الاجتهاد في الإسلام السنّي الكلاسيكي من خلال بعض الفقهاء والمنظِّرين نظرة تاريخية


فئة :  ترجمات

الاجتهاد في الإسلام السنّي الكلاسيكي من خلال بعض الفقهاء والمنظِّرين نظرة تاريخية

الاجتهاد في الإسلام السنّي الكلاسيكي

من خلال بعض الفقهاء والمنظِّرين نظرة تاريخية[1]

تأليف: إريك شومون لذكرى ماري بيرنان

ترجمة: د. جواد الرضواني

تقديم:

... الفهم بطريقة حيّة (شاعرية) بأن هذا المكان يشبه غيره، بأنه كان مرتبط بالطبيعة الكونية في مجملها، وبأنه كان يشكل أحد تمظهراتها.

و. كولدينغ، يوميات مصرية

1) إن الفكرة القائلة إن القانون الإسلامي؛ أي الفقه، كما هو اليوم، بوصفه نوعاً من الإرث، لم يعد قادراً على تسيير شؤون المجتمعات الإسلامية من وجهة نظر قانونية واجتماعية، كما أنه لم يعد قادراً على الاستجابة للعديد من مكوناته (النساء، الأقليات، وغيرهم)، تبقى متداولة بين معاصرينا، سواء أكانوا مسلمين، أم دارسين للمجتمعات الإسلامية (على الرغم من أنها ليست دائماً مسموعاً إليها، أو يتم تقييمها بالشكل نفسه من طرف هؤلاء وهؤلاء).هناك اتفاق عام غير واضح يتعلق بالسبب الأصلي، وربّما بالسبب الوحيد، الذي يخص عدم ملاءمة الفقه للعالم المعاصر، وهو متعلق من جهة بالاجتهاد، وهو مفهوم قادم من مجال أصول الفقه الذي -وهي حالة شاذة- قد اكتسب نسبة من الشهرة، على الرغم من المجال الضيق جداً للمتخصّصين في القانون، أو الفكر القانوني الإسلامي. إذا كان الفقه، بالمعنى الدقيق للكلمة، غير ملائم، فإن الأمر يعود -وهذا ما يُقال غالباً عنه- إلى أن خطأ ما قد حدث من جانب الاجتهاد، وذلك لأنه، في كلمة واحدة، كان هناك «انسداد على مستوى باب الاجتهاد»، وهو انسداد، بمعنى سدّ باب الاجتهاد.

إن هذا العرض يخص عدم تطور الفقه، وما عرفه من معيقات تخص تطوره، التي يمكن عزوها إلى المنع المتأخر (منذ بداية القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي حسب جوزيف شاخت) للفقهاء من ممارسة اجتهادهم[2] بكل حرية غير مقنعة؛ ذلك لأن دراسات جديدة مبنية على مراجع تم التغاضي عنها حتى الآن لتبقى مهمة بالنسبة إلى الموضوع، وهي مؤلفات علم أصول الفقه (بعبارة أخرى، علم فهم أسس الفهم ما يعرف باسم «القانون»)، وهي قد أكدت أن الحديث عن إغلاق باب الاجتهاد كآلية نظام قانوني إسلامي قد كان غير مصيب ومسيء في أفضل حالاته[3]. خلال عرضي هذا، سوف أركز على فكرة أساسية واحدة موضوعها القيمة الأساسية التي تمّ تكريسها للاجتهاد في مجال الفقه، والخاصة بفقيهين شافعيين مهمين، وهما أبو إسحاق الشيرازي وأبو المعالي الجويني، اللذان عاشا في القرن الخامس والقرن الحادي عشر؛ حيث عرف عن الاجتهاد بأنه كان قد تمّ تكميمه.

2) من جهة أخرى، وكما هو الموضوع الأساس لهذا العمل، إن النظرية التي من خلالها يتمّ تفسير محاولات إعاقة الفقه، الذي تردُّ إعاقته هذه إلى «انسداد باب الاجتهاد»، تنبني بشكل غير واضح على تقديم خاص لفكرة الاجتهاد، بوصفها مبدأ، ملائمة للقواعد القانونية مع التاريخ والتغيرات الطبيعية لتطوره (بما أننا نقول لو أن الاجتهاد تُرك لكي يتعامل بحرية مع التاريخ، فإن الفقه كان سيكون متوافقاً مع هذا الأخير). وهذه هي الزاوية الخاصة بالاجتهاد، وربّما تظهر على أنها واضحة بالنسبة إلى الجميع، التي نخضعها للدراسة والتمحيص من خلال نصوص كلاسيكية من مؤلفات أصول الفقه، الذي هو المكان الطبيعي؛ حيث يقدم فيه الفقهاء المتكلمين، وينظرون إلى فكرة الاجتهاد، ويحلّلون إشكالاته.

إن السؤال الذي نطرحه هنا هو كالآتي: هل يمكن الحديث عن الاجتهاد، كما هو منظّر له في أصول الفقه السنِّـــــيَّة الكلاسيكية، على أنه ذلك المبدأ الذي وضع من أجل إتاحة القدرة على التطوّر للفقه والتلاؤم مع الزمن، على أساس أن يحافظ على أسسه ومبادئه، وأن يتوافق مع التغيرات التي يمليها قانون تغير واختلاف الأزمنة والعصور؟

إنني أقترح عليكم تناول هذا السؤال من ناحيتين: من الناحية الأولى (الاجتهاد وتقلبات الزمان...)، فإن السؤال سيكون، إذا أمكن ذلك بالطبع، ملخصاً فيما هو أساسي، ويتم تناوله نظرياً. سوف نحاول تحديد إذا ما كان مبدأ تغير وضعية قانونية (حكم شرعي) يخص الفعل الإنساني نفسه قد تم التعرف عليه، وقبوله، والتسامح معه، أو رفضه، من طرف المنظرين القانونيين. إن قبول التنظير لمبدأ تغير الأحوال بوصفه مبرراً للاجتهاد ينبني، في الواقع، على قدرة الفقه على التطوّر (هذا ومن دون أحكام مسبقة، سواء حول مفهوم هذا التطور أم حول المعطيات التي أدت إلى بروزه). إن هذا الشق الأول من عرضي سوف ينبني على سؤال «هل كلّ مجتهد مصيب؟» الذي هو سؤال قد تم تناوله في أي محاولة للحديث عن أصول الفقه. ثانياً (وفيما يخص تناول قضية «التجديد»...)، سوف أتطرق إلى سؤال تطبيقي غالباً ما يطرح من طرف الأصوليين، وذلك من أجل تأكيد الفرضية التي نكون قد خلصنا إليها في الشق الأول، وذلك بشكل يتمّ فيه الجمع بينهما.

