أزمة الإسلام ونشاز الفتوى في كتاب "انفصام شخصية الإسلام" للباحثة الفرنسية آن ماري دلكامبر


فئة :  قراءات في كتب

أزمة الإسلام ونشاز الفتوى في كتاب "انفصام شخصية الإسلام" للباحثة الفرنسية آن ماري دلكامبر

أزمة الإسلام ونشاز الفتوى في كتاب "انفصام شخصية الإسلام"

للباحثة الفرنسية آن ماري دلكامبر

عبد الرزّاق القلسي

بنية الكتاب ولعبة المصطلحات

يبدو هذا الكتاب الصادر سنة 2006 مجموعة من الدراسات حول الإسلام، وحول ما تسميه الباحثة "انفصام شخصية الإسلام". وتعني بهذا المصطلح، التعارض الكامل بين صورة الإسلام المثلى في أذهان العرب القدامى والمحدثين، وبين الضآلة التاريخية للإسلام في التعاطي مع الآخر والذمّي وأهل الكتاب. وهذا التعارض الذي لا يزال فاعلاً ومنتجًا إلى الآن ينمّي نزعات التشدد والغلو لدى المسلمين في أوروبا.

تدرس الباحثة في الباب الأول والثاني فصولاً من الإسلام التاريخي وتقدم قراءة غير كلاسيكية قوامها فضل الآخر غير العربي على الإسلام وعلى الحضارة الإسلامية.

أما في الباب الثالث، فتدرس مسألة الفتوى في الفضاء الأوروبي وتسعى إلى محاصرة خصوصياتها ومشروعيتها والقائمين عليها من أفراد ومؤسسات، وهي ترى أنّ الفتوى تعمّق انفصام شخصيّة الإسلام والمسلمين في الفضاء الأوروبي.

منذ العنوان "انفصام شخصية الإسلام" يثيرنا الكتاب بقوة، وبنوع من الحساسية نكاد لا نخفيها؛ فعبارة انفصام الشخصية تستخدم في الأصل لتعيين أمراض ومرضى نفسيين يعالجون، ولا علاج نهائي لمرضهم، ما يجعلهم يعيشون ويتكلمون والمرض كامن فيهم، والمجتمع يحتاط منهم؛ إذ إنّ في انفصام الشخصية تبعات وعواقب لا أحد يستطيع التنبؤ بها ومن بينها القيام بجرائم وبتجاوزات يرتكبها هؤلاء المرضى من دون أن يستطيع أحد أن يحمّلهم المسؤولية القضائية أو الجنائية. ولأجل ذلك، يتعيّن أن يظلوا تحت الوصاية والرقابة وتحت مفاعيل الأدوية المخدرة، وألا تؤخذ أقوالهم وخطابهم مأخذ الجد؛ إذ إنّ علاقتهم بالواقع علاقة مربكة وغامضة.

ومنذ البدء تحسم الباحثة آن ماري دولاكامبر أمرها على الأقل على الصعيد المنهجي، بأن تفسّر لنا ما المقصود بعبارة "انفصام الشخصية لدى الإسلام"، وتقول في هذا المقام: "إنّها القطيعة التي يشهدها المسلمون في العالم الفارسي الإسلامي"[1] وليس العالم العربي الإسلامي؛ إذ إنّ للباحثة الفرنسية موقفًا جديدًا وتوصيفًا لم يسبقها إليه إلاّ قلة من المستشرقين، إذ ترى أنّ العرب لم يكونوا فاعلين في حضارتهم، بل إنّ الأجناس الأخرى من الفرس والأتراك، والداخلين إلى الإسلام من أتباع الأديان الأخرى من اليهود والمسيحيين والأقليات الأخرى هم الذين صنعوا هذه الحضارة سواء في أدبياتها كما في علومها، أو في أفكارها كما في منجزاتها.

