمة الجينيالوجي في نجده القويم هي النبش والحفر أبعد غورٍ مستعيناً بعُدّة أركيولوجية، هنا يُمسي نيتشه بين الجينيالوجي والأركيولوجي من حيث هما بصرٌ ثاقب، وظيفة الفيلسوف الطبيب الذي يتحرى ويستقصي عن جذور الدواء وفحص أعراض المرض في نظام الدال الماثل على خشبة مسرح التاريخ المتقنّع عن كل حقيقة، لكن من عساه يقبل تناول الدواء بعد أن قدّم المؤرخون ذوو الهضم السيء، المرض على كونه دواءً، وشجّعوا الإنسان على تقبل أعراضه الخطيرة بكيفية من الكيفيات الكتابية منها والمنطوقة، حركات جسد ونبرات صوت، صياغة الرموز وتشكيل بنية المعاني المبهمة، التي تُبعد شيئاً فشيئاً الإنسان عن أصله الحقيقي وتوهمه بأن التقنّع فضيلة[10]، ذات ناكرة متنكرة، تتحاشى الدواء وتعتنق لذة المرض، إنسان يحب "المعاناة بل يعطي معنى للمعاناة، ليضحى لدينا معنى المعاناة".                                         ،أ/

لا غَرْوَ إذا كان نيتشه من هذا الجانب، يحتقر ويسخر[11] ويتعالى على التاريخ، ويؤوله مدفوعاً بضمير "إنياس" كما صوّره فيرجيل في الإنياذة[12]، وإقامة مكانة جديدة لحقيقة جديدة، رغم أنها قديمة قدم أشعار صوفوكليس ويوربيدس. إن التأويل لدى نيتشه له مفعولات في تفعيل خصائص العقل ليغدو ناجعاً أمام تفكيك "الأنا"[13] والخطاب، ثم إعادة تصنيف الرموز بمنهجٍ ديكارتي ومطرقة نقدية حتى تتجلى الأصول، ثمة إمكانية إذن ليربو "التأويل درجة في سلم الفنون[14]، تضع القارئ الجينيالوجي حينئذٍ في مرتبة الفن، فنانٌ مَن فكّ الرموز وهضم الكلمات هضماً مستساغاً؛ ذلك الفن الذي وفقاً له يلفي نيتشه في الصرح المتناقل والمتكرر ثقافةً ونصوصاً، اللتين تزعمان نفسيهما ذوات روحٍ موضوعية وحقيقة تاريخية. كان المعنى المتوارى حينها جسداً، أرضاً، أسفل، وليس جوهراً وعلة، وتبعاً لذلك كان الوفاء واجباً كواجب "إنياس" في تأسيس روما، نيتشه هنا لم يُقلب المفاهيم، بل ما وجد سوى الجسد[15] والأرض كونهما أسفل لا أعلى.

إن ما دفع نيتشه إلى مغامرة جينيالوجية في غور التاريخ متسللاً بين التفاصيل المجهرية، مشدوداً بالأساس "لإرادة الحقيقة[16]" والكشف عنها داخل نسيج التاريخ المتشعب والمعقد في تخوم السيرورة التي قطعها إلى حد الآن، جارفاً حمولة من الأفكار والمفاهيم، تلك المفاهيم التي لها تاريخ وتراكمات وتقاطعات، كسيلٍ جارف للمفاهيم الغامضة في تصاعد، لتلمس السماء في رياح الميتافيزيقا، تاركة الإنسان يتتبعها ببصره نحو الأعلى دون أن ينتبه بأن الإطالة في النظر تُفقد البصر عن رؤية كنه الحقيقة، وهذه التقاطعات تنزع بالمؤرخ الجينيالوجي إلى إعادة النظر ومراجعة ما يسمى حتّى الآن باسم الحقيقة وأصل الأشياء، وعليه كانت الحاجة للغربلة أقوى من أي وقت مضى، وكذلك التشكيك في مصداقية وموضوعية التاريخ، لا شك بأن انقطاع مفاهيم بعينها وظهور أخرى على خشبة المسرح، تأتي مصاحبة لشبهات وعلامات، كان الأجدر بالمؤرخ أن يطرح سؤالاً حول ماهيتها ومعانيها التي تلوح في آفق البحث عند المؤرخ الجيد، غير أن المرض كان قد داهمه مُلقياً على بصره غشاوة، معلناً موت الإله[17]، سانحة المجال للجينيالوجي بما هو إنسان أعلى، أن يُعرِّي الأصول.