الاجتهاد ودوره في تفسير الفقه من خلال أصول الفقه السنيّة الكلاسيكية:

1) إذا ما عدنا إلى تعريف الاجتهاد والفقه المقترح من طرف الجويني (478هــــ/1085م) والشيرازي (476هــــ/1083م)، وكلاهما مؤلف كتب مرجعية حول المذهب الشافعي[4]، فإنه يتبيّن أنه ينفي بشكل ما الحديث عن أي انسداد لباب الاجتهاد، إلا إذا ادعينا افتراضاً أن مؤلفات الجويني والشيرازي كانت منتهية الصلاحية أثناء صدورها.

لقد ذهب الاثنان إلى أن الفقه ينبني على «الدراية بالوضعيات القانونية، حيث يكون طريق [المعرفة] هو الاجتهاد (الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد)[5]. أمّا الاجتهاد، فيعرَّف كذلك على أنه «استفراغ الوسع وبذل الجهد في طلب الحكم الشرعي»[6]. على الرغم من الفرق بين الشافعي (204هــــ/820م)، المعروف عنه أنه مناهض للرأي والاستحسان ويقترح ربط الاجتهاد بالسبيل الفكري الوحيد أمامه الذي هو القياس[7]، وبين المؤلّفيْن موضوع هذا البحث، تم العثور على طريقة مهمة قد جمعت بينهما في ظل المدرسة الشافعية ذاتها. نحن لا نريد إعادة تقفّي هذا الأثر[8]، لكن لا بدّ من تحديد معالمه ونتائجه.

وبعكس كل توقع (في إطار ما تدرسه الكتب)، لا نشهد أيّ خنق للاجتهاد، لكن، بالعكس من ذلك، نجد امتداداً مهمّاً فيما يخص امتداد المفهوم. وهذا ما يؤكده بشكل واضح كلٌّ من الجويني والشيرازي فيما يخص تعريف الفقه، وهو ما يقتضي اعتبار أي مسألة فقهية هي مسألة اجتهادية[9]، ممّا يعني أنه لا يكفي فحسب وضع جهد فكري للإنسان؛ أي واجب الاجتهاد، لكي تتمّ ملائمة وضع قانوني لا يتناوله المشرّع بشكل واضح، أو ما يعرف بـ «حالة مسكوت عنها» (حادثة)، لكن يجب كذلك، وربّما خصوصاً، إبراز المسكوت عنه بطريقة توازي التأويل فيما يتعلق بما قيل (جاء فيها أو حولها) أصلاً[10]. من وجهة النظر هذه، التي سوف يتمّ تبنِّيها من طرف أغلب الأصوليين، يجد الإنسان المجتهد نفسه، بعيداً عن نظرية الاجتهاد الخاصة بالشافعي وما تسمح به من تفسير، أنه المُفسِّر المكلّف بالقانون (وليس مكلّفاً أمام القانون فحسب) في كل بنوده تقريباً. بشكل آخر، لم يعد الاجتهاد هنا، كما كان الحال في حال الشافعي، مسألة وحي، على الرغم من أن مصطلحات: وحي، واجتهاد، وفقه، قد أصبحت مفاهيم لا تنفصل أبداً عندما يكون الاجتهاد، وفي أغلب الحالات، ضرورياً لكي يكون التواصل مع، وفهم (أي الفقه)، القانون المنزل (الشريعة) ممكناً. بشكل عام، يمكننا القول إنه بالنسبة إلى فقهاء ذلك الزمان كان الأمر كما يأتي: دون اجتهاد، كان لا يمكن أن يكون هناك فقه، ودون فقه، كان لا يمكن تطبيق القانون.

2) نظراً لكونه قد عرف العديد من النوايا السيّئة، يمكننا كذلك القول إن نظرية الاجتهاد، التي تمّ الحديث عنها، توقفت في لحظة معيّنة ولم تعد موضوع ساعة. لقد قدّر الفقهاء أنّ لا شيء يوازي اجتهاد الأئمة الكبار، واكتفوا ليس فحسب بمحاولة فهم القانون من خلال اجتهادهم الخاص، ولكن من خلال إعادة تطبيق فقه الأئمة الكبار (الشافعي، أبو حنيفة، ...) كما جاء لديهم، أو لدى تلامذتهم المباشرين (الموزاني، الشيباني، ...) الذين خصّصوا له دراسات موسّعة جداً. وقد بدا الأمر كما لو أنه بالنسبة إلى الفقهاء، يبقى اجتهاد قدماء تقاة السلف قد حُرم المعاصرين من هذا الواجب. وبعد زمن الجهد والاكتشاف؛ أي زمن الاجتهاد، قد جاء زمن التبعية والتكرار؛ أي زمن التقليد فحسب.

لكن نظرة موجزة حول الإبداع في مجال الإفتاء[11] من طرف الفقهاء يفنّد هذه الفرضية. دون الدخول في التفاصيل، نستنتج أنه بالنسبة إلى عموم الفقهاء جميع الفترات الزمنية تتداخل، وهي أول مطلب يجب أن يتوافر في المجتهد (وهو شرط سيكون دون قيمة، إذا ما سمع بأن باب الاجتهاد قد تمّ إقفاله). أكثر من ذلك، بالنسبة إلى الأسئلة التقليدية لهذا المجال: هل يجوز للمفتي المجتهد أن يتّبع نظر عارف آخر؟ وهل للمفتي الحقّ في أن يصدر فتوى يقوم فيها بالإتيان على ذكر رأي مجتهد آخر؟ وهل يمكن لمجتهد ميّت أن يصير تقليداً؟ إلى غير ذلك...، فإن حتى هذه الفئة من أغلبية الفقهاء تنفي ذلك. هناك تكامل، إذاً، واضح بين نظريات الاجتهاد والإفتاء؛ حيث تعتمد الأولى على الثانية من أجل ضمان الاستدامة.

3) يتبيّن إذن، وفي البداية، أنّ بنية الفقه كلّه تتأسّس على الانفتاح الضروري لباب الاجتهاد، وبأن دور الاجتهاد في الفقه محمي بسبب الطريقة التي تبعها كلّ الفقهاء في إيجاد العلاقة بين اللحظتين «التعرف على الوضعية القانونية من خلال الاجتهاد» «والإقرار بالوضع القانوني من خلال الفتوى» في النظام القانوني. بالنسبة إلى الفقهاء، وهنا يمكن الحديث عن عدد لا يحصى من الأمثلة، كان الأمر المثالي يتمثل في ضمان حداثة الفقه من خلال القول إن هناك دائماً علاقة تزامنية بين «الاكتشاف» و«التصريح» بالفقه، وذلك من أجل تجنّب أن يصير تكراره جائزاً.

