أسرار التوراة قراءة في كتاب في روجيه صباح


فئة :  قراءات في كتب

أسرار التوراة قراءة في كتاب في روجيه صباح

صدر عن دار بترا للنشر والتوزيع كتاب "أسرار التوراة" لمؤلفه روجيه صبّاح، ترجمة صالح بشير، الطبعة الأولى 2007. والكتاب يقع في ثلاثة عشر فصلاً، بالإضافة إلى توطئة ومدخل ثم خاتمة.

تبدأ التوطئة بطرح سؤال قلّما يستوقفنا، رغم أنّ إثارته يفرضها السياق التوحيدي برمّته. ويتعلق السؤال بموقف ديانات التوحيد من الفراعنة، يقول نص السؤال: "لماذا يظهر فراعنة التوراة بمظهر الكائنات الكريهة اللعينة في نظر الديانات التوحيدية الثلاث؟ إذ لم توفر اليهودية والمسيحية والإسلام أقسى الألفاظ في هجاء مصر القديمة واتهامها بالوثنية. فلماذا كان على ذلك البلد، بالرغم من حضارته الممتدة على ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، أن يرزح إلى الأبد تحت نير لعنة الكتب المقدّسة؟ ولماذا كلّ تلك الكراهية بين العبرانيين والمصريين؟" (ص: 7).

يقدَّم العبرانيون عادة بوصفهم شعباً ساميّاً، اضطر أجدادهم للهجرة إلى مصر تحت ضغط المجاعة (قصة يوسف وإخوته). تعرضوا للإهانة والسخرة من طرف فراعنة مصر، مما اضطرهم إلى الهجرة مرّة ثانية تحت قيادة موسى. ويصور "سفر الخروج" هذه الهجرة الثانية نحو الصحراء عبر البحر الأحمر، بكونها كانت تدخلاً إلهياً لإنقاذ "شعبه المختار". بيد أنّ التوراة، مع ذلك، تتحدث عن صنفين من الفراعنة: صنف يرمز إلى الخير من قبيل "ملك مصر الذي عرف يوسف"، أي الفرعون الذي نصّب يوسف قائماً على خزائن مصر؛ وصنف يرمز إلى الشر من قبيل "ملك مصر الذي لم يعرف يوسف"، أي الفرعون الذي عاصره موسى وأحدث انقلاباً جذرياً في ديانة المصريين، وكان ذلك وبالاً على الإمبراطورية بأسرها. ولكنّ التوراة لا تسمّي الفراعنة بأسمائهم، بل قدمتهم بأسماء عبرانية، قصد التورية والتعمية لئلا ينكشف الأصل المصري للدين وللشعب العبرانيين.

يطرح الكتاب الذي بأيدينا على نفسه مهمة الكشف عن الأسماء الأصلية من خلال تفكيك الأسماء المستعارة، أي الأسماء التي نصادفها في التوراة. يقول المؤلف في هذا الصدد: "يتوافق اسم موسى نفسه مع اسم رعمسيس الأول، واسم هارون مع اسم الفرعون حورمحب. يروي النص أنّ موسى، الذي "أُنقِذ من اليمّ"، تربّى في كنف ابنة فرعون (هل يتعين التذكير أنّ التوراة لا تذكر أبداً اسم ملك مصر، وهو اسم مقدّس يُحظر التفوه به). ثم إنّ موسى "يقتل ناظراً" مصرياً، كان يضرب عاملاً عبرانياً. في اليوم التالي يعنف موسى عبرانيين كانا يتشاجران. سأبيّن أنّ مقتل المصري الذي ضربه موسى لا علاقة له بقتل مجرد ناظر كان يعتدي على عامل، وأنّ النصوص القديمة كانت تقدّم القتيل على أنه ملك مصر، وأنّ العبرانيين اللذين عنفهما موسى هما، حسب الروايات المتوفرة، ابنا ذلك الفرعون نفسه. وأنّ الكاهن يثرون، الذي التجأ إليه موسى بعد مقتل المصري (في صحراء مديان على ما يُدّعى)، ليس إلا كاهن هليوبوليس الأكبر، الأب الإلهي آي. والسبب أنّ مشهد الوحي قرب "العُليقة المتقدة" إنما جرى، حسب القبّالة، وهي الكتاب الشارح لأسرار التوراة، داخل حرم المعبد لا في صحراء مدين! بل أكثر من ذلك، فإنّ الأحداث التي أعقبت ذلك "الانقلاب"، أي مقتل فرعون، كانت، حسب تلك النصوص، من تدبير يثرون وضابطيه هارون وموسى؟ أذهب إلى أنهم على التوالي: آي وحورمحب ورعمسيس الأول، الذين تولوا الحكم تباعاً بعد أخناتون وسمنخ كارع وتوتعنخ أمون. أمّا ملحمة "عبور البحر الأحمر"، فهي مرسومة بوضوح على جدران عدد من الأضرحة في وادي الملوك، تلك التي تحتوي على أسرار تابوت العهد التوراتي. وهو تابوت كان يحوي عظام يوسف، وهذه كناية، يمكن تفسيرها على أنها تعني مومياء أوزيريس.." (ص: 9ـ 10).