المعركة التي تخوضها الباحثة آن ماري دولاكامبر هي معركة دوال وتسميات في الأصل؛ فالكتاب برمته وخاصة في البابين الأولين حول علاقة الإسلام بالتاريخ وعلاقة الإسلام بالمجتمع يضجّ بدوال جديدة وبمدلولات أكثر جدة، فهي منذ البدء تعمد نظريًّا ومنهجيًّا إلى التمييز بين معطيين: الأول يتمثل في أنّ الإسلام الحضاري، بكل إبداعاته، هو إسلام الآخرين وليس إسلام العرب، فيما المعطى الثاني يتمثل في أنّ الإسلام العربي (الذي نزل في الحجاز) هو إسلام بدوي، لا علاقة له بأي منجز حضاري، وليس في متخيّله ولا في ممكناته أن يبني أممًا، أو مدنًا، أو مدنيات، وإنّما متخيّله قائم حصرًا على إخضاع الآخرين إلى سلطته بقوة السلاح أو الإغراء المادي، طبقًا لمنطوق بعض الآيات القرآنية التي تجتزئها الباحثة من سياقها وتعيد تنزيلها مع كل السياقات والمقامات التي التقى فيها العرب مع الآخر، سواء مع الأقباط في مصر، أو مع البربر في إفريقية وفي الأندلس، أو مع المسيحيين في إسبانيا المسلمة (التي لا تسميها الباحثة أبدًا الأندلس)، أو مع الشعوب الأخرى في آسيا وإفريقيا.

المصطلح "انفصام الشخصية" أو "سكيزوفرينيا" هو مصطلح نفسي، وباطولوجي، ولكنّ مقاربة الباحثة ليست نفسية، بل هي تعمد إلى محاصرة البنى المتكررة مع كل التقاء للإسلام بالآخر، وهذه البنى تنهض على حركتين متزامنتين، الأولى أنّ الآخر هو دومًا مصدر الإبداع أو الإضافة في الحضارة الإسلامية فيما العربي - صاحب الرسالة - هو دومًا مصدر التشدد والانغلاق والأصولية. إنّها تخلق تمييزًا إبيستمولوجيًّا بين إسلام الأنوار الذي ينعزل عن النصوص المؤسسة للحضارة الإسلامية ذاتها وخاصة القرآن، وإسلام البداوة الذي ينعزل عن العالم بانكفائه على القرآن وعلى أكثر الأحاديث النبوية والمدونات الفقهية حرفية وأصولية. وعلى هذا النحو، تعتبر القرآن - الذي لا تقر بأنّه وحي فيما يبدو - "مصدرًا لانفصام شخصية الإسلام" (ص.16)، وهي تسرف في استخدام مصطلحات مغرقة في استشراقيتها مثل "إسلام محمد العربي" (ص. 16)، أو مثل "إسلام الممنوعات" (ص.15) أو "إسلام النصوص" (ص.15) وغير ذلك من التسميات، فضلاً عن شبكة من الدوال التي تباعد بين الإسلام الأول وبين المنجز الحضاري للحضارة الإسلامية على امتداد التاريخ والمكان.