4) بوصولنا إلى هذه النقطة، من خلال التطرّق إلى مجموعة من القضايا المهمة، ظهرت شائعة تقول إنه بالإمكان الشروع في الإفتاء مباشرة. أمّا الشيء الذي بحث عنه الأصوليون من أجل الدليل، وبشكل جد متطرّف هو إعادة تكرار فقه أئمة الماضي، وقد اتخذ هذا الاهتمام شكل، كما سبق الإشارة إليه، نقد راديكالي للتبعية القانونية (التقليد)[12]. لكن الإعادة لا تعني التكرار[13]، وإذا كان كل ما ذُكر يؤكّد، على ما يبدو لي، بشكل لا يمكن رفضه، أن الأصوليين كانوا يسعون عموماً نحو عدم حصول تكرار، فإن إعادة تناول فقه كان قد تمّ التطرق إليه، فإنه، بالنسبة إليهم، لا علاقة له بهذا النقد الموجه نحو التقليد. على العموم، فإن التقليد يوصف على أنه قبول غير نقدي لرأي آخر، والمقلّد هو الذي يتبنّى رأي آخر دون أن يعرف السبب (التقليد هو قبول القول من غير دليل)[14]. بشكل آخر، إن المفتي المجتهد لا يعدُّ ممارساً يعمل التفكير والنقد عندما يعلم بالسبب، لكنه يعيد الأخذ بالنظر؛ أي القول، الخاص بمجتهد آخر، ويقترح على المستفتي استشارة مماثلة لتلك التي تم إخراجها مسبقاً من طرف مجتهد آخر. وهذا يعني، بشكل سلبي للغاية، نقد على أساس أنه يمنع التقليد، لا تنظر إلا الى المفتي، سواء مجتهد مرتبط بشكل متواصل بمصدر أصلي في علاقته بسابقيه (وهذا أمر عبثي)، أو، يمكن القول إن هذه النظرية تبحث عن إمكانية التجديد، وتبحث عن الحفاظ عليها (في حالة تعرض أحد المجتهدين إلى قضية سبق الاجتهاد فيها، وتبنّى الطرح نفسه، كان عليه أن يبرّر ويبيّن نتيجته الشخصية التي توصّل إليها). نحن الآن مهتمّون جداً بهذا الهامش الخاص بالتجديد، وعلينا أن نحاول أن نعرف طبيعته من جهة، وحدوده من جهة أخرى. الاجتهاد وتغير القواعد على المستوى النظري:

1) هل كلُّ مجتهد مصيب؟ لقد رأينا للتوّ أنه في النظرية القانونية السنيّة الكلاسيكية، يرتبط الاجتهاد بالمعرفة الضرورية المتعلقة بالوضعيات القانونية. إذا حضروا، بشكل أو بآخر، في خطاب المشرّع، يتخذ الاجتهاد شكل التأويل لهذا الخطاب، وإذا ما غابوا، فإنه يتخذ شكل قياس عقلي موازي. إن هذا الاعتراف بالدور الجوهري للاجتهاد كان له تأثيرات آنية وواضحة: بروز صراعات حول تفسير الخطاب القانوني ما بين الفقهاء[15]. إن من يقول بانفتاح باب الاجتهاد، فإنه يقول كذلك بانفتاح باب الاختلاف.

فيما يخص الموضوع الذي يهمنا في الشقّ الثاني من هذا العمل، نلاحظ أن اختلاف الآراء حول المسألة القانونية في المجتمع قد فرض نوعاً من التفكير بالنسبة إلى المنظرين القانونيين السنيِّين، بوصفه فعلاً تمّ إنجازه، وأنّ عليهم، نظرياً فيما يخص الاجتهاد، تشكيل ما سميته آنفاً تباين المعيار القانوني. بشكل آخر، يعني هذا أنه لم يكن هناك أبداً، من ناحية الأصوليين وفقهاء المرحلة الكلاسيكية، إرادة واضحة لطرح سؤال التباين فيما يخص المعيار ذاته. لكنهم، وفيما بعد، طرحوا السؤال، ووجدوا له حلاً بسبب نتيجة أفرزتها نظريتهم القانونية، وكانت أقل سماحة من محتوى الآيات القرآنية كلّها[16].

إن السؤال الذي وضعه المنظرون الفقهيون هو: هل كلّ مجتهد مصيب؟ إن الاختلاف على مستوى الجماعة المنظرة كان سوف يتم تفسيره في حال وجود جواب مجدي (لكن ليس بالضرورة إيجابي ومرضي) لهذا السؤال، وإذا ما تدخل الأصوليون ليوضحوا أنه بالنسبة إلى «المخطط الإلهي» الذي يتجسد في الشريعة، فإن أي فعل وحيد، وهو نفسه، بشكل أو بآخر، يبقى عرضة للتقييم بشكل مختلف من قبل النظرة القانونية (وهو الوضع حيث يشكل الاختلاف دلالة على أن التلقّي الإنساني للشريعة يوازي «الإرادة الإلهية» التي تشكل موضوعه)[17].

2) الحق في واحد: أن العلاقة الكاملة الأولى لهذه الإشكالية التي نواجهها تتعلق، في نظري، بالشافعي وقد وردت في (الرسالة). يقوم الشافعي بتفسير واجب القيام بالاجتهاد من خلال العودة إلى القرآن، السورة الثانية، الآية 150 {وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ}، وهي آية تخص الصلاة، وتقرّ بجوازها، على الرغم من عدم اتخاذ اتجاه الكعبة وجهةً. إن الاجتهاد في القبلة (وبناءً على ذلك الاجتهاد عموماً)، يقول، هو واجب قانوني مادامت بعض الحالات لا يمكن فيها أبداً أداء الصلاة في الاتجاه الصحيح دون القيام مسبقاً بجهد فكري من أجل تحديدها.

وبعد هذا الاستدلال، يقوم الشافعي بالتطرق إلى تحديد معنى «الصواب» عندما يتناول عمل المجتهد. وهو يقول إن هذا المعنى يبقى ذا بعدين[18]. من جهة، يبقى كون اتجاه القبلة واحداً أينما وجدناها، ويبقى المجتهد على حقٍّ إذا ما توصّل إلى نتائج تخص الحالة الوحيدة الحقّة، وهي التي، علاقة بهذا المعنى، انطلاقاً من الاستعمال الذي سوف يأتي بعد الشافعي، تتحدد فيما يأتي: الحقّ في واحد. ولكن، من جهة أخرى، يمكننا القول إنّ كلّ مجتهد على حق، ولو أنه أخطأ في بعض الحالات، إذا ما كان الجواب على الاجتهاد المواجه يعدُّ «أمراً» لا يمكن اعتباره حكم حقيقة. وأي أمر يقتضي الامتثال؛ وعليه، فإن أي شخص يريد ممارسة الاجتهاد[19]، يمكن القول إنه مصيب، إذا ما كان ممتثلاً. إضافة إلى ذلك، فإنه بناء على حديث معروف ومدمج (إذا حكم الحاكم فاجتهد...)، الذي يورده الشافعي[20]، فإن ممارسة الاجتهاد، كيفما كانت نتائجه، يستحق جزاء في العالم الآخر. وبهذا الشكل، إن الخطأ الحيادي للمجتهد يتخلص من سلبيته، ويجد الاختلاف نفسه تفسيراً داخل الجماعة فيما يتعلق بالخطاب الخاص بالمشرّع ذاته.

