أحمد دلباني: إن الحداثة ليست مُحايثةً زمنيةً شكلانية للتاريخ كالمُعاصرة


فئة :  حوارات

أحمد دلباني: إن الحداثة ليست مُحايثةً زمنيةً شكلانية للتاريخ كالمُعاصرة

التعريف بالمحاور: 

ثمة في الأفق الزماني القلق تيمة قارة في الفكر الغربي المعاصر، خاصة بعد العصر التأويلي الذي دشنه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، وهي متلازمة الفلسفة والشعر، حيث يكون البيت الشعري هو الفضاء المفضل للقول الفلسفي، يحن إليه الفيلسوف الذي لم تسعفه في الكشف عن ما يعتمل في ذهنه من قضايا ومسائل وهواجس. إنّ اللازم هنا والآن هو أن ننفتح على ممكنات الحداثة الحقيقية من شعر، وتاريخ حقيقي: "ربما كان شرط الحداثة الفعلي، بهذا المعنى، هو ميلاد "الكوجيتو" الذي ظل مخنوقًا في تاريخنا، ولا يكادُ يجدُ منفذ ضوءٍ أو كوة يتنفسُ منها في الدهاليز المُظلمة"، ومن طموح في اجتراح درب جديد يكون فيه الإنسان العربي المعاصر هو سيد ذاته، خارج كل الأنساق المغلقة، على أساس هذا التمشي نلحظ وجود هموم أنطولوجية كبيرة وعظيمة يحملها كاتبنا الذي بقي وفيًّا لمنبته الشعري في صورته الأدونيسية المتألقة، ومنفتحًا على مستلزمات الخطاب الفلسفي، وملتزمًا بنضاله الدنيوي من أجل كرامة الذات الغربية.

إنّ الحوار مع الباحث أحمد دلباني هو في الحقيقة، انفتاح على ذات تسعى إلى طرح ذاتها دون خوف أو نكوص، يأمل في أن يكون القادم أفضل، غير مثقل بأثقال الماضي التليد الذي مازال يطل علينا من نوافذ الكسل والخمول.

لقد كان مسار الباحث زاخرًا بنشاطات تجسدت في الأعمال التالية:

- من بين مؤلفاته:

1- مقامُ التحول (هوامش حفرية على المتن الأدونيسي). دار التكوين، دمشق. 2009

2- سِفرُ الخروج (اختراقُ السّبات الإيديولوجي في الثقافة العربية). دار التكوين، دمشق. 2010

3- موتُ التاريخ (منحى العدمية في أعمال محمود درويش الأخيرة). دار التكوين، دمشق. 2010

4- قداسُ السقوط (كتاباتٌ ومراجعات على هامش الربيع العربي). دار التكوين، دمشق. 2012

5- رمل اليقين (المُجتمع العربي وأسئلة الثورة والديمقراطية). دار التكوين، دمشق. 2015

نص الحوار:

ربوح البشير: في البداية من الصعب تحديدُ حقل معرفيّ للباحث أحمد دلباني، فقد تتعدد مداخل الذات العارفة. فهل يمكنك أن تؤسِّسَ لمدخل جامع للذات في شكل إشارات ليعرف القارئُ من هو أحمد دلباني؟

