أصول الفقه الشيعية الإخبارية والنظرية الفقهية ليوسف بن أحمد البحراني


فئة :  ترجمات

أصول الفقه الشيعية الإخبارية  والنظرية الفقهية ليوسف بن أحمد البحراني

أصول الفقه الشيعية الإخبارية

والنظرية الفقهية ليوسف بن أحمد البحراني

تأليف: روبرت جليف

ترجمة: جواد رضواني

مقدمة:

إن النقاشات السنِّية حول وجود المجتهدين، وانسداد باب الاجتهاد، بشكل عام، لم تشكل عائقاً أمام المؤلفين الشيعة في مجال أصول الفقه. فمنذ زمن العلامة الحلي، ظلّت المدرسة الشيعية المهيمنة في مجال التشريع؛ أي الأصوليون، تؤكد، في اختلاف مع السنّة، أن نظامهم ظلّ يتقدم، ولم يعرف أيّ ركود، وذلك نظراً للاستعمال المتواصل للاجتهاد من طرف الفقهاء الشيعة. إن هذه الميزة الخاصة بالفكر السنّي القانوني قد ظلت تشتغل ضمن مجال نقاش شيعي-سنّي، وتبقى فعاليتها موضع تساؤل، لكن ذلك يبقى ذا قيمة دنيا، إذا ما حاولنا فهم تطوّر الفقه الشيعي. إن دعم طرح الاجتهاد من طرف الفقهاء الشيعة لم يكن خافياً؛ فالاجتهاد نفسه قد عرف محاولات إيقاف وحدٍّ لدى الشيعة كذلك. فمنذ القرن السابع عشر الميلادي، أو ربّما قبل ذلك، ظهرت طائفة من المثقفين الكبار الذين عارضوا ممارسة الاجتهاد. لم يعارض هؤلاء المثقفون الاجتهاد بسبب اعتقادهم بأن جميع المشاكل الفقهية قد حُلّت (كما فعل السنيّون). إن مقاومتهم قد ظهرت بناء على رفض ضرورة الاجتهاد لأن النصوص الموحاة، القرآن والسنّة (التي لدى الشيعة تتضمن حتى أخبار الأئمة)، كانت تعدّ قادرة على تقديم تشريعات للحالات المستجدة. إن المثقفين الذين تبنّوا هذا الطرح سمّوا باسم (مدرسة الإخباريون)، وما بين القرن السابع عشر والتاسع عشر دخل الأصوليون والإخباريون في نقاش عرف قدحاً كان يصل حدّ وقوع عنف ما بين الجماعتين. تتفحص هذه الورقة فكر أحد المفكرين الإخباريين، وهو الشيخ أحمد يوسف بن أحمد البحراني (1186هــ/1772م).

لقد ثبت أنه يصعب تعريف الإخبارية. لقد قدم الباحثون الغربيون تعاريف مختلفة لطبيعة جماعة الإخباريين. يرى ماديلانج[1] ونيومان[2] أن الصراع الذي تمخضت عنه المدرسة له تاريخ طويل، يعود، في الماضي، إلى المفكرين الشيعة الاثني عشرية. تعرف الإخبارية، من طرف نيومان على الأقل، بأنها مدرسة ذات معتقدات خاصة، وتتضمن مواضيع قانونية ودينية (الفقه وأصول الدين). ومن بين هذه المعتقدات، رفض أعمال الفكر، والشك في الفعل التأويلي وموقف مضاد للتراتبية. وقد تجسّد دور هذا الأخير في الحدّ من دور الفقهاء في جمع وتوزيع الخُمس والزكاة، وإمامة صلوات الجمعة، وتسيير مجال العدالة. وفي علاقة مع هذه العقائد، يُقال إنه كانت هناك نظرة سلبية تجاه أي سلطة سياسية خلال فترة غيبة الإمام الثاني عشر. بالعكس من ذلك، يرى كوهلبورغ[3] وكالدر[4] أن النقاش قد ابتدأ مع محمد أمين الاسترابادي (1033هــــ/1623م) وكتابه (الفوائد المدنية). يُقال إن الاسترابادي قد انتقد المفكرين الشيعة في كتاب الفوائد، الذين توجهوا نحو الاجتهاد لإيجاد حلول تشريعية لقضايا لم يتناولها القرآن والسنة مباشرة. يعدُّ الاجتهاد أسُّ الصراع بين الإخباريين والأصوليين. لقد رفض الإخباريون الاجتهاد، بينما تقبّله الأصوليون[5].

ولد البحراني في البحرين، وسافر متجولاً حول شبه الجزيرة العربية، لكنه فرض عليه، في سنٍّ مبكّر، أن يغادر المنطقة نتيجةً للصراع القبلي. لقد سافر في البداية نحو إيران، واستقرّ بعد ذلك في النجف؛ حيث كان يدرس في المدرسة هناك. لقد ألّف العديد من الكتب حول القانون وعلم الأديان، ويعدّ كتابه المعروف (الحدائق الناضرة)[6]، وهو مجلد يتكون من خمسة وعشرين جزءاً من فروع الفقه، لكنّ موقفه من الصراع غير واضح بشكل تام. تصفه بعض الأعمال البيوغرافية بأنه إخباري، على الرغم من أنه ليس بمتعصّب، كان يحاول النقص من حدّة الاختلاف بين الفريقين. أمّا بعض المصادر الأخرى، فتصفه بأنه إخباري سابق متخلّي عن الطريقة من أجل موقف وسطي، بعدما صار غير مستسيغ لمرارة النقاش الإخباري. وحسب المعلومات المستمدة من المصدرين المذكورين يُنظر إليه بوصفه مفكراً مستنيراً. ويمكن اعتبار هذه الطريقة الأسلوب الذي اتبعه كتّاب السير ومؤلفو التراجم، والذي يقومون من خلاله بمحاولة ضم الشخصيات المثيرة للجدل، لكنها مهمة ضمن التقليد، بدل التعقيب على مسألة نجاعة نظامهم القانوني/الفقهي بالنسبة إلى المفكرين الذين أتوا بعدهم[7].

إن تعريف الغربيين للصراع الإخباري-الأصولي يختلف تماماً عن كيفية تناول البحراني لهذا النقاش. إن وصفه لنقط الاختلاف بين الفريقين نجده في أحد المقدمات التي تقدم لكتابه (الحدائق). في المقدمة الثانية عشرة والأخيرة يسطّر أهم نقط الاختلاف بين الإخباري والمجتهد. وقليلاً ما يستعمل مصطلح أصول أو الأصولية في المقدمة كلّها، ويفضّل على ذلك مصطلح المجتهد. ويمكن القول إن هذا يؤكد أن البحراني يعدّ الاجتهاد هو أصل الاختلاف بين الفريقين. وفي بعض الأحيان يستعمل كلمة (المحدّثون) بدل كلمة (الإخباريون)، في وصفه لمعارضي المجتهدين. إن عدم الوضوح هذا في استعمال المصطلحات يفسّر وجود إرادة نحو المضي قدماً بعيداً عن التفرّع الثنائي للإخبارية والأصولية، الذي سيطر على الفكر الشيعي خلال القرنين الماضيين.

إن فكر البحراني الأساسي يتضمن ادعاء أن الإخباريين والمجتهدين قد وجدوا دائماً في تاريخ الشيعة. على الرغم من أن آراءهم قد اختلفت، عاشوا مدرستين مقبولتين في مجال الاختلاف الشيعي. لكن البحراني، يقدم الإخباريين على الأصوليين؛ وذلك بناءً على ادعاء من جانبه يرى أن المثقفين الشيعة الأوائل مثل محمد بن يعقوب الكليني (381هــ/991م) كانوا إخباريين. وهذا الادعاء، من وجهة نظر تاريخية، لا يجب أخذه في الاعتبار كدليل على أن الإخبارية وجدت خلال مراحل تاريخية أولى لتاريخ الشيعة. إنه يشكل فحسب دليلاً على أن البحراني لديه رغبة في تقديم هذا الفريق على أنه له هذا السبق التاريخي. كما سيتبين، كانت لديه أسباب وجيهة وراء دعمه فكرة كون الإخبارية هي العقيدة الشيعية الأصلية، وبأن أفكار المجتهدين هي متطورات لاحقة، وربّما تحديث فحسب.

وقد تغير القبول المتبادل بين الإخباريين والأصوليين في عمل محمد أمين الاسترابادي كما يتبين هنا:

ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا وقوع هذا الاعتساف إلّا من زمن صاحب (الفوائد المدنية) سامحه الله برحمته المرضية، فإنه قد جرّد لسان التشنيع على الأصحاب وأسهب في ذلك أيّ إسهاب، وأكثر من التعصبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب، وهو وإن أصاب الصواب في جملة من المسائل التي ذكرها في ذلك الكتاب[8].