إنّ البديهة الأولى التي يقر بها كل من درس الإسلام أنّه دين المدن والحواضر والتجمعات السكانية الكبرى، أمّا لدى الباحثة الفرنسية فهو دين "محلي ناشئ من عرب الصحراء" (ص.42) وهو ما سيجعله في مستقبل التاريخ شاهدًا "على انفصام الشخصية لديه بكل الأبعاد الثقافية" (ص.42)، إذ لا يمكن لهذا الدين الصحراوي أن يستوعب الثقافات المختلفة عنه إلا بحد السيف. إنّ مفهوم الغلبة هو المفهوم المركزي في الإسلام، ولأجل ذلك ترى الباحثة أنّ الغلبة السياسية لا يمكن أن تقترن بالغلبة الفكرية والثقافية، وأنّى للإسلام أن يقدم وجهًا فكريًّا جميلاً، وهو سليل عرب الصحراء والبدو الغزاة. إنّها ترى أنّ كل ما قام به المسلمون في حضارتهم ما هو إلا استعارة من الآخر وتشبه به، وليس على سبيل إبداعية أصيلة كامنة فيهم أو طاقة متوثبة للعطاء. وهكذا ترى أنّ معاوية بن أبي سفيان استعار حضارة بيزنطة، وكذلك فعل العباسيون حينما وطّنوا الحضارة الفارسية في بغداد، وفي كل الأحوال تنفي الباحثة مفهوم التثاقف، وتحلّ مكانه مفهوم الاستيلاء والأخذ منطلقة في ذلك من مقولة تكررها في كل أبواب البحث وهي عجز إسلام الصحراء وعرب الصحراء عن التكافؤ مع الشعوب الأخرى التي غزوها، سواء على الصعيد العمراني الثقافي أو الفكري أو الجمالي. وتنعت العرب في هذا المعنى بأنّهم شعوب "ترفض البناء والتشييد وترفض البذخ والترف" (ص.61)، إذ هم متعودون على شظف العيش وعلى بيوت الشعر وعلى كل ما يحيل إلى عالم البادية والبداوة.

إنّ الباحثة تتعاطى مع الإسلام وفق طريقتين، في ذاته، وفي تطبيقاته ومنجزه على أرض الواقع، ولكنها، وهي تدرس الإسلام أنثروبولوجيا - كما مورس - تقتنص الأخطاء والتجاوزات التي ارتكبت باسم الإسلام إزاء أهل الذمة مثلاً أو إزاء أهل الكتاب وإزاء المختلف لكي تفسر ذلك، باعتباره أصلاً في الإسلام، وتعبيرًا عن عجز الإسلام البدوي أصلاً على التفاعل والتعايش مع الحضارات والثقافات إلا بحد السيف وباستعلاء كامن في الدين نفسه. والواقع أنّ الباحثة لا تعوزها الأمثلة، ولا تجد صعوبة في سرد النماذج في عجز الإسلام العربي على التفاعل مع الآخر، وفي هذا المقام تطنب في تعداد المظالم التي مورست على أهل الذمة وترى "أنّهم قد أبعدوا عن الوظائف المهمة في الدولة الإسلامية" (ص.35) وتقدم الباحثة رؤية جديدة تجافي الموضوعية في تقديرنا وقوامها "أنّ أهل الذمة مهددون بالموت إن تأخر أحدهم عن دفع الجزية أو باشر أحدهم امرأة مسلمة أو اتهم بالخيانة" (ص.36) وفي السياق ذاته تنفي أن يكون التسامح قد ساد الأندلس (التي تطلق عليها إسبانيا المسلمة)؛ لأنّ "الأسطورة الأندلسية قد وفدت إلينا من الرومانطيقيين" (ص.94) فلم تكن معيشًا حضاريًّا ولا واقعًا يوميًّا وتعمد في الأثناء إلى دحض كل أطروحات التعايش التي شهدتها الأندلس وغيرها من المدن الإسلامية بتعلّة أنّ روح التعايش ليست من صميم الإسلام ولا من مزاج المسلمين وخاصة العرب منهم الذين هم مخلوقون على العنف وعلى لغة الإلزام وإذا ما حدث تعايش ما بين المسلمين واليهود أو بينهم وبين المسيحيين فإنّها تقدم تبريرًا غريبًا، وهو في وجود "مسيحيين متعاونين" (ص.54)، وتستخدم هذه المفردة بالحمولة ذاتها التي كانت سائدة بين الفرنسيين المتعاونين مع ألمانيا زمن الاحتلال النازي، أي أنّ هذا التعايش ليس فلسفة يؤمن بها المسلمون ولا فكرًا وإنّما سياقات حضارية ومراحل تاريخية تطلبت أن يقبل الإسلام مبدأ التعايش عن مضض.