إن هذا النوع من الاستدلال الشافعي، الذي هو جد قانوني، نحسّ بأنه لا يعتمد على أيّ دليل ديني (إنه يفترض الاشتغال في المجال دون الانشغال بما يمليه المشرّع، صاحب «الحق في واحد» وحده)، وسوف يؤخذ، فيما بعد، بشكل مختلف شكلاً ومضموناً، إلى حدٍّ ما، في بعض الحالات، وهي أمور لا تهمنا كثيراً هنا[21]، من طرف عدد هائل من الأصوليين الذين نجد من بينهم الحنبلي أبو يعلى (458هــــ/1066م)، والشافعيون: الجويني والشيرازي والبيضاوي (685هــــ/1286م)، وكذلك المالكي الباجي (474هــــ/1081م)[22]. من هذا المنظور، إن مبدأ اختلاف القاعدة القانونية قد تم إيجازه، لكن «بسبب قوة الأشياء» وافتراضياً تقريباً. ويعود ذلك، بطبيعة الحال، بحسب الشافعي، إلى أن الاجتهاد واجب، وإلى أن ممارسة الاجتهاد، مهما كانت عرضة للخطأ، دائماً ما ينظر إليها بوصفها فعلاً مباحاً من طرف المشرّع نفسه (بناء على الحديث المذكور). علينا أن نفترض أن أي مسألة اجتهادية يمكن أن تحلّ بطرق متعددة، على الرغم من أننا نعلم مسبقاً أن جوابها واحد.

3) كل مجتهد مصيب: إن المعتزلة[23]، الذين هم كلهم رجال دين (لاهوتيون) قبل كل شيء، ويضفون كذلك على أصول الفقه صبغة مذهبهم الخاص، سوف يقومون كذلك، فيما يخص أصول الفقه، بوضع فهم جديد في مجال أصحية الاجتهاد، وسوف يقوم الأشعري بتبني هذه العقيدة أو المنهج[24] (سوف يواصل دعمها بعد أن تُشقّ صفوف المعتزلة)، هو والعديد من الأشاعرة، الذين نجد من بينهم المالكي الباقلاني (403هــــ/1013م)[25] والشافعي الغزالي (505هــــ/1111م)[26]، والذين سيكون لهم تأثير مهم في مجال أصول الفقه.

حسب هؤلاء الكتّاب، إن مثال الاجتهاد في القبلة، الذي أورده الشافعي، ليس ملائماً بالنسبة إلى تفسير سؤال أصحية الاجتهاد؛ إذ في حالة استدعائها يفترض أن السؤال قد تمّ حلّه: إذا ما سمع بأن وضعية قانونية محددة كانت موجودة قبل الاجتهاد (وهو ما يفترضه الاجتهاد في القبلة)، وعلماً بأنه يجب بإجازة الاختلاف ضمن الجماعة، فإن السؤال الموضوع لا يمكن حله إلا من خلال الطريقة الشافعية. ولكن، وبشكل محدّد، فيما يخص مسألة اجتهادية، هل يمكن القول إن وضعية قانونية محددة تتواجد لدى المشرّع حتى قبل تدخل المجتهد، وإن القبلة توجد أصلاً قبل أيّ اجتهاد؟ هذا هو، حسب الغزالي -الذي لم يكن مخطئاً- موضوع النقاش، وقد أجاب عنه، هو بالنفي.

من جديد، ليس الهدف هنا هو سرد المعطيات الاستدلالية التي أوجدت من أجل النقاش الخاص بأطاريح «الثيولوجيين»[27] (رجال الدين)، التي من خلالها يمكن التأكيد، من دون شك، على أن «كل مجتهد على صواب» (منه اشتقّ اسم تصويب الاجتهاد الذي سُمي به هذا الطرح). لقد كتب الغزالي ما يأتي: «إن ما يدعمه الفرقاء التقاة، فيما يخص مسألة التصويب، لا يتعلق إلا بحدث لا يخص أي نص[28]. لا يوجد حكم معين ويجب البحث من أجل الوصول إلى الظن؛ بل بالعكس، فإنَّ الحكم يتبع الظن، والله، سبحانه وتعالى، قد فرض على كل مجتهد الاعتماد على ما غلب ظنه؛ وهذا هو المخرج الصحيح، وهو الذي دعمه القاضي أبو بكر الباقلاني»[29].

4) احتمالية الفقه ونسبية الشريعة: نحن نبحث عن معرفة ما إذا كان مبدأ اختلاف حكم قانوني آتٍ من الشريعة يمكن قبوله من وجهة نظر نظرية في النظرية القانونية السنيّة الكلاسيكية. في جوهر هذا، لقد استطعنا أن نكوّن فكرتين مختلفتين تؤديان، في الواقع، إلى النتائج نفسها. وفي المثال الأول والثاني، يتم الاعتراف بأن أي تصرّف إنساني يمكن تقييمه قانونياً بطرق مختلفة، ودائماً من خلال الحالتين، يمكن التأكيد، من ناحية عملية هذه المرّة، بأن الحكم القانوني الذي يجب تنفيذه فيما يخص وضع ما هو دائماً ذلك الذي اعتقد مجتهد ما بجوازه (على الرغم من أننا يمكن أن نعرف بأن مجتهداً آخر قد تمّ عرضه عليه، وأن الحكم الشرعي كان مختلفاً). إن التأويل القانوني المتعدد للأشياء هو شيء مكتسب دون عناء بالنسبة إلى الإسلام السنّي.

مع ذلك، في الحالة الأولى (الحق في واحد)، وفي إطار ما يمكن أن ندعوه، إلى جانب ب. ج. وايس، بـ «النظرية الاحتمالية للقانون»، التي تنص على أن التعددية يجب أن تحترم، قد وضع التركيز، هنا، بشكل عام، حول موضوع الاجتهاد وليس موضوع بحثه؛ أي من جانب المجتهد وليس المجتهَد فيه. بحكم القانون يبقى القانون المنزل واحد؛ بحكم الواقع يبقى فهمها الإنساني متعدد، وذلك نظراً لكون صاحبها؛ أي المجتهد، يبقى عرضة للخطأ بطبيعته (لكن في حال عدم إصابته يتم الحمل عليه بسبب اجتهاده).

