فتوى من مدينة فاس القرن الخامس عشر


فئة :  ترجمات

فتوى من مدينة فاس القرن الخامس عشر

فتوى من مدينة فاس القرن الخامس عشر

تأليف: أماليا زومينو

ترجمة: جواد رضواني

مقدمة:

في التشريع الإسلامي، بشكل عام، للشاب الذكر الحقّ المطلق في اختيار زوجته؛ لكن، في المقابل، يتفق جلّ الفقهاء على أن المرأة ليس بإمكانها اختيار الزوج؛ إذ يقولون إنها يجب أن تختار بمساعدة أبيها، أو قريب من العائلة يكون ذكراً، ويكون مصاحباً لأبيها ويؤدي دور الولي. أكثر من ذلك، إذا لم يكن لها وليّ، عليها أن تطلب من القاضي السماح لها بالزواج[1]. يتمثل الدور الأساسي للوليّ، وغالباً ما يكون الأب، في تمثيل ابنته فيما يتعلق بعقد زواجها، ويختار لها زوجاً كفؤاً. يعمل شرط الكفاءة في تنظيم الاعتبارات القانونية التي يجب اتخاذها في الاعتبار عندما يتم التصريح بأن رجل ما مناسب لامرأة معيّنة.

لقد تمّ تفسير هذه العقيدة، أو هذا الشرط، بطرائق مختلفة من قبل المذاهب السنّية الأربعة[2]. في دراسته لشرط الكفاءة في القانون الإسلامي، أعطى فرحات ج. زيادة اهتماماً خاصاً للمصادر الخاصة المختلفة التي قدمها المذهبان الحنفي والمالكي. بالنسبة إلى زيادة، وقد طور أبو حنيفة (150هــ/767م)، في نظر زيادة، مفهوم الكفاءة بشكل موسّع، بينما تجاهله مالك (179هــ/795م) بشكل عملي:

يرجع تجاهل مالك للمميزات الاجتماعية التي انبنت عليها الكفاءة إلى حقيقة أن بيئة المدينة والحجاز، التي انتمى إليها، لم تطور مثل هذه المميزات، في حين تمكن أبو حنيفة من ذلك نظراً إلى التطور الاجتماعي في الكوفة والعراق[3].

وبذلك، فقد خلص إلى أن التقاليد العربية لديها الشيء القليل جداً، باعتباره أصلاً لمذهب الكفاءة في مقابل التقاليد الفارسية/الساسانية، مما يشكل أصول مذهب الكفاءة[4]. في وقت لاحق، انتشر الشرط في مناطق أخرى، تمّ اعتماده من طرف المذاهب الأخرى، وتمّ تطبيقه في مجتمعات جديدة.

وقد لاحظ إيفون لينانت دو بيلفون أن الاختلاف في التشديد بين المذهبين لا يرجع إلى أسباب اجتماعية فحسب، ولكن كذلك بسبب كون فقه القانون الحنفي يعطي حرية مطلقة تقريباً إلى المرأة البالغة، لكي تتزوج من داخل البنية المعقدة لمذهبه في الكفاءة دون تدخل الولي. وعلى العكس من ذلك، يشترط المذهب المالكي شرط حضور الولي من أجل ضمان اختيار الزوج المستقبلي المناسب، على الرغم من أن شرط الكفاءة فيه أقلّ تعقيداً. لقد لاحظ لينانت دو بيلفون أن محدودية شرط الكفاءة في المذهب المالكي يعود إلى حقيقة كون أحكام الزواج التي طورها المذهب اهتمّت بشكل مسبق بما يتعلق بكفاءة المتزوجين، دون الحاجة إلى مذهب الكفاءة[5].

إنّه لمن الواضح جداً أن المدرسة المالكية لم تعادل أبداً الحماس الذي أسّسه تلامذة أبو حنيفة فيما يخصّ سؤال الكفاءة. كما يمكننا أن نقرأ في المدونة[6]، سئل مالك عن شرعية زواج امرأة ذات حسب وشرف برجل أقلّ منها درجة، لكنه يعدلها فيما يخص الدين. لقد وافقت المرأة على الزواج من الرجل، لكن الولي رفض. كان جواب مالك واضح: على السلطات (أي السلطان) أن يسمح بهذا الزواج، كما تمّ رفض ادعاء الوالي[7]. من جهة أخرى، تمّ سؤال مالك عن زواج العرب والموالي، وعن أولئك الذين لم يسمحوا بهذا الزواج بسبب غياب الكفاءة. وكان جوابه واضحاً كذلك: لا يمكن لحسب وشرف أن ينقص من قيمة رجل كزوج أمام زوجته. في هذه الحالات اقتبس مالك الآيات القرآنية [سورة الحجرات، الآية 13]: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ}[8]. هذا هو أساس حجة مالك بخصوص رفضه للإدخال وازع النسب والحسب بوصفها معايير ضمن شرط الكفاءة. وقد كان حاسماً فيما يخص هذه النقطة: «كل المسلمين متساوون»[9]. وكذلك لمّا سئل عن الحاجة إلى المال، بالنسبة إلى رجل فقير، لكنه ذو درجة من الدين مناسبة بالنسبة إلى زوجته المستقبلية، رفض مالك قيمة المال معياراً[10]. بالإضافة إلى ذلك، لم يسمع من مالك شيئاً فيما يخص زواج امرأة حرّة وعبد[11]. في ضوء هذه الأجوبة، يمكننا استنتاج أن مالكا عدّ الدين المعيار الوحيد الذي يمكن استعماله فيما يخص نظرية الكفاءة. لكنّ التطورات اللاحقة، فيما يخص النصوص المالكية، مع ذلك، توضّح أن هناك تعقيدات كبرى تتعلق بتطبيق شرط الكفاءة.

يتمثل هدف هذه الورقة في أمرين: تقديم مجموعة من المراجع التي وجدتها فيما يخص المصادر المالكية، وتعكس النظرات المختلفة لمفهوم الكفاءة، ولاسيما لدى فقهاء متأخرين. وثانياً، دراسة حالة خاصّة قادمة من مدينة فاس القرن الخامس عشر، مأخوذة من كتاب (المعيار) لصاحبه أحمد بن يحيى الونشريسي (914هــ/1508م) وتتعلق بالمفهوم القانوني للكفاءة. أكثر من ذلك، توضح هذه الحالة أن هناك جانبين يتعلقان بنظرية الكفاءة: المكونات القانونية التي تتكون منها، والدور الذي تؤديه الكفاءة في النظام الزوجي المالكي واجباً على الولي أن يؤديه، والذي، حسب النصوص المالكية، لا يظهر إلّا إذا كانت صلاحية العمل به موضوع شكّ. في خلاصتي، سوف أركّز على أن الدور الذي أدّته عقيدة الكفاءة ضمن المذهب المالكي فيما يخص نظام الزواج قد عاشت لقرون دون تغير على المستوى العملي، بينما تغيرت المكونات القانونية التي استعملها الفقهاء، والتي تشكل، في الواقع، المذهب على المستوى النظري والتطبيقي عبر القرون. لقد تخلّت تلك المكونات القانونية/الشرعية عن البعد التاريخي المميّز لتخصّصها القضائي، وتمّت إعادة تعريفها بشكل يتناسب والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة[12].