أحمد دلباني: من هو أحمد دلباني؟ هل تعلمُ يا صديقي أنّك بسؤالك هذا تضعني موضعَ الحرج الشديد؟ والسَّببُ بسيط على ما أعتقد: إنّك تفترضُ في الشخص الذي تحاورُه أهمية خاصة أو عمقًا أجزمُ لك صادقًا أنّني لا أدرك ملامحَه وتخومه. وإلا فما معنى أن يكونَ الواحدُ منا كاتبًا؟ أفترضُ أنَّ الكتابة نوعٌ من الترياق الذي نجابهُ به عالمًا مُلغزاً يُنيط بنا أدوارًا ندرك في العمق مدى عبثيتها. الكتابة بحثٌ عن الشفاء من داء اللاجدوى القديم. ولكن دعنا من هذا الآن. أعتقدُ أنَّ الإنسانَ لا يُعرَّفُ بالماهية الجاهزة فحسب وإنّما بالإنجاز تحديدًا. أنا ما أفعله وما يُمكنني فعله؛ لا شيءَ آخر. ولكنني على يقين، صديقي، أنّني بجوابي هذا أكون قد خيبتُ ظنك وظن السَّادة القراء. لا بأس. سأحاول أن أكونَ واضحًا قدر الإمكان وأنا أتحدَّثُ عن مهنة الكتابة. لقد تصوَّرتُ دائمًا أنَّ الإبداعَ هو، في العمق، إعطاءُ شكل لسديم التجربة والواقع كما يُعبِّرُ دولوز. من هنا تأكيدي على ضرورة أن تكونَ الكتابة منحوتة أو إيقاعًا مُوازيًا يُخلصنا من المتاهة الوجودية وينتشلنا من العماء الأول. ليس الإبداعُ الفكري بحثًا عن مُطابقة مع الحقيقة والواقع فحسب كما تصوَّره مُعظمُ الفلاسفة الكلاسيكيين قبل هجمة التفكيك، وإنّما هو، بالأساس، خلقٌ وإنتاج يتصدَّى لزئبقية الواقع والتاريخ والتجربة. الإبداعُ هوسٌ دائمٌ بإنتاج الحكايات التأسيسيَّة التي تُنصِّبُ الإنسانَ راعيًا للمعنى. أو قل إنَّ الإبداعَ هو كالرقص تمامًا يمثل استجابة لنداءٍ داخلي لا يخرجُ عن الرغبة في تحقيق الذات أو إشباع رغائبَ خفية تستعصي على الفهم أحيانًا. فالمُهم أن لا تكونَ الكتابة ادِّعاءً أجوفَ يرومُ الإصلاح أو حمل رسالة أو ما شابه ذلك. يعجبني في هذا إجابة كاتبٍ - لا أذكرُ اسمه الآن - عن سؤال: "لماذا تكتب؟" عندما قال: "أكتبُ لأنّني لا أحسنُ فعل شيءٍ آخر!"

ربوح البشير: ما طبيعة الهم الذي يحمله أحمد دلباني أثناء انشغاله بعالم الكتابة؟

أحمد دلباني: لقد كان همِّي منذ بدايات نشاطي الإبداعيِّ والفكري أن أخلقَ نوعًا من الهارمونيا بين الوعي والوجود أو بين الذات والواقع الشامل. وكان لنشأتي الشعرية - الفنية وقراءاتي الواسعة - في التراث الشعريِّ العربيّ ونظيره الفرنسيِّ في ذراه العليا - الدورُ الأساسُ في احتفائي باللغة بعيدًا عن النظر الوظيفي البراغماتي الأداتي الذي يجعلُ منها جسرًا ومعبرًا لا أيقونة أو تجليًا لكنوز العقل الباطن. أتصوَّرُني، دائمًا، أقفُ أمام إيقاع اللغة الخفيِّ مشلولاً إلا من رغبة التماهي مع الإيقاع الخفيِّ وهو يسردُ ملامحَ فراديس مفقودةٍ أضاعها الوعي الشقي بطلاقه مع ينابيع الكينونة الأصيلة ونداءاتها. هذا شأني، إلى اليوم، مع أبسط مقطوعةٍ طلليةٍ عربيةٍ جاهلية مثلاً، تمامًا كما هو شأن المُتعبِّد مع وثنه. الكاتبُ الحقيقيّ وثنيّ كبيرٌ باعتقادي. أو قل إنّه بيجماليون يعبدُ ما يخلق بيديه ويعشقهُ حدَّ الهوس الصوفي. لقد أردتُ منذ بداياتي أن أكونَ شاعرًا حتى في النثر استجابة لوصيَّة بودلير الشهيرة.