للوهلة الأولى تبقى النظرية الثانية (كل مجتهد مصيب) ذات حمولة أوسع. هنا، إن تعدد الحكم الشرعي المقترح على الجماعة (جماعة المفسرين) يفسر بشكل طبيعي وإيجابي من خلال نظرية نسبية في الشريعة، من خلال الاختيار الذي يتوفر عليه كل واحد منهم في اتباع نظرية شرعية دون أخرى؛ إذا كان الفقه (محاولة فهم القانون) متعدد، فإن ذلك يعود إلى كون القانون المنزل هو ذاته، وفي أغلب الأحيان، غير محدّد في الكثير من الحالات، ونسبي (هنا يفتح باب الاجتهاد أمام الإنسان بوصفه كائناً أخلاقياً عاقلاً). ولكن، فيما له علاقة بموضوع هذا البحث -هنا تتصل هذه النظرية بالأولى فيما يخص كون النسبية القانونية هي أحد صفات الشريعة، وقد رأيناها[30]، من خلال «قرينة المجتهد»؛ وهذه النسبية القانونية هي ليست أبداً بنتيجة تتعلق بأخذ الواقع الإنساني في الاعتبار، الذي هو متغيّر دائماً، ويستدعي طلب الفقه من أجل التدخّل، كما لا تتعلق بالوسط التاريخي، بأحداثه ومشاكله، التي تشكل بنية الوجود الإنساني[31].

مسألة تجديد الاجتهاد:

1) عندما تناول الأصوليين سؤال «هل كل مجتهد مصيب؟»، كان هدف الأصوليين، كما رأينا، ليس التساؤل حول تلاؤم أو عدم تلاؤم القواعد القانونية مع التاريخ (وبصراحة، كان سيبدو من السذاجة أن نظنّ بأنّ مثل هذا الاشتغال كان سيكون من أولويات اهتمامهم). لقد كانوا منشغلين تماماً بتفسير التعدد فيما يخص القانون، ومن أجل هذه الغاية وضعوا تصوّراً حول اختلاف القواعد القانونية. ومع ذلك، ودائماً فيما يخص مجال إشكالية الاجتهاد والتقليد، لقد وجدنا أن الأصوليين كان لهم انشغال آخر، وهو يتمثل في موقفهم من رؤيتهم للفقه على أنه يفقد ميزته المعاصرة (حسب ذلك الزمن) لفائدة المجتمع الحديث. عند فهم هذا، نجد أن هناك سؤالاً أكثر علمية يفرض نفسه، وفيه تظهر القضيتان اللتان رأيناهما حتى الآن: اختلاف القواعد التشريعية وإرادة الحفاظ على حداثة الفقه ومسايرته للعصر). إنه سؤال، في النهاية، يرتبط بكوننا نجد أنفسنا أمام توقعات زمنية ومجالية تقتضي بأن أصواتاً جديدة سوف تظهر على مستوى توجه الأصوليين. إن هذا السؤال، المهم حسابياً بالنسبة إلى أصول الفقه (قليلاً ما يجذب انتباه الأصوليين؛ حيث يُعطى أقل من فقرة) يتعلق بــــ «تجديد الاجتهاد». ويقوم الشيرازي بتجسيد الموضوع: «إذا كان المفتي قد اجتهد فيما يخص حدث، وقد قاده اجتهاده إلى نتيجة ما، وقد ظهر، أو عرضت عليه، العارض/القضية نفسها مستقبلاً، هل على المفتي أن يجتهد مرة أخرى، ومن جديد، أو عليه أن يعود إلى اجتهاده الأول[32]؟

2) هذا السؤال، في بداية النقاش حول أصحية الاجتهاد، قد شكّل، خلال فترة ما، موضوع جدال قبل التوصّل إلى حلٍّ متوافق عليه. والحل الذي اعتمد، في غالب الأحيان، هو ذلك الذي اقترحه المعتزلي الحنفي أبو الحسين البصري (436هــــ/1044م) فيما بعد، والذي هو، بدون شك، يعود إلى المعتزلي الشافعي القاضي عبد الجبار (415هــــ/1025م)[33]؛ ويفهم على أنه يتطابق والإطار «الذاتي» الذي، كما رأينا، يشمل النظريات السنية الكلاسيكية كاملة. بكل بساطة ومنطقية، يتمثل الحل فيما يأتي: إذا تمكن المجتهد من تبرير «طريقة اجتهاده»، ويبرّر بشكل واضح بفتواه في الحادث الذي اعترضه، لا يتوجب عليه إعادة الاجتهاد، وذلك نظراً لأنه مثل «المجتهد في الحل»[34]. بالمقابل، إذا لم يستطع تذكر «طرق» اجتهاده الأوّل، كان عليه أن يجدّده: لم يتم أبداً، من خلال جميع المراجع التي تمّ الاعتماد عليها من أجل إنجاز هذا العمل، التطرق إلى هذا الطرح القائل إن تجديد الاجتهاد يستطيع بشكل عام أن يفرض بناءً على أن موضوع الاجتهاد في الواقع هو الفعل المعني إلا من أجل حالة تحديه ومنافسته.

3) إن الإجابة التي قدمها الشيرازي تبقى هي الأكثر دقة وفق ما اطلعت عليه من مراجع[35]، وهي الإجابة فيما يخص مسألة تجديد الاجتهاد من خلال المحاجة، إن المثال الذي أتى به الشافعي الكبير أبو الحسن القطان (345هــــ/956م) «الذي لا يقدم أبداً رأياً حول قضية، ما دام لم يتفحص الدليل»[36]. في أســـــطر جد «قانونيــة»، وفي الحقيقــــة، شافعية للغاية، من خلال الدليل المقدم، يتقدم الشيرازي بقياس مماثلة، لكي يصرح بأن الاجتهاد هو، ويبقى، دائماً، واجب قبل إصدار أي حكم. ويتمثل هذا القياس فيما يأتي: الاجتهاد واجب بالنسبة إلى هذا الحدث (في جميع حالاته)، وذلك مثل حالة الاجتهاد في تحديد وجهة القبلة بالنسبة إلى كل صلاة في حالة تعذّر ذلك[37]؛ عندما يمارس المجتهد اجتهاده من أجل تحديد القبلة الخاصة بصلاة ما، وبعدها، في اليوم الموالي، يحضر وقت أداء الفرض نفسه، فلا يصح له أن يؤديه اعتماداً على نفس الاجتهاد، لكن يكون عليه أن يجدده أو يحدثه من أجل الصلاة التي حضرت، وهنا يكون عليه أن يجتهد بما يمكنه أن يتوصل إليه. وهذا ينطبق على الموضوع الذي يهمنا هنا[38].