عناصر الكفاءة في المذهب المالكي:

هناك مؤلفان مختلفان ضمن المذهب المالكي يتناولان سؤال الكفاءة بشكل معمّق إلى حدٍّ ما: (بدايات المجتهد) لابن رشد الحفيد (595هــ/1198م)[13] و(كتاب القوانين الفقهية) لابن جزي (741هــ/1340م)[14].

في كتاب (بداية المجتهد) يتم التطرق إلى شرط الكفاءة في الفصول المتعلقة بتفويض الولي، وبشكل خاص في المقطع المخصّص لرفض الولي زواج من وصايته (في عدل الأولياء). في نظر ابن رشد، كان هناك توافق بين الفقهاء التابعين للمذاهب المختلفة حول امرأة تتزوج دون موافقة وليها. لقد اتفقوا على أنه لا يمكن للولي أن يعارض زواجها من رجل كفؤ لها، وفي حال الاتفاق على صداق مسمّى. من جهة أخرى، على المرأة أن تتزوج من رجل مناسب لها إذا ما تمّ اختياره من طرف وليها، وتمّ الاتفاق على صداق مهر. لقد أشار ابن رشد إلى أن الاختلاف يقوم عندما يحاول الفقهاء فهم شرط الكفاءة وما يتعلق به؛ أي عندما يحاولون وضع معايير يمكن اللجوء إليها عند الإعلان عن أن رجل ما مناسب لزوجته المستقبلية[15].

اتباعاً لابن رشد، تتفق كل المذاهب حول وازع الدين معيارَ كفاءة. وبذلك، بإمكان القاضي أن يلغي زواجاً إذا ما قصدته امرأة، واشتكت له أن زوجها يشرب الخمر، أو أن ماله حرام، أو هو كثير القسم بالطلاق[16]. لا يوجد اتفاق بين المذاهب الأربعة فيما يتعلق بالنسب معياراً للكفاءة. وعند ابن رشد، من المشهور السماح بزواج امرأة عربية من مولى بناءً على تفسيره الآية (13) من السورة الحجرات في القرآن. يظن ابن رشد أن الاختلاف فيما بين المذاهب مرده إلى تفسير الحديث: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»[17]. ويعدّ تفسير هذه الجملة الأخيرة هو موضع الخلاف: هل يجب التغاضي عن كلّ باقي المميزات إلا الدين كما جاء في نظر مالك، أو يجب الأخذ بباقي المميزات التي ذكرت في الحديث كما جاء في رأي أبي حنيفة؟

لقد أشار ابن رشد إلى أن البعض الآخر قد تبنّى رأياً يقرّون من خلاله بأن معايير الحسب والمال لها مستوى الأهمية نفسه مثل الدين[18]. أمّا بالنسبة إلى العيوب الجسمية للأزواج، فأولئك الذين هم مع فسخ الزواج لهذا السبب يضيفون الخلو من العيوب معيار كفاءة[19]. يتفق كل فقهاء المذهب المالكي على أن الفقر يمكنه أن يكون سبباً في فسخ زواج، إذا كان الزوج لا يقدر على توفير نفقة زوجته، وبذلك فإن الوضع الاقتصادي، اليُسر والمال، يجب اعتبارها من مكونات الكفاءة[20]. أمّا وضع العبودية، من ناحية أخرى، فلا يمكن اعتباره عنصر كفاءة، إذا كانت امرأة عبدة متزوجة من رجل عبد يمكنها أن تختار بين البقاء متزوجة أو الطلاق من زوجها حال الحصول على الحرية[21]. ومن ثمّ، إن المعايير التي أدخلها ابن رشد، وهي متضمنة في تفسيره الكفاءة، هي ثلاث: الدين، والمال، والخلو من العيوب.

خلال القرن الثامن الهجري والرابع عشر الميلادي، طوّر ابن جزي، في الفصل الثاني حول الزواج في كتاب (القوانين الفقهية)، نظرية الكفاءة بوصفها شروطاً لأوصاف الزوجين التي يجب تحقيقها قبل أن يتم الزواج[22]، وهو يقرّ في عمله محكم البناء، يقرّ بأنّ الكفاءة هي إحدى الأوصاف السبعة التي يجب أن تتوافر في الأزواج عند زواجهم: 1) الإسلام 2) الحرية 3) البلوغ 4) الرشد 5) الكفاءة 6) الصحة 7) أن لا يكون في حالة إحرام. إضافة إلى ذلك، يعدّ الإسلام والحرية عناصر واجبة بالنسبة إلى مكونات الكفاءة[23] التي يتم التطرّق إليها في عمل ابن جزي؛ يتمّ التطرّق إليها في خمسة نقاط: 1) الإسلام[24] 2) الحرية 3) الصلاح 4) المال 5) سلامة الخلقة من العيوب.

الإسلام هو الشرط الأساسي للزواج من امرأة مسلمة، وهذا الشرط يربطه ابن جزي مع معيار الدين، على الرغم من أنّه يستعمل كلمة «صلاح» التي يمكن ترجمتها كذلك على أنها «الدين» «الصدق»، أو «الأخلاق الحميدة»[25]. وقد أشار ابن جزي فيما يخص المال إلى أن الوضع المادي للزوج المستقبلي لا يجب أن يكون شرطاُ للزواج، بما أن الزوجة بإمكانها أن ترفض الزواج إذا كان زوجها لا يستطيع ضمان حقوقها[26]. أمّا فيما يخص موضوع العيوب الجسدية للزوج، فقد حدّد نوع العيوب التي يحقّ للمرأة أن تطلب الطلاق من أجلها[27]. أمّا الاختلاف بين الأزواج حسب النسب والحسب ليس له قيمة في نظر ابن جزي؛ فقد رفض موقف الشافعي القائل إنه على الزوج ألّا يكون ممارساً لحرفة دنيئة[28]. وعليه، فإن خمسة معايير تمّ تحديدها من طرف ابن جزي، ثلاثة منها كانت محددة مسبقاً على أساس (الإسلام، والحرّية، والصحّة) والاثنان الآخران متعلقان بالكفاءة (المال والسلوك التقي).

