أكثر أبو هريرة لمصطفى بوهندي


فئة :  قراءات في كتب

أكثر أبو هريرة لمصطفى بوهندي

 أكثر أبو هريرة لمصطفى بوهندي([1])


ظلّت الثقافة الشفهية والروائية مصدراً ملهماً في الفكر النقدي؛ الذي أسّس له الأستاذ مصطفى بوهندي، من خلال كتاباته المختلفة، فبعد أطروحته الجامعية (العقائد الإسرائيلية في التفسير الإسلامي)، تشكّلت ملامح باحث ناقد للفكر الديني في شقّه الروائي، لتتوالى الكتابات ضمن مشروعٍ يعتقد الأستاذ بوهندي أنّه المدخل الوحيد لتحرير العقل المتديّن من أسْر الثقافة؛ التي احتكرت فهم الدين، ووجّهته إلى حيث صار العقل الديني مكبّلاً بمجموعة من الضوابط، والأحكام، والأعراف، والمفاهيم، التي لم يؤسِّس لها القرآن الكريم؛ بل جاء هذا الأخير، في أحد تجلياته، ليحرّر الفكر الإنساني من سلطة الكهنوت الفقهي الجاثم على مقدرات وعطاءات القرآن الكريم التي لا تنضب.

تتوالى الكتابات، ويتّضح المشروع في نسقيّة لم تنشأ من فراغ؛ بل تأسّست على ما سبقها من تيارات جعلت الرواية محطةً من محطات نقد الفكر الديني. نستحضر، في هذا السياق، كتابات أبي ريّة، وعبد الحسين شرف الدين، وبعدهما كتابات أحمد صبحي منصور، ومصطفى كمال مهدوي، وسامر إسلامبولي، وجمال البنا، وإسماعيل الكردي، وغيرهم. لم يتوقّف المشروع عند هؤلاء، ليلتحق الأستاذ بوهندي بالركب، من خلال الكتاب، الذي أحدث ضجّة إعلامية وفكرية في مغرب لم يتعوّد على مثل هذه السجالات الفكرية من قبلُ.

صدر كتاب (أكثر أبو هريرة)، في طبعته الأولى، سنة (2002م)، عن مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، في (96) صفحة، موزَّعة على محاور من الممكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام رئيسة: الأوّل: متعلق بمجموعة من الروايات؛ التي كان يتساءل فيها الناس عن سبب إكثار أبي هريرة من الرواية، دون غيره من كبار الصحابة. القسم الثاني: يبتدئ بالسؤال المركزي والجريء: هل يُعَدّ أبو هريرة صحابيّاً؟ وتندرج، تحته، مجموعة من المؤاخذات المرتبطة بعلم الحديث، والتي اتُّهِم بها أبو هريرة، كالتدليس، والخروج إلى الطور، وكذب كعب الأحبار. القسم الثالث: وفيه دراسة لمجموعة من الروايات، متسائلاً، في صيغة إنكارية: هل هذه أحاديث أم إسرائيليات؟.

قدّم الأستاذ مصطفى بوهندي، في القسم الأول من الكتاب، تعريفاً بأبي هريرة، واصفاً إيّاه بأنّه من أكثر رواة الحديث حسب ترتيب العالمية، فقد بلغت رواياته (8740) على (62169) من مجموع الأحاديث، بما يمثّل (14.05%) منها (ص3).

لم يكن هذا التمهيد اعتباطياً، بقدر ما يحمل الكثير من التساؤلات، التي يجب أن تُطرح، على اعتبار أنّ أبا هريرة من الصحابة المتأخرين، وقد جاوز، في روايته، ما لم يقل به الأوائل ممّن عاش مرافقاً وملازماً للرسول صلى الله عليه وسلم في مختلف فترات حياته، كأبي بكر، وعمر بن الخطاب، وغيرهما.