بالنسبة إلى البحراني، في ذلك الوقت، كان الاسترابادي محقّاً في العديد من نظرياته الفقهية، وبذلك هو يمدحه بوصفه أحد كبار «العلماء». لكنه، على الرغم من ذلك يلومه لكونه كان متحمساً جداً في نقده الموجه نحو المجتهدين، وكان يفتح مجالاً أمام ولوج نوع من النقد المنبوذ إلى مجال النقاش الفكري الذي وجد من قبل:

لقد تسبّب النقاش (النزاع) في قيام العلماء من الطرفين بسبّ بعضهم بعضاً، والنظر إلى بعضهم بازدراء بينما هم يفترون على بعضهم[9]... فلأن العصر الأول كان مملوءاً بالمحدثين والمجتهدين، مع أنه لم يرتفع بينهم صيت هذا الخلاف، ولم يطعن أحد منهم على الآخر بالاتصاف بهذه الأوصاف، وإن ناقش بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل، واختلفوا في تطبيق تلك الدلائل[10].

لقد كانت الاختلافات بين المعسكرين اختلافات حقيقية. مع ذلك، تمّ النظر إليها على أنها مقبولة في الماضي، وعليه، بالنسبة إلى البحراني يجب أن ينظر إليها على أنها مقبولة في الحاضر والمستقبل كذلك.

يفرق البحراني بين الأصوليين والإخباريين في ثلاثة نقط:

إن الشيء الواضح الذي يتم التأكيد عليه بالنسبة إلى المجتهدين هو أنه هناك أربعة مصادر: الكتاب، السنة، الإجماع، دليل العقل؛ يعود دليل العقل إلى البراءات الأصليات والاستصحاب. بالنسبة إلى الإخباريين، المصدران الأوّليان هما المعتمدان. وفي هذا المجال هناك فرق واضح...

ومن الفروق التي ذكروها أن الأشياء عند الإخباريين على التثليث: (حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك). أمّا عند المجتهدين، فليس إلّا الأولان خاصةً. وحول هذه النقطة هناك عدم تفاهم واضح...

ومنها أنهم ذكروا أن الاستدلال بالكتاب والسنة خاصةً مخصوص بالإخباريين، مع أن الخلاف بين الإخباريين واقع فيه، فمنهم المحدث الاسترابادي، الذي هو المجدد لمذهب الإخباريين في الزمان الأخير؛ فإنه قد صرّح في كتاب (الفوائد المدنية) بعدم جواز العمل بشيء منه إلا ما ورد تفسيره عن أهل العصمة (سلام الله عليهم)، واقتصر آخرون على العمل بمحكماته، وتعدى آخرون حتى كادوا أن يشاركوا الأئمة (عليهم السلام) في تأويل متشابهاته كما تقدّمت الإشارة إليه[11].

إذن، هناك اختلافات بين الإخباريين والمجتهدين، لكن هناك اختلاف كذلك داخل الفرقة نفسها. ويصف البحراني ثلاث نقاط اختلاف فقط:

1- عدد مصادر التشريع (يقول الإخباريون أربعة، بينما يرى المجتهدون إنهما اثنان فقط).

2- قضية الشبهة، هل هي صنف أم لا (يقول الإخباريون إنها صنف، بينما يقرّ المجتهدون بأنّها ليست كذلك).

3- هل يمكن فهم القرآن عن طريق تفسير الأئمة (بعض الأئمة يقولون إن تفسير الأئمة ضروري، البعض الآخر يقول إن فهم بعض الآيات من دون إمام؛ بينما يقول المجتهدون إنه إذا كان القرآن غير واضح يستطيع الإنسان أن ينظر إلى مصادر أخرى مثل السنّة، والإجماع، ودليل العقل من أجل حلول بديلة).

من المثير للاهتمام أن المواقف تجاه الاجتهاد لا يتمّ إدراجها كاختلاف بين الفريقين. في الوصف الآخر للنقاش، تتمثل النقط الأربعون للاختلاف بين الإخباريين والمجتهدين، في كتاب عبد الله السماهيجي (1135هــــ/1723م)، نجد الاجتهاد يصنّف كاختلاف أوّلي[12]، وفي وصف آخر للبحراني للنزاع، في كتاب (الدرر النجفية)، يعدّ الاجتهاد إحدى النقاط الثمانية التي يذكرها للاختلاف[13]. إن سبب هذا الحذف غير واضح، على الرغم من أنه من الممكن أن البحراني كان يحاول الحدّ من حدّة الصراع من خلال عدم ذكر الاجتهاد. لقد شكّل الاجتهاد محور العديد من النقاشات منذ عصر الاسترابادي، وقد اعتقد أنه لم يتم الاشتغال عليه بالطريقة التي كان البحراني يظنّ بأنها مفيدة. من خلال محاولة عدم ذكر الاجتهاد، بالإمكان أنه كان يتمنى أن يتحاشى قيام صراع طائفي محتمل.

إن أحد الأسباب المهمة وراء ذكر هذه الاختلافات الثلاثة من طرف البحراني في المقدمة الثانية عشرة هو أن المقدمات الإحدى عشرة الأخرى هي محاولة واضحة لوصف موقفه من هذه القضايا.

وفي المقدمات (من 1 إلى 3)، يتطرّق بالدرس والتحليل إلى مصادر التشريع. وهنا يقدم البحراني موقفه من نقطة الاختلاف الأولى، وهي عدد مصادر التشريع. وفي المقدمات (من 4 إلى 6)، يناقش مجال الشبهة وعدم اليقين، كما أنه يصف طريقة تجاوز الشبهة. وهذه المقدمات هي دليل على موقف البحراني من نقطة الاختلاف الثانية. في النهاية، يتطرق في المقدمات (من 7 إلى 11) إلى كيفية تفسير الكلمات التي جاءت في المصدر الأول للوحي، وما إذا كانت مصادر أخرى غير الإخبار بإمكانها ان تساعد على الفهم والتأويل، وبذلك يكون بصدد تقديم فهم وضع نقطة الاختلاف الثالثة التي تمّ ذكرها أعلى.

إنه لمن الواضح جدّاً أن مواضيع النقاش الثلاثة تتوافق والأصناف الثلاثة للمقدمات. سوف تقوم هذه الورقة بوصف أصول الفقه لدى البحراني من خلال دراسة موقفه من تلك القضايا الثلاث. يقدّم البحراني بشكل ضمني نظرته نحو النزاع بين المجتهدين والإخباريين، ومن خلال هذه المقدمات نستطيع أن نجد إشارة تفسّر لنا إن كان البحراني يعدّ نفسه إخبارياً أم لا.

طبيعة وفائدة مصادر التشريع:

تركز المقدمة (1 و2) على السنّة مصدراً للتشريع. في الفقه الشيعي، تعدّ السنّة هي الأحاديث الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبار الأئمة. أمّا المقدمة (3) فتتناول القرآن، والإجماع، ودليل العقل. كما يتضح، إن تخصيص مقدّمتين للسنة والمصادر الثلاثة الأخرى مقدّمة واحدة فقط له دلالة معيّنة ومهم. إنّ هذا التسلسل: السنّة، القرآن، الإجماع، دليل العقل، يوضّح كذلك أن السنّة لها مكانة مهمّة مقابل باقي المصادر.

في المقدمة رقم (1)، يحاول البحراني أن يستدلّ على أن تعارض واضح بين خبرين اثنين لا يعود إلى كون أحدهما صحيح والآخر ضعيف. يعود التعرّض فحسب إلى وجود ما يسمّى بالتقيّة، وهي ممارسة شيعية معروفة، وتقتضي من إمام شيعي، أو مؤمن، أن يتظاهر فحسب حتى لا يكشف عن اعتقاده الحقيقي، إذا كان ذلك سيعرضه للظلم[14].

لا يسمي البحراني معارضيه باسم واحد؛ بل تتم الإشارة إليهم على أساس أنهم «بعض أصحابنا» أو «فئة من علمائنا». ينسب هؤلاء الخصوم التعارضات داخل السنّة سواء إلى التقيّة أم إلى نسبية صحة الأخبار، لكن البحراني يقبل فحسب بالسبب الأول، ويقوم بتوسيع مجال الأخبار التي يمكن أن تعدّ على أنها وليدة التقيّة.