لقد طوّر كتاب (بدايات المجتهد) و(كتاب القوانين الفقهية) مبدأ الكفاءة بشكل نظري؛ ففيهما طوّر المؤلفان مفهوماً شاملاً يمكن تفسيره فحسب من خلال تقدير أو تجاهل العديد من المعايير انطلاقاً من التقليد القانوني الذي درسوه. يعدّ هذان الكتابان مصدر اختلاف بين الفقهاء، وهو ما يمكن أن يفسّر تطرقهم الواسع إلى مشكل الكفاءة.

وعند التطرّق إلى عملين آخرين من فقه الفروع، نجد نظرة مختلفة تماماً لمفهوم نظرية الكفاءة. في كتاب (المختصر)[29] يفتي خليل (776هــــ/1374م) مناسبة المتقدم للزواج أم لا من خلال درجة تقواه وحالته البدنية الصحية[30]. وبطريقة غير مسبوقة، يعطي خليل الأم الحق في أداء دور القاضي والتكلّم، ولو بخلاف الأب، إذا أراد زوجها عقد زواج من رجل فقير[31]. أمّا المعايير الأخرى التي يعتمدها خليل في مجال الكفاءة، فيتناولها في (المختصر)، مضيفاً موقفه من كون الرجل الذي حصل على حريته أقل درجة من امرأة حرّة، ويكون بذلك في توافق مع رأي سحنون[32]. وقد أفتى كذلك بأن رجلاً غير شريف ليس مناسباً لامرأة شريفة. ويشير ابن عاصم (829هــــ/1426م) في كتابه (تحفة) وظيفة الكفاءة في الفصول المخصصة للأولياء، دون أن يحدد أيّ معايير خاصة لها[33].

وبالمثل، فقد وجدت، كذلك، عدداً من الإشارات إلى مفهوم الكفاءة في مجموعة من الوثائق. على سبيل المثال، في نموذج عقد زواج كتبه الوصي (وليس من طرف الولي) ابن العطار (399هــــ/1009م)، أشار إلى أن شهود عقد الزواج عليهم أن يتحروا مناسبة الزوج فيما يخص حله وماله، كما أن عليهم التأكد من أن الصداق المتفق عليه مناسب، ومتفق عليه بشكل عام[34]. يتفق كذلك ابن مغيث (459هــــ/1067هــــ)[35]، وبعده أبو إسحاق الغرناطي (579هــــ/1183م)[36] على أن معايير الكفاءة في الحال والمال، ويقتبس ابن مغيث من ابن الماجشون (164هــ/781م)[37] الذي يضيف الدين بوصفه معياراً مهمّاً.

هناك اختلاف للآراء فيما يخص إذا ما كانت الكفاءة شرط لصحة الزواج أم لا. رأى ابن جُزي أن الهدف من الكفاءة منها ضمان استقرار الزواج، على أساس أنه عندما تكون شروط الكفاءة قد تحقّقت، لا يمكن فك عقد الزواج[38]. وعلى الرغم من ذلك، إن الكفاءة، في نظر ابن الماجشون والمطيطي، شرط نكاح لا بدّ منه، وبذلك بقيت كذلك في ممارسات المحاكم[39].

من خلال هذه الباقة من الآراء الفقهية يتبيّن أن المؤلفات المالكية المتأخرة تعكس اختلافاً فيما يخص التوافق حول المعايير النظرية التي يجب اتخاذها في الاعتبار عند تقدير نظرية الكفاءة. يمكن تلخيص تلك الاختلافات بالطريقة الآتية:

1- الدين وحده، طبقاً لمالك في المدوّنة.

2- الدين، الصحة والحالة الجسمية الجيدة، بالنسبة إلى ابن الماجشون وابن رشد.

3- الدين والمال، بالنسبة إلى ابن جزي.

4- الدين والصحة الجسمية، بالنسبة إلى (مختصر خليل).

5- الوضع المادي والصحي (الحال والمال)، بالنسبة إلى ابن العطار، وابن مغيث، وأبو إسحاق الغرناطي[40]، والمتيتي[41] الذي أعاد هذا الرأي إلى ابن القاسم[42]. ولقد كان هذا النموذج هو المعمول به في المحاكم (عمل)، والذي غالباً ما يتمّ ربطه بمفهوم الكفاءة، وإن كان ليس بالرأي المتفق عليه من طرف اثنين من أكبر رجال المذهب المالكي، مالك وخليل[43].

حالة من مدينة فاس القرن الخامس عشر:

جمع أحمد بن يحيى الونشريسي (914هــــ/1508م) نحو (6000) فتوى من العالم الإسلامي الغربي، وصنّفهم حسب فصول الفقه[44]. كان هدفه هو تصنيف مؤلّف يجمع كل الأسئلة المتعلقة بزمانه، وتلك المتعلقة بالعلماء التقاة المشتتة في مؤلفات لم يكن سهل الوصول إليها[45]. ويعدّ هذا العمل مصدراً مهمّاً بالنسبة إلى دراسة التاريخ الاقتصادي، والاجتماعي، والقانوني، في شمال أفريقيا والأندلس[46].

وعلى الرغم من ذلك، تقلّ في كتاب (المعيار) الفتاوى التي تتطرق إلى موضوع الكفاءة. ومن بينهم اخترت فتوى ذات صلة خاصة من مدينة فاس. وتشكل هذه الفتوى، حسب علمي، الحالة الوحيدة التي تتطرق إلى سؤال الكفاءة بوصفها مشكلاً أساسياً ليس في سؤال المستفتي فحسب؛ ولكن في جواب المفتي كذلك، وهي حالة تتضمن جميع النقط التي تشمل تطور نظرية الكفاءة، وهي نقط يتم الإشارة إليها في فتاوى أخرى بشكل عرضي فحسب، وعلاوةً على ذلك تثير عدداً من الأسئلة فيما يخص حالة معينة من الكفاءة، ممّا يسمح لنا بدراسة الممارسة القضائية بشكل أعمق.

تعود الفتوى، التي اخترتها، إلى مدينة فاس خلال بداية القرن الخامس عشر[47]، ويعدّ المفتي الذي أدلى بها أحد أهم شخصيات شمال أفريقيا في زمنه، وهو أبو عبد الله محمد العبدوسي، الذي مات نحو (1443-46). كان ينتمي إلى عائلة فاسية معروفة، وهم بنو مُعطي؛ لقد كان مفتي مسجد القرويين، وخطيباً خلال أواخر سنين حياته، وأستاذاً لأهم أساتذة الونشريسي ومن تلاه، وبعض فتاواه وردت في كتاب (المعيار)[48].

