إدغار موران والفهم المركّب للديمقراطيّة


فئة :  مقالات

إدغار موران والفهم المركّب للديمقراطيّة

المقدّمة

تتحدّد علاقة الفرد بالدولة ومنزلته فيها بالنّظر إلى طبيعة الحكم ونوعيّة العلاقة الّتي تربط الحاكم بالمحكومين؛ فما يكون عليه الأفراد من وضع في الحكومة الاستبداديّة مثلاً، يختلف عن وضعهم في الحكومة الديمقراطيّة، ولكن إذا كان التّفكير في مسألة الديمقراطيّة قد اقترن بالتّفكير فيما به يكون الشعب سيّدا وحرّاً، إلاّ أنّ هذه السيادة الّتي قد تجد شرعيتها في الشعب يمكن أن تتحوّل إلى مدخل لتكريس ضرب من التّفاضل والتّمايز بين أفراد الدولة الواحدة. هو ذا الموقف الّذي حاول إدغار موران لفت الانتباه إليه في الفصل السابع من كتابه تربية المستقبل[1]. ولعلّ هذه الملاحظة الّتي أبداها كاتبنا قد تشرّع من زاوية ما بإعادة النّظر في مقتضيات الديمقراطيّة، لاسيّما في علاقتها بمعاني التعدّد والصراع والحقّ في الاختلاف. كما تشرّع من زاوية أخرى إعادة النّظر في أحوال معيشنا الموسوم بضروب شتّى من أشكال الاغتراب والاستلاب، فكيف يجب أن نفهم الديمقراطيّة؟ هل تعني الديمقراطيّة ببساطة سيادة الشّعب المواطن، أم إنّها لابدّ أن تُفهم بوصفها نسقاً مركبّاً يتغذّى من الصراع والتعدّد إلى جانب التّوافق؟

وإذا صحّ أن لا معنى لفعل سياسي إلاّ في إطار من التعدّد والصراع والحقّ في الاختلاف؛ ألا يمكن أن توظّف هذه الحقوق ضدّ الممارسة الديمقراطية نفسها؟ ولكن ماذا بقي للديمقراطية في ظلّ هيمنة الآلة التكنوبيروقراطيّة في المشهد المعاصر؟

الديمقراطيّة في معناها البسيط تعني سيادة الشعب المواطن، وهي مرتبطة بشكل عضوي بالإرادة العامّة والإجماع التوافقي  

1. الفهم البسيط للديمقراطيّة

يستهل موران الفصل السابع من كتابه تربية المستقبل والموسوم بإيتيقا النوع البشري برفض التّحديد البسيط للديمقراطيّة معتبرا أنّه لا يمكن "أن نحدّد الديمقراطيّة بطريقة بسيطة"[2]. فماذا تعني الديمقراطيّة في معناها البسيط؟

إنّ الديمقراطيّة في معناها البسيط تعني سيادة الشعب المواطن، وهي مرتبطة بشكل عضوي بالإرادة العامّة والإجماع التوافقي. وبعبارة أخرى، فإنّ السيادة هي جمع أصوات المواطنين كافة، لاستخراج الأكثرية منها. وعلى النّحو، فإنّ الديمقراطية إذ تكرّس مبدأ السيادة الشعبيّة، فإنّها تكرّس في الآن ذاته نظاماً تمثيليّا يقوم أساسا على مبدأ التّوافق أو التّعاهد. ويفيد التّوافق أو التّعاهد، ههنا، مجموع المواثيق أو المواضعات الأساسيّة المنظّمة للعلاقات بين الأفراد بعيداً عن حكم الأهواء والانفعالات. وبهذا التّقدير، فإنّ النّظام الديمقراطي يُفهم كمقابل للأنظمة الكُليانيّة أو الشموليّة. كما يُفهم كنقيض لنظريّات التّفويض الإلهي؛ أي للسلطة الّتي تجد شرعيتها فيما هو ديني أو لاهوتي. وهذا يعني أيضا أنّ الديمقراطيّة بقدر ما تمثل تجاوزا لأشكال السيادة المتعالية، فهي تجعل هذه السيادة رهينة التّلازم بين إرادة الأفراد والإرادة العامة الّتي تعبّر عن إرادة الشعب الممثل الشّرعي لكلّ سيادة. هو ذا الموقف الّذي يدافع عنه جون جاك روسو بقوله: "حالما يوجد سيد لا وجود بعد لشعب يتصف بالسيادة"[3]. ولكن ماذا لو تبيّن أنّ هذا الفهم للديمقراطية لا يمكن أن يكون هو الفهم الأنسب الّذي يليق بفكرة سيادة الشعب؟