إنّ بنية التفكير الاستشراقي للباحثة آن ماري دولاكامبر لا يمكن أن تسع نماذج التسامح والتعايش بين الأجناس المختلفة في ظل الحضارة الإسلامية وتحت حكم المسلمين، وتعتبر ذلك نوعًا من الأدلة الشاذة والبراهين العابرة التي لا تشكك في البنية ذاتها، بنية الإسلام البدوي المنغلقة والمتزمتة والرافضة لأي تغيير مهما تبدلت الظروف وتناوبت الحقب. ففي كلامها عن الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، تعتبر حكمه وفلسفته في الحكم غريبين عن الثقافة البدوية والرعوية التي رافقت نشأة الإسلام وتعتبره أول من شهد ما تسميه "الصدمة الثقافية بمواجهة الشام البيزنطية" (ص.61)، وهذه الصدمة ألهمت الخليفة أساليب التعصير والتحديث لحكمه ولكنها لم تلهمه أيديولوجيا التعصير ذاته؛ لأنّ "هؤلاء هم حفاة عراة أبناء العبيد سليلو الصحراء لم يكفوا يومًا عن الاقتتال فيما بينهم" (ص.61)، وترى أنّ حكم الخليفة الأموي كان محاكاة لنظام حكم القياصرة البيزنطيين وليس تطورًا طبيعيًّا وتاريخيًّا لأنظمة الحكم في الفضاء العربي والإسلامي.

لا تكتفي الباحثة آن ماري دولاكامبر بتغيير التسميات والدوال وإنّما تنكر الوقائع التي كانت موضع اتفاق بين أجيال من الباحثين والمؤرخين والمستشرقين، فالذمي في زعمها ذمي لكي يجبر على الدخول إلى الإسلام، أو هو ذمي لكي يدفع الجزية إلى الحاكم المسلم الظالم، كما لو أنّ غيره من الناس لا يدفعون الزكاة أو الخراج وغير ذلك من الضرائب التي تمثل التمويل الضروري لقيام الدولة بواجباتها واشتغال دواوينها. إنّها تعترف - على مضض - بأنّ للذمي حقوقًا "حرمة دمه، حماية ملكيته، السماح له بممارسة شعائره، ونوع من الاستقلال الداخلي" (ص.36)، ولكنها تستدرك إذ إنّ هذا الذمي - الذي لا يقابله أي توصيف مقابل في الحضارة الغربية - قد فرضت عليه السلطات الإسلامية "عقدًا غير متكافئ" (ص.37)، ما يعني أنّ تلك الحقوق ليست حقوقًا إنسانية بل هي حقوق يمن بها الحاكم المسلم بمزاجية وعنجهية.

في تحليلها لتوسع الرقعة الإسلامية في زمن قياسي تمنح الباحثة للعنصر غير العربي منزلة محورية في تأسيس المدن والحواضر وفي ثبات البنية البيروقراطية لنظام الحكم وفي إشاعة بعض قيم التنوير والعقل. ففي حديثها عن الحضارة العباسية ترى أنّ الفرس هم روحها وعصبها، على الرغم من أنّهم كانوا يعبرون عن آدابهم وعلومهم باللغة العربية التي لا ترى فيها إلا وسيطًا فحسب وليس انتماء وهوية، فاليهود والفرس والسريان كتبوا بالعربية؛ لأنّ الواقع السياسي هو الذي فرض عليهم ذلك، وليس لأنّ في اللغة العربية عبقرية ما، وترى أيضًا أنّ الهيئة القانونية لأهل الذمة هي في العرف الإسلامي هيئة أبدية لارتباطها بمفهوم الجهاد ارتباطًا بنيويًّا وسببيًّا؛ إذ إنّ "مفهوم أهل الذمة والجهاد مترابطان ولا يمكن الفصل بينهما" (ص.51)، ومن استتباعات ذلك، أنّ الأجانب في الإسلام لن يكونوا مواطنين مثل غيرهم.