هذا باختصار شديد ما يودّ المؤلف أن يبينه على طول فصول الكتاب، محللاً ومقارناً ومستنتجاً؛ عماده في ذلك الاشتقاقات اللغوية (في الآرامية والعبرية واليونانية..)، وكذلك ما توصل إليه علماء المصريات من نتائج أركيولوجية بخصوص تاريخ الحضارة الفرعونية. وجاءت نتائج هذا الجهد المبذول في فهم علاقة التوراة بالحضارة الفرعونية، منصبّة على إرجاع الرموز إلى مدلولاتها الحقيقية. ذلك "أنّ التوراة، وإن روت لنا قصة أخّاذة وروحانية قادرة على النفاذ إلى قلوب المنتمين إلى الديانات التوحيدية الثلاث، فهي تخفي كذلك داخل لغتها السرية، بطريقة بارعة ورمزية، أكثر القصص استثنائية: قصة فراعنة مصر" (ص: 18). لماذا؟

لأنّ ما تحكيه التوراة من قصص ليس له وجود تاريخي مستقل عن الحضارة الفرعونية، أو عن حضارة بلاد الرافدين؛ بل أكثر من هذا لم يكن لليهود أي وجود تاريخي بوصفهم شعباً وأمّة في تلك الحقبة التي تتحدث عنها. إذ "لا يوجد أي أثر أركيولوجي يشهد على تلك الحضارة القديمة المسماة بحضارة الكتاب. فلم يترك السومريون أو الكنعانيون أو المصريون، إشارة أو شهادة على وجود العبرانيين. وأولى العلامات على حضور اليهود في الشرق الأوسط، تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد تقريباً" (الصفحة نفسها). فبعد هذا القرن، و"حسب التلمود، كان عدد من الفراعنة المتأخرين، مثل البطالمة، ومن أباطرة الرومان مثل القياصرة، يتخذون مستشارين لهم من اليهود. والمفارقة أنّ هؤلاء اليهود، هم من كانوا يلقنونهم قواعد ديانة الفراعنة القدامى" (ص: 22).

إنّ اختصاص اليهود في المعرفة الدقيقة بالديانة الفرعونية هو الذي منحهم القدرة على استنساخها بطريقة رمزية، ارتكزت على تصحيف (أو تحريف) الأسماء المصرية أو على تجاهل ذكر أسماء الفراعنة. ويسوق روجيه صبّاح أمثلة على ذلك، منها: "التوافق بين الأسماء الإلهية: أدوناي (أتون، الإله الشمس)، وآمين (أمون، الإله الخفي)، وإيميت (معت، إلهة الحقيقة)، وخصوصاً أشر، المصري أوسر، الذي أعطى أوزيرس في اليونانية.." (ص: 23). ليس هذا وحسب، بل إنّ جميع الطقوس والشعائر والعبادات والمعجزات.. الواردة في التوراة، تعود إلى أصول مصرية قديمة. وذلك من قبيل: "الوصايا" و"النور البدئي"، و"الشعاع" (حيث يوصف العبرانيون بأنهم "نجوم السماء")، والتقاليد والطقوس السحرية لتحويل العصا إلى الأفعى التي تبتلع أفاعي فرعون، والعصا المقدّسة، وتحويل الماء إلى دم، دون نسيان الصلوات والابتهالات والنظام الاجتماعي والديني، والأثاث الجنائزي وأدوات وشعائر الموت، وأيام الصيام وأيام الراحة، وطقوس الانتقال من الحياة إلى الموت، وصعود الروح والمحاكمة السماوية والبعث.." (الصفحة نفسها).

هذه هي المهمة الشاقة التي يتكفل مؤلف الكتاب بتحملها، ونعني بها رد طقوس وشعائر وعبادات الديانة اليهودية إلى أصولها المصرية الحقيقية من خلال كشف الأقنعة الرمزية التي تلفعت بها التوراة.

يحاول الفصل الأول أن يجيب عن سؤال: "هل قتل موسى أخناتون؟"، بناء على ما ورد في سفر الخروج: "وحدث في تلك الأيام، أنه لما كبر موسى، خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم. فرأى رجلاً مصرياً يضرب رجلاً عبرانياً من إخوته، فالتفت إلى هنا وهناك ورأى أن ليس أحد، فقتل المصري وطمره في الرمل" (الإصحاح الثاني، الآيتان 11ـ 12).

من يكون هذا "المصري" الذي قتله موسى، إذن؟

يعود المؤلف إلى "الزوهار (وهو كتاب القبّالة)، الذي يمكن للأذهان المتيقظة أن تستكشف فيه أسرار التوراة كذكريات تداولها جيل بعد جيل، [فهو] يقدم قصة مباينة جذرياً، غريبة وغير متوقعة. إذ أنه يشير إلى الأصول الإلهية لذاك المصري الذي ضربه موسى: "ذلك المصري كان في الحقيقة "الثعبان البدئي"". ويعلق المؤلف: "في مصر القديمة، كان الثعبان البدئي كناية واضحة عن الفرعون" (ص: 31).

بيد أنّ التوراة تقدّم لنا واقعة القتل بوصفها مجرد نزاع بسيط بين ناظر مصري وعبد عبراني، يعود سببه إلى حادثة زنى. تفاسير التوراة ـ كما قدمها الحاخامات وكذا المدراش ـ تلقي مزيداً من الضوء على شخصيّتي كل من المصري والعبراني: الأول يسمى مارور والثاني يسمى داتان. والحكاية جرت أطوارها كما يلي: "مارور كان قد اشتهى شلوميط، زوجة داتان الذي تذمر من ذلك، يستبد الغضب بالمصري ويهين العبد ويعذبه، بل يريد قتله. عندها يتدخل موسى في النزاع، ويوجه إلى مارور ضربة قاتلة" (ص: 39).

