الضرورة في القانون الإسلامي المعاصر حالة زرع الأعضاء


فئة :  ترجمات

الضرورة في القانون الإسلامي المعاصر حالة زرع الأعضاء

الضرورة في القانون الإسلامي المعاصر

حالة زرع الأعضاء

تأليف: بورجيث كرافيتز

ترجمة: جواد رضواني

من خلال تفحّص لمجموعات فتاوى خاصّة بالقرن العشرين، نواجه عدداً مميّزاً من التطورات الحديثة التي تنادي بحلول شرعية جديدة (اجتهاد). إن حدوث مثل هذه المشاكل يمكن ملاحظته على مستوى مجموعة من المجالات القانونية، حيث يتم تصنيف هذه المجالات الجديدة من طرف الخبراء في الشريعة.

على الرغم من وجود المجموعة الرسمية الضخمة للفتاوى الإسلامية من دار الافتاء المصرية[1] التي تتضمن تصريحات قانونية للمفتين المصريين الكبار، وبعض مجموعات الفتاوى السعودية[2]، التي تضم فتاوى فردية وجماعية تمّ الإدلاء بها من طرف أبرز علماء الدين في الدولة، مثل ابن باز وابن جبرين، تبقى أكبر نسبة من الصياغات القانونية قد تمّ وضعها ضمن ما يُدعى بإفتاء مؤسسات الدولة التي تم تأسيسها في دول عربية مختلفة منذ القرن الماضي، لا تزال غير متوافرة من أجل البحث المناسب الشامل.

وعليه، فإن دراسة منهجية لهذا الكم من الفتوى، مع التركيز على مواضيع الاجتهاد[3] بشكل عام، لا يزال لم يظهر بعد. والأكثر من ذلك، فما نحن بحاجة إليه كذلك هو المقارنة بين تناول هذه المواضيع في دول مختلفة، بين المفتين والفقهاء الآخرين، والمتاح لدينا الآن من الفتاوى، سواء رسمية أم غير رسمية، هو كلّ ما لدينا لاقتفاء أثر أيّ نوع من التطورات العامة للتشريع الإسلامي الحديث.

على سبيل المثال، توجد رسالة بحث دكتوراه عنوانها «الفتاوى التونسية للقرن الإسلامي الرابع عشر» قد تمّ تقديمها لكلية الشريعة في جامعة الزيتونة عام (1406/1986). صاحبها، محمد بن يونس السويسي، ضمنها جميع الفتاوى الرسمية التونسية للفترة ما بين (1883 و1979)، التي أمكنه الحصول عليها من السلطات الحكومية. إلى جانب اهتمام متواصل بالمواضيع التقليدية، يبقى تأثير العالم المعاصر، الذي تم تسريعه من خلال حضور القوّة الاستعمارية الفرنسية، واضح جداً عبر العمل كلّه. إن «مسايرة الفتوى للمستحدثات العصرية، التي يتم الإحالة عليها تحت اسم المبتكرات، المخترعات، المكتشفات[4]، يمكن ملاحظته من خلال أربعة مجالات أساسية: مستحدثات متعلقة بالمأكل والمشرب؛ التعاملات المالية الحديثة؛ الممارسات الطبية الحديثة؛ التطورات التقنية[5].