إنّ انفصام شخصية الإسلام يتبلور في كل المجالات والمستويات وخاصة في مجال الفنون والعمارة ففيما نعتبره نحن روحًا إسلامية خالصة في البناء وفي الرسم وفي تخطيط المدن والحواضر، تراه هذه الباحثة استلهامًا ومحاكاة للأنموذج البيزنطي "وللثقافة العمرانية البيزنطية البديعة" (ص.70) التي كان الخليفة الأموي معاوية ابن أبي سفيان أول من شهد الصدمة الثقافية إزاءها، وتخلص إلى هذه النتيجة التي تكررها في كل ما يتصل بدراساتها عن الإسلام، وهي "إنّ الذكاء الأكبر للإمبراطورية العربية في دمشق قد تجسد في استيعاب - بدون الإحساس بأي عار - تراث الآخر الذي تنتزع ملكه. إنّ الغازي العربي قد أخذ عن الآخر كل ما يناسبه" (ص.66).

إنّ الباب الأول والثاني لهذا الكتاب، يتعاطى مع الإسلام باعتباره منظومتين؛ الأولى متصلة بالبداوة والصحراء، وهي منظومة العرب الأولين، والتي ستظل تحكمهم إلى العصر الحديث وفي كل مناحي الحياة، بما في ذلك منحى الإفتاء الذي تخصص له حيزًا لا بأس به في كتابها، ومنظومة الإسلام غير العربي، الفارسي، التركي، الإسباني، وهي منظومة لا علاقة لها بالإسلام الأول، وتنحو لإحلال نفسها محل الإسلام الأول سواء من خلال آليات التأثر بالآخر أو بإدخاله في الفضاء الإسلامي. المنظومة الأولى مجدبة، لا تفرز إلا إسلامًا متطرفًا، شكلانيًّا، صحراويًّا محكومًا بالعصبيات القديمة وبالفهم البدوي للأمور، فيما المنظومة الثانية مولدة للأنوار ولإسلام الأنوار وهو إسلام من صنيعة ثقافات وأمم أخرى ولا يد للعرب فيه إطلاقًا.

الفتوى والإسلام المعولم وأزمة الأقليات المسلمة

لا يمكن أن ننفي أنّ الإسلام في العصر الحديث قد وقع اختطافه من قبل جهات أصولية نزعت منه كل معاني الرحمة والليونة والمرونة وأسبغت عليه - بنوع من السادية - معاني الشدة والغلظة، وهذا ما نراه مرأى العين في سلوك فئات من المسلمين ممن آثروا التشدد والتمسك الحرفي بالنصوص، إذ كانوا يعتقدون أنّ في هذا التشدد تطابقًا مع المصادر الأولى للرسالة المحمدية وتماهيًا مع الإسلام الأول زمن الرسول.

إنّ ما يثير الباحثة آن ماري دولا كامبر هو سلوك المسلمين الذين استقروا في أوروبا وأصبحوا مواطنين أوربيين؛ فهي ترى في الفتاوى التي تقدم لهم منهجًا مدروسًا ومخططًا لكي تعمق فيهم انفصام الشخصية ما بين دين لا يزال يحافظ على بناه التقليدية والبدوية، وبين واقع أوروبي وثيق الصلة بمفاهيم الحداثة وحقوق الإنسان والحريات الدينية وما سواها. ولذلك، أصبحت هذه الفتاوي فضاءً لأشكال من التعصب المذهبي والطائفي لم يعرفها المسلمون في تاريخهم وخاصة أثناء الحركة الإصلاحية التي رافقت فتاوى زعماء الإصلاح ورواده في العصر الحديث.

ويشير البروفيسور عبد المجيد الشرفي في هذا المقام أنّ الفتوى في عصر الإصلاح "تسير في اتجاه التيسير على المسلمين، وتعمل على تجنيبهم الكوارث الناتجة عن جمود القائمين على المؤسسة الدينية التقليدية"[2] ما يعني أنّ الفتوى كانت تحمل في طياتها نفسًا من التحديث واقفًا من الحداثة في اتجاه الدفع بالمسلم إلى التعايش مع العالم المحيط به والذي لا يكف عن التطور والتغير في أدواته وآلاته وفي أفكاره وتصوراته.

