أنسنة المعرفة وأزمة المحاكاة عندنا


فئة :  مقالات

أنسنة المعرفة وأزمة المحاكاة عندنا

عالم العلم هو عمليّة تثبّت ننجزها باستمرار.. لذلك فإنّ العلم المعاصر يتأسّس على فكرة المشروع، وليست طرق الفهم وأدوات الاختبار والتجربة إلاّ نظريّات مجسّدة وقع تحويلها إلى أدوات[1]. تشير هذه الفكرة إلى مبدأ أساسي مميّز لفلسفة العلوم، مؤدّاه أنّ لا حقيقة في العلم، ولا معرفة منجزة، وتستند إلى اكتشاف ثان ذي جذور كانطيّة ينسف فكرة الموضوعيّة، يتمثّل في الجدل المستمرّ بين الذات والموضوع في كلّ بحث علميّ.

ليست قيمة هذا التقرير، في كونه أدخل على المعرفة العلميّة فكرة النسبيّة والتنسيب، تلك فكرة وقع التنظير لها منذ عهد الطريقة الديكارتيّة، وليست قيمته أيضا في تأكيده التفاعل القارّ بين النظريّ والتطبيقي، في المعرفة، تلك أيضا فكرة نجدها في تاريخ أبعد في تاريخ الإبستمولوجيا، إنّما في أثرها الواضح على الإنتاج المعرفي، لمّا حوّلته إلى عمل مستمرّ على الموضوع والطريقة. هذا في الواقع جوهر الفكرة الأخرى التي استنتجها باشلار (Gaston Bachelard) أيضا، لمّا قرّر أنّ لا طريقة في العلم قادرة أن تضمن باستمرار قيمتها[2]، ومن ثمّ فلا قيمة لبحث علميّ في موضوع، ما لم يغيّر منهجه وأدواته، وموضوعه أيضا.

إذا كان هذا الاستنتاج الإبستمولوجي حول فلسفة العلوم، صالحا للعلوم الصلبة القائمة حول مواضيع ماديّة، فما بالك بصلاحيّته بالنسبة إلى العلوم الإنسانيّة. الحقّ أنّ هذا التقسيم علوم صلبة، علوم إنسانيّة، وقع فضح تهاويه منذ مدّة طويلة، في شبه عودة إلى ظلّ شجرة المعرفة القديمة التي أسّسها أفلاطون وأرسطو، على مركزيّة الفلسفة، جذعا رئيسيّا لشجرة العلوم. على هذا الصعيد يبدو إدغار موران (و 1921م) Edgar Morin)) في العصر الحالي أبرز المنظّرين له، في ما يسمّيه الإبستمولوجيا المركّبة أو التركيبيّة، لا سيما في إدانته لعمليّة تفتيت المعرفة إلى مجالات وتخصّصات، تفصل بين العلوم الطبيعيّة والعلوم الإنسانيّة، وفي حديثه عن تعدّد الأبعاد الفيزيائيّة، والبيولوجيّة، واللسانيّة، والنفسيّة، والسوسيولوجيّة، المكوّنة للمعرفة والمنتجة لها، فالإنسان كما يقول تلميذ باشلار جورج غسدورف (ت2000م) (Georges Gusdorf) كون لا يمكن تعريته، بصفة تامّة، بمقتضى حريته فهي طاقة مبدعة تخرجه من قيود الجسد والاطار الذي يعيش فيه بوصفهما عنصري الحتمية المحددين لوجوده ولوعيه فكلّ وضوح في الفهم الذي ينتجه حول الموضوع، لا سيما متى كان هذا الموضوع من متعلقاته، هو تغطية وزيادة في الغموض الذي يلفّ الظواهر كما يلف الإنسان كما يقرّر هايدغر (ت1976م) (Heidegger).

نستحضر هذه القواعد الإبستمولوجيّة الحاكمة للمعرفة الراهنة بالإنسان، ولعلومه، ونحن نقرأ الخطاب المتعالم للإسلاميين حول الواقع والإنسان، وهم يناورون في ميدان السياسة من أجل الاستحواذ على الدولة، فكما أنّه لا وجود للإنسان في هذا الخطاب، فإنّه لا وجود أيضا لمبادئ هذه الإبستمولوجيا الإنسانويّة، يبدو أنّ عقدة القبّة السماويّة كما يقول حسن حنفي، تبقى من اللاّمفكّر فيه عندهم، فتمنع كلّ تفكير في إرجاع كلّ الأمر إلى الإنسان، وتحصره في يد الإرادة الإلهيّة، فبدل أن يبحث في إرادته، يبحث في الإرادة الإلهيّة، وبدل أن يكون الغموض الذي يسعى إلى فكّه هو الغموض المميّز لوجود الإنسان، يبقى الغموض المسيطر على الأدمغة غموض العالم الإلهي. إنّ هذا الارتهان إلى المسار القديم لمجريات عمليّة الفهم الميتافيزيقي، تظهر ملامحه في أكبر مقولات التفكير الحزبي السياسيّ الإسلاموي، من قبيل مفهومي الحاكميّة والشريعة، كما في أبسطها، من قبيل الإدانة المستمرّة والمتكرّرة للعلمانيّة واعتبارها عداء للإسلام، في خلط شنيع بينها وبين الريبيّة.