إن التطورات التي تحدث بشكل متواصل في هذه المجالات غالباً ما تواجَه، وتتواصل مواجهتها، باهتمام عمومي كبير. لكن، مع ذلك، يبقى هناك تردّد، وشكّ، وحتى مقاومة في بعض الحالات. إن مجموعة السويسي، مثل ما يتعلق بالفتاوى الشهيرة لمحمد رشيد رضا التي جمعها في المنار، هي دليل على أنّ المصلحة العامة تؤدي دوراً مهمّاً في شرعنة العديد من المنتوجات، والإجراءات الخاصة بالحياة المعاصرة. لقد تمّت ملاحظة هذا المسار بشكل متواصل. من خلال الحديث حول المصلحين المعاصرين مثل رشيد رضا، لاحظ كور بان «جوهر فقههم، الذي تبنّاه الحداثيون بشكل خاص كأساس نحو الدينامية والأنسنة، هي فكرة المصلحة (الخير، النفع، الفائدة)»[6]. والسؤال هو: هل يمكننا أن نذهب بشكل أبعد فيما يخصّ المصلحة على أنّها نوع من الوسيلة (الكلية) الشاملة، التي ترتبط وتتقاطع مع جميع أنواع التحديث. يرى بعض المؤلفين أن المصلحة باب خطير نحو الأحكام القيمية الإنسانية، أو أنها النقطة الأضعف في النظام القانوني الإسلامي. وغالبا ما يتهمون الحداثيين بخرقها: «ينبني ادعائهم حول اعتبار المصلحة العامة مصدراً للتشريع، من حيث إنها تساعد على تقويض التشريع الإلهي في مقابل التشريع الوضعي»[7]. يجب أن نتذكر أن المصلحة، باعتبارها مفهوماً واضحاً، مع الضرورة كأحد مكوناتها الأساسية، تبقى مفهوماً نسبيّاً قد التحق بنظرية أصول الفقه مؤخّراً[8]. بعد إنجاز الشافعي فيما يتعلق بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتصنيفه الاجتهاد بما هو عملية (قياس) فكرية منطقية، فإن توضيح مفهوم المصلحة يتضح بأنه التطوّر الأساسي الذي جلب مكونات مهمّة إلى عالم النظرية الفقهية الكلاسيكي الثابت[9]. لقد وفرت المصلحة توازناً للصفة «الإيجابية» للنظرية القانونية الكلاسيكية الافتراضية التي «تعتمد كثيراً على المصادر» و«لا توفر مجالاً رحباً لتناول» القيم العامة. وهذا يعني أن أيّ حكم يمكن اعتباره قانوناً، ما دام يمكن استنتاجه صناعياً من المصادر[10]. ومن ناحية أخرى، تقوم المصلحة بنشر فكرة عن التطور والنمو القانوني الشرعي جنباً إلى جنب مع القواعد العامة المعروفة. مع ذلك، هناك مواضيع عديدة يمكن اختيارها من أجل تحديد هذا النقاش، ولكي تضع اليد على القيمة الحقيقية التي تعطى «للضرورة والحاجة». على سبيل المثال، ظاهرة القرن العشرين المتمثلة في إدخال الصورة إلى العالم الإسلامي، ووسائل الإعلام، والفن الأوروبي، قد فرضت، ولا تزال تفرض، مشاكل فيما يخص المفهوم الإسلامي الحقيقي المتعلق بما يُسمّى «التجسيد». من خلال عملية تأمّل، من بين المجالات الحديثة التي أشار إليها السويسي، يعدّ المجال الطبي أحد أهم المواضيع التي تتعلق بالضرورة والمصلحة. في الفتاوى التونسية المتعلقة بالقرن الإسلامي الماضي، حسب الوثائق المتعلقة به، هناك مجموعة واسعة من الأسئلة التي يتم تناولها تحت عنوان «الضرورة الطبية»، وهي تتنوع من التخصيب الصناعي وصولاً إلى جراحة الأسنان ونقل الدم[11].