والحقيقة أنه قد تمّ التطرق إلى هاتين الحالتين للفتوى مرتين؛ في جوابه الأول، يشتكي المفتي من غياب الأدلة الكافية في وثيقة قدمها المتقاضين. في السؤال الثاني، تمّ توضيح الموضوع من طرف المستفتي ممّا تطلّب جواباً آخر. الطريقة، التي تمّ من خلالها تسجيل هاتين الفتوتين وعرضهما، تقودنا نحو افتراض كون هذه الفتوى «سابقة قانونية»[49].

السؤال الأول:

سئل العبدوسي عن تاجر صادق يتمتع بصحة جيدة، وكريم يقوم بمهامه بشكل جد محترم. وقد حصل هذا الرجل وأجداده على نسب انتماء إلى قبيلة قيس في وقت مضى[50]، وطلب الزواج من امرأة أمازيغية من قبيلة أوربة[51]. كما أوضح المستفتي، وعلى الرغم من أنّها أمازيغية، إلا أنها من نسل خطباء، وأبوها كان طالباً. لقد كانوا عائلة عريقة في مدينة تازة؛ كانت المرأة بكراً، وربما يتيمة لأنها كانت تحت رعاية أخيها الذي أدّى دور الوصي. لقد كان له الحق في تزويجها لأيٍّ كان، ووفق أيّ مهر صداق يختار. قرّر الأخ، بموافقة من أخته[52]، أن يعقد قرانها بالتاجر، وحدّد مهراً مناسباً أو أكثر من ذلك. لكن، إخوان المرأة الآخرين، أولئك الذين ليس لهم أيّ حقٍّ في الوصاية عليها، أرادوا فسخ العقد، مدّعين أن الزواج لم يكن مناسباً (الرجل ليس كفؤاً لها). لقد قدّموا وثيقة قانونية (رسماً)، لكنهم لم يقدموا أيَّ معلومات تفيد عدم شرعية الزواج دينياً. لكن الوصي ومن بجانبه أصرّوا على أن عقد الزواج كان صحيحاً، آخذين في الاعتبار أن العروسة لم يكن لها أيّ مال. فكان السؤال كما يأتي: «هل يجب الأخذ بآراء من يزعمون أن الزواج لا يتوفر على شرط الكفاءة؟»[53].

ويُقال إن المستفتي بإمكانه أن يكون أيّ شخص يريد أن يعرف حلّ هذا المشكل القانوني الذي تتمّ مواجهته. ومع ذلك، فقد كان المستفتي في الواقع قاضياً (أو فقيهاً) لديه، تراوده شكوك في تطبيق القانون، أو يظن أنه من الواجب استشارة سلطة قانونية قبل أن يقدّم حكمه. لنفترض هنا أن المستفتي كان فقيهاً. في وصفه للدعوى يتخذ في الاعتبار جميع الأسئلة التي على المفتي أن يأخذها في الاعتبار في حالة كفاءة نأي: وصف الزوجين، حضور وصي بدل الولي (وبذلك فموافقة الزوجة ضرورية) بالإضافة إلى مهر معقول. ظهر سؤال آخر فيما يخص هذا الشأن: لقد تم فرض تقديم دليل مكتوب على المدعين يفسّرون من خلاله لماذا يعتقدون أن شرط الكفاءة ينتفي في تلك الحالة.

جواب العبدوسي:

إنّ نصَّ فتوى العبدوسي، مصاغ جيداً. وقد قسّمت الجواب من أجل الدراسة والتحليل إلى خمس نقاط (يمكن تتبعها في النص)[54]:

1- أولاً، يقدم تصريحاً مباشراً وواضحاً: «إذا كان الزوج تتوافر فيه الأوصاف، فهي كفاءة صحيحة معتبرة».

2- يحدد الأسس القانونية التي يبني عليها تصريحه:

والاعتبار في الكفاءة عند ابن القاسم الحال والمال، وبه القضاء وعليه العمل، قاله أبو الحسن المطيطي وغيره، ولا يقضي القاضي إلا بالمشهور، أو بما مضى به العمل من الموثوق بعلمهم ودينهم[55].

3- في نظر العبدوسي، ليس هناك شكٌّ أنه، إذا ما اعتبرنا النسب، الرجل من قبيلة قيس العربية والمرأة من أمازيغ قبائل الأورابا والعرب أفضل من الأمازيغ، ومن ثمّ هو مناسب لها. أمّا معيار الوضع المادي، فإنه يدلّ على مناسبتها للزواج منه، إذا كانت المعلومة التي أدلى بها للمفتي صحيحة، وهي أنها لا تملك شيئاً.

لقد أكّد المستفتي بشكل خاص النسب في وصفه للدعوى. في نظري، بما في ذلك هذا المعطى، لابدّ للمفتي من أن يأخذ به باعتباره وجهة نظر، على الرغم من أنه ليس معياراً يُعتدّ به بالنسبة إلى المدرسة المالكية. هذا الظهور لمعيار النسب يمكن القول إنه يعكس وضع اجتماعي وسياسي[56] يمكنه أن يغيّر المعنى العام للمدرسة المالكية فيما يخصّ الكفاءة.

4- باستعمال حرف العطف «ثم» حوّل المفتي التركيز نحو مشكل الشهادة التي أدلى بها المدّعي؛ لأن هؤلاء الذين هم مع عدم جواز هذا الزواج قد عبّروا عن رأيهم بشكل عام (فقد أجملوا وجه ذلك). مع ذلك، تمّ طلب تفسير، فوجب على الشهود تفسير كيف فهمهم للخلوّ من الكفاءة. والواقع أن المتأخرين من الفقهاء، بالنسبة إلى العبدوسي، كانوا قد طُلب منهم مسبقاً مدى إمكانية قبول تفسير بشكل إجمالي. وذلك كما جاء في أحكام ابن زياد[57]، وفي مصادر أخرى. هذه الاختلافات فيما بين الفقهاء، إلى جانب العبدوسي، لم تظهر فحسب بسبب السؤال المتعلق بالقبول بالشهادة المكتوبة، لكن كذلك بناء على مصداقية الشهود وقوة رأيهم عندما يفسّرون غياب الكفاءة لدى الزوج. يشتكي العبدوسي من جهل الكثير ممّن يدّعون معرفة لا يملكونها:

فمن كان عالماً بما تصحّ به الشهادة لم يسأل، وإلا سئل، وينبغي أن لا يختلف في ذلك اليوم عندي، فلا بدّ من سؤالهم لغلبة الجهل على كثير ممّن ينسب إلى العلم فضلاً عن العامة[58].