ينكب جهد المؤلف على تحليل دلالة الاسم "مارور"، الذي يعني في العبرية "الطاغية، المتمرد، المرارة". أمّا كتاب الزوهار فيعود إلى الجذر "ماري"، الذي يعني: سيد، رب (ماري عالم = رب العالم). حيث ورد فيه بوضوح تام أنّ "المصري يعني تلك الشخصية الشهيرة التي كانت من عظماء أرض مصر". يعلق المؤلف: "نكتشف هنا أنّ اسم المصري القتيل هو رمز للقب ملكي يُطلق على فرعون" (ص: 40).

أمّا القرائن التي تعضد هذا الاستنتاج فهي مستقاة من التفاصيل التي حملها مشهد القتل: موسى كان يحمل عصا في يده. فمن أين أتى بها؟ يجيب كتاب الزوهار: "كانت في يد المصري "رمح": إنها العصا الإلهية التي سُلمت إلى موسى، كما جاء في التوراة "عصا الرب كانت بين يديه".. موسى استحوذ على رمح المصري". يعلق المؤلف: "اسم الله" يرادف بالمناسبة لقباً من ألقاب فرعون، إذ وحدهم الفراعنة يضعون أسماءهم، التي تعتبر إلهية، على أقواسهم ورماحهم التي تحظى بالإجلال بوصفها امتداداً إلهياً ومقدّساً لأذرعهم. والرماح التي عُثر عليها في قبر توتعنخ أمون نُقش عليها بالذهب الاسم المقدّس للفرعون" (42).

يستخلص المؤلف من حادثة القتل، ومن القرائن التي صاحبتها، الجواب اليقين: "لم يبق إذن مجال للشك: الرجل الذي ضربه موسى كان بالغ الأهمية، ذلك أنه كان الفرعون وليس مجرد ناظر مصري. وسنكون قادرين بعد قليل على البرهنة على هويته التي نكشف النقاب عنها فوراً: هذا الفرعون ليس إلا أمنحوتب الرابع، الذي سمّى نفسه أخناتون" (الصفحة نفسها).

من يكون أمنحوتب الرابع، هذا الذي غيّر اسمه ليصبح أخناتون؟

للجواب عن هذا السؤال، ينقلنا الفصل الثاني إلى "بلاد مديان: أو معبد هليوبوليس". يروي هذا الفصل كيف أنه حوالي سنة 1350 قبل الميلاد، كان الفرعون أمنحوتب الثالث يحكم مصر. وبعد وفاة ابنه الأول تحوتمس بطريقة مفاجئة، تولى الحكم الابن الأصغر أمنحوتب الربع. وكان لهذا الأخير ابن أول هو سمنخ كارع، أنجبه من الملكة كيا. بيد أنه اتخذ لنفسه ملكة ثانية هي نفرتيتي، وعلى إثر ذلك تبنى الزوج الملكي الجديد عبادة أتون. وهذا ما أدى إلى نشوب نزاع بين عبادة أتون (الإله الأوحد) من جهة، وعبادة أمون (الإله المتعدد) من جهة أخرى. قام الزوج الملكي بفرض السخرة على المصريين، من أجل توفير لِبَن الصلصال الرملي لإقامة معابد جديدة مخصصة لأتون حول الكرنك" (ص: 49).

هكذا وجد أمنحوتب الرابع نفسه أمام مواجهة مع الشعب المصري بقيادة كهنة أمون، وبضغط من هؤلاء ومن والده أيضاً اضطر للتخلي عن معابد الكرنك كما تخلى في الآن نفسه عن اسمه واستبدله بأخناتون (نور أتون). وبذلك تمكن من الاحتفاظ بعرش مصر شريطة أن يغير العاصمة من هليوبوليس إلى مدينة جديدة سماها أخِت ـ أتون (تل العمارنة حالياً)، وهي المدينة الشمسية التي تعهد بعدم مغادرتها. ولبناء المدينة المقدّسة فرض السخرة للمرّة الثانية على المصريين، من أجل توفير لِبن الطين والتبن (ص: 50).

بعد قيام أخناتون بتحطيم الأصنام، كان هناك رد فعل عنيف من طرف الكهنة بزعامة الأب الإلهي آي. بعد وفاة أخناتون بطريقة مفاجئة، طالب الكاهن الأعظم (آي) من الفرعون الجديد (سمنخ كارع) بالعودة إلى الديانة القديمة، وإخلاء المدينة الملعونة (أخِت أتون) التي كانت وبالاً على الإمبراطورية. ونتيجة عدم انصياعه لهذا الطلب، قُتل هذا الأخير بطريقة مشابهة لمقتل والده. وآلت الأمور بعد ذلك إلى أخيه غير الشقيق (توتعنخ أتون)، الذي قرر مغادرة أخت أتون التي هجرها سكانها والتحق بمدينة طيبة لخدمة أمون بعد أن غير اسمه ليصبح توتعنخ أمون (51).

توفي توتعنخ أمون وهو في ريعان شبابه بطريقة غامضة (ما تزال موميا هذا الفرعون تحتفظ بضربة في الرأس)، تولى العرش الكاهن الأعظم آي. وبعد وفاته، خلفه القائدان حورمحب ورعمسيس الأول. وقام هذا الأخير بإشراك ابنه سيتي الأول في الحكم، حيث تابعوا جميعهم سياسة العودة إلى عبادة أمون.