2. مبرّرات اعتراض موران على الفهم البسيط للديمقراطيّة

على الرغم من أنّ الديمقراطية في معناها البسيط - من منظور إدغار موران - قد مهدّت لسيادة الشعب المواطن والتّأسيس العقلاني والتّعاقدي للدولة ولنظام الحكم فيها، إلاّ أنّها قد فتحت بذلك المجال لشكل جديد من أشكال الديكتاتوريّة أو ما اصطلح الكاتب على تسميته بـ "ديكتاتورية الجماعة على الأقليّات"، وهذا يعني أنّ مبدأ التّوافق المفضي إلى حكم الأغلبيّة لا يمكن أن يكون هو المبدأ الواحد والوحيد لضمان ممارسة ديمقراطيّة حقيقيّة وفعليّة. وهذا يفترض أنّ الديكتاتوريّة من وجهة نظر موران يمكن أن تتزيّا بأزياء مختلفة، ولكنّها تبقى على تصاريف الأحوال ممارسة مضادّة لما يقتضيه الفعل الديمقراطي الحقيقي، ولما يجعل الشعب لا جديراً بمواطنته فحسب، بل وأيضاً لما يجعله جديراً بإنسانيته كما سنبيّن ذلك لاحقا. وبالنّتيجة، فإنّ ممارسة ديكتاتوريّة الجماعة على الأقليّات لا يشكّل خطراً على الديمقراطيّة فحسب، بل وأيضاً على ما به تتغذّى الأفكار وتتلاقح، وما به تحافظ الإنسانية على شرط وجودها.

ولكن، إذا صحّ بأنّ الديمقراطية في معناها البسيط لا يمكن أن تستوفي ما به يكون المواطن جديراً بمواطنته وسيادته في الآن ذاته. فضمن أيّة شروط يمكن أن نتحدّث عن ممارسة ديمقراطيّة حقيقيّة بعيداً عن أشكال الهيمنة والاستبداد؛ بمعنى آخر، كيف يمكن أن نضمن ممارسة ديمقراطية حقيقيّة بعيداً عن أشكال الإقصاء والتّهميش؟

3. الديمقراطيّة باعتبارها نسقا مركّبا

يبدو أنّ اختزال بعض الفلاسفة الديمقراطيّة في مبدأ التّوافق لم يكرّس فكرة سيادة الشعب فحسب، بل أصبحت هذه السيادة مصادرة مطلقة وخاصة حينما يتعلّق الأمر بسيادة الحكم المعبّر عن الأغلبيّة. هو ذا الموقف الّذي يعارضه موران باستحضاره لفكرة التّقنين الذاتي لمفهوم السيادة (l’autolimitation de la souveraineté). وهذه الفكرة تسوّغ لنا أن نفترض أنّه لا شرعيّة للسيادة المطلقة، سواء تعلّق الأمر بسيادة الشعب أو بسيادة الدولة لأنّ السيادة لا تكتمل إلاّ بالجمع بين فكرة التّدبير ومقتضى الالتزام، وضمان التآلف بين واجب الطاعة وشروط المواطنة بما هي تكريس لمنظومة حقوقيّة تنأى عن كلّ أشكال التّمييز والتّفاضل بين الأفراد أو ما عبّر عنه موران في نصّه بــ "حقّ الأقليّات وحقّ المحتجين في الوجود وفي التعبير"[4]، كما تتضمّن فكرة التّقنين الفصل بين السلطات كشرط لتحصين الدولة من الاستبداد ومن الاستئثار بالشأن العام. وإذا سمحنا لأنفسنا هنا باستعارة لغة مونتسكيو لأمكننا التّعبير عن هذا الموقف بالقول: "كلّ سلطة لا حدود لها، لا يُمكن أن تكون شرعيّة". ولكن كيف يجب أن نفهم علاقة الديمقراطية بالتعدّد والصراع؟

إذا كان الشعب يدين للديمقراطية بسيادته، فإنّ هذه السيادة تبقى مع ذلك - من وجهة نظر موران - في حاجة إلى التعدديّة وإلى أنواع من الصراعات إلى جانب التوافق وفكرة التّقنين الذاتي. ومفهوم التعدّد كما يمكن أن يُفهم في سياقه النصّي لا يعني تعدّدا في البرامج السياسية فحسب، بل يشمل الأفكار والقيم والآراء ومصادر الخبر الصحفي. وهذا يفترض أنّ الديمقراطية بحسب الكاتب لا تتقوّم، باعتبارها إشكاليّة سياسية فحسب، بل هي في صميمها إشكاليّة متعدّدة الأبعاد؛ أي أنّها بقدر ما تعمل على ترسيخ فكرة المواطنة وجعل الإنسان طرفاً فاعلاً في الحياة السياسيّة يتمتّع فيها الأفراد بحقوقهم كمواطنين، إلاّ أنّها تمثّل في الآن ذاته مدخلاً لتغذية روح التعدّد على المستوى الفكري والثقافي والاجتماعي. وهذا معناه أنّ الإشكال لم يعد مجرّد إشكال سياسي، بل هو في صميمه إشكالاً إيتيقيّا متعلّق بالوجود وبالفعل أو بالوجود وكيفيّة الوجود. ولكن من أجل ماذا تبقى الديمقراطيّة في حاجة مثل هذا التعدّد والتنوّع؟