هل تذكرُ، صديقي، تلك المُقابلة الشهيرة بين أبوللون وديونيسوس أو بين إله الشمس والحكمة من جهةٍ، وإله السّكر والعربدة من جهةٍ أخرى في كتاب نيتشه الأول "مولدُ المأساة"؟ لطالما تصوَّرتُ أنَّ ذاتي العميقة كانت ساحة لصراع جميل وتوتر خلاق بين الإلهين تولد عنهما نتاجي كله تقريبًا. كأنّني أستعيدُ في ذاتي العميقة شغفَ الفنان الأبديَّ بعقد مُصالحةٍ بين الهيولى والصورة تتولدُ عنها كينونة العمل الفني إن استخدمنا بنوع من التجوّز اصطلاحاتٍ أرسطية شهيرة. ما أردتُ أن أقول هو أنَّ كتابتي، في العمق، ما زالت تحمل في ثناياها تلك الرغبة البدئية في العثور على مفاتيح الإيقاع الأول من أجل ردم الهُوَّة بين الذات والعالم وتجاوز الطلاق الذي رسَّخته حداثة التقنية والكوجيتو الثائر على الوصاية والباحث عن استقلالية تُخضع الطبيعة والآخر ممَّا يشكل، اليوم، مجالاً لمُراجعةٍ نقدية شاملة كما نعلم.

أعجبني ما قرأتُ في كتاب كلود ليفي - ستروس الرائق "مدارات حزينة" عندما تحدَّث عن "عشيقاته الثلاث" أيام الشباب وكان يعني بذلك الماركسية والرياضيات والتحليل النفسيَّ على ما أظن. لقد بدا لي، فعلاً، أنَّ لكل كاتب أو مُفكر عشيقاتٍ ترجعن إلى أيام الشباب وتشكلن مفاتيحَ هامة لفهم نتاجه اللاحق والصِّراعات الداخلية التي كان عليه أن يخوضها من أجل بلورة ما هو عليه وفهم حضوره الفكري والإبداعي. أما عن عشيقاتي أيام الشباب - إن جاز لي أن أتحدَّثَ عن شيءٍ مُماثل - فكن ولا يزلن الشعر والموسيقى الكلاسيكية والفلسفة. هذا، باعتقادي، ما يُمكنُ أن يُفسِّرَ ما تسمِّيه المداخل الضرورية من أجل فهم نتاجي عبر مُؤلفاتي النقدية والفكرية المُتنوعة وبالأخصِّ فهم احتفائي باللغة باعتبارها شكل بوح وحضور في العالم بالشكل الذي أشرتُ إليه آنفًا.

ربوح البشير: من أنت بالأساس؟

أحمد دلباني: أنا، بالأساس، كاتبُ مقالةٍ فكرية ونقدية لا تستجيبُ - إلا لمامًا - لشروط التقاليد البحثية الأكاديميَّة. يسكنني صوتُ الكبار الذين كانوا يقتفون - في متاهة العالم - آثار المعنى، ويحاولون القبضَ على طائر الفكر المُجنَّح في اللمحة والشذرة وفي لغةٍ غير آهلة إلا بالتجربة الشعرية في الوجود بمفهومها الواسع. أنتصرُ، دائمًا، للحدوس المُنبثقة من تراكم المعرفة والرغبة في إبداء الموقف بمعزل عن المُسبَّقات التي تأسرُ، عادة، أصحابَ المواقف الجاهزة.

ربوح البشير: ما جدوى التفكير عربيًّافي الثقافة العربية الآن؟ هل في ممكننا أن ننتج عقلانية تفكر مع كل هذا الركام اللاعقلاني؟ لا شك أنّ أدونيس مُحق حين يقول إنّه لم يبقَ للعرب إلا الشعر يدخلون من خلاله الحدثة. فما منظورية هذا الكلام وكيف يمكننا أن نؤسِّسَ لحداثة شعرية؟