5- في النهاية، يستعمل العبدوسي جملاً شرطية، التي تطرح الإمكانات الشرعية التي يمكن أن تنتج عن الحالة، «فإن لم يكن استفسارهم لموتهم، أو لبعد غيبتهم، أو لامتناعهم من بيان ذلك، ردت شهادتهم». وعلى العكس من ذلك، فقد أضافوا شهادات أخرى، على سبيل المثال، بأن الزوج شارب خمر (سكير)، أو أنه قام بفعل ممنوع، أو إذا ما قدموا أيّ عامل آخر ينتقص من كفاءته مقابل الشرع (هذا المثال يوضّح غياب التقوى لدى الزوج بشكل واضح)، فيجب إعطاء السلطة للولي لكي يقرّر في الأمر. إذا لم يتم تقديم أيّ اعتراض، سوف يتم إلغاء الزواج. إذا ما ادعى الشهود وجود أمر غير قابل للتغيير في وضعية الزوج فيما يتعلق بالكفاءة (وهو غير مهم) سوف يستمر الزواج على أنه صحيح وشرعي.

«لقد سُئل مرة أخرى»:

لقد جمع الونشريسي بعد ذلك استكمال هذه الحالة مع السؤال الثاني الذي طرح على العبدوسي فيما يخص المشكل الفقهي نفسه. هذا السؤال الثاني أكثر تخصصاً، وأوضح، ويضع الواقع الاجتماعي المعاصر له موضع تساؤل. إن وصف الزوجين غير كافٍ ويكاد لا يوجد تقريباً، ولا يتضمن إلا المعلومات المهمة. الزوج المستقبلي، كما نقرأ، هو تاجر شاب (شاب بالغ تاجر) يطلب يد امرأة هي تحت وصاية أخ لها، الذي تولى هذه الوصاية من أبيها. وبناءً على ذلك، بإمكانه أن يزوّجها قبل أو بعد وصولها سنّ البلوغ. فيكون من حقّ الوصي عقد الزواج وإتمامه.

وبناءً على ذلك، قام المستفتي في جوابه لطلب العبدوسي بتقديم دعوى الأخوة الآخرين ونقل كلامهم كالآتي: «علينا في ذلك معرة، فلا نزوجها منه، لأنّا لا نعرف نسبه، ولا هو كفؤ لنا»[59]. في هذه العريضة، أضاف المستفتي، إن الفقهاء والصلحاء للفترة قد شهدوا وحدّدوا في العريضة أن الزوج ليس مناسباً للمرأة الشابة؛ وذلك لأسباب ثلاثة: غير كفؤ لها في حسبها ونسبها ودينها. أكثر من ذلك، فقد أشاروا إلى أنهم معارضون تماماً هذا الزواج، وهدفهم هو إلغاء ما عقده أخوهم، وهم يسألون عمّا إذا كانت شكايتهم مقبولة.

جواب ثانٍ:

على الرغم من السؤال الثاني، والدليل الذي تمّ إيراده فيه، لا يغير العبدوسي جوابه بشكل عام، ويصرّ على ضرورة تحلّي الشهود بالحكمة عندما يقرّرون ما إذا كان رجل يتصف بالكفاءة، ويستحقّ زوجته.

دور الكفاءة:

لعقيدة الكفاءة في المذهب المالكي دور تقنين وظيفة الولي. في الأطاريح القانونية غالباً ما يظهر موضوع كفاءة الأزواج في الفصول التي تتعلق بالقوانين التي تخصّ الولاية. لقد وجدت قول فصل لمالك أشار إليه أبو سعيد بن لب (782هــــ/1381م)، المفتي الغرناطي، في إحدى فتاواه، وهو يشرح الوضع جيداً: «القصد في الولاية في النكاح النظر في الكفاءة»[60]. وهكذا يتبين بالوضوح أنه أثناء عقد الزواج لابنته، أو من والاه، يأخذ الولي في الاعتبار مصالحه، ومصالح أسرته، وعليه أن يحقق هذه المصالح. هذه اللحظة، التي هي بالضرورة سابقة للزواج، ليست مذكورة في النصوص القضائية[61]. استراتيجية الزواج ليست مذكورة في النظرية القانونية الخاصة بالكفاءة. مع ذلك، وكما وضحت، تكشف المصادر الشرعية عن حالات لا تتفق فيها معايير الولي مع المعايير الخاصة بباقي رجال أسرة الزوجة. عملياً، لقد تمّ استحضار كلّ هذه الحالات الخاصة إلى مجال الخصومة القانونية في اللحظة التالية، بعد أن تمّ عقد الزواج، عندما حاول المدعون فسخ النكاح.

لقد وضع المشتكون الولي موضع شكٍّ؛ وذلك من خلال استهداف أحد مبادئه، وهو تقدير الكفاءة، مدّعين أن ذلك بإمكانه جلب العار إلى العائلة[62]. مع ذلك، عندما تكون مسؤولية عقد الزواج في يد الأب أو الجد، يتبين أنه لا ينافسهم أحد في دورهم، وعليه، فقد جرت العادة أن الدعوى المضادة لا تقوم إلا عندما تكون الولاية بيد رجل آخر من أفراد العائلة. ومن المعروف جداً في الفقه المالكي أن التشريع قد تمّ تطويره لكي يساعد في إحلال نظام يستطيع من خلاله أفراد أسرة الزوجة الذكور أن يتمتعوا بسلطة ممارسة الولاية: أولاً أبوها، ثانياً شخص ما يوصيه الأب بتنفيذ المهمة، ثالثاً يتم تطبيق مبدأ العصبة[63]. بناءً على هذا التسلسل الهرمي هناك ولاة أقراب وولاة أبعاد.

إن إحدى الحالات التي لها معنى خاص بالنسبة إلى موضوع الشكّ فيما يخص الدور السلطوي للأب يَشمل فتوى من قرطبة، خلال نهاية القرن العاشر، تمّ عرضها على ابن زرب (381هــــ/991م)[64]. في هذه الحالة، وصف المستفتي أب الزوجة بــ «عربي فاسد الحال»، يزوّج ابنته من رجل غير كفؤ، فقام أخ الولي بإنكار هذا الزواج، وقدم به إلى المحكمة؛ حيث حصل على رأي المفتي بالإيجاب، الذي جعل الوصاية تحت رعاية السلطان، مبعداً الولاية عن الأب[65]. لقد جمع الونشريسي هذه الحالة في كتاب (المعيار)، ناقلاً رأيه كما هو من مصدره (أحكام الشابي)[66]، ومضيفاً إحالة من (نوادر) ابن أبي زيد (386هــــ/996م)، التي أخذ منها رأي إصبغ حول رجل زوّج ابنته لرجل آخر ليس كفؤاً لها[67]، فقام الإمام بفسخ الزواج، على الرغم من أن الفتاة، أو في هذه الحالة، الوصي، كان موافقاً على الزواج[68].