إنّ حاجة الديمقراطيّة إلى التعدّد تنبع من حاجتها إلى ما به تغتني الأفكار وتتلاقح وإلى ما يسمح "ببناء علاقة غنيّة ومركّبة بين الفرد والمجتمع"[5]. وهذا معناه أنّ التعدّد من شأنه أن يضفي الحيوية والتوازن على الحياة الديمقراطيّة، ويمكن أن نتبيّن هذه الحاجة على ضوء الأسلوب الّذي توسّله الفيلسوف في نصّه، حيث عمد إلى عقد مماثلة بين حاجة الطبيعة إلى التنوّع وحاجة الديمقراطيّة إلى التعدّد[6]. ومغزى هذا التّماثل هو تقرير وجود رابطة ضروريّة بين الحياة والتعدّد، فسواء تعلّق الأمر بالمحيط الحيوي أو بالديمقراطيّة، فإنّه في كلتا الحالتين لا يمكن أن نتصوّر حياة بلا تعدّد أي ما به يتحقّق التوازن على المستويين الأيكولوجي والإنساني. ولكن، هل من معنى للتعدّد في غياب ما اصطلح عليه موران في نصّه بـصراع الأفكار والآراء (conflits d’idées et d’opinions)؟

قد يكون من المفيد أن نتقصّى على ضوء هذا التمشّي مفهوم الصراع كما ورد في سياقه النصّي. إنّ الصراع بوصفه مقتضى أساسيّاً من مقتضيات الديمقراطيّة المركّبة لا يعني صراعاً ماديّا، بل هو في صميمه صراعا بين الأفكار أو بالأحرى هو ذلك الصراع الّذي يجعلنا نستعيض عن المعارك المادية بمعارك فكريّة. وتتبدّى حاجة الديمقراطيّة إلى هكذا نوع من الصراعات من أجل تنظيم التناقضات والاختلافات حتّى لا يتحوّل الاختلاف إلى خلاف، ومن ثمّة إلى شكل من أشكال الانحياز والتعصّب، بل وحتّى إلى ضرب من إرادة الإقصاء والإبادة كالإبادات التي تعرّضت لها الأقليّات على مرّ التّاريخ، وضروب المحن الّتي واجهها العلماء والفلاسفة بسبب اختلاف أفكارهم عن الآراء السائدة وسلطة المعارف الدّارجة. وربّما من أجل كلّ ذلك، تأتي دعوة موران للتأكيد على أهميّة المعارك الفكريّة كشرط لتلاقح الأفكار وتجدّدها ومن أجل إضفاء "الحيويّة والإنتاجيّة (vitalité et productivité)"[7] على الحياة الديمقراطية. ولعلّ طبيعة هذه المعارك تأتي لتذكرّنا بصراعات الفلاسفة في فضاءات أثينا العموميّة أو بالمناظرات والمراسلات واللّقاءات الفكريّة الّتي كانت تستفزّ العلماء، ليجودوا بأفضل ما لديهم لاسّيما في المجالين العلمي والفلسفي وما يتّصل بهما من مشكلات. ولكنّ قيمة الصراع لا تكمن - من وجهة نظر موران - في كونه يمثّل مدخلاً لحوار الأفكار وتبادلها فحسب، بل وأيضاً باعتباره شرطا من شروط "تحقّق تلك الأفكار في الواقع، وتحديد من سينتصر مؤقتا"[8]. وبهذا التّقدير، فإنّ الديمقراطية الّتي يدافع عنها موران ليست مفهوماً طوباوياً يتعلّق بمدينة الأشباح أو مدينة الإرادات المجرّدة، بل هي في صميمها فعلاً يروم تحرير الأفكار من وهم التمركز والتفوّق نحو ما به يتمكّن الشعب من أن يكون قادراً على تدبير اختلافه وبناء مشاريعه "والعمل على تطبيق تلك الأفكار"[9] في الواقع الحي "حيث يكون المجتمع والأفراد قادرين على الانفتاح والتعاون فيما بينهما، وعلى تنظيم ومراقبة بعضهما البعض"[10].