أحمد دلباني: من المعروف أنَّ أدونيس صاحبُ نظر خاص في مُشكلة الحداثة في العالم العربيِّ. وهو يقرأها دائمًا باعتبارها سياقًا حضاريًّا يتميَّز - أول ما يتميَّز - بالقطائع المعرفية والجمالية مع بنيات التقليد السَّائدة في المُجتمع والفكر على السَّواء. هذا ما يجعل من الحداثة - كما هو معروفٌ - هاجسًا مركزيًّا في الفكر العربيِّ الذي فشل، سابقًا، في التوفيق بين "الأصالة" و"المُعاصرة" باعتبارهما أقنومين لا يجمعُ بينهما إلا التلفيق ومُحاولات القفز اليائسة على الهُوَّة المُرتسمة بيننا وبين العالم الحديث بضخامة مُشكلاته وفتوحاته وتحدياته. إنَّ الحداثة ليست مُحايثةً زمنيةً شكلانيةً للتاريخ كالمُعاصرة - التي شكلت الدعوة إليها إيديولوجية السلفيات المُختلفة – وإنّما هي انخراط واع في التاريخ واحتضان للحظة الرعب الوجوديِّ الناتج عن تلاشي مركزية اللاهوت وتدشين عهد سيادة الناسوت. لقد لاحظ أدونيس – مُنفصلاً في ذلك عن تقليدٍ تأريخيّ غربيّ يرجعُ إلى هيغل - أنَّ الحداثة ليست تاريخًا فحسب وإنّما هي، بالأساس، حركة. إنّها حركة الانفصال عن السَّائد واحتضان أسئلة الرَّاهن بمعزل عن الروح الماضوية المعيارية التي شكلت – إن شئنا – إبستيمية التراث الرَّسمي المُؤسَّسي. من هنا ذلك النبش الدؤوب في التراث العربي – الإسلامي والاحتفاء بالهوامش الإبداعية والثورية التي اكتنز بها. إنَّ الحداثة، بهذا المعنى، ظلت في الخطاب الفكريِّ العربيِّ المُعاصر رديفة للعقلانية فكريًّا والديمقراطية والعلمانية سياسيًّا. وهي لا تخرجُ، في عمومها، عمَّا تكرَّس في الأدبيات المدرسيَّة الغربية الموروثة عن الحقبة الكولونيالية. هذا الفهمُ المُبتسَرُ للحداثة نجده عند مُفكر كمحمد عابد الجابري مثلاً وهو يُدافع عن العقلانية العلمية المُتصالحة مع التمذهب السّني التاريخيّ مُشيحًا بوجهه عن شرط الحداثة الفعلية وهو انتصارُ الذات وتموقع الأنتروبوس في مركز ظل يحتله المُقدَّس لقرون طويلة. لقد كان ذلك الفهمُ المُبتسَر استشراقيَّ الروح كما نعلمُ وهو ينهال بمطرقةِ النقد على ما يُسمِّيه، مثلاً، باللامعقول في التراث العربيِّ – الإسلامي. بينما ما نجدهُ عند أدونيس في هذا المجال هو ذلك الاحتفاءُ بالهامش الإبداعيِّ الذي انتصر للعقل والذات والخيال الخلاق بعيدًا عن نظام ثقافيّ سائد كانت سمته الأولى المعيارية والماضوية والثبات. لقد كان أدونيس، بمعنى ما، ينتصرُ - كما يُعبِّرُ - لكل ما أسهم في إحداث نوع من "الثورة الكوبرنيكية" العربية التي نصَّبت الذات مرجعًا للمعرفة والوجود كما نجدُ ذلك عند العقلانيين والشعراء الهامشيين والمُتصوِّفة. هذا ما جعل أدونيس يعتبرُ الشعرَ أهمَّ ما ترك العربُ تاريخيًّا ويعتبرُ أنَّ مفتاحَ فهم الصِّراع الثقافي الأعمق في الثقافة العربية هو تلك الممانعة بين "البنية المعرفية الشعرية" ونظيرتها "البنية المعرفية الدينية" التي ألغت الذات ومجهولات العالم ومثلت مرجعًا للسلطة السياسية الفعلية. هذا يعني أنَّ الشعر، في عمقه، لم يكن فنًّا فحسب وإنّما نظامًا معرفيًّا جسَّد، بصورةٍ مُدهشةٍ، ما يُسمِّيه أدونيس "معركة الذاتية والوجود" في الثقافة العربية. وأعتقدُ، شخصيًّا، أنَّ هذه المعركة لا تزال راهنة وضرورية مع ما نشهدهُ، حاليًّا، من فواجعَ وتراجع على أكثر من صعيد في عالمنا العربيِّ – الإسلامي المُحتفي بعودة "الشيخ" المُظفرة على حساب المُثقف النقدي، والرازح تحت أثقال الحقائق السوسيولوجية على حساب الحقيقة النقدية - الاختبارية. ربما كان شرط الحداثة الفعلي، بهذا المعنى، هو ميلاد "الكوجيتو" الذي ظل مخنوقًا في تاريخنا ويكادُ لا يجدُ منفذ ضوءٍ أو كوة يتنفسُ منها في الدهاليز المُظلمة. وما أشار إليه أدونيس بهذا الصَّدد هو - إن شئنا - انتصارُ الآلهة الدَّائم على بروميثيوس العربيِّ.