من البديهي أنّ من أخطر نتائج هذا الامتناع عن الاندراج في النسق الذي لا يمكن أن يردّ لتطوّر المعرفة بالإنسان، استمرار الجهل بالإنسان وبمتطلّباته، قياسا إلى شعوب مجاورة، تتحدّانا كلّ يوم، بمشاهد حرصها المهووس على إرضائه، تماما كما يحرص القائمون على وعينا الجمعيّ على إرضاء اللّه، ولكن يبدو أنّ خطورته المباشرة، في فترة تأسيسنا للدولة من جديد، أنّه يستمرّ من أبرز الأسباب المموّلة للعنف.

لا يدرك الكثير من الإسلاميّين أنّ العنف ممارسة زئبقيّة تتأبّى عن الحصر، وأنّها تتجاوز الفعل الماديّ إلى الفعل اللّغوي وإلى الموقف الضميري حتّى، هذه أمور وصفها الفرنسيّ إيف ميشو(و 1944م) (yves michaud) بين كثيرين منذ الثمانينات. كما لا يدركون أنّ العنف قد يكون في مجرّد التفكير في كون الآخر المغاير ضالّ عن سبيل الرشاد، فهو غير حامل للقيمة، وأنّ ذلك من أكبر موانع التسامح، تلك القيمة التي لا دولة مدنيّة من دونها إن أردنا العمل بوصيّة أبرز منظّريها جون لوك.

يلجّ الإسلامويّون في معاندة هذا التقرير، بتأكيدهم المستمر، أنّ السلطة في الإسلام مدنيّة، دون أن يلتفتوا مطلقا إلى القاعدة اللاّهوتيّة المقصية للإنسان التي يعتمدون عليها في فهم معنى المدنيّة، ويستندون إلى حدّ الآن إلى الحجج نفسها التي استخدمها أسلافهم المصلحون، في تأكيد تسامح الإسلام ومدنيّة السلطة فيه من المنظور العقائدي المكرّس دون مراجعة. فلا يصلون مطلقا إلى كون هذه المدنيّة لا يمكن أن تتحقّق ما لم يقلبوا مسار تفكيرهم في اتّجاه أولويّة الإنسانيّ على الموضوعيّ، والفيزيقي على الميتافيزيقي، ولم يتفطّنوا إلى التمركز الإنساني لكلّ معرفة بكليهما.

ثمّة هنا تقابل صريح بين الإسلامويّين وبين نظريّة الدولة عند مؤسّسيها: يقول العقديّون، وعلى رأسهم الأنجليزي توماس هوبس إنّ الدولة كانت حلاّ للعنف الأصليّ، لحرب الكلّ ضدّ الكلّ، هذه فكرة أساسيّة لنشأة الدولة ولاستمرارها -رغم بدايتها الداعمة للسلطة الفرديّة الملكيّة- في العمل على تجسيد الديمقراطيّة في شكلها التمثيلي خاصّة. ورغم انطلاقها من فرضيّة ذات مضمون اختباري ضعيف، فإنّها كانت حلاّ نظريّا، لواقع تاريخي عمليّ، هو واقع خروج أوروبا من فترة عنف شامل سبّب حربا تعرف بالحروب الدينيّة، وحرب المائة عام، وحرب الثلاثين. النظريّة كانت في سياق الإنسيّة العامّة انقلابا في مفهوم الشرعيّة، حاولت افتكاكه من احتكار السلطة الدينيّة، لتمنح إلى الإنسان، كان الدين في أوروبا وإلى حدود تلك الفترة، أكبر أداة شرعنة للوجود والسلطة، وكان هو الحلّ للفوضى ولحرب الكلّ ضدّ الكلّ الذي أراده هوبس أن يكون في الدولة. ومن ههنا كانت الإنسيّة العامّة هي المدخل لحوار المتنازعين حول المشروع المجتمعي، فخلّصته بتمحورها حول الإنسان من تعارض مساري التفسير الميتافيزيقي المتواجهين، ولكنّها خلّصته أيضا ممّا كان سببا في نظرها في دورة العنف الفارغة أي الدين.