أريد أن أركّز هنا على زرع الأعضاء (نقل الأعضاء)؛ لأنه يمكن أن يكون مثالاً يمكننا من خلاله إخضاع مجموعة من المظاهر الخاصة بنظرية الضرورة/المصلحة للتجريب. إنه يتألف من مجموعة من المصالح والحاجات، بما في ذلك إنقاذ الحياة، وإطالة أمد الحياة، أو تحسين مستوى الحياة، تقدير الحقوق المتزامنة بين الناس الأحياء، وكذلك بين الأحياء والأموات. لا أجد حالة أفضل من هذه توفّر لنا مواضيع بهذا الحجم، وتتعلق بمفهوم المصلحة. مع ذلك، من خلال إلقاء نظرة على المؤلفات الغربية التي تتعامل مع حالات اجتهاد، يتبيّن لي أن هناك غياب واضح لتناول مواضيع لها علاقة بخصائص النظرية القانونية. على سبيل المثال، يخبرنا ريسبلر-حايم بأن «كل الفتوى الطبية تعطي مثالاً عن مقاربة براغماتية. المبدأ الأساسي الذي يعتمده المفتون هو الضرورات تبيح المحظورات»[12]. إنها تقول كذلك إن «الشرع الإسلامي يسمح بنقل جميع أنواع الأعضاء[13]، وإن مجموعة من التصريحات التي يتمّ اقتباسها بشكل عام فيما يتعلق بزرع الأعضاء، قد ساهمت في توضيح موقف الأخلاقيات الطبية الإسلامية، ورغبتها في تجاوز الممنوعات الشرعية عندما يتعلق الأمر بإنقاذ حياة»[14]. بشكل عام، ليس هناك أيّ تحليل مفصّل في المؤلفات العلمية الإسلامية فيما يتعلق بالقواعد الاجتهادية المحدّدة فيما يخصّ نقل الأعضاء، كما فيما يخص مواضيع مشابهة[15]. أشكّ في أنه سيكون هناك أيّ استعمال غير واعٍ، أو استعمال عامّ وغير مضبوط لمبدأ «الضرورة والحاجة» لمنع الاستفادة من الإنجازات الطبية المتعلقة بالحضارة المعاصرة. إن الموضوع العام المتعلق بنقل الأعضاء يتطلّب، في الواقع، دراسة مفصّلة من طرف العلماء المسلمين. وإذا تركنا جانباً المشاكل المعقدة، مثل قبول الموت الإكلينيكي في الشرع الإسلامي[16]، سوف أكتفي بقضية استئصال الأعضاء من الموتى لصالح الأحياء. وهذه العمليات أكثر إثارةً للمشاكل من، مثلاً، وهب الكلى للأقرباء (التي هي الآن عملية منتشرة جداً على مستوى العالم الإسلامي) ونقل الأعضاء من الحيوانات لزرعها في الجسم الإنساني نفسه. هناك، على الأقل، بحثان عربيان يتعلقان بنقل الأعضاء يعارضان بشراسة وجدية نقل الأعضاء من أجساد الموتى[17]، لكن هذا لا يعني أن الفتاوى الأخرى، أو الدراسات المبنية على الفتاوى التي تجيز هذا التصرّف المتعلّق بنقل الأعضاء، بشكل عام، فيها نوع من التجاوز لشرط الاجتهاد.

إن الانطباع الأول، حتى فيما يخصّ الفتاوى القصيرة، هو أنّه لا يوجد موضوع، مهما كانت جدته، لا يمكن أن نعثر له على سوابق في التراث الفقهي الإسلامي. وفيما يأتي المكوّنات الأساسية للاستدلال القانوني الموجود في الفتاوى[18]:

1- في البداية، غالباً ما حدّد الفقهاء المبدأ الإسلامي الأساسي، الذي يمنع أيّ تعامل طبي، الموجود في المؤلفات التقليدية. وهذا فحسب عبارة عن توجّه أساسيّ، وهو لا يعني أن جميع التسهيلات الطبية تمرّ دون استفتاء على أساس أنها ممارسات شرعيّة؛ أي إن الحاجات الطبية لا تمثّل ضرورة مباحة.

2- الضرورة الطبية (باعتبارها حالةً خاصةً للضرورة) هو موضوع له تاريخ في الكتابات الإسلامية القانونية. وهو غالباً ما يُثار تحت موضوع التداوي بالمحرمات[19]. والمبدأ مبني على القرآن نفسه[20]. على سبيل المثال، بالنسبة إلى الباحث في مجال الشرع، عندما يكون شخص على وشك الموت بسبب العطش، يجوز له شرب الخمر لإنقاذ حياته، أو عندما يكون على وشك الموت من الجوع، يمكنه أكل لحم الخنزير أو الجيفة. تعدّ هذه التفسيرات القرآنية ذات قيمة عليا بالنسبة إلى إباحة استخدام المخدرات خلال عملية جراحية.

3- مع ذلك، لا يمكن لمبدأ التداوي بالمحرمات أن يُستعمل حلّاً عامّاً لسؤال نقل الأعضاء. في الفقه السنّي، لا يعدّ الجسد نجساً، ويمنع بذلك لمسه، لكن يعدّ التصرف فيه، حتى إن كان لفظياً، ممنوع، وذلك بسبب المبدأ الأساسي للحرمة؛ أي قدسية الجسد. وهو مبدأ يتم الالتزام فيه بجدية في القانون الإسلامي[21]. بناءً على أهمية مبدأ الحرمة، يصير من الصعب جداً، في حالة نقل الأعضاء، تجاوز التشريعات القرآنية المتعلقة بحالة شرب الخمر، التي لها تنازلات فحسب حسب حالات خاصّة. يربط بعض الكتّاب هذه الأهمية الكبرى بمبدأ الحرمة، ويرفضون بذلك عملية نقل الأعضاء، حتى إن تعلّقت بمقلة عين[22].