إن الخصوم يدّعون أن كلّ أخبار التقية يسهل تحديدها: «وحيث إن أصحابنا -رضوان الله عليهم- خصّوا الحمل على التقيّة بوجود قائل من العامة»[15]. وبذلك، فإن دين المتسائل هو عامل مهمّ جداً في تحديد وتصنيف الخبر. إذا ما اكتشف على أنه سنّي، فإن الإمام يكون قد مارس التقيّة، والحكم الذي يرد في الإخبار لا يقدم صورة حقيقية عن الأحكام الشرعية. ومن الممكن كذلك أن يكون ذلك مجرّد نصح إمام ما لمؤمن يعيش أوضاعاً تستدعي التقيّة.

يتضح أن البحراني لم يكن موافقاً على الفكرة القائلة إن المعيار الوحيد الذي يمكن تحديد حديث تقية من خلاله هو دين أو طائفة المتسائل. إنه يأخذ خمسة أخبار من مجموعات الكليني وشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (460هــــ/1067م). في كلّ هذه الأخبار يطرح مجموعة المؤمنين الشيعة أسئلة على الإمام، وهو يعطي جواباً مختلفاً حسب كلّ حالة. وبما أن جميع الأجوبة لا يمكن أن تكون صحيحة، لا بدّ أن يكون بعضها قد تمّ الكشف عنه تحت اسم التقيّة. يلي الخبر الأول تعليق تفسيري:

خبر:

فمن ذلك ما رواه في الكافي (1) في الموثق: عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام. قال: سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاءه رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان، قلت: يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان، فأجبت كلّ واحد منهما بخلاف ما أجبت صاحبه؟

فقال: يا زرارة، إن هذا خير لنا وأبقى لكم. ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم[16].

التعليق المفسّر:

ولعلّ السرّ في ذلك أن الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين كلٌّ ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر، سخف مذهبهم في نظر العامة، وكذبوهم في نقلهم. ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدين، وهانوا في نظرهم، بخلاف ما إذا اتفقت كلمتهم، وتعاضدت مقالتهم، فإنهم يصدقونهم، ويشتد بغضهم لهم، ولإمامهم ومذهبهم، ويصير ذلك سبباً لثوران العداوة[17].

هذا، بالنسبة إلى البحراني، يؤكد أن الأئمة يقدمون أجوبة تقية لأسئلة سنيّة وشيعيّة معاً. ومن خلال توضيح هذا، يقوم بخفض عدد التعارضات التي ليس لها حل لدى الأخبار، كما يؤكّد أن الأخبار كلها تصريحات متناسقة تاريخياً لكلام الأئمة، لكنها يمكن أن لا تكون تعبيراً صحيحاً عن الأحكام الشرعية.

إن السبب الآخر للتعارضات هو أن بعض الأخبار تتم فبركتها فحسب:

إنهم (الخصوم غير المصرح بهم بالاسم) يظنون أن الاختلافات تقع فقط بسبب التضمين الخفي (لأخبار الكذابين) ضمن أخبارنا. وعليه، فإنهم يستعملون هذه التقنية لكي يفرّقوا الأخبار الصالحة من الطالحة والأخبار الصحيحة من الأخبار غير الصحيحة[18].

إذا ما كان خبر ما صحيحاً، أو أحد الأصناف الأخرى، فإن ذلك يعتمد على صلاحية الإسناد. كما في الفقه السنّي، إن الأخبار تقتضي تسلسلاً منطقياً للإسناد. ويمكن التحقّق من الإسناد عن طريق فحص شخصيات وحياة أعضائه. وهذه المعلومات يمكن التوصل إليها من خلال العودة إلى علم «الرجال».

يدَّعي البحراني أن النقد الموجه نحو الإسناد ليس ضرورياً لأن كتب الأخبار كلها، في نظره، لها أنسابها، وهو الأمر الذي يؤكد موثوقيتها. إن أقوال الأئمة، بالنسبة إلى البحراني، كانت توجب تدوينها من طرف مؤلفي الأصول الأربع مئة (مجموعة أقوال). وهذه الأعمال تم فحصها من طرف الأئمة أنفسهم، وقد تم التخلّص من كلّ خطأ. وهذا قد تم تأكيده من خلال ورود خبر ليونس عبد الرحمن في كتاب (رجال القشي). ويورد الخبر كيف أن يونس كان يسافر عبر العراق يجمع الأخبار، وقد قدم عمله للإمام رضا، الذي رفض منه الأخبار غير المقبولة.

وبالنسبة إلى البحراني، إن الأصول الأربع مئة قد تمّ الحفاظ عليها من طرف الشيعة الأوائل. وقد تم فحصها، من أجل الدقة، من طرف الأئمة قبل «الغيبة»، ومن طرف الصحابة المرافقين بعد «الغيبة»:

لأنهم (صلوات الله عليهم) حفّاظ الشريعة وحملتها وضباطها وحرستها. ولهم نواب فيها من ثقات أصحابهم، وخواص رواتهم، يوحون إليهم أسرار الأحكام، ويوقفونهم على غوامض كل حلال وحرام[19].

وبهذا يكون البحراني قد وضع أساساً تسلسلياً للرواية والإسناد لكتب الأخبار كلها. فالأئمة قد فحصوا الأصول الأربع مئة، ولقد كانت هذه هي المراجع التي اعتمدها جامعي الحديث، مثل الكليني وابن بابويا والشيخ الطوسي، وقد اعتمدوها لتشكيل مجموعاتهم. بهذا الشكل يمحي البحراني تعارضات خصومه الذين يؤمنون بأن الأخبار المفبركة كانت قد وجدت طريقها إلى الأخبار بشكل «خرافي». إنه يعتمد مقاطع لهؤلاء الباحثين لكي يدعم طرحه.

بالنسبة إلى مخطط البحراني، إن التعارض بين خبرين اثنين يعود فحسب إلى التقيّة. لهذا، على المهتم أن يتحرّى أي هذه الأخبار تقية من خلال نظام ترجيح:

ولعلك بمعونة ذلك تعلم أن الترجيح بين الأخبار بالتقية -بعد العرض على الكتاب العزيز أقوى المرجحات. فان الاختلاف الواقع في أخبارنا؛ بل كله عند التأمل والتحقيق، إنما نشأ من التقيّة، ومن هنا دخلت الشبهة على جمهور متأخري أصحابنا رضوان الله عليهم[20].

وتواصل المقدمة رقم (2) فعل الشيء نفسه، لكن مع تأكيد رفض تقليد «تقسيم الأخبار إلى أصناف» بشكل تنازلي عبر نظام تسلسلي من صحيح، إلى حسن، إلى موثق، إلى ضعيف. بالنسبة إلى البحراني، إن هذا الاصطلاح كان يستعمل من طرف مثقفين معاصرين، بمن فيهم الشيخ البهائي، محمد بن حسين (1031 هــــ/1622م)، وحسن بن الشاهد الثاني (966هــــ/1558م). ولقد تمّ إدخاله إلى الفقه الشيعي من طرف العلامة ابن طاووس (664هــــ/1266م). يرى البحراني أن كل هؤلاء الفقهاء من «المتأخرين». أما الفترة المعاصرة، أو المتأخرة كما تُسمّى، فلها، بالنسبة إلى البحراني، حيّز زمني خاص، إذ تمتد إلى الوراء (600) سنة. لقد كان في فكر الشيعة الأوائل، في نظر البحراني، أفضلية خاصة.

ويشير البحراني إلى هذا كنقطة صراع بين الإخباريين والمجتهدين. يدّعي أنه يتبع طريقة وسطى على الرغم من أن أدلته تؤدي إلى رفض التصنيف الرباعي، وبذلك تتماشى والموقف الإخباري. في المقدمة (2)، يعيد فكرتين اثنتين كان قد تناولها في المقدمة رقم (1)، وهما: انتشار التقيّة والتسلسل المنطقي لنقل الرواية عن الأئمة لجامعي الكتب الأربعة المكونة للأخبار. ولديه فكرة أخرى تتمثل في رفضه لعلم الرجال.

إن تصنيف الأخبار مبني على نتائج علم الرجال. أما علم الرجال، فهو مرفوض؛ لأن جامعي الأصول الأربع مئة، وبعدها الكتب الأربعة للأخبار، كانوا شديدي الحذر في اختيارهم الأخبار. أبعد من ذلك، إن أعمال الرجال، التي ينبني عليها نقد الإسناد، تتميز بكونها معيبة:

وأنت خبير بما بين مصنفي تلك الكتب وبين رواة الأخبار من المدة والأزمنة المتطاولة، فكيف اطلعوا على أحوالهم الموجبة للشهادة بالعدالة أو الفسق[21]؟

إن الزمن الذي مرّ بين حياة الرواة والكتاب الرجال يتميز، بالنسبة إلى البحراني، بكونه يضفي الشك حول موثوقيتهم. في النهاية، يؤكد البحراني: يعارض الرجال المؤلفون بعضهم البعض. ويبقى المرء في حيرة متى يكون راوي ما موثوقاً وكاذباً بالنسبة إلى آخر.