ربوح البشير: هل هناك فاصل عند أحمد دلباني بين المُفكر والشاعر؟ هل نبحثُ عن الخلاص بالمفهوم التيوقراطي أم نبحثُ عن زمن للتطهير في تاريخ مليء بالنكسات؟ وكيف توفق بين رؤية حالمةٍ للشاعر ورؤية عقلانية للمفكر؟

أحمد دلباني: لقد قلتُ لك، صديقي، إنّني كاتبٌ ولا أطمحُ إلى أن أكونَ أكثر من ذلك. ولكنني كاتبٌ يدرك جيِّدًا أنَّ الكتابة موقفٌ من العالم والوجود، كما هي انخراط في مُساءلة الذات والذاكرة والتاريخ واللغة أيضًا. الكتابة لعبٌ طفوليٌّ يستجيبُ لنداءاتٍ آتية من أقاصي نجهلها في أغوار الذات، وهي بحثٌ قد ينتهي بنا إلى أن نرى بعضَ تخوم كينونتنا الفردية والجماعية المُلتبسة بالتاريخ. لا يُمكنني، صراحةً، فهمُ كتابةٍ تذهلُ عن مُحاولة استكشاف ينابيع اللغة ونشيد البدايات التي مثلت إفاقةً على العالم. الكتابة الشعرية الحقيقية تسمية للعالم وابتكارٌ لعلاقاتٍ جديدةٍ بين الذات والوجود. تذكرُ معي جيِّدًا تعريف هيدغر الشهير للشعر - وهو يتحدَّثُ عن هولدرلين - في قوله: "الشعرُ تأسيسٌ للكينونة بالقول". هذا هو جوهرُ القضية: تكون الكتابة تأسيسًا أو لا تكون. الكاتبُ الحقيقيّ يشعرُ أمام البياض أنّه في حضرة السَّديم وأنَّ هناك كواكب وشُهبًا تتأهَّبُ دومًا للولادة من بين أصابعه. أقول هذا وأناأتذكرُ عبارة نيتشه المُذهلة في نشيده العظيم "هكذا تكلم زرادشت": "يجبُ أن يكونَ في الإنسان شيءٌ من السَّديم كي تولدَ منه نجمة راقصة".

ولكن، للأمانة صديقي، عليَّ أن أقرَّ أنّني أعجز الكتاب عن ادِّعاء الإلهام أو ما شابه ذلك ممَّا يحلو لبعضهم التنويه به أحيانًا. واسمح لي، هنا أيضًا، أن أذكرك بشذرةٍ بصيرةٍ لنيتشه وردت في كتابه "إنساني، إنساني جدًّا" يقول فيها: "إنَّ بتهوفن يُؤلفُ الموسيقى بعد أن يستمعَ إلى الأعمال الموسيقية، أما موزار فيكتبُ أعماله عندما يحلمُ بإيطاليا". يبدو لي أنَّ هذه المُلاحظة النيتشوية النافذة تنطبقُ على الكتاب أيضًا. فهناك صنفٌ منهم يكتبُ لأنّه يقرأ، ويدفعُ بنا إلى الاعتقاد، عبر كتاباته، أنّه يحتضنُ ماضي الكتابة والمعرفة، وأنَّ أصوات الإبداع الإنسانيِّ تجدُ فيه تحققها الأمثل. بينما الصِّنفُ الثاني نشعرُ معه أنَّ اللغة تلعبُ وتتذكرُ طيرانها الأوَّل قبل أن تقعَ في أحابيل الوظيفة والفكرة الجاهزة والخدمة العموميَّة التي يُتقنها، جيِّدًا، من يدعي تحميل الأدب "رسالة" إيديولوجية. تكونُ اللغة هنا، وبخاصةٍ في الشعر، كأنّها بجعة سعيدة على بُحيرة الرغبات الأشد عمقًا، أو كأنّها حلمٌ جميلٌ هاربٌ من تاريخ أسَرَ اللغة في الذاكرة والمُشتَرك العام. وأقرّ أنا هنا، شخصيًّا، أنّني من الصِّنف الأول من الكتاب. أشعرُ بالقرب من مُكابدات بتهوفن وأجدُ، أحيانًا، أنَّ "قلع ضرس أهونُ عليَّ من قول بيتٍ واحدٍ من الشعر" كما نُقِل عن الفرزدق. هذا لا يمنعُني، طبعًا، من النظر إلى كتابتي تحديدًا بوصفها صهرًا لتجربة جمالية / معرفية تجعل مني شاهدًا على مخزون معرفيّ أنتمي إليه وأمثل امتدادًا لأسئلته وهواجسه المُعلنة والمُضمَرة. وباختصار، صديقي، أستطيعُ أن أقول إنّني هجرتُ القصيدة باعتبارها شكلاً للقول، ولكنني لم أهجر الشعرَ الذي تستطيعُ أن تلاحظ أنّه مبثوثٌ في كتابتي إشاراتٍ ومقاربة للعالم وانتشالاً للغة من السقوط في الارتهان للمنظومات المُغلقة أو العقائديات التي عقدت زواجًا مُؤبَّدًا بين الدال والمدلول.