على الرغم من أن المحاولة قد تكون جبارة، سوف تكون دراستنا سريعة جداً وضرورية، إذا ما استنتجنا أنه بالنسبة إلى الشيرازي والبعض الآخر، من الأفضل الأخذ في الاعتبار الوضع الذي حدث فيه شيء ما من أجل محاولة وضع قانون يفصل في هذا الحدث. وينتمي الشيرازي وأبو يعلى الى تلك المجموعة من الفقهاء، الذين بالنسبة إليهم «الحق في واحد» -القبلة بالنسبة إليهم دائماً واحدة- وكما رأينا، يجد الاعتراف بالتعدد في القواعد القانونية مكانته ضمن نظرية احتمالية للفقه. ومنذ ذلك الحين، إن كانوا قد دافعوا عن طرح ضرورة تجديد الاجتهاد، ففي الواقع، وكما يحدده بشكل واضح تصريح يعود إلى الجويني، فإنه نظراً لكونهم يؤكدون قضية كون الاجتهاد يتغير[39]، وبأنه، بوصفه نتيجة، يسمح بتجديده. لكن مثل هذا التصريح يجب فهمه ضمن فهم خاص: «تغير الاجتهاد» يعني، بكل بساطة، أنه فيما بين لحظتين يقع فيهما الحدث نفسه إن المجتهد، في حوار انفرادي مع الخطاب التشريعي، من الممكن أن يكون قد عدّل وطوّر معارفه فيما يخص الأدلّة القانونية ذات الصلة، وغيّر رأيه بناء على ذلك[40]. ومن جديد، فإن تقييم الحدث المعروض لا يتعلق أبداً بالتغير الممكن، الذي يمكن أن يلحق الاجتهاد؛ ويبقى دائماً كما لو أن الحدث يعبر عن وضع ثابت؛ شيء لا يتغير، فيما يتعلق بصورة القبلة.

خلاصة:

1) يتميز صدى هذه الدراسة بكونه سلبياً. لقد بحثت، في البداية، عن سبيل لتأكيد عدم «انسداد باب الاجتهاد»، أو أي شيء من هذا القبيل في النظام الفقهي السنّي الكلاسيكي بالخصوص. ثانياً: أن أبيّن أن الاجتهاد لم يكن أبداً منظوراً إليه بوصفه مبدأً لتطور الفقه في مقابل الزمن (التاريخ). إن الاجتهاد الكلاسيكي، في كلمة واحدة، لا يتوافر على مبدأ تطور الفقه الذي ينتظره اليوم كل الناس من أجل إخراج الفقه من سباته الطويل. ليس هناك شيء في الكتابات التي رأيناها يجعلنا نفكر في أنّ منظري الفقه لم يتخيلوا أبداً أنّ شيئاً مثل ملائمة (ومن ثم تغيير) قاعدة فقهية بالتاريخ سوف تثبت يوماً ما، سواء بالضرورة أم الاختيار، ولن يجعلوا بعد ذلك من الاجتهاد موضوع ذلك المشروع. وهذا يعني بالوضوح أن سؤال عدم حداثة الفقه في العصر الحديث لا يمكن ربطه «بانسداد باب الاجتهاد» (الذي هو خيالي)، ولا، بكل بساطة، ولا بالاجتهاد ذاته. إن ما يتطلب منا اليوم مساءلته، إنها منظمة النظام القانوني الإسلامي، أو النظام شريعة-اجتهاد-فقه وجميع تمظهراته (بقوة الأشياء وفي الحدود الممكنة، هذا السؤال قد تمّت معالجته في العالم الإسلامي الحديث)[41]. ولا نستطيع، في بعض الأحيان، أن نغضّ النظر عن مسألة «انسداد باب الاجتهاد». وجميع الأجوبة التي تم وضعها بشأن ذلك تعمل اليوم إطاراً إيديولوجياً يغطي طبيعة التساؤل الذي يطرح، والذي قامت ضده مقاومة لاتزال إلى يومنا هذا قائمة. أظن، من ناحيتي، وباستعمال لغة الأصوليين، أنّ موضوع هذا التساؤل يقع الى جانب «الأسس» الأصول، وليس «الفروع»، ووسيلته لا يمكن أن تكون سوى اجتهاد تتم إعادة تعريفه بشكل جد جريء. وقبل كل شيء، مثل هذه الخطوة تفترض ترك مساحة أمام التراث تسمح بانفصال عن السلف الذين -وهو أمر صحيح- لم يقبلوا أبداً، من ناحية، أن تقع الأصول في مجال الاجتهاد كما عرفوها هم[42]، أو من ناحية ثانية، أن يصل الاجتهاد الى حد قدرته، باسم الصالح العام (صالح الناس)، بأن يأخذ البعد السوسيو- تاريخي للوضع الإنساني في الاعتبار أثناء ممارسته.

2) إن نتائج بحثنا ليست كلّها سلبية. لقد رأينا أنه على الرغم من أن الفقه لا يتم التفكير فيه بوصفه نظاماً عادياً ومدعواً للتطور (بالمعنى المعاصر والمشترك لهذا المصطلح)، إلا أنه لم يشكّل أبداً جسداً لعقيدة جامدة وغير قابلة للتغيير، لكن سيتم فرضه، في النهاية، على أنه اجتهاد، وسيكون دوره ضيق جداً بالضرورة. أكثر من ذلك، بالنسبة إلى العديد من المنظرين، إن الشريعة المنزلة نفسها لا تعين كثيراً على التأصيل الفقهي للاجتهاد؛ وعلى الرغم من ذلك، وبالنسبة إلى أنصار الاجتهاد، كان للاجتهاد دور خلاق ومجدد للمعايير. وهذا يستدعي منّا اليوم أن نتأمله، وذلك بناء على أنه في يومنا هذا تبقى مسألة إيجاد وتجديد المعايير تظهر على أنها ضرورة ملحّة، ويتبيّن لنا أن الفكرة التي يمكن أن نمنحها أقل نسبة من الحرية التشريعية، عن طريق الاجتهاد، تنتج عنها عاصفة...

من ناحية أخرى، وأريد هنا أن أؤكد هذه النقطة، لقد رأينا كذلك أن نقطة عصرنة الفقه بالنسبة إلى الجماعة في يومنا هذا لم تنقطع أبداً عن تشكيلها جزء من الاهتمامات الأكثر انشغالاً بالنسبة إلى الفقهاء، أو، يمكن القول، إن ذلك هو الانشغال الأساسي لإخوانهم من رجال الدين المعاصرين، لكن السؤال لا يطرح أبداً بالطريقة نفسها بالنسبة إلى هذه الطائفة الأخيرة. بالنسبة إلى القدامى، يمكن القول إن الأمر كان يتعلق فحسب بتفادي التكرار عن طريق تفضيل اتخاد الماضي في الاعتبار بناءً على طريقة ما، ومن حيث إنه يتوافق مع الحاضر. إن الاجتهاد الكلاسيكي، بشكل عام، قد عرفناه من خلال ذلك العمل الذي شكّل الأداة الفعّالة لدينامية انتعاش. لقد أوضحت العديد من الأشياء أن الثقافات الإسلامية المختلفة محركها الأول، في يومنا هذا، هو مشروع يشبه هذا: «العودة» إلى الماضي من أجل تحديث قيم يسيرها نظام معياري تبقى متعلقة به شرعياً وبعمق. لكن اجتهاد القدامى لا يكفي. بشكل آخر، إنه ينتمي، حسب ظنّي، في يومنا هذا، وحسب المعاصرين، بــــ «العودة» إلى الاجتهاد وتحويله، على وجه الخصوص، إلى نظام يأخذ في الاعتبار الوضع الدولي العام إلى حدٍّ ما. ويمكن أن نفهم، حسب اعتقادي، أن مثل هذه المحاولة فحسب، التي تفترض، كما رأينا، قطيعة، تبقى مشكوكاً في كونها ستسام في أبعاد الأساسين اللذين يحيا تحت مظلتهما الفقه في معظم البلاد الإسلامية؛ إن أي تحديث تشريعي يطغى عليه الطابع الإسلامي لا بدّ من أن ينبثق عن جذور أصحابه من ناحية، ومن ناحية أخرى منبثق عن الأصولية الفقيرة المنبثقة عن واقعهم.