4- أغلب الفقهاء، على الرغم من أنهم يعترفون بالأهمية الكبرى لمفهوم الحرمة، ويلحّون عليها، لا يفسّرونها بهذا الشكل العام والمميز؛ إذ يعدّون الموضوع في حاجة إلى اجتهاد أكثر؛ وذلك نظراً لأن الوجود الجسدي للشخص الحيّ على المحكِّ. ولأنه ليست هناك أيّ تعليمات واضحة ومحددة في كلٍّ من القرآن والسنّة، يناقش فقهاء الشرع الحالات التقليدية التي بإمكانها أن تساعد في اللجوء إلى قياس المماثلة. وغالباً ما تظهر مجموعة من الحالات التقليدية خلال مثل هذه النقاشات، والأهم من بينها هي: فتح بطن الأم المتوفاة من أجل إنقاذ حياة الرضيع؛ فتح الجسد من أجل انقاذ متاع ثمين[23]؛ لجوء الأعداء إلى استعمال عائلة مسلمة درعاً بشريّاً خلال الحرب؛ أكل بعض أجزاء جسد الميت[24].

يتم اعتماد الحالة الأخيرة في المؤلفات الإسلامية على أساس أنه أفضل مثال، حيث يمكن وضع قياس مشابه يتعلق بنقل الأعضاء. وغالباً ما يتمّ التطرّق إلى مثل هذا الموضوع تحت عنوان «الانتفاع بأجزاء الميت» أو «استعمال أعضاء الميت في معالجة الحيّ»[25]، وهو موضوع تمّ التطرّق له بشكل واسع جدّاً، لكن لم يصدر عنه أيّ توافق. أمّا بشأن الشخص الذي يُعاني من الجوع إلى درجة أنّه مهدّد بالموت، يمكنه الأكل من أعضاء الميّت، مادام لا يتوافر له غير ذلك، هو أمر ليس مذكوراً في القرآن بشكل تلقائي فيما يخصّ السماح المتعلق بأكل الميتة. على الرغم من ذلك، يبقى سبّب مبرر السماح هو حماية حقّ الحياة، وهي أحد الكلّيات الخمس التي يوليها الشرع الإسلامي قيمةً عليا. الأمر الأهم هو ليس فعل الأكل ذاته، لكنه هو استعمال الميتة، وفي مثل هذه الحال، استعمال جثة الإنسان (الميّتة).

والأكثر من ذلك، إن نقاش نقل الأعضاء من واهب ميت يتمّ ربطها بحالات اجتهاد سابقة، ولاسيما ما يتعلق بتشريح الجثث، التي تشكّل سابقة مهمّة[26]. تشريح الجثث مسموح به في الإسلام بناءً على ثلاثة أهداف في التشريع الإسلامي: أهداف طبية: الكشف عن سبب الموت الرئيس (مرض يتعلق بمرض سببه عدوى خطيرة، مثلاً)؛ الكشف عن أفعال إجرامية؛ من أجل أهداف علمية (باعتباره مثالاً يساعد في تلقين الدروس لطلبة الشعب الطبية)[27].

تساعد عملية استهلاك أجزاء من جسم الميت في حماية الحياة. أمّا الأسباب الثلاثة التي يسمح بموجبها تشريح جثة الميت، فتساهم، وإن بشكل غير مباشر، في ضمان الهدف نفسه. وهذا الهدف مبرّر بشكل لا شكّ فيه من حيث هو ضرورة. على الرغم من ذلك، تتعقّد الأمور أكثر عندما يكون التعامل مع الميت لا يخدم مبدأ إنقاذ الحياة، لكنه يفيد فحسب في تمديد أمد الحياة لمدة «قصيرة» أو «تحسينها». في مثل هذه الحالات، يمكن لشروط الضرورة[28] أن تكون غائبة، كما يمكن أن تكون التقنيات الطبية المتعلقة ببعض الأعضاء لم يتمّ تطويرها بشكل كافٍ بعد. في مثل هذه الحالات، يحتاج المفتون إلى معلومات مُحينة (جديدة) حول الحظوظ الفعلية المتعلقة بنسبة نجاح العملية دون ترقّب واضح لعملية الشفاء التي تفوق مطلب عدم التدخّل فيما يتعلق بجسد ميّت، ليس للفقيه أيّ سبب للرضوخ لهجوم على فتواه بحجة تتعلق بالحرمة[29]. بعض المفتين، يتجاوزون الحاجز العظيم للحرمة من خلال تصريحهم بالنيّة الهدمية تجاه تحقيق المضرّة جزءاً أساسياً من هجوم على الحرمة. في مثل هذه الحالات، حيث يكون الدافع واضحاً، مثل حالة الطبيب الذي يكون هدفه هو تعافي المريض، لا يمكن الحديث عن التفريط في سلامة الجسد الإنساني.[30]