خلال تحليله الذي يقدمه في المقدمتين (1 و2)، يقوم البحراني بالتأسيس لبنية إبستمولوجية تطغى على جميع أصول فقهه. فالحديث هو إمّا صحيح، وإمّا ضعيف، والحكم إمّا مؤكّد أو لا. أمّا معرفة الشريعة، فيجب أن تتبع الصنف الأول وليس الثاني، أي إنها يجب أن تحقق الدرجة الأعلى من التأكيد والعلم. إن تقسيم الأخبار إلى ثلاثة أنواع يسمح بولوج مجالات غير ضرورية للشك بالنسبة إلى البحراني، وهي، من ثمّ، مرفوضة.

ومن المهم جداً أن البحراني يوسع تلك الأخبار التي يمكن اعتبارها صحيحة، وذلك بتضمينها حتى تلك التي لا توجد في الكتب الأربعة المعروفة. وفي الجزء الأخير من المقدمة (2)، يصف بعض الأخبار المضمنة في كتب قديمة للأخبار بأنها صحيحة. فهو يقتبس من نعمة الله الجزائري (وهو إخباري مشهور جداً (1112هــــ/1700م) دليلاً على هذا:

والحقّ أن هذه الأصول الأربعة لم تستوفِ الأحكام كلّها؛ بل قد وجدنا كثيراً من الأحكام في غيرها، مثل عيون أخبار الرضا، والأمالي، وكتاب الاحتجاج، ونحوها[22].

إنَّه يذكر كذلك محمد باقر المجلسي (1111هـ/1700م) بوصفه واحداً من الذين يدعمون هذا الطرح، بما أنه اعتمد تلك المصادر المعروفة الأخرى في مجموعته المسمّاة (بحار الأنوار).

إن الأخبار، بالنسبة إلى البحراني، تتشكل من مادة أوسع ممّا يظنّه خصومه. فجميع الأخبار في الكتب الأربعة صحيحة؛ أمّا النقد الموجه نحو الإسناد، فهو مرفوض. وهناك كذلك أخبار غير مدرجة في الكتب الأربعة التي تعدُّ صحيحة. من خلال تعريف هذا الشق من المادة الموحاة بشكل واسع جدّاً، يقلص البحراني مساحة التشريع التي ليس لها دليل. لقد كانت هذه المساحات مجالات سابقة للمصادر الأخرى للتشريع؛ أي مجالاً للاجتهاد، حيث سيطر الظنّ على العلم. من خلال تقليص هذه المساحات، وتوسيع مجال المادة الموحاة، يحدّ البحراني من إمكانية الدخول في عملية عقلنة فردية تعتمد العقل في اكتشاف أحكام الشريعة.

تشمل المقدمة (3) أفكار البحراني الثلاث بخصوص الكتاب (أي القران)، والإجماع، ودليل العقل. وأفكاره حول الكتاب تضمّ رفض ثلاثة مواقف أخرى: أحدها يتبناه المجتهدون، والآخران يتبناهما الإخباريون. بالنسبة إلى المجتهدين، يعدّ القرآن مصدر محدود للشريعة؛ لأنه يضم فقط (500) آية تحيل على الأحكام. وفيما يخص مسائل تتعلق بغير هذه المسائل المذكورة في الآيات (500)، يتم الاعتماد على المصادر الأخرى، التي هي السنة، والإجماع، ودليل العقل. ينقسم الإخباريون، فيما يخص حجية القرآن، إلى فريقين. الفريق الأول هم أولئك الذين يقولون إن القرآن لا يمكن فهمه إلا بالعودة الى الأخبار. وهو بذلك ليس بمصدر مستقل، ولا يمكن النظر إليه من منظور الأخبار. ويتمثل الموقف الإخباري الثاني في أن القرآن يمكن فهمه مباشرة، والأخبار غير ضرورية لفهمه. ويعدُّ أولئك الفقهاء، الذين يقولون بإمكانية فهم القرآن مباشرة دون الحاجة إلى الأخبار، وهنا خاصة، أنهم متكبرون، ويضعون أنفسهم موقع الأئمة الكبار، وكأنهم قادرون على تفسير الآيات المتشابهات من القرآن. يقرّ البحراني بأن المجموعتين بين إفراط وتفريط، وبأن الإخباريين أنفسهم يقدمون توضيحات مختلفة حول الموضوع نفسه.

ويبقى موقف البحراني وسطياً ينحصر ما بين الموقفين الإخباريين. تنقسم الآيات في القرآن الكريم إلى أصناف. ويدعي أنه يتبع الشيخ الطوسي في تقسيمه. والشيخ، من خلال تعليقه، في التبيان في تفسير القرآن، يقسم آيات القرآن إلى أربعة أصناف هي:

1) الآيات التي لا يعلم معناها إلا الله.

2) الآيات التي بوسع أي ممتلك للغة العربية أن يفهمها.

3) الآيات التي لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى سنّة النبي.

4) الآيات التي لها معنى، أو معنيين، أو أكثر، وهي التي نحتاج فيها إلى تفسير الأئمة.

هذا التصنيف قد تم تنسيقه مع حديث للإمام علي يصف فيه ثلاثة أنواع من آيات القران:

أ) آيات يمكن لأي شخص، متعلم أم جاهل، أن يفهمها.

ب) آيات يمكن أن يفهمها أي شخص ذي عاقل راجح.

ت) آيات لا يمكن أن يفهمها إلا الله وأنبيائه.

الصنف (أ) مماثل للصنف (2). يقرّ البحراني بأن الصنف (4) متطابق مع (ب) نظراً لكون الأئمة هم وحدهم من يملكون عقلاً راجحاً. الأئمة مهمّون كذلك بالنسبة إلى (ت)، على الرغم من أن ذلك لا يعود إلى كونهم يملكون عقول راجحة، لكن من خلال كونهم «ورثة» الأنبياء. (3) و(ت) متطابقين، بما أنه لا يمكن فهم السنّة الخاصة بالنبي إلا من خلال تفسير الأئمة. الصنف الأول من الشيوخ (الآيات التي لا يمكن فهمها إلا من طرف الله) لم يذكرها الإمام علي لأنها قليلة جداً من حيث العدد. أمّا الآيات التي يمكن لأي كان أن يفهمها (2) و(أ)، فهي كذلك قليلة، ولا تتعلق بقضايا الشريعة حسب البحراني.

يتمثل الموقف النهائي للبحراني في مكان وسط بين الموقفين الإخباريين. إنه يحدّ من عدد الآيات التي يمكن فهمها مباشرة، ويحدد الفهم الخاص بالآيات المتعلقة بالأحكام، دون هوادة، عبر تفسير الأئمة (أي الأخبار). كما في تحليله للسنّة، تعدُّ الأخبار الوسيلة المتوافرة الوحيدة للمؤمن، والتي يمكنه أن يفهم الشريعة من خلالها.

تاريخياً، لم يشكل الاجماع إلا مصدراً محدوداً بالنسبة إلى الفقهاء الشيعة. يعدّ الإجماع ممكناً فحسب بناءً على كون الإجماع عليه أن يتضمن رأي الإمام الغائب. رأي الأغلبية لا يهم؛ وذلك لأن رأي الإمام يمكن حذفه. ويقتبس البحراني من المحقق الحلي (676هــــ/1277م) لكي يدعم رأيه:

وأمّا الإجماع، فهو عندنا حجة بانضمام المعصوم. فلو خلا المئة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة[23].

وبذلك يرى البحراني أن الإجماع لا يصل إلّا إلى درجة الظن، وليس العلم، وبذلك يرفضه مصدراً. ويؤكد البحراني أن الإمام يمكنه ممارسة التقيّة نظرياً. أمّا عملياً، فالشيعة منقسمون، ولا يمكن الحصول على توافق عام، يقول البحراني إن الإجماع كان ممكناً في الفترة الموالية مباشرة للغيبة، عندما كان المجتمع صغيراً، ويمكن الحصول على الآراء بسهولة. إنه يعترف بأن الإجماع كان يتم التوصّل إليه، وكان يضفي صبغة الصلاحية على قضايا مثل سلطة فتاوي الإمام الصدوق. وفي عصره، صار الإجماع مستحيلاً:

إن علم دخوله (عليه السلام) فلا بحث ولا مشاحنة في إطلاق اسم الإجماع عليه، وإسناده الحجة فيه ولو تجوّزوا[24].