[1] - مقتطف من كتاب "التشريع الإسلامي: النظرية والتطبيق" الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع.

[2] - النسخة الأصلية التي يتم الاعتماد عليها في جلّ المؤلفات التي تتعلق بالفقه التشريعي الإسلامي، والإسلام بشكل عام، المتعلقة بهذا التصوّر، تم التقديم لها من طرف ج. شاخت. انظر: J. Schasht, an Introduction to Islam Law (Oxford, 1964), 69-75 وClassicisme, Traditionalisme et Ankylose dans la Loi Religieuse de l'Islam, في كتاب Classicisme et Declin Culturel dans l'Histoire de l'Islam (Paris, 1977), 141-61.

[3] - انظر: W. B. Hallaq «Was the gate of Ijtihad Closed ?», IJMES 16 (1984), 3-41 ; J. Van Ess `La Liberté du Jge dans le Milieu Basrien du 8eme Siécle,' في G. Makdisi, éd., La Notion de Liberté au Moyen-age (Paris, 1985), 25-35 وW. M. Watt `The Closing of the Door of Ijtihad,' Orientalia Hispanica (Leiden, 1974), I, 675-678.

[4]- انظر: E. Chaumont, `Al-Shafiyya,' EI2, Vol. IX, 191-5

[5] - الجويني، أبو المعالي، الورقات، مصر، 1977، ص7. الشيرازي، أبو إسحاق، اللمّة في أصول الفقه، بيروت، 1985، ص6

[6] - المرجع نفسه، ص129

[7] - الشافعي، محمد بن إدريس، الرسالة، بيروت، ص477؛ 1323-1326

[8] - عند هذه النقطة يجب العودة إلى: E. Chaumont `La Problematique Classique de L'Ijtihad et la Question de l'Ijtihad du Prophéte,' SI 75 (1992), 105-12 surtout.

[9] - إن التكامل المفاهيمي لمصطلحي الفقه والاجتهاد نجده في اللغة التقنية التي يستعملها القضاة، وهي تتعلق حتى بباقي المصطلحات التي تعود اليهم 'في اللغة العامية؛ حيث يحدد المصطلح الأول «الفهم» عندما يكون موضوعه معروف بأنه «ضمني وغير واضح»، والثاني «اجتهاد عميق» (وهكذا يتم الاشتغال في مجال الاجتهاد من أجل موافقته مع الفقه). انظر: الشيرازي، شرح اللمة، مجلدين، بيروت، 1988؛ المجلد 1، 157- 8، الباب 22

[10] - من خلال هذا الوصف، تنبثق محاولة تطبيق الفقيه، أيّاً كان، لمبادئ التأويل المحددة في علوم أصول الفقه (تخصيص، وتأويل الظاهر، ...) من أجل اكتشاف الفقه، تصدر مباشرة من الاجتهاد، ولدى هذه النقطة، يجب العودة إلى: الجويني، البرهان في أصول الفقه، مجلدين، مصر، 1980، المجلد الثاني، الصفحة 748، الفقرة 685؛ حيث يقوم الجويني باشتراط التعريف الشافعي للقياس من طرف الاجتهاد واللمة، الصفحة، 96، أو نجد الشيرازي يقول، في الاتجاه نفسه، إن الاجتهاد أكثر عمومية من القياس.

[11] - يعدّ الإفتاء، في الإسلام الطريقة المفضلة التي يتم من خلالها التعبير عن القاعدة الفقهية. يتوجب على المستفتي؛ أي ذلك الذي ليست له دراية بالقواعد والأسس التشريعية الفقهية، طلب المفتي، وهو ذلك الشخص الذي يعرف بأنه متمكن من قواعد التشريع، عندما لا تكون له دراية كافية فيما يتعلق بالأحكام المتعلقة بتصرف ما. لقد تم التأسيس لقواعد الإفتاء نظرياً في كلّ أصول الفقه، ومن جهة أخرى في نوع من المؤلفات الخاصة مثل (أدب المفتي والمستفتي) لابن صلاح. H

[12] - إنه لمن الواضح جداً هنا أن الأمر يتعلق بتقليد العالم للعالم؛ أي إنها الحالة حيث يضطر العالم المجتهد إلى الأخذ عن مقلّد أخذ هو كذلك عن عالم. بالنسبة إلى العامي، عندما يتعلق الأمر باتباعه رأي مجتهد، الطريقة الوحيدة بالنسبة إليه، بوصفه شخصاً لا علم له بالقانون، هو الاعتماد على الفقه.

[13] - ثبت أن الفرق بين الإعادة والبدء من جديد يعود إلى المفكر S. Kierkgaard, La Reprise, trad. N. Viallaneix (Paris, 1990), 56-8.

[14] - الشيرازي، اللمة، ص125.

[15] - إنه في ظلّ هذا التصور اجتهاد/اختلاف؛ حيث قمت بالإتيان على طرح السؤال: «هل كل مجتهد مصيب». هذا سؤال فيه نقاش واسع يتعلق بأسس مشروعية الاختلاف في الإسلام. انظر: Le BouilluecK éd., La Controverse Religieuse et ses Formes (Paris, 1995) K 11-27. أسمح لنفسي هنا بإحالة القارئ إلى هذا المرجع من أجل فكرة أوضح عن توضيحات أوسع تتعلق بالأسئلة المطروحة هنا.

[16] - القرآن: 3.19؛ 4.82؛ 13: 42؛ 4: 98، هي آيات قرآنية متعددة يتم استعمالها من طرف الفقيه الإسماعيلي على وجه خاص، النعمان بن محمد (351/962) على أساس أنها تمنع الاختلاف بين الناس ضمن مجتمع واحد. انظر: ابن محمد، النعمان (القاضي)، اختلاف أصول المذاهب، بيروت، 1983، ص28-30.

[17] - كان لتفسير الاختلاف نظرة خاصة بما أنه كان يتعلق أساساً، في مواجهة مع النقد الإسماعيلي، بأن مأسسة جميع المذاهب التي تعرف بأنها مذاهب تحاول تقويم الشأن فيما يتعلق بفهم وتطبيق الشريعة كانت مشروعة في نظر تلك الأخيرة. العلاقة بين هذا السؤال النظري وما يتعلق بالمذاهب يتضح بشكل عام من خلال طرح أتى به الشيرازي في «التبصرة في أصول الفقه»، دمشق، 1980، ص509

[18] - الشافعي، الرسالة، ص497-503، الفقرات 1422-55

[19] - في حديثنا عن الجهاد (القيام بجهد في سبيل الله)، تمّ تصنيفه من طرف جلّ الفقهاء على أنه فرض كفاية.