هناك تحفّظ خاص عبّر عنه بعض المؤلّفين، ويتعلق بحفظ أعضاء الجسم في بنوك الأعضاء. من وجهة نظر النظرية الفقهية الإسلامية تتمثل الصعوبة في غياب حالة سابقة تتعلق بالضرورة. يذهب الذهبي إلى حدّ أنّه يسخر قائلاً إنه في حالة السماح بوجود بنوك أعضاء، سيكون بإمكان أيّ شخص أن يحمل معه جثّة، والخمر، ولحم الخنزير؛ وذلك بحجّة إمكان إيجاد الشخص نفسه للضرورة إليها[31]. إن ما يحيل عليه هو غياب الحالة المعنية للضرورة. وفي علاقة كذلك ببنوك الأعضاء هناك الموضوع الكلاسيكي المطروح والمتعلق بكمية الميتة، أو أيّ شيء محرّم، الذي يمكن للشخص أن يستهلكه. وسؤال آخر يتعلق بإمكانية تزويد نفسه بكمية معيّنة من الأشياء الممنوعة، أكانت ميتة، جثة، أم شيء آخر عندما، مثلاً، يكون بصدد الخروج (السفر عبر) إلى الصحراء.[32]

إن نقل الأعضاء ليتعلق بـ «مشاكل شرعية وأخلاقية كثيرة جداً»[33]. يتبيّن لي أن أغلبية الفقهاء المسلمين يتعاملون بجدية مع أدوات الاجتهاد، آخذين إمكانية التحايل (إمكانية إعادة الضبط) في الشرع الإسلامي في الاعتبار بشكل مستمر[34]. وهذا يعني أنّه ليس هناك اتفاق عام حول شرعنة نقل الأعضاء. بدل ذلك، هناك محاولات حثيثة لتفسير المظاهر المتعددة لنقل الأعضاء، ولاسيما فيما يتعلق بشروط المصلحة التي من دونها سيكون مفهوم الضرورة/المصلحة قادر على خلق مناسبة من أجل أحكام قيمة إنسانية. المشاكل غير المتوقعة في النظرية القانونية يمكنها أن تظهر في أيّ مرحلة في عملية الاجتهاد. بهذا المعنى، إن بنوك الأعضاء لا يتمّ تبريرها، باعتبارها نتيجةً منطقيةً لنظرية عامّة تبيح نقل الأعضاء. إن القصر المعرفي لبعض الفتاوى يتمّ تأويله بسهولة، وبشكل غير مفهوم، على أنها أحكام لا تردّ. مع ذلك، تلك الفتاوى ليست إلا خطوة أولى نحو إجراءات مختلفة للاجتهاد، التي هي الآن تهتم بها دراسات مفصّلة وجديّة من طرف الفقهاء المسلمين. هناك تحذير بأنه لا يجب استخلاص نتائج بشكل سريع فيما يخصّ محتوى الشرع الإسلامي وطبيعة تفسيره للأشياء فحسب من خلال الرجوع إلى ما ألّف في مجال الفتوى، ليس هناك أيّ شيء يبرّر لنا إصدار حكم عامٍّ مطلق وغير مقيّد؛ بدل ذلك، هناك إمكانية لمواصلة، أو سحب أيّ تنازل مبدئي قدّمه الاجتهاد. وهذا ممكن جداً من خلال الاهتمام المستمر للمفتين لما يحصل. في حالتنا هنا ما يحصل في مجال الطب. فعلى سبيل المثال، إن اعتماد جثث الموتى من أجل أهداف دراسية يمكنها، إلى حدٍّ ما، أن تصبح غير ضرورية مع التقدم التكنولوجي الذي يقدم محاكيات رقمية مشابهة[35]. تؤدي مثل هذه الاهتمامات نحو نقطة أخرى؛ الحاجة العامة إلى المعرفة التي يقدّمها خبراء علمانيون، سواء توصل المفتي نفسه إلى هذه المعرفة، أم أنه اعتمد «فتاوى علمانية» في تشريعاته. ليس لدي أيّ علم بأيّ نوع من هذه الدراسات الخاصة بظاهرة القرن العشرين. لهذا نتائج جيدة على الاجتهاد بوصفها عملية مستمرة؛ لأنه من غير الواقعي توقّع ظهور مجتهدين من نوع خاصٍّ لهم علم يتعلق بمجالات لا علاقة لها بالفقه. وهذا يسرّع الفتاوى الجماعية، ليس فيما بين فقهاء الفقه فحسب؛ بل أيضاً طرق التعاون مع خبراء علمانيين. من أجل دراسة الضرورة والمصلحة، يجب التوجّه، أوّلاً، نحو الاجتهاد. إنه على هذا المستوى فحسب يمكننا فهم الأبعاد المعاصرة للضرورة، مثل دور الأزمات النفسية (مثلاً في حالة إجراء عملية جراحية تجميلية، معالجة عن طريق الموسيقى[36]، عمليات التحوّل الجنسي، والإخصاب الاصطناعي)[37]. لقد تمّ التعبير عن هذه المواضيع، حتى في الكتابات النظرية حول الضرورة/المصلحة، أو حول موضوع مواكبة ومسايرة الشريعة للحياة المعاصرة بشكل عام[38].