بشكل متكرر، تقوم دعاوى بين ولاة مختلفون (أي أفراد ذكور ينتمون إلى عائلة الزوجة) عندما يكون الولي الأقرب غائباً أو ميتاً، وبذلك يقوم بتنفيذ الولاية فرد آخر من العائلة (الأبعاد). على سبيل المثال، لقد تطرّق ابن رشد الجد (520هــــ/1126م) إلى حالة تضمّنت امرأة تمّ تزويجها من طرف خالها، بينما كان يجب أن يتمّ تزويجها من طرف أبناء عمها (الذين، حسب التسلسل الهرمي الخاص بالولاة بالنسبة إلى المذهب المالكي، كان لهم الأولوية في الوصاية عليها). لقد تمّ الزواج دون إخبارهم، لأنهم كانوا على بعد يومين منهم[69]، فلمّا علموا به، حاولوا فسخه، مدّعين أن الزوج لم يكن مناسباً لها. بالنسبة إلى ابن رشد، يعدّ هذا الزواج شرعياً، إلا إذا كان فحسب لدى الولي بينة أدلة تقرّ بأن الزوج لم يكن مناسباً، وبأن الزواج من هذا الرجل سوف يجلب العار لتلك المرأة، التي لم يكن أحد مراعياً مصلحتها في نظري، لم يُنظر إليها. وعليه، فإن ابن رشد فهم أن إمكانية الفسخ تنبني على العريضة التي تمّ تقديمها، وأنّ عليها أن تتضمن الشروط التي سوف تجلب العار إلى المرأة من خلال غياب الكفاءة.

من ناحية أخرى، قام المزاري (536هــــ/1141م)، مفتي القيروان[70]، بوصف الإجراءات القانونية نفسها تقريباً: إذا ما عبّر أحد عن إرادته فسخ عقد زواج بناءً على غياب الكفاءة، يجب عليه تقديم دليل (بينة). والحالة التي واجهها المزاري تتضمن الخصائص نفسها مع تلك التي حلّها ابن رشد، وكان جوابه موازياً له[71]. بشكل مشابه، تضمّنت إحالة امرأة تمّ عقد نكاحها ضداً على رأي عائلة أبيها، الذين لم يكونوا موافقين على الارتباط. تقدّم عمّها من القاضي، مدعياً أن الزوج لم يكن مناسباً لها (لا يليق بها الزوج). أشار المزاري بأن الزواج سيبقى مشروعاً حتى يتقدّم من يطلب فسخ الارتباط بدليل (بينة)؛ حيث يشهد بأنه فعلاً هناك خطر جلب العار أو المضرّة، وبأن الزوج لم يكن كفؤاً لها. وفي هذه الحالة كما في حالة العبدوسي، سوف يبقى إلغاء الزواج مؤجّلاً حتى يتمّ تقديم عريضة ودليل شرعي من طرف المدّعين[72].

وعليه، فعندما يتمّ الشكّ في مشروعية قرار ولي، يكون من الواضح جداً أن المفتي سوف يطلب من المدعين، أولئك الذين يحاولون فسخ الزواج، تقديم دليل مكتوب يفسّرون فيه، كما طلب العبدوسي، الطريقة التي يفهمون من خلالها الكفاءة ولماذا يعدّون الزواج جالباً للعار، بالنسبة إلى عائلة العروسة ولها. توضح فتوى العبدوسي بأن موضوع الفسخ لا يعتمد فحسب على قبول العريضة وصلاحها، لكن كذلك على الظروف التي تخص مصداقية الشهود. بالنسبة إليه، يجب عليهم أن يكونوا أفرادا يمكن الوثوق بهم من خلال درجة تقواهم وتعلّمهم.

يلاحظ أن استعمال هذا النوع من الوثيقة قد ظهر في النصوص المالكية الغربية الأولى، بناءً على كونها قد كان يتمّ طلبها دائماً من طرف الفقهاء. مع ذلك، لا نجد أيّ إشارة إلى أنه في وثائق العوارض قد حصر المدعون أنفسهم في المعايير، أو الاعتبارات، كما تمّ تحديدها وتقبّلها نظرياً في الفقه المالكي. مع ذلك، يتضح أن الوثائق قد عكست، بشكل واضح، مصالح الآباء في لحظة عقد قران بناتهم، أو مصالح العائلة التي يجب الدفاع عنها، ضد خطأ محتمل الحدوث من ناحية نظام الولاية. مع ذلك، يبقى من المهم جداً أننا لم نعثر على أيّ حالة أُعيد فيها التعبير عن محتوى مثل هذه الوثائق في الفتاوى، سوى حالة جانبية تمّت إثارتها في السؤال الثاني الذي طُرح على العبدوسي.

خلاصة:

يتم تطبيق قاعدة الكفاءة في فقه الزواج المالكي في حالتين:

1) في الحالة التي يعقد فيها الآباء أو الوصاة زواج بناتهم، أو من هم تحت وصايتهم. لا تعكس النصوص القضائية هذه اللحظة، وبذلك لا تتوافر، في نظرنا، على المعلومات الكافية لفهم التراتبية الاجتماعية، كما قد تمّ الادعاء بذلك كثيراً. وليس هذا لأن الفتاوى لا تعكس المشاكل الحقيقية؛ لأن المعايير الاجتماعية التي يعتمدها الآباء (أو ولاة آخرون) لم تكن موضوع اهتمام بالنسبة إلى الفقهاء عندما كانوا يجمعون نصوصهم.

2) في اللحظة الموالية مباشرة لعقد الزواج. وتمثل هذه اللحظة أفضل وقت لعائلة الزوجة لكي يستحضروا الكفاءة من أجل فسخ الزواج. تنعكس نتائج الادعاء لهذه الآلية المتعلق بالإصلاح في النصوص العدلية، وبذلك فهي تستطيع أن تقدّم نظرة من داخل الإجراءات القانونية المعاصرة، ودليل غير مباشر عن نوع التنظيمات الاجتماعية.