هذه هي الواقعة التاريخية، فكيف أولتها التوراة؟

يفكك روجيه صبّاح ألغاز التأويل كما يلي: "بعد مقتل المصري، يرى موسى عبرانيين أو "ياهوديين"، حسب التوراة الآرامية، يتشاجران. حسب التلمود، لم يكن ذانك اليهوديان عبرانيين بل وجيهين مصريين أخوين، اسم أحدهما داتان واسم الثاني أبيرام. تفصيل مهم: "ياهود" علامة هيروغليفية تعني "وجيه، من كبار موظفي فرعون". بل إنّ الزوهار يذهب أبعد من ذلك، زاعماً أنهما ابنا المصري القتيل. ابن المصري، الذي تتحدث عنه التوراة، هو تحديداً ابن ذلك المصري الذي قتله موسى في مصر مستعيناً بالاسم المقدّس، كما جاء في التوراة: "أمن أجل قتلي تقول هذا؟" وهكذا سقط الأب والابن بيدي موسى" (ص: 51-52).

هذا هو المشهد كما قرأه كتاب القبّالة (أي الزوهار)، فكيف يمكن قراءة المشهد نفسه ضمن الواقعة التاريخية؟

يجيب المؤلف: "في المشهد التوراتي الأول: داتان هو "العبراني" (سمنخ كارع) الذي أنقذه موسى، إذ قتل المصري مارور (أخناتون، والده). ولكنّ المدراش يفيدنا أنّ الأخوين هما ابنا المصري الذي تعرفنا عليه بوصفه أخناتون. وترجمة ذلك: أنّ داتان هو فعلاً سمنخ كارع، وأبيرام هو توتعنخ أمون. ويوضح الزوهار أنهما من أب واحد ومن أمّين مختلفتين، أي بلا شك من أم ملكية ومن زوجة ثانية للمصري" (ص: 54).

لِمَ كان هذان "الياهوديان" يتشاجران؟ لنترجم السؤال إلى لغة التاريخ: "ما موضوع النزاع بين ابني أخناتون؟" جواب المؤلف: "عرش مصر" (الصفحة نفسها).

ولكن ما دخل موسى في النزاع بين الأخوين؟

كان موسى ـ الذي نشأ وتربى في قصر فرعون ـ قائداً وكاتباً، وتدخل في النزاع حول عرش مصر. فبعد تصفية الأب (أخناتون)، قام بتصفية الابن (داتان ـ سمنخ كارع)، ثم استحوذ على زمام السلطة ليسلمها إلى الأخ غير الشقيق للفرعون، أبيرام ـ توتعنخ أمون (ص: 63).

إنها أحداث جد مضطربة حصلت في تاريخ مصر القديم، وقع فيها انقلاب عقائدي خطير. و"في أثناء تلك الأحداث، غادر الأب الإلهي آي مدينة أخناتون المارقة على نحو غامض.. من هليوبوليس، وعلى الأرجح بتنسيق مباشر مع القائد والكاتب رعميسو، رعمسيس الأول فيما بعد، الذي تعرف عليه علماء المصريات بصفته تلك ـ والذي سنبين أنه لا يمكنه أن يكون سوى موسى ـ كان آي يريد وضع حد لـ"الرجس" الذي اقترفه أخناتون بفرضه ديانة أتون، مع أنه شجعه في البداية. إذ أنه بات، من هنا فصاعداً، يعي جسامة أخطار تلك الخطوة" (الصفحة نفسها).

هذا يعني أنّ موسى كان بمثابة اليد الضاربة للكاهن الأعظم آي، حيث قام باغتيال الفرعون أخناتون ولجأ إلى معبد هليوبوليس. وهذا المعبد هو "المكان الذي قالت فيه التوراة: "لأنّ الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدّسة". هناك مكان أعلى تلمّح إليه هذه الكلمات: "وقال الله لموسى: هناك مكان قربك". ذلك المكان الأعلى خفي غير مفصح عنه، إنه المعبد السري" (ص: 72). هذا المكان هو الذي تلقى فيه موسى الوحي، والدليل على ذلك حسب روجيه صبّاح هو "طقس الثعبان ـ العصا... إذ يجري ذلك الطقس على مركب رع، الواقع داخل قدس أقداس معبد أمون ـ رع المصري، ولم يوجد قط داخل معبد أتون" (الصفحة نفسها). وفي هذا المعبد طلب الله من موسى أن يخلع نعليه، إذ ورد الطلب في سفر الخروج كما يلي: "موسى! موسى! فقال "هأنذا"، فقال "اخلع نعليك من رجليك لأنّ الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدّسة" (الإصحاح الثالث، الآيتان: 4 ـ 5).

لِمَ هذا الأمر بخلع النعلين؟

لأنّ "طقوس كهنة أمون في مصر القديمة، كانت تقضي بخلع الأحذية داخل الحرم الرئيس للمعبد. ويظهر رعمسيس الثاني، "محبوب أمون"، في قدس أقداس معبده، حافي القدمين وعلى رأسه قلنسوة الطقوس. وهي عادة ما تزال سارية المفعول في مساجد المسلمين، وفي أقدم المعابد اليهودية (مثل كنيس جربة في تونس). ولكنّ أخناتون ونفرتيتي تخليا، داخل معابدهما الشمسية، عن تلك الشعيرة الضاربة في القدم، إذ يظهر الزوجان ساجدين دون خلع النعلين" (ص: 73 ـ 74).