يروي البخاري، بسنده إلى أبي هريرة: إنّ الناس يقولون أكثر أبو هريرة. وهو سؤال تكرّر بصيغ متعدّدة، وفي مصادر مختلفة، ما يوحي بأنّ أبا هريرة كان منشغلاً بما يُقال ويُحكى عنه من الأوساط المعاصرة له، فلولا أنّ رواياته قد شكّلت، في حينها، مثار تساؤلات كثيرة، لما تكرّر سؤال الإكثار، فالإكثار، بصيغة المبالغة، يُعدّ قدحاً في حقّ من كان ملازماً للرسول صلى الله عليه وسلم كما تحكي رواياته. ولم يقف استنكار المعاصرين له على فعل الإكثار وحده -يقول بوهندي- بل تجاوزه إلى المخالفة مع أحاديث كان يرويها المهاجرون والأنصار.

لقد كان الدّافع الأساس لأبي هريرة ليبرّر هذا الكمّ الهائل من الروايات هو الخوف من كتمان العلم، وهذا -من وجهة نظر بوهندي- يخالف روايات رواها أبو هريرة نفسه عن الأوعية، والأكياس، التي كتم ما فيها، خوفاً من أن يقطع هذا البلعوم، فهل يخشى أبو هريرة الله أم الناس؟ (ص8).

يحتجّ أبو هريرة، أيضاً، بملازمته الرسول صلى الله عليه وسلم وبأنّه يحفظ ما لا يحفظه الناس، وهو ما يثير السؤال الطبيعي في هذا السياق: لماذا روى هذه الملازمةَ أبو هريرة نفسُه؟ ولماذا لم يروها غيره؟ هذه التساؤلات نفسها سيثيرها بوهندي في مبحث (يحفظ فلا ينسى)، وهو يقصد أبا هريرة، فحديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالحفظ، وبسط ردائه، لم يروه إلّا أبو هريرة نفسه، دون غيره، مع أنه كان في جمعٍ من الصحابة.

ينتقل بنا مصطفى بوهندي إلى شقٍّ ثانٍ من كتابه، في شكل تساؤل إنكاري: أصحابيٌّ أبو هريرة أم لا؟. كان هذا السؤال النقطة، التي أفاضت الكأس، وهيّجت، إلى حدّ كبير، الانتقادات ضدّ الكتاب، فتبعاً لمجموعة من الروايات، التي بنى عليها أصحاب التاريخ والرجال تراجمهم، يكون -حسب بوهندي- أبو هريرة قد أسلم بعد الثلاثين من عمره بسنوات؛ أي: ما يتراوح بين ثلاث وتسع سنوات، وكانت وفاته عن عمر ثمانٍ وسبعين سنة، وهو ما يفيد أنّ المدة ما بين وفاته وإسلامه تتراوح ما بين خمس وأربعين وتسع وثلاثين سنة، بينما تبيّن الروايات الأخرى أنّ سنة وفاته كانت ما بين سبع وخمسين أوستين، فإذا نقصنا منها المدة ما بين إسلامه ووفاته، نتج لدينا أنّه أسلم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بما يزيد على السنة (ص46).

هذا المشكل، الذي تطرق له بوهندي، ستتّضح خطورته في مبحث التدليس، وهو مبحث من مباحث علم مصطلح الحديث، ويعني عدم ذكر شيوخ الراوي، وإيهام الناس بأنّه هو مصدر الخبر. فأبو هريرة، من خلال مروياته، كان يزعم -حسب بوهندي- أنّه صحابي لازم الرسول صلى الله عليه وسلم في حين أنه -كما تبين- يسقط شيوخه من الصحابة، ومن أهل الكتاب، وغيرهم، ليحلّ محلّهم، فيصبح صحابياً ملازماً للرسول صلى الله عليه وسلم، فتترتب على ذلك إلزامية رواياته، باعتبارها صادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الأمثلة على خطورة مثل هذا التدليس، قاعدة ما يسمّى، عند أهل الحديث، المرفوع حكماً، فلو حدّث أبو هريرة أيّ حديث في مجال العقائديات، أو الإلهيات، ولم يشِر إلى مصدره، فسيعتبره المحدّثون بمثابة المرفوع حكماً، بما أنّ الصحابة عدول، فلا يمكن أن يصدر عنهم إلا ما يفيد سماعهم المباشر من المصدر الأوّل، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.