ويرى البروفيسور الشرفي أنّ للفتوى ركنًا لا محيد عنه هو سبب مشروعيتها وإنتاجيتها وهو "فهم النصوص على ضوء مصالح الناس"[3]. أما هذه الفتاوى التي تسردها مؤلفة الكتاب، فإنّها تنهض على قاعدة معكوسة لتلك التي صاغها البروفيسور الشرفي؛ أي "فهم مصالح الناس على ضوء النصوص" وهذا ما أفضى إلى تضييق على المسلمين في الغرب وعلى وسم سلوكهم بنوع من الغرابة في أشياء وظواهر تبدو شديدة البساطة والتفاهة.

إنّ ما نلاحظه في المائة صفحة الأخيرة من الكتاب، هو أنّها تناولت ظاهرة الفتوى والإفتاء من منظور الفقه الجامد الذي ينهض به طائفة من المفتين الذين لا يراعون أو يأخذون بالحسبان السياق الأوروبي أو الغربي للمستفتين؛ فهؤلاء المفتون والمراكز التي ينتمون إليها لا ينتسبون في الأغلب إلى جهات إفتاء تشرف عليها الدولة، حيث الإفتاء أكثر اتزانًا وأخذًا بالمصالح ورفقًا بالناس وتيسيرًا لهم في معاشهم؛ فلا وجود مثلاً لاستشارة فقهية من لدن الأزهر الشريف بمصر، أو الزيتونة بتونس، أو القرويين بالمغرب، وقد حل محل هؤلاء المفتين الشرعيين مفتون من عتاة التشدد والبعد عن الوسطية، حيث لا علم لهم بمجريات الحياة في أوروبا ولا بالأنظمة القائمة فيها، والتي يدعون المسلمين الأوروبيين إلى تجنبها بدعوى أنّها كافرة وخارجة عن الملة. فهم (مثل المفتي السعودي سفر الحوالي والشيخ عطية صقر وغيرهما) يقدمون الفتاوي للمستفتين العرب المستقرين في أوروبا منذ أمد طويل كما لو كانوا مقيمين بالسعودية أو باليمن، فهناك تجريد للمكان، ولهذا استتباعاته السيئة على المسلمين في أوروبا الذين توهمهم الفتيا أنّهم في عصر غير ذي عصرهم، وأنّهم في جهاد ضد الكفر، وإنّهم يستعيدون في متخيلهم عصر النبوة وغير ذلك من الأوهام التي تؤدي حقًّا إلى نوع من انفصام الشخصية لدى المسلمين في أوروبا، وهو انفصام نقره ونراه ماثلاً أمام أعيننا.

يبدو واضحا، أنّ الفتوى والإفتاء في المؤسسات والمراكز الإسلامية في أوروبا قد أصبحا مؤشرين من مؤشرات تمدد الأصولية بين المسلمين واتساع إيديولوجيا الوهبنة بما تمثله من قوة مالية ونفسية كبرى تشمل تأثيراتها الأجيال الجديدة من المسلمين الشباب ومن الجنسين. فهذه الفتاوى تخلق سلوكيات لدى المسلمين لا تفضي إلا إلى انعزالهم عن المجتمع الذي يحتضنهم، وتغرس فيهم أفكارًا تنمّي فيهم الحقد على الغرب وكراهية الآخر وتمجيد الإرهاب بدعوى أنّه بطولة.

إنّنا لا ننكر أهمية بعض النتائج التي توصلت إليها الباحثة إثر مسح سوسيولوجي لنوعية من الفتاوى المعروضة على الهيئات الإسلامية في أوروبا ومن بينها "أنّ الفتوى في الأنترنت تكرس فردانية التدين مع البحث عن ضرب من الكونية وهذه الكونية هي في عداء مع الثقافة الأصلية الأولى التي تربوا عليها في بلدانهم أو مع الثقافة السائدة في المجتمعات الغربية التي تحتضنهم" (ص.194).