بشكل عام، يمكننا الانتهاء إلى أنه، على الرغم من أنه في المذهب المالكي لم تكن الكفاءة هي المعيار الوحيد الذي ركّز عليه، فقد أعطت قيمة كبرى لصفة القوى الدينية[73]. لقد اعتبرت الوضعية الاقتصادية للزوج مهمة، عندما يتمّ تحديد مقدار ما سيؤديه إلى زوجته في ضوء الوضعية الاجتماعية التي شغلتها قبل الزواج. إن مفهوم مقدار صداق مناسب مهم جداً في قوانين الزواج، وقد تمّ ربطه كذلك في عدة حالات، قد تمّ ربطه بمفهوم الكفاءة. ما معايير النسب والحسب، على الرغم من أنها لا يُعتدّ بها نظرياً، تصبح فعّالة قانونياً وفق بعض الحالات الاجتماعية في بعض الأوقات. يعود السبب الرئيس في هذا إلى فقهاء المالكية الذين كانوا يحترمون معايير الآباء والولاة، على الرغم من أنهم، في نصوص متأخرة، رفضوا النظرية الشرعية القائلة بالكفاءة، لكن لاستيعاب أوضاع خاصة، خصوصاً من أجل تفادي زواج بإمكانه أن يجلب العار إلى أسرة الزوجة.

في نظري، لقد واصل تطبيق الكفاءة خدمة المهمة القيّمة التي تتمثّل في التحكم في أفعال الولي، وقد تمّ تطبيقها فعلياً دون اهتمام قانوني نظري، الذي يمكن أن ينتج عنه فسخ العديد من الزيجات. وهذا يعني، أن دور معيار الكفاءة لم يتغير، لكن شروطه ومكوناته هي التي تغيرت، وتطبيقها من طرف الفقهاء أصبح سؤالاً اجتماعياً أكثر منه شرعياً[74].

[1] - M. Abu Zahra, `Family Law,' in M. Khadduri and H. J. Liebesny, eds. Law in the Middle East (Washington DC, 1955), 137.

[2] - من أجل فكرة عن تطور مفهوم الكفاءة، انظر: F. J. Ziadeh, `Equality (Kafaah) in the Muslim Law of Marriage,' The American Journal of Comparative Law 6 (1957), 503-17; Y. Linant de Bellefonds, Traité de Droit Musulman Comparé (Paris/La Haye, 1965) Vol. 2, 171-81

[3] - Ziadeh, `Equality,' p.506

[4] - تعترف التقاليد العربية بالانتماء العائلي على أنه ميزة اجتماعية، ومع ذلك لقد أوضح زيادة بأن هذا المعيار لم يؤدِّ إلى طرح مفهوم الكفاءة. المرجع نفسه، ص507-8

[5] - Kafaa,' EI2, Vol. 4, p.422

[6] - لم أعثر على أي إحالة على مفهوم الكفاءة في كتاب الموطأ لمالك.

[7] - المدونة الكبرى، 16 مجلد، القاهرة، 1995، المجلد 4ة ح، ص13

[8] - «إن أكرمكم عند الله أتقاكم».

[9] - «أهل الإسلام كلهم بعضهم لبعض أكفّاء». سحنون، المدونة، المجلد 4، ص14

[10] - المرجع نفسه، ص29

[11] - المرجع نفسه، ص13. ومع ذلك، بالنسبة إلى سحنون (240/854)، ليس العبد كفؤاً لامرأة حرّة، المرجع نفسه، ص14

[12] - كما أوضح زيادة في (Equality)، ص517

[13] - ابن رشد، بدايات المجتهد ونهاية المقتصد، القاهرة، 1960، المجلد 2، ص15-17

[14] - ابن جوزي، القوانين الفقهية، تونس، 1982

[15] - ابن رشد، البداية، ص15. المرجع نفسه، ص16

[16] - السؤال نفسه يمكن العثور عليه في التشريع الحنبلي. انظر: A. Laimech, La Bidayam Manuel de l'Interprete des Loi et Traité Complet du Juriste, du Marriage et de sa Dissolution (algiers, 1926), 52-5.

[17] - فيما يخص النسب فيما يتعلق بالكفاءة في التشريع الحنفي، انظر: Ziadeh, `Equality,' pp. 10-11 ; Linant de Bellefonds, Traité, p. 174. El Bujari, Les Traditions Islamiques, trans. O. Houdas (Paris, 1943) Vol 3, 552.

[18] - ابن رشد، البداية، ص16

[19] - المرجع نفسه، ص16. الأعطاب الجسدية تم التأكيد عليها في مكان آخر بأنها إحدى معيقات الزواج.

[20] - انظر كذلك: Ziadeh, `Equality,' p.512; Linant de Bellefonds, Traité, p.176.

[21] - ابن رشد، البداية، ص16

[22] - ابن جزيء، القوانين، ص202

[23] - المرجع نفسه.

[24] - في المذهب الحنفي، الإسلام بوصفه مكوّن كفاءة، يعني مدة معينة من التديّن بالإسلام تتحدّد في ثلاثة أجيال على الأقل، انظر: zidaeh, `Equality,' p.11; Linant de Bellefonds, Traité, p.202.

[25]- وجد لينانت دو بيلفون في المصادر الحنفية مصطلح الديانة، «وهو يعني التدين والتعامل بالأخلاق المطابق للدين، والفقه لا يفرق أبداً بين هذين المكونين». Traité, p. 176

[26] - كما أفهمها، تعني الحقوق: النفقة والصداق.

[27] - يقرّ ابن جزي أن أيّ زواج من زوج ذميم، أو حرام، هو غير مقبول، لكنه يؤكد أن الجمال ليس بشرط؛ وافترض أنه يتحدث هنا حول المعيقات الدائمة في جسد الزوج. ابن جزي، القوانين، ص202

[28] - أدى سؤال مهنة الزوج إلى نقاشات حادة في المذهب المالكي، وقد تم تغيير الحل بشكل تام مع الوقت؛ انظر: Ziadeh, `Equality,' pp.12-4 ; Linant de Bellefonds, Traité, p. 75 ; seealso Brunschvig, `Metiers vils en Islam,' Studia Islamica 16 (1962), 41-60.

[29] - لقد استعملت الترجمة الفرنسية من طرف G. H. Bousquet, abrege de la Loi Musulmane selon le Rite de `Imam Malek (Paris, ALgiers, 1958), 28-9.

[30] - الكفاءة، والدين، والمال.

[31] - هذا نظر ابن القاسم كذلك، ظهر في المدونة. سحنون، مدونة، المجلد 4، ص5

[32] - انظر أعلاه.

[33] - Traité de Droit Musulman: La Tohfat d'EbnAcem, trans. O. Houdas and F. Martel (Algiers, 1882), p. 190-1.