تربى موسى في هذه الأجواء التي تسودها طقوس الديانة الأتونية، قبل وقوع الانقلاب على هذه الديانة بزعامة كبير الكهنة آي المسمى يثرو (يثرون في التوراة)، وكان موسى هو المنفذ الفعلي لذلك الانقلاب. بمعنى "أنّ موسى كان من رعايا أخناتون، وكان يطبق بشكل طبيعي القانون الذي سنّه الفرعون. وبما أنّ موسى كان معتاداً على الاحتفاظ بنعليه داخل معابد أتون، فقد نسي، على ما يبدو، أنه التجأ إلى هليوبوليس، داخل حرم معبد أمون ـ رع! وهو لذلك لم يخلع نعليه في معبد يثرو. وتلك حادثة لاشك في أنها استثارت الكهنة، أو أنّ التوراة اتخذتها علامة فارقة على الماقبل والمابعد، وعلى الانتقال من أخِت ـ أتون إلى هليوبوليس. ولكنّ الله يجبر موسى على خلع نعليه، أي على الخضوع، على العودة إلى العقيدة القويمة لديانة أمون ـ رع. وهكذا، وانطلاقاً من تفصيل يبدو في ظاهره نافلاً، يرتسم أمامنا البعد الخفي للعودة إلى نظام أمون: فمن الفرعون إلى العُليقة، ومن المعبد إلى الصحراء، لا يعدو كل شيء أن يكون استبدالاً رمزياً (ص: 74 ـ 75).

معبد يثرو في هليوبوليس، إذن، هو الذي شهد الانقلاب الجذري على المستوى العقائدي، هو الأرض المقدسة الجديدة/القديمة التي أضحت بديلاً عن أرض أخِت أتون، المدينة المقدّسة التي أمست مدينة مهجورة لأنها ملعونة. أصبح يثرو هو الأب الإلهي في هذه الأرض المقدّسة، وهو الشخص الذي تقدمه التوراة بوصفه كاهن مديان.

ما الدور الذي سيلعبه يثرو أو يثرون في تاريخ مصر بعد الانقلاب المذكور؟

ينقلنا الفصل الثالث إلى "أوزيريس، الصورة الخفية ليثرون"، قصد تفكيك رمزية الصورة التي رسمتها التوراة عن هذه الشخصية.

أورد سفر الخروج قصة يثرون من خلال الحكاية التالية: "وكان لكاهن مديان سبع بنات فأتين واستقين وملأن الأجران ليسقين غنم أبيهن. فأتى الرعاة وطردوهن. فنهض موسى وأنجدهن وسقى غنمهن. فلما أتين إلى رعوئيل (يثرون) أبيهن قال لهن: "ما بالكنّ أسرعتنّ في المجيء اليوم؟" فقلن: "رجل مصري أنقذنا من أيدي الرعاة وإنه استقى لنا أيضاً وسقى الغنم". فقال لبناته: "وأين هو؟ لماذا تركتنّ الرجل؟ ادعونه ليأكل طعاماً" (الإصحاح الثاني، الآيات: 17 ـ 20).

كان يثرون أباً لسبع بنات، قام بتزويج أكبرهن (صفورة) لموسى. ومن خلال تفكيك الاسم الرمزي للأب وابنته، يخلص المؤلف إلى أنّ الأمر يتعلق بأوزيريس وإيزيس. فالاسم العبري لصفورة هو تصيبورة، أي عصفورة، وهي تعني: عصفور ـ رع. وهذا الأخير هو صقر، و"الإلهة إيزيس تعتمر أيضاً رأسية الطائر المقدّس، والقرص ذا القرنين للبقرة حتحور" (ص: 97). أمّا بالنسبة ليثرون، فهو يترو الذي يعني بالهيروغليفىة "النيل"، أو "الأب الإلهي"، أي صورة أوزيريس. أمّا "بنات يثرون السبع [فهن] يذكّرن، بعددهن، بأبقار النيل السبع المقدّسة التي ظهرت في رؤيا فرعون التي قام يوسف بتعبيرها" (ص: 98).

تظهر أسطورة البقرات السبع "على قبر نفرتاري، الزوجة الملكية الأولى لرعمسيس الثاني. وهناك نص على ورق البردي يعود إلى الفترة المتأخرة، يشير إلى سبع سنوات عجاف شهدتها مصر، في الأزمنة القديمة على عهد الملك زوسر (الأسرة الأولى). ويبرهن هذا النص أنّ الفراعنة كانوا يعرفون جيداً أسطورة البقرات السبع التوراتية" (ص: 100).

مديان بالعبرية ومدينة بالعربية، هي كناية عن مدينة هيليوبوليس. والأرض المقدّسة هي معبدها الشهير الذي اضطر موسى إلى خلع نعليه، لكي يتمكن من وُلوجِه بعد الانتقال من عبادة أتون إلى عبادة أمون. لذا فالديانة اليهودية لا ترتبط بالتوحيد الأتوني، بقدر ما ترتبط بالتوحيد الأموني. وهذا هو اللبس الذي يتوخى الفصل الرابع رفعه، والذي جاء بعنوان "أخناتون التوحيدي: الخطأ التاريخي".

لرفع اللبس المذكور يعود المؤلف إلى "عهد الأسرة الثامنة عشرة، [حين] كانت السلطة الفرعونية تعاني من كثرة الآلهة الموضوعة تحت سيادة الملك ـ الإله أمون رع.. "أمون الخفي" (أمون تعني الإله الخفي)، المجهول الذي لا يُدرك، والذي يُحظر التفوّه باسمه... أمون كان يقدم نفسه بوصفه "النور السماوي" الذي يفترض أنه يضيء العالم، مكثفاً داخل تابوت العهد (مركب رع)، بعيداً عن الأعين، داخل الحجرة الأكثر سرية والغامضة دوماً في المعبد.