على الرغم من أن بعض الفقهاء الشيعة تقبلوا الإجماع، فقد فعلوا ذلك فقط، فهو مجرد تقليد لأهل السنة.

وبالجملة: فإنه لا شبهة، ولا ريب، في أنه لا مستند لهذا الإجماع من كتاب ولا سنة. وإنما يجري ذلك على مذاق العامة ومخترعاتهم، ولكن جملة من أصحابنا قد تبعوهم في غفلة[25].

إن معيار الحكم على حجية ادعاء ما في مجال الشريعة هو توازن ما بين الاطلاع والدراية بعلم قاطع. إن الأحكام التي لا ترقى إلا إلى درجة الظن، لا يمكن أن تكون ملزمة. إن إبستمولوجية البحراني هنا ترفض الاجتهاد؛ وذلك بناء على أن استنتاجات المجتهد تبقى دائماً مجرد ظن.

تتناول الفقرة الأخيرة من المقدمة دليل العقل. يفرّق البحراني بين ثلاثة عناصر تخص دليل العقل: البراءات الأصلية، والاستصحاب وقواعد اللغة الخاصة بمعاني الكلمات[26]. هذه المبادئ العقلية قد تمّ إيجادها من أجل تمكين الباحث من معالجة مجال المسكوت عنه في القرآن والسنّة صامتين بخصوصه. يرفض البحراني هذه العناصر الخاصة بدليل العقل كلها.

تعني البراءات الأصلية أنه إذا كانت النصوص قد بقيت صامتة بخصوص موضوع ما، فإن ذلك الموضوع يُفترض أنه يبقى حراً (بريء) من المنع، وبذلك فهو مسموح به، واستصحاب الحال هو مفهوم مرتبط به. إذا ما تم تمرير حكم في زمن معين، تحت مبدأ الاستصحاب، يفترض أن يبقى جارياً به العمل حتى يعلم أن الأوضاع قد تغيرت، وأن الحكم يجب أن يتغير. وهذان المبدآن يستعملان كثيراً من طرف المجتهدين.

إن دليل البحراني ضد هاتين الطريقتين الاستنباطيتين هو أن المجتهد يقدم فتوى حكم دون دليل، من خلال افتراضه أن أمراً ما مباح؛ فإن المجتهد يرقي رأيه من درجة الظن إلى درجة حكم. من خلال افتراضه أن الوضع يبقى هو ما عليه، في الوقت الذي يكون قد تغير، يتصرف المجتهد دون حذر، وهو في خطر توجيه المؤمن نحو طرق مخالفة للشريعة. أكثر من ذلك، من خلال افتراض أن فعلاً ما، أو بنداً ما، مباح بناء على عدم توافر دليل في نصوص الوحي، يعني أن الله سبحانه وتعالى قد فشل في تقديم حلٍّ لهذا الوضع، وهو ما يعني كذلك أن الشريعة غير تامّة. يبقى هذا بالنسبة إلى البحراني مجرد هراء، بما أن الله، والنبي، والأئمة كلهم يشهدون بأن الشريعة شاملة، وبأن الله قد وضع حكماً لكلّ قضية. يؤكد البحراني بوضوح تام أن الأخبار واضحة جداً فيما يخص الطريقة المقبولة في بعض الحالات التي تكون فيها النصوص غير واضحة:

وقد تواترت الأخبار في مثل ذلك بوجوب التوقف والاحتياط كما سلف تحقيقه[27].

سوف أعود إلى تأثيرات الاحتياط والتوقف فيما سيأتي.

وبعبارة موجزة، بخصوص المجال الأول لعدم التوافق بين الإخباريين والمجتهدين، يدعم البحراني، بكل وضوح، الموقف الإخباري. هناك مصدرين للتشريع: القرآن والسنّة. أمّا الإجماع ودليل العقل، فيتم رفضهما على أساس أنهما ينتجان أحكاماً غير معتمدة يسميها البحراني الظن. أبعد من ذلك، إن إبستمولوجية البحراني الفقهية ثابتة؛ إنها تتكون من ثنائيات ثابتة ما بين التأكيد والشك، الحقيقة والكذب.

تصنيف الأفعال:

في رفضه للبراءات الأصلية، يقدم البحراني موقفه من النقطة الثانية للخلاف بين الإخباريين والمجتهدين:

فالعامة وأكثر أصحابنا على القول بها، والتمسك في نفي الأحكام بها، حتى طرحوا في مقابلتها الأخبار الضعيفة باصطلاحهم الأخبار الموثقة، كما لا يخفى على من طالع كتبهم الاستدلالية، كالمسالك والمدارك ونحوهما. فالأشياء عندهم إمّا حلال وإمّا حرام بيّن، وجملة علمائنا المحدثين وطائفة (2) من الأصوليين يصرون على وجوب التوقف والاحتياط، فالأشياء عندهم مبنية على التثليث (3) (حلال وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك) والحق-الحقيق بالاتباع، وهو المؤيد بأخبار الذكر (صلوات الله عليهم) -هو القول الثاني.

إن هذا يعدُّ دعماً واضحاً لموقف الإخباريين فيما يتعلق بموقفهم من الوضع الثاني المتعلق بالفرق المختلفة التي يتم تناولها في المقدمة (12).

المقدمة (4)، هي عبارة عن تناول موسع لكيفية اشتغال مبدأي الاحتياط والتوقف. ويتجسّد موقف البحراني في هذه العبارة:

فالمتجه - كما سيأتي تحقيقه- وجوب الاحتياط في العمل والتوقف في الحكم[28].

يعني البحراني بهذا أنه لمّا يسأل فقيهاً ما حول رأيه فيما يخص قضية ما ليس لها دليل واضح من النصوص، يجب عليه أن يصرّح أوّلاً بأنه لا يعلم الحكم الصحيح (التوقف). بعد ذلك عليه أن يقرّر ما هو الطريق الأحوط (الأكثر حيطة)، الذي سوف يضمن أن مؤمناً ما سوف يواصل تطبيق الشريعة (الاحتياط). وعلى السائل، بعد ذلك، أن يتبع هذا الطريق الأحوط. بالنسبة إلى البحراني، تتجسّد معرفة الشريعة في نوعين، وكلٌّ منهما مؤكّد. أولاً، هناك الأحكام التي لها أدلة مباشرة من النص؛ ثانياً، هناك مجالات حيث يكون الحكم فيها بالمماثلة. وهنا لا نتوصل إلى الحكم ذاته، الذي يكون الأئمة لم يتوصلوا إلى الكشف عنه بسبب التقية. مع ذلك، لقد قام الأئمة بالكشف عن قاعدة عامة حول كيفية التعامل في مثل هذه الحالات؛ التوقف والاحتياط. كما سوف نرى، إن ممارسة الاحتياط يجلب الثبات فيما يخص تطبيق الشريعة، بما أنه يفرض القيام بالأعمال التي يحوم حولها شكٌّ فحسب للضرورة[29].

في بداية المقدمة (4)، يوضح البحراني نظريته. يتوجب الاحتياط في الحالات التي يكون فيها عدم تأكد (شبهة). مع ذلك، يرى البحراني أن ممارسة ذلك في مثل تلك الحالات لا يكون نظراً لكون النصوص تقدم أحكاماً متعارضة (سوف يتم تطبيق قاعدة الترجيح في هذه الحال). وليس كذلك نظراً لكون الوحي قد بقي صامتاً حول الموضوع (الوحي، بالنسبة إلى البحراني، يمكن أن يكون له دائماً تأثير على مشكل ما). تقوم حالات الشبهة عندما يكون غير واضح، من جهة الوحي، تحت أيّ صنف من الأصناف الخمسة (الواجب، المندوب، ...إلخ) يجب تصنيف فعل ما.

المثال الأول الذي يقدمه البحراني يتعلق بالحالة التي يكون فيها المرء غير متأكد من أن فعلاً ما واجب، أو مستحب. في هذه الحالات يفرض علينا الحذر القيامَ بالفعل:

فمن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي المتعلق بالفعل ما إذا اشتبه الحكم من الدليل بأن تردّد بين احتمالي الوجوب والاستحباب، فالواجب التوقف في الحكم، والاحتياط بالإتيان بذلك الفعل، ومن يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجّحة للاستحباب[30].