أعود لأقول إنّني لا أبحثُ، شخصيًّا، عن خلاص خارج ما تمثله الكتابة والإبداع باعتبارهما - في العمق - توقًا حارقًا إلى نقش اسم الإنسان في الغبار الكونيِّ. لا شأن لي بالخلاص بمفهومه التيوقراطي القديم الذي كان فرديًّا وأخرويًّا يرمي إلى العبور الآمن على جسر الزمنية الهش نحو الأبدية. خصيصة الحداثة الأولى أن نعتبرَ التاريخ مطهرًا والتقدم خلاصًا. ولكنَّ هذا الأمرَ أصبح، من جديد، إشكاليًّا في فكر ما بعد الحداثة بعد ما كشف إرثُ التنوير عن صلف العقل الحديث ورواسب السيطرة وإرادة الهيمنة التي فضحت شعاراته من خلال المُمارسة الكولونيالية وتناقضات المُجتمع المعاصر. يبقى أنَّ الفكر العربيَّ خسر بعض رهاناته في الانخراط في الزمنية والتاريخ من أجل انتشال الذات الجماعية من الزمن الثقافيِّ والحضاريِّ المُحنط خارج مدارات الإبداع والتجاوز والأنسنة والتقدم. والمُشكلة أنّنا نلاحظ عودة الرغبة الحارقة في الزواج – من جديدٍ – بالأبدية عبر الأصوليات المُختلفة واستدعاء الهويات الضيقة في فعل انكماش لافتٍ للنظر يشي بخيباتٍ كبرى لمعظم مشاريعنا النهضوية.

ربوح البشير: أليس يُفترضُ بنا أن نؤسِّسَ شكلًا من العلمانية الشعرية لتستقل عن كل الشعريات اليقينية لنحققَ القفز في الزمن الثقافي؟

