أغاني العرب الذاهبين صوبَ العتمة


فئة :  مقالات

أغاني العرب الذاهبين صوبَ العتمة

ثمة معايير اتفق عليها المؤرخون والنقاد ومنتجو المعرفة تتصل بقياس ثقافة شعب أو أمة، ومدى ارتباط تلك الثقافة بتحوّلات العصر وإشكالاته، ومدى إسهامها في رفد المجهود الحضاري البشري، وتنمية ذائقته وتطويرها.

وتعدّ الأغنية واحدة من المرايا التي تنعكس على سطحها صورة الذات الجمعيّة، بكل جمالها وأثلامها، لأن الأغنية في أحد وجوهها تعبّر عن الوجدان، وعن التوق، وعن المستوى الذي ارتقت إليه الروح، وعن تطلعات الإنسان الذي يُنتج تلك الأغنية كتابة وأداءً وترويجاً وإشهاراً واستهلاكاً.

ولعل في الإشارات إلى زمن ذهبي للأغنية ما يدعو إلى البحث عن أزمنة ذهبية موازية في الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وفي النظر إلى الحياة من موقع المساهم الفاعل، لا من موقع المستهلك المتفرّج الراضي بما تقترحه يداه الضريرتان، وهو ما يصلح عنواناً للحظة العربية الراهنة التي نُعتقل في قنطرتها الآسنة.

وفي هذه القنطرة الذي تسم زمن العرب الذاهبين إلى مجهول لا حدّ لضلالاته وعتمته، ما يجعل فسحة الأمل تضيق، وتختنق التطلعات.

إن نظرة سريعة، أو إصغاءة عابرة للأغنيات العربية التي نستمع إليها، ونطرب لها، ونرقص على أنغامها في الحفلات والمناسبات البهيجة، تكشف كم هي مليئة بما يلوّث الوعي، ويسمّم الذائقة ويكرّس التخلف والجهل والانحطاط الأخلاقيّ والمعرفيّ. وللأسف، فإن هذه الأغنيات المؤثرة، أكثر من مئات الكتب والمحاضرات وأعمدة الحكمة، تشكّل وجدان الشباب العربي الذي تقذف الإذاعات والفضائيات مخلّفاتها في وجهه على مدار الساعة!

الناس تطرب لأغنية تقول كلماتها التافهة السمجة: "نحنا ما عنا بنات، تتوظف بشهادتها، عنا البنت بتدلل، كل شي بيجي لخدمتها، شغلك ئلبي وعاطفتي وحناني، مش رح تفضي لأي شي تاني، بيكفي أنك رئيسة جمهورية ئلبي". والمصيبة أن نساءً وفتيات كثيرات يفرحن عندما يسمعنَ مقطعاً آخر من الأغنية: "وبكرا المدير بيعشق وبيتحرك إحساسو، وطبيعي إني إنزل هد الشركة ع راسو"..!

إنها صورة مذلّة ترسمها هذه الأغنية للفتيات والشباب على حد سواء. ولا تقلّ تفاهة هذه الأغنية عن الأخرى ذات الكلمات المُهينة التي تكرّس عبودية المرأة، وتجعلها جارية تعمل في بلاط "سي السيد" المليء بالعُقد والأوهام: "فاكره كلمة حاضر لما اتقالت وأنا زعلان مش بوستك، أنا اللي أقول تعملي إيه، أنا اللي أقوله تمشي عليه، زي ما زمان كده يا حبيبتي تلبسي إيه وما تلبسيش إيه، إياكي مره في يوم انا ألاقي، رجعالي متأخره يا حياتي، إنتي فاهمة إيه اللي هايحصل، وطبعاً إنتي عارفه الباقي، آه أنا سي السيد، وكلامي هو اللي ها يمشي، آه أنا سي السيد، مش عاجبك كلامي طب امشي"..!!

والبؤس مستشر بكل اللهجات من الماء إلى الصحراء على امتداد زمن عربيّ يترنّح من فرط الرداءة. وإلى هذا الحقل تنتمي الأغنية "إنتي باغية واحد" التي تحطّ من قدر المرأة، حينما تكشف عن نظرة دونية تجاه النساء، إذ تشبه الأغنية الرجل بالمرأة على سبيل السخرية والتهكم، وكأن المرأة أصبحت معادلاً للعجز والخنوع وفقدان الإرادة والحرية. الأغنية تقول في أحد مقاطعها:

"إنتي باغية واحد، يكون دمو بارد، ساكت فينا جامد، تغلطي ما يدويش، تلعبي عليه العشره، ما يعاودش الهضره، يكون راجل لمرا، بزاف عليك درويش"!!

وفي هذه الأغنية وسواها، مما تكتظ به ردهات الذائقة العربية الراهنة وحواريها وزقاقها، ما يستقر في الوعي ويتحول إلى معرفة، لا سيما وأن بثّ هذه الأغنيات بالغزارة التي نلاحظها يجعلها تمتلك سلطة الدليل والبرهان والحجة، خصوصاً لدى فئة الشباب العربي الذي ينأى عن القراءة العميقة، والثقافة التي تبني الروح والعقل، ويستهلك هذه "النفايات"، متوهماً أن هذا هو الغناء، وهذا هو الفن.

وبغياب سلطة نقدية تقدّم البديل، وتنقضّ، بالتفكيك، على هذه المستويات المتدنيّة من التعبير الغنائي، فإن الساحة تصبح خالية أمام التجار والسماسرة وخافيش الليل كي يعيثوا فساداً وإفساداً في الذائقة والوجدان، ويرسموا صورة معتمة للمستقبل.

وقد مرّ العرب والمسلمون بأزمة مشابهة في ماضيهم، حيث اصطلح بعض مؤرخي الأدب على تسمية العصر العثماني بعصر الانحطاط على المستوى الثقافي، في حين يرى آخرون العكس. ذلك العصر شهد أشكالاً من الكتابة لا إبداع فيها، فكثرت العجمة، وتفشّى الكلام العاميّ، وشاعت الأخطاء اللغوية والنحوية، وجفّ أو كاد نبع الإبداع.

ومن مياسم ذلك العصر أن تجد شاعراً منهمكاً بكتابة قصيدة لا حروف منقطة فيها، فيردّ عليه آخر بقصيدة حروفها مليئة بالنقاط.

وتذكر كتب الأدب أن الشعراء في ذلك العصر أضحوا عبئاً على الشعر، فراحوا يكسبون رزقهم بالعمل في الحِرف والصناعات، فكان من بينهم الجزَّارُ والخبّاز. وفي هذا قال أبو الحسين الجزار يمدحُ الجِزارةَ التي أعطتهُ اللقمة الكريمة بلا مَنٍّ ولا مَذَلّة:

كيفَ لا أشكرُ الجِزارةَ ما عِشْـــــــتُ حفاظاً وأَهجُرُ الآدابا

وبها صارتِ الكلابُ تُرَجِّيني ... وبالشَّعرِ كنتُ أرجو الكلابا..!

وليس حال عصرنا الراهن بأحسن أو أبدع من ذلك العصر، ما يستوجب، إن شئنا الخروج من هذه العتمة، أن نتبصّر في الأسباب التي قادت إلى ذلك التردي، وإلا فإن الأغنيات الهابطة، والموسيقى السقيمة، والابتذال في الذائقة ستظل تطاردنا وتنغّص عيشنا، وتكسّر صورنا في مرايا كانت ذات يوم تشعّ بهاءً وألقاً، وتتلو على الدنيا حكاية المجد والخُيلاء.