إن الفكرة، هنا، على الرغم من أنها غير معلنة بشكل واضح، تبدو أنها معقولة. إذا ما تحاشى الفعل نظراً لأنه مستحب فحسب، فإنه، إذا كان الفعل ليس بواجب، قد فشل في تطبيق الشريعة. وإذا تبيّن، بدلاً من ذلك، أن الفعل مستحب، فإنه يكون قد قام بفعل مطلوب، سوف يكون هناك نفع ينطوي على مثل هذه الأفعال. إن الطريقة الوحيدة للتأكد من أن المرء يطبق الشريعة هو عن طريق النظر إلى الفعل باعتباره واجباً، على الرغم من أنه غير متأكد من حالته. بهذه الطريقة يتم التأكد أنه لن يكون هناك أيّ تخطٍ لحدود الله.

بشكل مشابه، إذا كانت النصوص غير واضحة بشأن ما إذا كان فعل ما مكروه، أو حرام، فإن المنطق يتطلب من المرء أن يتفادى هذا النوع من الفعل. يقول البحراني، إنه إذا تبيّن أن مثل هذا الفعل حرام، فإن المرء يكون مخالفاً الشريعة. وإذا كان مكروهاً فحسب، فإن المرء يكون قد تحاشى أمراً يلام عنه، وهو في حدّ ذاته شيء مستحبّ.

إذا كان المرء يعلم أن فعلاً ما ليس بواجب، لكنه لا يعلم في أيٍّ من الأصناف الأربعة يصنّف، يقرّ البحراني بأنه عليه أن يتفاداه:

من الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي -لكن بالترك- ما إذا تردّد الفعل بين كونه واجباً أو محرّماً، فإن المستفاد من الأخبار أن الاحتياط هنا بالترك[31].

إنه، بذلك، من الأفضل أن تتمَّ المجازفة بعدم تطبيق فعل مطلوب من المجازفة بإتيان فعل محرّم. هذا النوع من التعامل، على الرغم من أنه يمكن أن ينتج عنه عدم القيام بالمستحبات، فإنه، على الأقل، يساهم في الابتعاد عن إتيان المحرمات[32].

يعطي البحراني أمثلة عن الأئمة وهم يمارسون الاحتياط. إنه يدرج سؤالاً تمّ طرحه على الإمام علي من طرف رجلين ذهبا من أجل الصيد بينما هما إبان فترة الحج، ويذبحان حيواناً معاً. هذا الفعل غير مقبول ومن أجل أن يُقبل حج الرجلين عليهما الكفّارة. والسؤال هو: إذا ما كانت كفارة واحدة من جهة رجل واحد كافية، مادام فعل الصيد واحد (أي تمّ قتل حيوان واحد). كان ردّ الإمام علي هو أن الرجلين كليهما عليهما أن يؤديا الكفارة بالأخذ بالاحتياط. ويفسّر البحراني ذلك كما يأتي:

تفيد هذه الرواية بأن الاحتياط واجب عندما لا يكون المسؤول مطلعاً على المعلومات الخاصة بحكم شرعي ما كاملة، وليس من الممكن طرح السؤال على الإمام. هذا نظراً لأن المعنى الواضح للرواية هو أن السائل يعلم الأصل (أي إنه من الواجب أداء الكفارة). وهو فقط لديه شك بشأن هل كفارة واحدة تكفي لكليهما، أو أنه عليهما هما الاثنين أداء الكفارة[33].

عدم اطلاع المسؤول عن المعلومات الكافية، يعني أنها شبهة. وفي مثل هذه الحال يكون الاحتياط واجباً. يفسر البحراني هذه الأخبار كإنذار قضائي من عند الإمام لكي يتم العمل بالاحتياط.

إن نظرية البحراني المتعلقة بالاحتياط تشغل المساحة نفسها فيما يتعلق بالنظرية الرسمية للاجتهاد. إن المجتهد يستعمل الاجتهاد من أجل التوصل إلى أحكام حيث تكون النصوص غير واضحة، وهو يقوم بذلك وفق قواعد تدعى البراءات الأصلية، والفرق بين العموم والخصوص، وطرق أخرى للتمكّن من لغة نصوص الوحي. تبقى اجتهادات المجتهد كلّها مجرد ظنون، على الرغم من أن المقلّد عليه اتباعها. من وجهة نظر البحراني، هناك مجازفة وقوع حكم خاطئ من طرف المجتهد؛ حيث يقوم بمغالطة المقلد. ومن ثمّ، إذا عمل المرء بالاحتياط، حيث تكون النصوص الشرعية غير واضحة، فإنه يستطيع التوصل إلى اليقين بأن الشريعة قد تمّ تطبيقها، على الرغم من أنه لا يعلم بالحكم الإلهي بشأن حالة خاصة. لماذا الاعتماد على ظن المجتهد، عندما يكون بمقدوره الحصول على علم من خلال اتباع أحكام الأئمة بشأن العمل بالاحتياط؟

بالنسبة إلى البحراني، الاحتياط هو الطريقة الصحيحة عندما يكون هناك نقص في الوضوح في النصوص. والترجيح هو الحل عندما تكون النصوص متعارضة. في المقدمة (6)، يحدد البحراني السبيل الذي يمكن اتباعه من أجل اكتشاف أيّ النصين المتعارضين هو تقيّة، وبذلك يتم رفضه. ومثلما يتم التعامل مع القرآن، يقوم بالتعامل مع الناسخ والمنسوخ. وفيما يخص التعارضات بين الكتاب والأخبار، يقترح النظر في الأخبار بوصفها مقيداً أو مخصصاً للأحكام العامة (المطلق، العموم) في القرآن. مع ذلك، تعدّ التعارضات ضمن الأخبار هي مجال تخصصه. بعد دراسة موسعة لنقاش مقبولة حنظلة المشهور ومرفوعة زرارة، يخلص البحراني الى أن هناك ثلاثة «أحكام» في مجال العمل بالترجيح. وهي مذكورة هنا من طرف الكليني:

قلت: فإن كان الخبران عنكما (3) مشهورين قد رواهما التقاة عنكم؟

قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة.

قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامةــــ والآخر مخالفاً لهم، بأي الخبرين يأخذ؟

قال: ما خالف العامة ففيه رشاد (108).

إن قضية موثوقية الرواة ليست بقضية بالنسبة إلى البحراني، مادامت الأخبار بالنسبة إليه، كل الأخبار، هي روايات صحيحة لكلمات الأئمة. وهذه الاختبارات الثلاثة، إنما هي وسائل فحسب يتم عبرها التفريق بين أخبار التقية والأخبار التي ليست بتقية.

مع ذلك، يتبين أن تحليل البحراني لهذه الأحكام يبرهن أنه لا يعدّهم ذوي جدوى. إن المقارنة مع القرآن نجده محدوداً في الآيات القليلة التي تحيل على الأحكام. ثانياً، يرى البحراني أن السنيّين يختلفون كثيراً فيما بينهم، في حين أنه من الصعب جداً التمكن من فهم كيف يمكن تبنّي وجهة نظر مختلفة. في الأخير، إن تقييم «ما يتفق عليه الناس» عسير، نظراً لأن الشيعة متفرقون، ويعيشون في ظلّ الاختفاء (زاوية التقية). أمّا الإجماع بوصفه مصدراً في حدّ ذاته، فقد تمّ رفضه لكونه غير عملي، وينطبق ذلك أيضاً على الإجماع بوصفه وسيلة للتفرقة بين خبرين متعارضين. إن كثرة هذه الأحكام تضع الفقيه في موقف حرج، لكنّ البحراني يبقى له سبيل يوصي به:

ومع عدم إمكان الترجيح بالقواعد الثلاث، فالأرجح الوقوف على ساحل الاحتياط[34].

نظرياً، إن التعارض بين الأخبار يمكن حلّه عن طريق السبل الثلاثة للترجيح؛ إذ يقوم البحراني باستبعاد كل مجال آخر يمكن فيه للمجتهد أن يقدم رأيه في إطار نظرية الاجتهاد، ويعوّضها بمبدأ الاحتياط.

وسائل تأويل الكتاب:

يتصل مفهوم البحراني عن المباح برأيه في كيفية تأويل القرآن الموجودة في المقدمة رقم (3)، وهي عبارة عن ملخّص لما تمّ التطرّق إليه في الأعلى. وبعيداً عن الآيات القليلة التي يمكن لأيّ أحد فهمها باعتماده على ملكة اللغة فحسب، فإن خلاصاته تمثلت في أن آيات القرآن (بما في ذلك جميع الآيات المتعلقة بالأحكام)، لا يمكن فهمها إلا من خلال الجمع بينها وبين الأخبار. في الواقع، إن الأخبار هي التفسير الوحيد للقرآن؛ فالأخبار هي التي تملك السلطة التفسيرية. المقدمة رقم (7 حتى 11) تحتوي رفض مطول لأساليب تفسير أخرى تستعمل من طرف فقهاء آخرين لتفسير الكتاب.