أحمد دلباني: أسئلتك، صديقي، مُهمَّة وانقلابية وقلقة. هذا شيءٌ رائع ومُحرِّض بشكل كافٍ على التفكير الإيجابي. أعتقدُ أنَّ ما تُسمِّيه "العلمانية الشعرية" قد تحققَ تاريخيًّا وثقافيًّا في تراثاتٍ كثيرة قطعت مع اللاهوت ودخلت في تجربة أنسنة العالم والوجود. أصبح الشعرُ سؤالاً ومُغامرة فكرية وجمالية مُنسلخة من المعياريات القديمة ومن النظام المعرفيِّ القائم على اللوغوس الدينيِّ. بل نستطيعُ الجزمَ بأنَّ تاريخ الحداثة الشعرية كله لم يخرج عن هذا الذي ذكرناه. ولكن علينا أن نُنبِّهَ، هنا، إلى أنَّ هناك تجاربَ شعرية كبيرة في العصور الحديثة كانت تعميقًا لافتًا للتجربة الدينية الروحية باعتبارها تجربة علوّ وخلاص تنشدُ ربط العالم الزائل العابر بخيوط الضوء. والمُهم في هذا أنَّ الشعر ظل يتفجرُ من الذات المُبدعة ومن التجربة لا من العقيدة الجاهزة أو التعاليم الثقافية المكرورة بصورةٍ طقسية. هذا هو جوهرُ القضية الشعرية: أن يكون الشعرُ تدفقًا ذاتيًّا وتجربة في ابتكار ما هو مُتفرِّد واستثنائي ينشدُ اختراقَ التاريخ واحتضان الكينونة في عمقها والتعبير عنها. الإبداعُ الحقيقيّ لا يرتبط بالعلمنة ضرورة. هذه حقيقة يجبُ أن تقال. أنا علماني سياسيًّا، بمعنى أنّني أناضل من أجل توفير شروط العيش المُشترك والحرية، وعلماني في الثقافة من زاوية النظر إلى العقل باعتباره مُستقلاًّ عن المرجعيات المُفارقة واعتبار التاريخ بيتًا للإنسان مكان المُطلق القديم. ولكنني أشيرُ إلى أنَّ الإبداع، أيضًا، في ظل العلمنة سقط في النمطية والشعارات والارتهان للعقائديات الإيديولوجية الجاهزة المُتصلبة. المُشكلة في الإبداع لا تتعلقُ بالعلمانية بل بالحرية والتجربة الأصيلة: أعني حرية المُبدع داخليًّا، ومُغامرتَه في ابتكار مُعادل فنيّ موضوعيّ لسديمه الدَّاخلي باعتباره شاهدًا على جرح وجوديّ وتاريخيّ لمرحلته برمتها.

أتفقُ معك، صديقي، حول ملاحظتك عن احتلال بعض التوجهات الشعرية التقليدية صدارة المنابر الثقافية العربية (ولا أقول المشهد الشعري العربي). إنَّ هناك ردَّة على كل مستويات الحياة الثقافية العربية ترجعُ إلى شيوع ثقافة الاستهلاك وانتصار الإعلام الذي تتحكمُ فيه بلدان الوفرة المادية، وهي تسعى إلى جعل الفعل الثقافيِّ تسلية لا تخرجُ عن "الإمتاع والمُؤانسة" بعيدًا عن الهواجس الطليعية التي حرَّكت النخب العربية - طيلة عقودٍ – من أجل إنتاج زمن ثقافيّ عربيّ جديد يقومُ على تجاوز معيارية الماضي وعِتق الإبداعية العربية من وصاية مُؤسَّسة التاريخ الرَّاكد. ولكن يبقى الشعرُ حقًّا، صديقي، رديفًا لأزمنةٍ ثقافيةٍ مفتوحةٍ على المُغامرة: مغامرة السؤال والتشكيل خارج معيارية النماذج المُكرَّسة من قبل أنظمةٍ ثقافية تقليدية نراها تنتعشُ اليوم وتجتهدُ في تذكير الإنسان العربيِّ بزمن "الرعية" السعيدة. الإبداعُ عمومًا لا يتصالحُ مع اليقين: هذا ما يجبُ أن تتعلمه الثقافة الرَّسمية السائدة. إنّه المُغامرة خارج النماذج والمُسبَّقات الثقافية جميعًا. وبخصوص الشعر أتذكرُ، هنا، توصيف الشاعر الفرنسيِّ فيرلين للقصيدة الحديثة وهو يتحدَّثُ عن "الأغنية الرَّمادية". الإبداعُ، حصريًّا، وقوفٌ بين الظلمة والنور. أو قل هو تأهبٌ دائم لاقتناص شكل لائق لسديم التجربة. أخيرًا أقول يا صديقي إنّني لا أعرفُ، صراحة، مُجتمعًا يهوى السقوط في كل ما هو سابقٌ على الحداثة والتحرير والعقلانية كالمُجتمع العربيِّ. علينا، بالتالي، من هذه الزاوية تركيز النقد أيضًا على البنية السوسيو- ثقافية العربية التي تُعتبرُ عائقًا كبيرًا أمام انتصار الوعد الذي طال انتظاره: الحداثة والتقدم.

ربوح البشير: لك مني جزيل الشكر على هذا الحوار الذي انتقلنا فيه إلى عوالم الشعر والحداثة والقلق الأنطولوجي الصارم.