[20] - انظر: الشافعي، جماع العلم، بيروت، --، ص33، الفقرة 163؛ الشافعي، كتاب الأم، 7 مجلدات، مصر، المجلد 7، ص85. بالنسبة إلى الحديث المذكور، انظر: A. J. Wensinck et al., Concordance et Indices de la Tradition Musulmane (Leiden, 1936), Vol. 1. 20.

[21] - من أجل عرض مفصّل عن الفرضيات المذكورة، انظر: الجويني، كتاب الاجتهاد، من كتاب التخليص، دمشق وبيروت، 1987، ص27-31، أو البصري، أبو الحسين، شرح العماد، مجلدين، المدينة والقاهرة، 1989، المجلد الثاني، ص235-9

[22] - انظر: كل من: أبو يعلى (القاضي)، العدة في أصول الفقه، 5 مجلدات، بيروت، 1980، (1-3)؛ رياض، 1990، (4-5)، المجلد 5، ص1541-73؛ الجويني، ورقات، ص31؛ الشيرازي، اللمة، ص129-31؛ البيضاوي، عبد الله، منهاج الوصول في معرفة علم الأصول، بيروت، 1985، ح: 269-70؛ الباجي، أبو الوليد، إحكام الفصول في أحكام الأصول، بيروت، 1986، 707-21، الفقرة 768-82

[23] - تنتمي جل الشخصيات المهمة في هذا النقاش إلى البصرة، وتنتمي للمدرسة المعتزلية: أبو الهذيل العلاف (226/840-1 أو 235/849-850)، أبو علي الجبائي (303/915-6) وابنه أبو الهاشم (321/933) والقاضي عبد الجبار (415/1025)، انظر مثلاً: كتاب البصري، شرح العماد، المجلد 2، ص238.

[24] - من خلال: ابن فراق، مجرد مقالات الشيخ أبو الحسن الأشعري، بيروت، 1987، ص201؛ انظر كذلك: العميدي، سيف الدين، الإحكام في أصول الأحكام، 14 مجلد، بيروت، 1984، المجلد 4، ص190.

[25] - انظر: الجويني، كتاب الاجتهاد، ص23-77

[26] - انظر: الغزالي، أبو حامد، المصطفى من علم الأصول، مجلدين، دار الفكر، --؛ طبعة ثانية. بلاق، 1322/-4/1904-6، المجلد 2، ص363-75.

[27] - في أغلب الأحيان، يتم نسب هذا المعتقد إلى فقهاء الدين (المتكلمين)، دون تأكيد، وبينما أن الأولى هي كذلك، ولو أن فيها شك، بالنسبة إلى الفقهاء، انظر على سبيل المثال: السبكي، علي وتاج الدين، الإبهاج في شرح المنهاج، 3 مجلدات، بيروت، 1984، المجلد2، ص258. حول هذه النقطة، انظر ملاحظة D. Gimaret, La Doctrine d'al-Ashaari (Paris, 1990), 519.

[28] - يشكل مثل هذا الحدث موضوع مسألة اجتهادية. وفيما يخص المعنى التقني لكلمة نص (تعبير شفهي، وليس نص مكتوب)، انظر على سبيل المثال: الشيرازي، اللمة، ص48 «فالنص كل لفظ دلّ على الحكم بصريحه على وجه الاحتمال فيه». يتفق الأصوليون كلهم من أجل تعريف النص، على أن النصوص هي قليلة جداً في الخطاب التشريعي.

[29] - الغزالي، المصطفى، المجلد 2، ص363

[30] - انظر: (supra)، وهو المفهوم الغزالي لطرح تصويب الاجتهاد (الحكم يتبع الظن).

[31] - يمكننا أن نعارض هنا حول أن السيكولوجيا (بالمفهوم الأرسطي للمصطلح) الخاصة بالمجتهد، هي بشكل عام تتعلق بأي شخص مسلم، يجب أن يتمّ التقديم لها قبل تقديم حكم من هذا النوع. ليس له أي تأثير عندما يكون تعريف المجتهد محدّد بشكل جد واضح من طرف الأصوليين (انظر مثلاً: الشيرازي، اللمة، ص127) وليس لأي شرط يتعلق بهذه الصفة أية علاقة أخرى غير معروفة الدليل الشرعي.

[32] - الشيرازي، شرح اللمة، المجلد 2، ص1035-6، الفقرة 1186

[33] - انظر: البصري، شرح العماد، المجلد 2، ص314. والبصري، المعتمد في أصول الفقه، مجلدين، دمشق، 1963، المجلد 2، 932-3. من بين الذين يدعمون هذا الطرح، نجد كذلك: الجويني، البرهان، المجلد 2، ص1343-4، الفقرة 1517-88؛ الكلوداني، أبو الخطاب، المهيد في أصول الفقه، المجلد 4، مكة، 1985، المجلد 4، ص394؛ الرازي، فخر الدين، المحصول في علم الأصول، 6 مجلدات، بيروت، 1992، المجلد 6، ص69-70

[34] - البصري، معتمد، المجلد 2، ص932

[35] - إلى جانب الشيرازي، نجد القاضي أبو يعلى، وحده، حسب علمي، الذي دعم هذا الموقف. انظر: أبو يعلى، العدة، المجلد 4، ص1228

[36] - الشيرازي، شرح اللمة، المجلد 2، ص1037، الفقرة 1187

[37] - النص الثاني الذي تمّ اعتماده في نشر شرح اللمّة يقدم عبارة «عند الإمكان»؛ أي عندما يكون متاحاً.

[38] - المرجع نفسه، المجلد 2، ص1036، الفقرة 1186

[39] - الجويني، برهان، المجلد 2، ص1343، الفقرة 1517. لم يقم أحد بمعارضة هذا الطرح (الاجتهاد متغيّر)، لكن الأغلبية لا ترى فيه طرح يتعلق بالمادة. الشيرازي، شرح اللمة، المجلد 2، ص1036، الفقرة 1187

[40] - انظر: العميدي، الإحكام، المجلد 4، ص238

[41] - في علاقة بهذا، انظر: الكتاب الجديد لــــــــــــ، B. Botiveau Loi Islamique et Droit dans les Societes arabes (Paris, 1993) K chap. 3K 4 et 5 (103-89) بالضبط.

[42] - في علاقة بهذا الموضوع، انظر: بداية الفصل المخصص للاجتهاد، أو المخصص للتقليد فيما يخص أيّ موضوع له علاقة بأصول الفقه، إن تحديد حقل الاجتهاد الذي تشكل الأصول أسسه المختلفة؛ وكذلك لدى الرازي، محصول، المجلد 6، ص27