المقدمة (7 إلى 9)، هي عبارة عن تناول مختصر لقضية التفسير اللغوي لنصوص القرآن؛ أي ما يتعلق بكلام الوحي. المقدمة رقم (7)[35]تهتم بالواجب والمحرّم. إذا ما أعطي أمر في القرآن، هل هذا يعني أنه واجب على المؤمنين العمل بذلك الأمر؟ بشكل مشابه، إذا وجد تحريم ما، هل هذا يعني أنه حرام بالنسبة إلى المؤمن؟ لقد حاول خصوم البحراني التقليل من قوّة وصرامة التعاليم والمحرّمات، وذلك عن طريق إنزالها إلى درجة المندوب، والمستحب (اختياري لكنه مطلوب)، والمكروه. يتمثل موقف البحراني هنا في أنه كي ننظر إلى أمر ما على أنه في درجة أقل من الواجب، أو إلى نهي ما على أنه أقل من الحرام، يجب توافر دليل نصي (قرينة أو أكثر). تعني القرينة أن كلمات الأمر أو النهي تستعمل مجازياً، وتعني أن الحكم مستحبٌّ أو مكروه على التوالي. المقدمتان رقم (8[36] و9[37]) تتناولان القرائن الشرعية. يرى خصومه أنه عندما يتم تأويل نصوص الوحي، يستطيع المفسّر أن يستعمل الكلمات اليومية؛ أي الكلم الذي يُستعمل في العرف العام، أو المعنى اللغوي الصحيح الذي هو ما يُدعى بالحقيقة اللغوية. يرفض البحراني كلّ هذه التأويلات الممكنة عندما يتم تأويل الكلام، ولاسيما فيما يتعلق بالأمر والنهي، يجب على المفسّر أن يفترض أنّ المعنى حرفي (أي إن أمراً ما يستدعي واجب القيام به)، إلا في حالة توفر المفسّر على قرينة من الكتاب تبيّن بأن هذه الآية من الكتاب يمكن تفسيرها بطريقة غير حرفية (أي بطريقة مجازية). يمكن للقرينة، على سبيل المثال، أن تتخذ شكل السابقة؛ حيث يكون الإمام قد فسّر آية ما بطريقة غير حرفية. بشكل عام، إن الأوامر والنواهي في القرآن والأخبار يجب الأخذ بها حرفياً (حقيقةً) إلا إذا كان هناك قرينة تدلّ على أنه بالإمكان أخذ المعنى بطريقة غير حرفية. وهذه القرينة لا يمكن أخذها إلّا من الأخبار -الاستعمال العام للغة من طرف الناس البسطاء والتفاسير اللغوية القطعية لا يعتدّ بهما. وبذلك، إن الأخبار، مرةً أخرى، هي التفسير الحقيقي الوحيد للقرآن[38].

تتناول المقدمة رقم (10) الدليل العقلي. لا يعني البحراني بالدليل العقلي البراءات الأصلية والاستصحاب، كما تمّ تناوله في المقدمة رقم (3). في هذه المقدمة يتطرق البحراني إلى قضية هل بإمكان «العقل» أن يكون مصدراً للشريعة إلى جانب القرآن والسنة. إذا كان بإمكان المرء أن يعلم، أو لا يعلم، من خلال إعمال العقل وحده خارج مجال الوحي فهو موضوع مألوف في الأدب الإسلامي. في الفكر الشيعي، من خلال تضمين الفكر المعتزلي كذلك، تمّ إعطاء العقل دوراً مستقلاً في استنباط أحكام الشريعة[39]. مع ذلك، فهو يبقى نوعاً خاصاً من العقل:

لا ريبَ في أنّ العقل الصحيح الفطري حجة من حجج الله سبحانه، وسراج منير من جهته جلّ شأنه، وهو موافق للشرع؛ بل هو شرع من داخله، كما أن ذلك شرع من خارجه، لكن ما لم تغيره علبة الأوهام الفاسدة، وتتصرف فيه العصبية، أو حبّ الجاه، أو نحوهما من الأغراض الكاسدة... وهو قد يدرك الأشياء قبل ورود الشر عبرها، فيأتي الشرع مؤيداً له، وقد لا يدركها قبله، ويخفى عليه الوجه فيها، فيأتي الشرع كاشفاً له ومبيناً[40].

لكي يجلب المعرفة، على العقل أن يكون «نقياً»، «طبيعياً»، و«خالياً من التخيلات الشريرة». وهذا ليس هو العقل كما يفهم بالإطلاق. إن هذا العقل الحرّ والطبيعي، مع ذلك، هو بضاعة نادرة. يقول البحراني، «إنه نادراً ما يوجد بين الناس»[41]، إذا كان المرء لا يستطيع استعمال هذا النوع من العقل، فإن البحراني لا يدع مجالاً للشك، بالنسبة إلى القارئ، حول كيفية التصرّف في مثل هذه الحال:

ولا ريبَ أن الأحكام الفقهية، من عبادات وغيرها، كلها توقيفية تحتاج إلى السماع من حافظ الشريعة، ولهذا قد استفاضت الأخبار، كما قد مرّ بك الإشارة إلى شطر منها في المقدمة الثالثة، بالنهي عن القول في الأحكام الشرعية بغير سماع منهم (عليهم السلام)، وعلم صادر عنهم (صلوات الله عليهم)، ووجوب التوقف والاحتياط مع عدم تيسير طريق العلم، ووجوب الردّ إليهم في جملة منها، وما ذلك إلا لقصور العقل المذكور عن الإطلاق على أغوارها وإحجامه عن التلجج في لجج بحارها؛ بل لو تمّ للعقل الاستقلال بذلك، لبطل إرسال الرسل، وإنزال الكتب[42].

إذاً، ليس هناك مصدر للشريعة غير الوحي. أعطي للعقل دور نظري، لكن المعايير التي ألزم بها تمنعه، بشكل قطعي، من أن يؤدي أيّ دور حقيقي في الواقع. دون أيّ شك، تبقى الأخبار باعتبارها المصدر الأول لمعرفة الشريعة[43].

تتمثل الخلاصة التي يفرض على القارئ التوصّل إليها في أنه، بالنسبة إلى البحراني، يمكن استعمال الأخبار قرينةً للمجاز، وعلى أنها الموجه المأمون للمؤمن عندما يعجز عقله عن إدراك القيود التي تمّ تفسيرها في المقدمة رقم (10). وكمحاولة لتبيان الفرق بين الإخباريين والمجتهدين فيما يتعلق بالوسائل المشروعة والمقبولة في حالة تفسير الكتاب، فإن البحراني يميل نحو الموقف الإخباري.

خلاصة:

تسمح لنا الدراسة التي أجريناها بأن نقول إنه إذا ما اعتمد أحد على تعريف البحراني للمواضيع الأساسية فيما يخص النزاع الإخباري-الاجتهادي، فهو بذلك يكون إخبارياً. لكنه، على الرغم من ذلك، يتفادى في بعض المرّات تصنيف نفسه إخبارياً. في بداية المقدمة رقم (12)، يقول:

وقد كنت، في أول الأمر، ممّن ينتصر لمذهب الإخباريين، وقد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين، وأودعت كتابي الموسوم بالمسائل الشيرازية مقالة مبسوطة مشتملة على جملة من الأبحاث الشافية والأخبار الكافية تدلّ على ذلك، وتؤيّد ما هنالك. إلّا أن الذي ظهر لي بعد إعطاء التأمل حقّه في المقام، وإمعان النظر في كلام علمائنا الأعلام، هو إغماض النظر عن هذا الباب، وإرخاء الستر دونه والحجاب[44].

إن سبب رفضه تصنيف نفسه شخصاً له علاقة بالإخبارية غير مبرّر، على الرغم من أن أصول فقهه تقود المطلع إلى نتيجة مفادها أنه كان إخبارياً، ربّما تكون حانقة. لقد كان يحاول أن يخفّف من التوتر بين الفِرق، ويقدّم نفسه وسيطاً، ولاسيما فيما يتعلق بادعاءاته حول اتباع طريقة وسطى. يجب التذكير بأنه في تعاريف أخرى تخصّ النقاش الإخباري-الأصولي، مثل تلك التي يقدمها السماهيجي، يعدّ البحراني إخبارياً كذلك[45].