إنّ مهمة الفتوى في أن "تقترح الحلول للمشكلات المحسوسة لجموع المسلمين وتقدم المعلومات المتصلة بممارسة الشعائر" (ص.195)، غير أنّها في الفضاء الأوروبي قد غدت مشكلة إضافية تضيق على المسلم الأوروبي من عيشته وتدفعه إلى أن يكون على هامش المجتمع بدعوى أنّه يجب أن يكون ملتزمًا بالشرع وبالتعاليم السماوية الأولى وهذه الفتاوى لا تنطلق من فقه الأقليات أو من فقه الواقع، بل من النصوص ومن الأقيسة التي تلجأ إليها أو من فتاوى مشابهة، فضلاً عن أنّها تنهض في أسلوبيتها وفي خطابيتها على ثنائية "افعل... لا تفعل" (ص.195) وفق معيار "ينقل النصوص ويستشهد بها، ويتجاهل السياق" (ص.195). إذا ما كانت الفتوى في حدها الأصلي والشرعي "إخبار بالحكم الشرعي في النوازل الطارئة التي لا نص فيها"[4] فإنّها في الفضاء الأوروبي غدت "دينًا ضد الدين" بحسب عالم الاجتماع البارز مارسيل غوشيه أي بنية من الأوامر والنواهي تضاعف من الهوة بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين الواقع الذي يعيشون فيه.

تقدم الباحثة الفرنسية قائمة من الفتاوى المتصلة بالمحظورات الغذائية، وبالمرأة وبالزواج وبالمجال الاقتصادي والتجاري وبالجسد وبالميدان الطبي والتطبيب وفي مسائل السحر والشعوذة وفي الجنس، وتنهض هذه الفتاوى على ثنائية السؤال والجواب، في البنية العامة، وعلى أسلوبية افعل ولا تفعل، في البنية الخطابية، وفي كل الأحوال لا يسأل السائل عن وجه الاجتهاد الذي بذله المفتي؛ إذ إنّ ذلك يعتبر أمرًا لا يهمه "إذ أجمع العلماء على أنّ للعامة الاقتصار على مجرد أقوال العلماء، ولا يلزمونهم أن يسألوهم عن وجه اعتقادهم"[5] ويترتب على ذلك خلو الفتوى من أي فكر وأيّة ثقافة فضلاً عن غياب أيّ روح نقدية، أو قدرة على المساءلة أو المحاججة من لدن السائل فما يقوله المفتي هو الحق وما على المستفتي سوى السمع والطاعة.

إنّ الباحثة آن ماري لوكامبر لا تجانب الصواب حينما تصف الإفتاء في أوروبا بأنّه "يسعى إلى فصل العلاقة بين الإسلام من جهة كونه دينًا، وبين أيّة ثقافة محسوسة ولأجل ذلك كانت الفتاوى على درجة كبرى من الشدة والغلظة" (ص.244). وهي تكرس في أفق التقبل العام أنّ المسلم لا يستطيع العيش أو الحركة إلا بجانبه مفت يفتيه في كل شيء وعن كل شيء ما جعل الإسلام حقًّا دينًا كهنوتيًّا يتحكم فيه أهل الإفتاء وشيوخه على العقول، حيث يبدو الإفتاء كما لو كان عقلاً مركزيًّا ينوب العقول الأخرى في أخذ القرار في مسائل تخصها ولو بحد أدنى من الاجتهاد الذي يجب أن يمارسه كل فرد بحسب طبيعة المقام والظرف الذي يحيا فيه.

تخضع هذه الفتاوى التي أوردتها الباحثة الفرنسية إلى أنموذج موحد، وهو: سؤال - حكم - أدلة الحكم، ولا تخضع أبدًا إلى ما تسميه الباحثة البارزة د. زهية جويرو بـ "بنية المناظرة"[6]؛ لأنّ الاستعجال في الجواب جزء من عملية الإفتاء، ولأنّ المفتي "فوق" المستفتي علمًا وتدينًا خاصة إذا ما كان من السعودية (بلاد الحرمين) أو من كبار الشيوخ ممن انشقوا على سلطات بلادهم مثل الشيخ القرضاوي.