[34] - ابن العطار، كتاب الوثائق والسجلات، تنسيق ب. شالميتا ووكوريينتي، مدريد، 1983، ص2

[35] - الطليطلي، ابن مغيث، المقنع في علم الشروط، تنسيق اجير سادابا، مدريد، 1994، ص2

[36] - الغرناطي، أبو إسحاق، المقنع، ص2

[37]- ابن مغيث، المقنع، ص2. رأي ابن الماجشون مذكور في الملاحظات حول الأعمال؛ انظر: .H. Toledano, Judicial Practice, p. 91

[38] - ابن جزي، القوانين، 202- 3

[39] - فيما يتعلق بهذا السؤال، انظر: Toledano, Judicial Practice and Family Law, pp.89-90.

[40] - لقد أكد الغرناطي أن الكفاءة ملتزمة بالحال والمال، هي أحد الاسئلة التي اختلف فيها الأندلسيون عن مدرسة ابن القاسم. الغرناطي، الوثائق، ص52

[41] - كما تم نقله من طرف العبدوسي، انظر أسفله.

[42] - لم أجد رأي ابن القاسم هذا في المدوّنة، وهو منسوب إليه من طرف المطيطي.

[43]- انظر: .Toledano, Judicial Practice, p.91

[44] - هذا العمل هو المعيار المعرّب والجامع المغرب عن فتاوى أفريقية والأندلس والمغرب، تنسيق م. حاجي، الرباط/بيروت، 1981، ص3

[45] - الونشريسي، المعيار، المجلد 1، ص1

[46] - إن واقع كون الفتاوى الأساسية قد نتجت عن مشاكل واقعية خارج علم الفقهاء هي، في نظري، فكرة يدعمها وائل الحلاق في كتابه: من الفتاوى إلى الفروع: تقدم وتغير القانون الإسلامي المادي، مجلة Islamic Law and Society 1, 1 (1994) K zM 31-9.

[47] - الفتوى موجودة في المجلد الثالث من المعيار، ص84-86. وهي متعلقة بكاملها بالزواج (نوازل النكاح).

[48] - من أجل فكرة أوسع عن سيرته، انظر: ابن القاضي، جدوى الاقتباس في ذكر من حل من أعلام مدينة فاس، الرباط، 1974، المجلد 4، ص425

[49]- الفتوى الأولية هي ذلك النوع من الفتوى؛ حيث يتم الاحتفاظ بالسؤال والجواب في شكله ومعناه الأساسي، انظر: .Wael B. Hallaq, From Fatwas to furu,' p.2

[50]- من أجل فكرة أوسع عن هذه القبيلة، انظر: A. Fischer, `Qais-Ailan,' EI2, pp. 692-8

[51] - P. Mortizot, «Awerba,' Encyclopédie Berbére, Vol. 8, pp.1192-6.

[52] - الونشريسي، المعيار، المجلد 3، ص84. «من فصوله أن يزوجوها ممّن يرى وبما يرى».

[53] - الونشريسي، المعيار، المجلد 3، ص84

[54] - المرجع نفسه، ص84-5

[55] - الونشريسي، المعيار، المجلد 3، ص84

[56] - من أجل فكرة أوسع عن هذا الوضع السياسي الذي يعكس إعادة تقدير السلالة العربية، انظر: H. L. Beck, l'Image d'Idris II, ses descendents des Fes et la Politique Sharifienne des Sultans Marinides (656-869/1258-1465) (Leiden, 1989).

[57] - إحالة هنا على أحمد بن محمد بن زياد (312/924-5). صاحب سيرته هو أبو الفضل عياد، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، الرباط، 1983، المجلد 5، ص189

[58] - الونشريسي، المعيار، المجلد 3، ص85

[59] - «علينا معرة في ذلك، فلا نزوجها منه لأننا لا نعرف نسبه، ولا هو كفؤ لنا». المرجع نفسه.

[60] - المرجع نفسه، المجلد 3، ص29، مكرر في المجلد 3، ص228. سيرة ابن لب يمكن إيجادها في المخلوف، شجرة النور، ص230-1

[61] - هذا إذاً ما توقعنا حالة خاصة في القوانين الفقهية؛ حيث تكون الكفاءة أحد الشروط الأساسية التي يجب أن تتوافر قبل عقد الزواج.

[62] - الأرضية القانونية في المذهب المالكي هو أن أيّ امرأة دنيئة لا تحتاج إيجاد ولي نظراً لأن أي رجل يكون صالحاً لها ولأسرتها. انظر: سحنون، المدونة، المجلد 4، ص20

[63] - إذا لم يكن للمرأة أيّ ولي، على القاضي أن يقوم بهذه الوظيفة، آخذاً في الاعتبار شرط الكفاءة. انظر مثلاً: المعيار، المجلد 3، ص110-1

[64] - المعلاقي، الشعبي، الأحكام، تنسيق الصادق الحلوي، بيروت، 1992، ص464

[65] - في فتاوى أخرى، أكد ابن زرب أنه يمكن للزواج أن يُلغى فحسب قبل أن يتم الدخول بالزوجة. انظر: الونشريسي، المعيار، المجلد 3، ص114

[66] - ابتدأ الونشريسي الفتوى بهذه الجملة: «وسئل بعض العلماء». وبذلك لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الاطلاع على المصادر الأساسية. انظر: الونشريسي، المعيار، المجلد 3، ص114

[67] - «سكير، فاسق، لا يؤمن عليها». المعيار، المجلد 3، ص114

[68] - يقتبس الونشريسي حديثاً؛ حيث يتم تفسير وضع تكون فيه فتاة مزوجة من طرف أبيها لرجل غير غارق في الرذيلة، فإن الأب يتخلّى عن ابنته، وعن أصلها...

[69] - المرجع نفسه، المجلد، 3، ص377

[70] - غالباً ما يقارن الونشريسي آراء ابن رشد والمزاري عندما جمع أجوبتهم في المعيار.

[71] - المرجع نفسه، ص311 (المزاري) لمقارنته معه، المجلد 3، ص377 (ابن رشد).

[72] - حتى لو لم يحدّد وثيقة، يحيل ابن لب كذلك على أن يبقى موقوفاً حتى يتمّ إثبات حضور معايير الكفاءة. المرجع نفسه، المجلد 3، ص29

[73] - تعكس العديد من الفتاوى إلغاء زيجات لغياب معايير الأخلاق الحميدة (في الزوج والزوجة)، دون معيار الكفاءة في الحسبان.

[74] - تشمل مدونة الأحوال الشخصية المغربية على بعض التوضيحات للكفاءة، لكنها لا تشمل على أيّ معايير أخرى محددة؛ حيث يعتمد على تفسيرها من طرف العرف، انظر: الفقرات 13-14ب.