يمكن القول في ختام هذا المقال، إن الفيلسوف فريدريك نيتشه كمؤرخ جينيالوحي، أعاد النظر إلى تاريخ الفكر الإنساني وتاريخ العالم من زاوية التأويل، مُبيحاً للبصر الثاقب وضع التاريخ في نظام الدال؛ أي في تعدد الرموز بما تعكسه من نسبية في المعاني، جاهداً في ذلك على تشييد تأويلٍ للمعنى والأصل الحقيقي للإنسان، وفقاً لمنهج تفكيك المفاهيم، المفاهيم التي نُسبت للأصل بوصفها روحاً وجسدا، والروح في نهايتها تعزو وتتوق للجوهر(الإله) بما هو أصل، هذا ما رفضه منطق نيتشه على أساس أنه يقوّض ويزيّغ حقيقة الأصل (الجسد) ويحط من قيمة الجسد، وينذر بفقدان حيوية العقل، فالإنسان في نظر نيتشه ليس سوى جسد ينتمي إلى الأرض.

 

 

المصادر والمراجع العربية المعتمدة

* هكذا تكلم زرادشت، ف. نيتشه، منشورات الجمل، بغداد، الطبعة الأولى 2007، علي المصباحي.

* إرادة القوة، أفريقيا الشرق-المغرب، ترجمة محمد الناجي.

* ما وراء الخير والشر، الطبعة الأولى، ترجمة علي المصباحي، بيروت- بغداد 2018

* ف. نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، (تعريب حسن قبيسي)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1981

* فيرجيل، الإنياذة، نقلتها إلى العربية (عنبرة سلام الخالدي)، دار العلم للملايين، بيروت.

* ف. نيتشه، الفجر، ترجمة محمد الناجي.

* ف. نيتشه، في جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة فتحي المسكيني، تونس 2010، طبعة 1

[1] إرادة القوة، ترجمة محمد الناجي، ص 138

[2] ما وراء الخير والشر، الطبعة الأولى، ترجمة علي المصباحي، بيروت- بغداد 2018، ص12

[3] ف. نيتشه، الفجر، ترجمة محمد الناجي، ص 178

[4] أنظر هكذا تكلم زرادشت، ف. نيتشه، علي المصباحي، ص441

[5] يقصد نيتشه ب "البطالة" عدم إعمال العقل وقد وردت له الكلمة في غير كتاب بمعاني مختلفة (موت الإله، البطالة، الفقر...).

[6] إرادة القوة، ترجمة محمد الناجي، ص 135

[7] ف. نيتشه، الفجر، ترجمة محمد الناجي، ص 15

[8] ف. نيتشه، في جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة فتحي المسكيني، تونس 2010، ط1، ص33

[9] ما وراء الخير والشر، الطبعة الأولى، ترجمة علي المصباحي، بيروت- بغداد 2018، ص15

[10] انظر هكذا تكلم زرادشت، ف. نيتشه، علي المصباحي، ص455

[11] إرادة القوة، ترجمة محمد الناجي، ص 133

[12] انظر فيرجيل، الإنياذة، نقلتها إلى العربية (عنبرة سلام الخالدي)، دار العلم للملايين، بيروت.

[13] إرادة القوة، ترجمة محمد الناجي، ص 121

[14] ف. نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، (تعريب حسن قبيسي)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1981، ص17

[15] ما وراء الخير والشر، الطبعة الأولى، ترجمة علي المصباحي، بيروت- بغداد 2018، ص21

[16] ما وراء الخير والشر، الطبعة الأولى، ترجمة علي المصباحي، بيروت- بغداد 2018، ص11

[17] انظر هكذا تكلم زرادشت، ف. نيتشه، علي المصباحي، ص530