إنّ ما يؤكد فرضية تعدّد مصادر أبي هريرة هو ما سمّاه بوهندي «الخروج إلى الطور». فحسب هذا المبحث، قد التقى أبو هريرة بكعب الأحبار، وهي شخصية معروفة في التاريخ الإسلامي بنقلها أخبار أهل الكتاب، فرواية مالك عن أبي هريرة تؤكّد هذا اللقاء، حيث يقول: خرجت إلى الطور، فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه، فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاللقاء الأخير، وهو شهادة من أبي هريرة على نفسه، تطرح مجموعة من علامات الاستفهام حول ماهية هذا الخروج، وسببه، ولماذا يضطرّ أبو هريرة إلى هذا السفر. أكان طالباً لعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أم طالباً لعلم أخبار أهل الكتاب؟ (ص63).

لقد كانت هذا الرحلة إيحاءً من أبي هريرة بضرورة شدّ الرحال إلى معابد اليهود، وأحبارهم، فيكون بذلك هو الواسطة، أو جسر العبور الذي، من خلاله، تمّ تمرير الثقافة الكتابية في شِقَّيها اليهودي والمسيحي إلى الثقافة الإسلامية، لغرض في نفس أبي هريرة قد قضاه. فعلى الرغم من اعتراض بصرة بن أبي بصرة على أبي هريرة، وسفره إلى الطور، إلا أنّه استطاع، من خلال روايته، أن يمرّر مجموعة من المؤشرات والدلالات؛ التي تحتفي بقدسية المكان، والشخصية العالمة كعب الأحبار، وأسبقية الرواية الكتابية على ما هو موجود لدينا.

يختتم بوهندي كتابه بمبحث (أحاديث أم إسرائيليات؟)، وهو يشير إلى مجموعة من الروايات الحديثية؛ التي تضمّها مجموعة من المصادر الإسلامية، وتنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حين أنّها روايات منقولة عن أهل الكتاب، أو توافق، إلى حدّ كبير، مع ما تضمنته المدوّنات الكتابية، والمصادر اليهودية والمسيحية، سواء منها القانونية والرسمية، أم غير القانونية والمنحولة.

إنّ كتاب (أكثر أبو هريرة)، على الرغم من صغر حجمه، قد أثار مجموعة من التساؤلات المعرفية والمنهجية، في كيفية تناول الموروث الديني، لاسيما ذلك الموروث المرتبط، بشكل أساس، بالمرويات الحديثية. والمدخل، الذي اقترحه بوهندي لتنقية هذا التراث، مدخل منهجي، يستفيد من التراكم الذي أحدثه العديد من المفكرين والباحثين في الحقل الديني، وذلك بتفعيل قواعد نقد المتن، بدل الاقتصار على آليات السند، لكنه أضاف، إلى سابقيه، ما سمّاه الإضافة النوعية للقرآن الكريم.

وعلى الرغم من أهمية هذا التفعيل، داخل الحقل الديني المغربي، إلا أنّ اعتباره المدخل الوحيد لقراءة الموروث الديني يحتاج إلى تضافر الجهود للكشف عن المضامين والآليات؛ التي يشتغل بها هذا التراث، ولعلّ الانفتاح على الدرس الإنساني، بعلومه ومعارفه، يشكّل أحد هذه التحدّيات.

[1] نشر ضمن مشروع "تجديد الفكر الإسلامي مقاربة نقدية (2) محاولات تجديد الفكر الإسلامي مقاربة نقدية"، تقديم بسام الجمل، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والابحاث.