أخناتون الملك المبتدع، قطع مع دين آبائه. فحطم الأسطورة العتيقة "للإله" الخفي داخل قدس الأقداس، وقضى على رمز مركب رع بأن شيد معابد في الهواء الطلق. وهشم الأصنام وأسماء أمون، وحظر الممارسات السحرية ووظائف الآلهة القديمة في العرافة والتنبؤ بالغيب. فأخناتون لم يكن فقط الابن الوحيد لأتون، بل هو أتون نفسه، نبياً وإلهاً حياً. وقد كان كهنة عاصمته مجبرين، بموجب تعاليم إلزامية، على عبادة الملك والملكة والأسرة الملكية. وكان السكان يسجدون أمام أخناتون بوصفه كائناً حياً مؤلهاً، وكان الملك والملكة وحدهما يسجدان أمام أتون" (ص: 112).

بعد مقتل أخناتون على يد موسى، ولجوء هذا الأخير عند يثرو الكاهن الأعظم، وقع الخلاف بين ابنيه على خلافة العرش. كلف يثرو ـ رئيس مؤسسة الكهنة والجيش معاً ـ موسى لمقابلة الابن الأكبر سمنخ كارع، لكنّ هذا التكليف قوبل بالتردد والتوجس من طرف موسى. وهذا ما دفع روجيه صبّاح إلى القول: "إن لم نفهم ولم نُسلّم بأنّ أفعال وتحركات موسى لا معنى لها، في التوراة، إلا إذا كان يتصرف كأمير مصري، فإنّ الكثير من المواقف ستظل مبهمة تماماً. لقد تساءل المختصون والمفسرون، مثلاً، كيف يمكن لموسى وهارون أن يتنقلا جيئة وذهاباً أمام الفرعون، وأن يجتازا بلا صعوبة مواقع المراقبة الكثيرة، قبل بلوغ قاعة العرش؟ إذ كان لا بدّ من التقيد ببروتوكول ديني طويل ومعقد، يتكون من طقوس ومن صلوات خضوع للفرعون" (ص: 115).

ويزداد الأمر حدة، متى علمنا أنّ موسى وأخاه هارون يقفان أمام فرعون ذي معتقد أتوني، أي أمام فرعون يعتبر نفسه المجسد الفعلي للإله. ويصبح الأمر أكثر حدة بل أكثر خطورة، متى علمنا كذلك أنّ موسى وهارون ـ حسب التوراة ـ من أصول يهودية، أي غير مصرية. وعلى العكس من كل ذلك، يظهر أنّ "موسى وهارون في حِلّ من ذلك، ولا يبدوان منشغلين بما قد يترتب عن سلوكهما هذا من إهانة للفرعون. والظاهر من التوراة أنّ إهانة فرعون لا تصدم أحداً، ومع ذلك فإنّ الحط من شأن الملك أمام الملأ كان يعتبر تجديفاً وانتهاكاً للمقدّسات، ليس فقط حيال فرعون بل أيضاً حيال الله الذي يمثله. ومثل ذلك الفعل كان الموت عقوبته. وما كان لموسى وهارون، وهما فوق ذلك "عبرانيان"، أن يخرجا سالمين. وما كان لعقوبتهما إلا أن تكون فورية. هذا فضلاً عن أنّ النبيين ذهبا لمقابلة ابن "الفرعون الذي لم يعرف يوسف"، أي بعبارة أخرى لمقابلة سمنخ كارع، يوم كان الملك يستقبل وفود ملوك العالم بأسره، التي جاءت تقدم له آيات الولاء والكثير من الهدايا" (ص: 115 ـ 116).

علامَ سيتفاوض هارون وموسى مع الفرعون؟ ما الرسالة التي تم تكليفهما بتبليغها؟

إنّ الأمر يتعلق بطلب التراجع عن الوثنية، أي عبادة الشخصية التي سنّها أخناتون والعودة إلى ديانة الأجداد، ديانة أمون. وهذا ما تحقق بعد انتصار مؤسسة الكهنوت والجيش بزعامة يثرو ـ موسى ـ هارون، حيث تم التنكر الكامل لعقيدة أخناتون وابنه سمنخ كارع. إذ عادت الأمور إلى مجراها بعد تولي الابن الأصغر توتعنخ أتون الذي غير دينه واسمه، حيث أصبح يدعى توتعنخ أمون. أمّا أخناتون فقد أضحى اسمه مقروناً بصفة "المجرم"، خلال حكم كل من تولوا عرش مصر بعد ذلك. معنى هذا أنّ "الإله أمون، وهو السور المنيع ضد الوثنية، إنما يتماهى بوضوح مع إله التوراة. هذا الاكتشاف غير المتوقع، ولكن غير القابل للجدل، هو ما تُعلّمنا إياه القبّالة" (ص: 128).

و"ما تُعلّمنا إياه القبّالة" هو موضوع الفصل الخامس الذي جاء تحت عنوان "السر المصري للقبّالة".

يكمن "السر المصري" في "مأثورات شفوية سرية ضاربة في القدم، اندثرت الآن"، ولكنها كانت متداولة في مصر القديمة. وقد عملت القبّالة (أي المعارف السرية للتصوف اليهودي)، على نقل تلك الروايات الشفوية بحرص شديد. فقد ورد في القبّالة التعبير التالي: "أنا إله مصر". فما الذي تعنيه مثل هذه العبارة؟ يتساءل روجيه صبّاح: "هل توحي بأن يهوه، على غرار أمون رع، الإله الخفي، هو في الآن نفسه أوحد ومتعدد؟" (ص: 131). وما يبرر طرح هذا السؤال هو أنّ نعت "إلوهيم" بالعبرية ورد بصيغة الجمع، أي أنه نعت يطلق على مجموع الآلهة. ورد على لسان موسى في سفر التثنية قوله: "لأنّ الرب إلهكم هو إله الآلهة (إلوهيم)" (الإصحاح الرابع والثلاثون، الآية: 14).