بالمقابل يبدو أنّ تفسير روني جيرار(و 1923م) (René Girard) حول نشأة الدين بأنّه حلّ لأزمة المحاكاة (la crise mimétique )، هو القابل لاحتواء الذهنيّة الإسلامويّة في تصوّرها للسياسيّ الدينيّ بالضرورة، العنف هنا حاضر، كما في تفسير هوبس لنشأة الدولة: حالة الطبيعة التي وصفها هوبس، هي الحالة الأنتروبولوجيّة التي استنتجها جيرار من دراسته للأديان الأوّليّة، والأديان الكبرى التاريخيّة، حالة عنف أصليّ، متضخّم ككرة الثلج، بآليّة التقليد أو المحاكاة المنطلقة من الرغبة الفرديّة في التملّك، التي فسّر بها روسو نشأة اللاّمساواة. تعمل آليّة المحاكاة على دفع الجميع في اتّجاه التنازع على المصلحة، وسرعان ما تنسّي المحاكاة موضوع الرغبة أو المصلحة، ليتحوّل النزاع إلى صراع يغذّي نفسه بنفسه دون موضوع، إلى درجة تهدّد المجموعة في وجودها. وههنا بالذات تتدخّل آليّة المحاكاة أيضا لتقدّم حلّها المنقذ من دورة الحرب الفارغة، فتحوّل محور الأزمة، من مركز المجموعة إلى هامشها، إلى واحد منها أو جهة، تتألّب بقيّة المجموعة ضدّها، فتشبع نهمها للعنف من خلالها، وتنهيه. هكذا تخلق المجموعة الدين أو تخضع له بوصفه السرديّة التي تقود آليّة المحاكاة نحو خلاص المجموعة من العنف المهدّد لوجودها.

قد لا يطابق هذا التفسير تفاصيل النظريّة الإسلامويّة في السياسيّ الدينيّ، ولكنّه صالح لكشف اختلاف المنظورين الدولتي والدينيّ الإسلامويّ للسياسيّ وللإنسان، وللعنف الذي يمارس باسمه وعليه. نحن هنا إزاء منطقين في التفكير، الأوّل إنسيّ يخضع كلّ شيء للإنسان حتّى الدين، والآخر لاهوتيّ ينسّي الإنسان دوره في صناعة العالم وإنتاجه، يواجه الأوّل العنف ويوجّهه لخدمة الإنسان، بينما يبقى هدف الثاني من العنف مواجهة للإنسان من التعدّي على دين المجموعة، أو حلّها للعنف.

رغم الصلاحيّة العالية لهذه الأمثلة التي تكتسبها من اتّساع قرائنها الواقعيّة، بوصفها مشروعا يقوم على الحجّة، فهي لا تنجو من الاختزاليّة الممكنة في كلّ أمثلة. فحرب الكلّ ضدّ الكلّ التي يعيدها تودوروف (و 1939م) (Todorov) إلى فردانيّة الإنسان ضدّ تصوّرات مدنيّته الفطريّة، تبقى متجسّدة في العنف الدولتي كما في العنف الدينيّ، مضى زمن طويل منذ عرّت آرندت (ت 1975م) (Arendt) العنف الملازم للدولة، كما مضى زمن طويل منذ عرّى فلاسفة التنوير العنف الملازم للدين. ولكن مقابل خضوع الدولة كما الدين في مهدها الغربيّ لكلّ شروط الأنسنة، في مستويي النظر والعمل، ممّا يحوّلها كالمعرفة إلى مشروع لا ينتهي، فيحاصر العنف في كلّ مرّة بأدوات جديدة، يبدو أنّ الدين في أوطاننا يظلّ مشروعا جامدا إذ يتأبّى عن الأنسنة، فيستمرّ العمل تماما كما يبقى النظر نسقا منتهيا مكتملا، ويبقى العنف بالتالي دليلا على استمرار أزمة المحاكاة، التي تجد عندنا في الدين ما يغذّيها لا ما يحلّها.

فما لم نؤنسن وعينا المعرفي بالدخول الفعليّ في الزمن الإبستمولوجي لعلوم الإنسان بوصفها مشروعا لا ينتهي، وبوصفها مقاربة للإنسان المركّب متعدّد الأبعاد، وما لم نجعل وعينا الدينيّ خاضعا لهذا الوعي المعرفي، لا يتوقّع منّا أن نجد لحرب الكلّ ضدّ الكلّ، ولأزمة المحاكاة القارّة فينا، حلولا تقينا خطر تحوّل الدين إلى أداة حرب لكلّنا ضدّ كلّنا، تغذّيها أزمة المحاكاة الماثلة عندنا.


[1] نقلا عن غاستون باشلار، الفكر العلمي الجديد (بالفرنسيّة)، 1993، ص 13

[2] المصدر السابق، ص 11