والواضح، مع ذلك، هو أنه ليس هناك مكان في أصول فقه البحراني لممارسة الاجتهاد وسيلةً لاستنباط الأحكام. الاجتهاد مرفوض نظراً لأن أحكامه من درجة دنيا، ويمكن التوصّل إليها من خلال الاعتماد على الأخبار، واتباع طرق ترتبط بالاحتياط. إن الموضوع الأساس في نقاش البحراني هو المعرفة؛ كيفية معرفة أن شخصاً ما يتّبع شرع الله؟ إنه يجد في النظريات الاجتهادية من طرف فقهاء آخرين، سنّة وشيعة معاً، أنهم قد جاؤوا بأجوبة غير شافية لهذا السؤال.

لقد سعت محاولة البحراني إلى التوصّل إلى تفاهم بين الإخباريين والمجتهدين؛ مرّ دون أن ينتبه له أحد. في السنوات الموالية لوفاته، وصل المجتهد محمد باقر البهبهاني (1205هــــ/1791م) إلى درجة سلطة عالية في العتبات. وصار طلبته يشكلون الطبقة المثقفة في إيران وباقي الأنحاء، فانطفأت إشاعات المذهب الإخباري. أمّا من أتوا بعد البهبهاني، فقد واصلوا السيطرة على الكَرِّ الشيعي الفقهي خلال فترة القاجار حتى القرن العشرين.

[1] - انظر: W. Madelung, “Imamism and Mutazilite Theology” in Colloque de Strasbourg, Le Shiisme Imamate (Paris, 1970), 21, n. 1

[2] - A. Newman, `the Nature of the Akhbari/Usuli Dispute in Late Safawid Iran. Part 2: The Conflict Re-assessed,' BSOAS, 55 (1992), 250-61

[3] - E. Kohlberg, `Apects of Akhbari Thought in the Seventeenth and eighteenth Century' in J. O. Voll and N. Levtzion ed., Eighteenth Century Renewal and Reform in Islam (New York, 1987), 133-60.

[4] - N. Calder, `Doubt and Prerogative: The Emergence of an ImamiShii Theory of Ijtihad, ` StudiaIslamica, 70 (1989), 133-60.

[5] - يؤكد كالدر أن الجدال الإخباري يهدف الى تقويض النظرية الشيعية التي تم تطويرها في مجال الاجتهاد. لقد ظهرت هذه النظرية مع العلامة الحلي (726/1325)، ولا يمكنها أن تسبق ولادته تاريخياً. من أجل توضيح كامل حول ما إذا كانت الإخبارية ترفض سلطة الدولة، وتقويض وظيفة الفقهاء، انظر: R. Gleave, `Akhbari Shii Jurisprudence in the Writings of Yusuf b. Ahmad al Bahrani (1186/1772)' (unpublished Ph.D thesis, University of Manchester, 1996).

[6] - البحراني، يوسف، الحدائق الناضرة، المجلد 25، ص1377

[7] - من أجل بيوغرافية عربية وفارسية للبحراني، انظر: الخونصاري، محمد باقر، روضة الجنات (8 مجلدات، 1970-72)، المجلد 8، ص203؛ تانوقباني، محمد، قصص العلماء، (طهران، --)، 201؛ محمد الحيري، منتهى المقال، (طهران، --)، 334؛ كاشميري، محمد علي، نجوم السماء (لوكناو، 1303/1885)، 283؛ انظر كذلك دراساتي لهذه النصوص: R. Gleave, `The Akhbari-Usuli Dispute in TabaqatLiterature: An analysis of the Biographies of Yusuf al Bahrani and Muhammad Baqir Al-bihbihani,' Gusur, 10 (1994), 79-109.

[8] - البحراني، الحدائق، المجلد 1، ص170

[9] - المرجع نفسه، ص168

[10] - المرجع نفسه، ص169

[11] - المرجع نفسه، ص168-9

[12] - انظر: A. Newman, `The Nature of the Akhbari/Usuli dispute in LateSafawid Iran. Part 1: `Abdallah al-Samahiji'sMunyat al-Mumarisin,' BSOAS, 55 (1992), 22-51.

[13] - البحراني، الدرر النجفية، (--)، 253-6

[14]- انظر: E. Kohlberg, `Some Imami Views on Taqiya,' JOAS, 95.3 (1975) K 395-402

[15] - البحراني، الحدائق، المجلد 1، ص5

[16] - المرجع نفسه، ص ص 5-6

[17] - المرجع نفسه، ص5

[18] - المرجع نفسه، ص8

[19] - المرجع نفسه، ص10

[20] - المرجع نفسه، ص8

[21] - المرجع نفسه، ص22

[22] - المرجع نفسه، ص25

[23] - المرجع نفسه، ص35

[24] - المرجع نفسه، ص36

[25] - المرجع نفسه، ص39

[26] - من أجل فكرة موسعة عن معنى الكلمات، انظر: Gleave, `akhbari Shii Jurisprudence,' pp.33-34. أتعامل هنا مع أفكار البحراني فيما يتعلق بالبراءات الأصلية والاستصحاب.

[27] - البحراني، الحدائق، المجلد 1، ص55

[28] - المرجع نفسه، ص66

[29] - الجزء الأول من المقدمة 4، هي عبارة عن رفض مفصل لموقع المجتهد، وأنا لا اتطرق إليها هنا. من أجل فحص مقترحات البحراني، انظر: Gleave, akhbari Jurisprudence,' p.38-40.

[30] - البحراني، الحدائق، المجلد 1، ص69

[31] - المرجع نفسه، ص70

[32] - للأسف، لا يتناول البحراني الفكرة المهمة المتعلقة بالوضع حيث يحاول المرء أن يتعامل بحذر في حال عدم التأكد من النص. وبذلك يكون قد فشل في ممارسة الاحتياط. مع ذلك، إن الفعل الذي يحاول تنفيذه، في الواقع، يتبيّن أنه فعل مطلوب. هل يمكن معاقبته لعدم ممارسة الاحتياط والإشادة به لتتبعه طريقة مستحبة في الوقت نفس؟ لا يتناول البحراني كذلك الموضوع الذي يمكن أن يصدر بشكل واضح عن تصور مثل تصوره؛ ويتعلق بكون مجموعة من الفقهاء سوف يختلفون حول ما إذا كانوا يعدّون الاحتياط ضرورياً في حالة معينة. حتى لو أنهم اتفقوا حول الحاجة إلى الاحتياط، كانوا سوف يختلفون حول الطريقة الصحيحة التي يجب اتباعها.

[33] - المرجع نفسه، ص73

[34] - المرجع نفسه، ص110

[35] - المرجع نفسه، ص112-18

[36] - المرجع نفسه، ص118-21

[37] - المرجع نفسه، ص121-5

[38] - هذه الطريقة المعتمدة في التفرقة بين لغة الوحي واللغة اليومية يمكن اعتبارها وسيلة أخرى من وسائل الحد من الوحي. اللغة المستعملة في الوحي فريدة من نوعها، وينبني فهم الوحي على فهم أجزاء أخرى من الوحي، وليس العالم الخارجي. يصبح الوحي مجموعة من النصوص التي تستمد شرعيتها من ذاتها، وهو ما لا يتطلّب أيّ تفسير خارجي.

[39] - انظر: : Madelung، 'Imamism and Mutazilism' من أجل فكرة عامة عن إدخال الفكر المعتزلي إلى الفكر الشيعي.

[40] - البحراني، الحديقة، المجلد 1، ص131

[41] - المرجع نفسه، ص133

[42] - المرجع نفسه، ص131

[43] - توضح المقدمة (11) عدد من المبادئ يمكن من خلالها تفسير الشريعة. هذه المبادئ، في مجملها، هي غير واضحة ومعقدة، على الرغم من أنه يمكن القول إنها تمنح الفقيه إمكانية التفسير دون مساعدة من الأخبار. مع ذلك، يتم إرجاع المبادئ إلى الأئمة، ولا يجد البحراني أي اختلاف في الآراء التي تصدر عنها. من أجل توضيح مفصّل لهذه المبادئ، انظر: Gleave, R. `Akhbari Shii Jurisprudence,' p.167.

[44] - البحراني، الحدائق، المجلد 1، ص167

[45] - انظر: Gleave, R. `Akhbari Shii Jurisprudence,' PP. 91-7 and A. Newman, `The Nature of the Akhbari/Usuli dispute in LateSafawid Iran. Part 1.