ما مصدر هذا الوصف للإله بصيغة الجمع (إلوهيم)؟

يجيب المؤلف: "الفراعنة، باستثناء أخناتون، كانوا موحدين، يؤمنون بمخلوقات الله ممثلة في الكائنات السماوية، إلوهيم. وهم كانوا كبار كهنة طائفة "الياهود"، وهي كلمة آرامية جاءت منها كلمة "يهود"، ولكنها كانت تعني في اللغة المصرية "أصحاب المراتب العليا لدى فرعون". أي أنّ اليهود ما كان يمكنهم أن يكونوا غير الكهنة المصريين، عبدة الله وسدنة فرعون" (ص: 133).

وبما أنّ اليهود هم أنفسهم "الكهنة المصريون"، فإنّ إله التوراة، أي إلوهيم، سيكون بالضرورة "هو الإله "المتعدد" أمون ـ رع، الإله "الغيور" على مخلوقاته، المختفي خلف حجاب، والذي كان قدماء المصريين لا يكادون يجرؤون على النظر إليه، ويحظرون حتى النطق باسمه (الوصية الثالثة من الوصايا العشر). بعبارة أوضح: يهوه، أدوناي، إلوهيم، يود ـ يود، إله الآلهة، هو إله مصر" (135 ـ 136).

يتابع الفصل السادس عملية تفكيك "ألغاز فرعون"، وذلك بالوقوف على لغزين هامين: لغز استعباد اليهود وقتل المواليد الذكور، ولغز عصا موسى التي تنقلب ثعباناً.

يفند المؤلف واقعة العبودية الواردة في سفر الخروج: "فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف ومرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللِّبن، وفي كل عمل في الحقل" (الإصحاح الأول، الآيتان: 13 ـ 14). ويقارن الرواية التوراتية بالواقع التاريخي المصري، ويستنتج عكس ذلك تماماً. إذ أنّ "القاعدة المتمثلة في الجمع بين أعمال الزراعة وتشييد الأبنية الملكية، كان معمولاً بها في مصر من قبل غالبية الفراعنة. وهي ما كانت، بالتأكيد، تمثل عبودية. وقد بات العلماء اليوم على يقين من أنّ العمال المصريين كانوا أجراء. وكان زمن العمل يتساوق مع الدين، وفق طقوس تمّ ترتيب نسقها منذ أمد بعيد" (ص: 144).

ويتابع تفكيك رمزية الآية الموالية من سفر الخروج، والتي تروي كيف أمر فرعون جميع القابلات بقتل كل المواليد الذكور. ورد في الآية 15: "وكلّم ملك مصر قابلتي العبرانيات اللتين اسم إحداهما شفرة واسم الأخرى فوعة، وقال: حينما تولدان العبرانيات وتنظرانهن إلى الكراسي، إن كان ابناً فاقتلاه وإن كان بنتاً فتحيا". بيد أنّ القابلتين امتنعتا عن ذلك الفعل، فكان جزاؤهما من طرف الله أن أقام لهما "بيوتاً" أي معابد مكرسة لعبادة الإنجاب.

في هذا السياق جاءت قصة موسى، حيث تمّ إخفاؤه في تابوت، وهو رضيع، لتنقله مياه النيل إلى قصر فرعون. بيد أنّ القصة بأسرها ما هي إلا استنساخ لقصة فرعونية تدور حول ولادة حورس، إذ "تضع إيزيس، زوجة أوزيريس، مولودها حورس، الذي يجري تصويره على هيئة ظهور أشعة الشمس الأولى في أفق السماء. يتم إخفاء حورس وحمايته من قبل أمه ومرضعته بين القصب، بعيداً عن عيني سيت، الإله قاتل أخيه أوزيريس. تضع إزيس المولود حورس على قارب من الأسَل، وتسلمه رمزياً إلى النيل. يظهر حورس فجراً، مع فيضان النهر، في قصر فرعون. المولود الجديد بامتياز هو إذن حورس، الذي تبدو قصته متماثلة تماماً مع أسطورة موسى" (ص: 145).

وعندما يُذكر اسم موسى، نستحضر عصاه السحرية التي تنقلب ثعباناً يلتهم ثعابين سحرة فرعون. فما حقيقة هذه العصا ـ الثعبان؟

يجيب المؤلف: "إنّ العصا ـ الأفعى التي عثر عليها موسى في حديقة يثرون هي في حقيقة أمرها صولجان متأتٍّ من الكنز الملكي، نُقش عليه اسم "المصري" أو الفرعون كناية عن اسم الله. وعندما مثل موسى وهارون أمام فرعون كانا، في حقيقة الأمر، يحملان "عصا أشر" التي أصبحت عصا يثرون. وهي عصا كان منقوشاً عليها، على الأرجح، اسم يثرون الأب الإلهي آي، الذي يحمل الاسم الصوتي الأب (يت) الإلهي (رو). عندها، تبتلع العصا ـ الحية ليثرون عصيّ سحرة فرعون. وتعبّر هذه الكناية عن الاستحواذ على السلطة والسيطرة على مصر من قبل يثرون وموسى وهارون، الذي يختفي وراءهم آي وضابطاه حورمحب ورعميسو. فموسى إذ يرفع عصاه ـ الحية، إنما يتحدى السلطة الملكية القائمة" (ص: 165).