وبعد أن نأخذ في الاعتبار هذه المستجدات كلّها، ربّما لا نكون بصدد حالات تقليد أعمى للشاطبي من قبل الفقهاء المعاصرين، من خلال الإتيان على ذكر وجود فقهاء يتعاملون مع العلمانية، لكننا، بدل ذلك، فنحن نشهد تطوّر بنية شرعية نظرية إسلامية غنية جداً تشتغل ضمن مجال الفتاوى والدراسات والأبحاث التي تنتج عنها. سواء كانت السلطات الحكومية في البلدان الإسلامية تهيمن على اكتشافات رجال الفتوى، أم، على الأقل، يؤثرون على أحكامهم، فهده مشكلة أخرى. أمّا الخبراء الشرعيون المسلمون، فهم من جهتهم يواصلون تقديم حلول لمشاكل تتعلق بالحياة المعاصرة.

[1] - الفتاوى الاسلامية من دار الإفتاء المصرية، القاهرة، 1980. انظر كذلك: Rudolf Peters, `Muhammad Al-Abbasi al-Mahdi (d. 1897), Grand Mufti of Egypt and his al-Fatawa al-Mahdiyaa,' Islamic Law and Society 1 (1994), 66-82

[2] - على سبيل المثال، فتاوى إسلامية لمجموعة من العلماء، وهم: الشيخ عبد العزيز ابن باز، الشيخ محمد ابن العثيمين، الشيخ عبد الله ابن جبرين بالإضافة إلى اللجنة الدائمة للإفتاء، تنسيق: قاسم الرفاعي الشماعي، المجلد 3، بيروت، 1988.

[3] - نشر عمل (Jakob Skovgaard-Pterson) وما توصّل إليه من نتائج ستظهر قريباً. لقد وضع (Gerd Rudiger Puin ) مدخلاً إلى الفتاوى السعودية تحت عنوان: Der Moderne Alltag im Spiegel hanbalitischer Fetwas aus ar-Riyad, Zeitschrift der Deutschen Morganlandischen Gesellschaft, suppl. 3 (1977), 589-97.

[4] - السويسي، محمد بن يونس، الفتاوى التونسية في القرن الرابع عشر الهجري، وهي لا تزال غير منشورة بحدّ علمي، ص257

[5] - السويسي، الفتاوى، ص258

[6] - Malcolm H. Kerr, Islamic Reform: The Political and Legal Theories of Muhammad Abdullah and Rashid Rida (Berkeley/Los Angeles, 1966), 55.

[7]- مصلح الدين، محمد، «القضاء الإسلامي وقاعدة الحاجة والضرورة»، Islamic studies 11 (1973), 37-52, especially 37

[8] - من أجل معلومات أساسية قبل الشاطبي (790/1388) انظر: Khalid Massoud, Islamic Legal Philosophy: A Study of Abu Ishaq al-chatibi's Life and Thought (Delhi, 1989), 149-72.