نلاحظ أيضًا في هذه الفتاوى المذكورة غياب أيّ "عناصر وضعية"؛ ونعني بالعناصر الوضعية كل ما يشير إلى العرف الجاري في المجتمعات التي يقيم فيها المسلمون، وإلى طبيعة تلك المجتمعات، حيث طغى جانب المطابقة مع النصوص على جانب التأويل والفهم وملاءمة وضعية المستفتي مع الحال والظرف والمقام، وهذا ما جعل هذه الفتاوى تخدم الخطابات الأصولية، وتبرر السلوكيات الانعزالية ضد المجتمعات الغربية، وتقصي فئة من المسلمين من الفضاء العام.

إنّ هذه الفتاوى بحكم جفافها التأويلي وأزمتها مع السياق والمقام لا يمكن أن تشكل مدونة فقهية – تشريعية تساعد المسلمين على أن يكونوا أكثر حضورًا وفاعلية في بيئاتهم الجديدة وفي العمل المؤسساتي على عكس ما كانت عليه الفتاوى القديمة زمن ابن رشد مثلاً، حينما كانت تمثل مقدمة مهمة لمدونة فقهية – تشريعية تتجاور فيها المرجعية الإلهية بالقدرات التأويلية الفذة للعقل البشري في التعاطي مع المشكلات الحادثة ومع النوازل الجديدة.

إنّ للعرف الجاري قديمًا دورًا مهمًّا في الفتوى وكان المفتي الأندلسي على سبيل المثال يصدر فتواه بناء على "العرف الجاري به العمل" أو "عمل أهل قرطبة" فهل يمكن قياسًا على ذلك أن نقول في مسألة التبرع بالأعضاء للميت على سبيل المثال، بـ"عمل أهل فرنسا" أو "عمل أهل سويسرة" وهم من الشعوب المعروفة في العالم بتبرعها بالأعضاء لإنقاذ حياة آلاف من البشر الأحياء المرضى، خاصة وأنّه ليس هناك "عمل دولة عربية" في هذا السياق؛ إذ إنّ القضية حادثة وجديدة.

وخلاصة القول إنّ كتاب الباحثة آن ماري دولاكامبر يدرس مسألة الفتوى في الإسلام، ويحاول تبيان خلفيتها النظرية ومنجزها التطبيقي، وهي تثبت حقيقة لا أحد ينكرها وهي أنّ الفتوى في أوروبا لا تتلاءم مع نمط الحياة الأوروبية؛ إذ إنّها تخلق مشاكل جديدة عوض أن تحل المشاكل القائمة. ويمكن عد الفتاوى في أوروبا وجهًا من وجوه انعزال المسلمين عن الفضاء الأوروبي العام بما يمثله ذلك من خطر على اندماجهم في مجتمعات يرون أنّها مجتمعاتهم ولا بديل عنها.

هم يقيمون في هذه المجتمعات الغربية، ولكنهم - عبر الفتاوى الصادرة في شؤونهم - لا يرون أنفسهم طرفًا فيها وجزءًا منها كما تفعل الأقليات الأخرى. وهذا في ذاته بيئة ملائمة لكل صيغ التطرف وأشكال التشدد.

[1] كل الإحالات إلى هذا الكتاب تعود إلى الطبعة التالية /آن ماري دولاكامبر، انفصام شخصية الإسلام، باريس، دار دوكلي دي برويار، 2006

[2] انظر مقدمة البروفيسور عبدالمجيد الشرفي في كتاب الباحثة زهية جويرو "الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ"، بيروت دار الطليعة، ص 6

[3] المقدمة ذاتها، ص 6

[4] زهية جويرو، الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ، بيروت، دار الطليعة، ص 139

[5] المرجع السابق، ص 148

[6] المرجع السابق، ص 150