أسطورة الثعبان الذي يلتهم الثعابين السبعة، وردت بنصها في "متون الأهرام"، وهي أقدم النصوص التي وصلتنا من الحقبة الفرعونية. يؤكد المؤلف هذه العلاقة بين رواية التوراة ومتون الأهرام، حين يقول: "إنّ هذه الأسطورة، الماثلة بما لا يدع مجالاّ للشك في "متون الأهرام"، كانت أسطورة "مؤسسة" بحيث كان من المحتم أن ترد في أسطورة موسى. فما كان بوسع الكهنة "الياهود"، ورثة الكتبة المصريين، تجاهلها. وهي تكشف لنا عن الأصل المصري الحقيقي لسحر يثرون وموسى وهارون، وكذلك عن رمزية العصا المقدسة: ذلك أنّ المشهد المذكور يخفي استلاماً فعلياً للسلطة على حساب الفرعون القائم" (ص: 167).

يتابع الفصل السابع تفكيك أسماء الآلهة المصرية، ومقارنتها بأسماء الآلهة العبرية، ويقف عند "تجديف أخناتون: "أنا أدوناي..". والفصل ذو طبيعة تقنية، يطغى عليه تحليل الرموز الهيروغليفية. وأهم خلاصة ينتهي إليها تتجلى في التطابق بين الإله الفرعوني أخناتون من جهة، والإله العبري أدوناي. فـ"قراءة اسم أخناتون على أنه "أنوخ ـ أتون"، أي "أنا أتون"، تغير كل شيء: إذ هي على تطابق تام، صوتي ورمزي، مع الوصية التوراتية الأولى التي تكتب "أنا يهوه" ولكنها تنطق "أنوخي أدوناي، أنا أدوناي (الأبدي)! "أنوخي أدوناي" تعني إذن "أنا أتون".. بعبارة أخرى، نبذ أخناتون اسمه "أمنحوتب". تجرأ على حذف لقبه "أمون وصي طيبة" لفائدة العلامات الهيروغليفة الثلاث التي تكوّن "أنوخ" (أنا)، "أتون" (أدوناي)، وعلامة الأوحد. وهذا التجديف الرهيب غير المسبوق كان عقابه قتله. وذلك ما يفسر عنف رد الفراعنة الذين جاؤوا بعده. بعد سبعة قرون من ذلك، سيتذكر كتبة التوراة جيداً ذلك الانتحال للاسم المقدّس، بحيث لم يجدوا ما يعيّنون به اسم إله التوراة سوى ذلك: "أنا أدوناي، الأبدي"، الاسم الذي سيكون ممنوعاً حمله أو التفوّه به عبثاً..." (ص: 186 ـ 187). وهذا يعني باختصار شديد "أنّ أنوخ (المصرية) قد أعطت أنوخي (العبرية)، وأتون أعطت أدوناي. وواضح للعيان أنّ هذه الكلمات كلها متطابقة" (الصفحة نفسها).

تتابعت فصول الكتاب مفككة للرموز الهيروغليفية، ومحللة للاشتقاقات اللغوية، لتخلص في الفصل الثالث عشر إلى نتيجة مذهلة، وهي أنّ "التوراة وصية الفراعنة" إلى الإنسانية. فالخروج من مصر عبر البحر الأحمر بقيادة موسى، واقتفاء الفرعون بجيشه أثره، يحمل في صلبه دلالة رمزية غنية: "إنّ مصر قاطبة قد اتبعت توتعنخ أمون وآي وحور محب (هارون) وموسى (رعمسيس الأول) في ما بعد، في العودة إلى اعتناق ديانة أمون. وعلماء المصريات متفقون حول هذه النقطة: إنّ الأمور عادت إلى سابق نصابها بعد نهاية فترة تل العمارنة" (274).

بيد "أنّ المنعطف كان في القرن السابع قبل الميلاد، عندما كانت مصر تحتضر تحت نير الغزاة البابليين". و"للحفاظ على حضارتهم الاستثنائية، أو على الأقل لتخليد ذكراها، أقدم الكتبة على تدوين التوراة. لكنهم اضطروا إلى إخفاء معناها العميق خلف نص مصطنع، حافل بمناطق الظل والتفكك والتناقض... ولكنه أيضاً، وبالخصوص، عبارة عن رسم ساخر لمصر وفراعنتها المستبدين. كان ذلك هو الثمن الذي يتعين دفعه: التشنيع بمصر القديمة وخيانتها، وهذا ما كان يمكن إلا أن يلقى هوى في قلوب السادة الجدد" (283).

هذه هي الخاتمة التي وصل إليها المؤلف، أي القراء "المصرية" للتوراة التي "تغير جذرياً تاريخ أخناتون وموسى وتوتعنخ أمون والعبرانيين، أولئك الذين ليسوا في حقيقتهم غير شعب خيالي، ولكنه رمز الإنسانية المطرودة من الفردوس" (الصفحة نفسها).

هذه أيضاً هي الحقيقة التي لا يقبل، ولن يقبل بها أحد، من هذا الجانب أو ذاك. ولهذا السبب يبدي المؤلف تخوفه، بناء على ما "أفضت إليه فظاعات القرن العشرين". كما يبدي خشيته من "أن تعقبها فظاعات القرن الحادي والعشرين".

ولكن بالمقابل يعرب عن أمله، "إذ من يمكنه أن يستمر في الاعتقاد، بعد هذه القراءة، أنّ المسيحيين واليهود والمسلمين يمكنهم أن يتباغضوا باسم إله ثبت لنا أنه هو إله الفراعنة نفسه؟" (ص: 284).

وللأسف، فتح باب القرن الحادي والعشرين مصراعيه على فظاعات، ليس فقط بين أصحاب الملل الثلاث، بل بين معتنقي الملة الواحدة؛ ودائما تحت الذريعة نفسها: الموت من أجل إله مختلف.