[9] - Ihsan A. Bagby, `The Issue of Maslaha in Classical Islamic Legal Theory,' International Journal of Islamic and Arabic Studies 2 (1985), 1-11, especially 3.

[10] - المرجع نفسه، ص5.

[11] - من أجل نظرة عامة، انظر: Vardit Rispler Chaim, Islamic Medical ethics in the Twentieth Century (Leiden, 1993) ; Birgit Krawitz, Die Hurma: Schariatrechtlicher Schutz vor Eingriffen in die Korperliche Unversehrtheit nach Arabischen Fatwas des 20. Jahrhunderts (Berlin, 1991).

[12]- Rispler-Chaim, ethics, p.145

[13] - المرجع نفسه، ص42

[14] - المرجع نفسه، ص30

[15] - إن أحد الحالات المستحبة، وأحد الخطوات المهمة في هذا الباب، هو ما يقدمه محمد نعيم ياسين: 'The rulings for the Donation of Human Organs in the Light of Shariaa Rules and Medical Facts,' Arab Law Quarterly 5 (1990), 49-87

[16] - جاد الحق، جاد الحق علي، بحوث وفتاوى إسلامية وقضايا معاصرة، القاهرة، 1900، المجلد 2، 491-530

[17] - الذهبي، مصطفى محمد، نقل الأعضاء بين الطب والدين، القاهرة، 1993. العقيلي، عاقل بن أحمد، حكم نقل الأعضاء مع التعقيبات البينة على من تعقب ابن تيمية، جدة، 1992

[18]- عندما لا توجد أدلة واضحة حول مصدر ما أحيل على بحثي المنشور حول زرع الأعضاء كما تمّ أخذها عن فتاوى القرن العشرين: Krawietz, Die Hurma, pp.169-202

[19] - إدريس، عبد الفتاح محمود، حكم التداوي بالمحرمات، القاهرة، 1993

[20] - القرآن الكريم، 2: 168، 5: 3، 119: 6، 16.116

[21]- من أجل توضيحات حول هذا المبدأ: Krawietz, Die Hurma, pp.317-26 et passim

[22] - على سبيل المثال: السنبهيلي، محمد برهان الدين، قضايا فقهية معاصرة، بيروت/دمشق، 1988، ص67ف.

[23]- تم التطرق إلى هاتين الحالتين في: Krawietz, Die Hurma, pp.139-42

[24] - على سبيل المثال، اليعقوبي، إبراهيم، شفاء التباريح والأدواء في حكم التشريح ونقل الأعضاء، دمشق، 1986، ص50، 53 ف، 82-4، 87

[25] - زيدان، عبد الكريم، مجموعة بحوث فقهية، بغداد، 1982، ص188

[26] - من أجل تفحصات ما بعد الوفاة بشكل عام، انظر: Rispler-Chain, ethics, pp.72-83; Krawietz, Die Hurma, pp.147-52.

[27] - من أجل معلومات أكثر، انظر: ابن باز، عبد العزيز، حكم تشريح جثة المسلمين، 1976

[28] - البوطي، محمد سعيد رمضان، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، بيروت، 1992

[29] - العربي، بلحاج، «حكم الشريعة الإسلامية في أعمال الطب والجراحة المستخدمة»،

[30] - Revue Algerienne des Sciences Juridiques Politiques et Economiques 31 (1993), 564-606, especially 585

[31]- Krawietz, die Hurma, p.177

[32] - الذهبي، نقل الأعضاء، ص72

[33] - اليعقوبي، الشفاء، ص60، 73، 82، 87. من أجل فكرة موسعة حول مبدأ الضرورة تقدر بقدرها، انظر: الذهيلي، وهبة، نظرية الضرورة الشرعية، بيروت، 1985، ص245-54

[34] - Badr Durraz Ahmed, `Organ Transplant and he right to Die,' Islamic and Comparative Law Quarterly 7 (1987), 121

[35] - على النهج نفسه يتوصّل، اليعقوبي، الشفاء، ص106-8، إلى نحو 16 شرطاً، أو وضعاً يجب الأخذ فيها قبل السماح بزرع عضو ما.

[36] - العقيلي، حكم نقل الأعضاء، ص18. الذهبي، نقل الأعضاء، ص12

[37] - إدريس، حكم التداوي، ص349-56

[38]- Krawietz, Die Hurma, pp.210-21 ; Rispler-Chain, Ethics, pp.19-27