إنّ الديمقراطية من وجهة نظر موران هي أكثر من مجرّد نظام سياسي؛ لأنّها بقدر ما تجعل الإنسان يتمتّع بحقوقه تجعله أيضاً جديراً إنسانيته  

وفي سعيه إلى ترسيخ فهم مركّب للديمقراطية، يعتبر موران أنّ هذا النّسق لابدّ أن يُغذّي ويتغذّى من قيم الحرية والمساواة والإيخاء[11]. وإذا ما التمسنا تفسيراً أوليّاً لهذا الأمر، أمكننا القول أنّ مصير الأنظمة المستبدة سيكون نفس مصير الأنظمة الملكية الّتي كرّست شتّى أنواع الفساد والتفاوت إبان قيام الثورة الفرنسية سنة 1789؛ بيد أنّه وبغضّ النّظر عن علاقة هذا الشعار بالثورة الفرنسية، فإنّ الديمقراطيّة تبقى في حاجة إلى الحرية والمساواة كحقوق مدنية يتمتّع بها الأفراد وفقاً للتشريعات والقوانين، وهذه الحقوق هي الّتي ستسمح لهؤلاء الأفراد أن يتصرّفوا على أساس القانون لا على أساس القوّة، وأن يعملوا على تطوير وحدة مركّبة إنسانيّة.

4. الديمقراطية في مواجهة الآلة التكنوبيروقراطية

إنّ إعطاء مفهوم الديمقراطيّة قيمته الّتي يستحقّ يؤدّي إلى اعتبار الفعل السياسي مساراً يخطّ صورة الديمقراطيّة، ويرسم منزلتها لا بوصفها واقعة ثابتة أو ماهية معطاة، بل باعتبارها نسقاً منفتحاً على ممكن تكون مسؤوليّة المواطن تغذيته والاضطلاع به ضمن مشروع يختاره ويبنيه. وعلى هذا النّحو، يمكن القول، إنّ الديمقراطية من وجهة نظر موران هي "أكثر من مجرّد نظام سياسي"[12]؛ لأنّها بقدر ما تجعل الإنسان يتمتّع بحقوقه تجعله أيضاً جديراً إنسانيته. ومع ذلك يبقى الإسهام الموراني في هذا مجال التّشريع لحقّ المواطن في مقاومة كلّ أشكال الإقصاء والتّهميش، بالإضافة إلى التأسيس لدولة القانون ضماناً للحقوق الأساسيّة، لأنّ تأسيس الدولة على مبدأ التعاقد لا يفيد ضرورة انتظام الحياة السياسيّة وفق نظام ديمقراطي. وبهذا الاعتبار، تنفرد هذه الأطروحة بتجاوزها بداهة اعتبار النظام الديمقراطي نظاماً مثاليّاً غير قابل للنقد أو المراجعة، بيد أنّ نقد الديمقراطية لا يعني رفضها، بل الوقوف على عيوبها وانزياحاتها "المرتبطة بتفاقم تعقّد المشاكل، وبالنمط المشوّه في معالجتها"[13].

كما أنّ هذه الإفادات رمَت إلى تلمّس غاية مهمّة تتعلّق بمراجعة مفهوم الديكتاتوريّة في دلالاته الكلاسيكيّة خاصّة وأنّها أبرزت أنّ سلطة القوانين لا يمكن أن تحصّن الأنظمة الديمقراطيّة من الاستبداد. ويكون الأمر بالمثل إذا ما تطرقنا إلى مفهوم المقاومة، فالمقاومة لم تعد تعني مع موران القضاء على أشكال الخلاف، بل هي في صميمها تشريعاً للحقّ في الاختلاف، وذلك عبر خوض شتّى أنواع الصراعات الفكريّة، فأن نقاوم معناه أن ننجح في تحويل المعارك من معارك مادية إلى معارك فكرية كما فعل سقراط، رغم الأحكام الجائرة الّتي سُلّطت عليه.

ولكن إذا صحّ بأن لا معنى للديمقراطية إلاّ ضمن أفق مركّب، فما الّذي يضمن ملاءمة هذا الفهم للمشهد الّذي يعيش على وقعه الإنسان المعاصر، وبخاصة في ظل سيطرة الفكر العولمي ورغبة القوي في تعميم نموذجه الحضاري؟

إذا كان لا جدال في أنّ وهم التفوّق يشكّل عقبة أمام تحقيق الشعب لسيادته الفعليّة، فلابدّ أيضاً من الاعتراف بأنّ وهم تجاوز المخاطر المحدقة بديمقراطيات القرن 21 لا يقلّ خطورة عن الوهم الأوّل، ذلك أنّ هيمنة الآلة التكنوبيروقراطية بقدر ما أدّت إلى اختزال ما هو سياسي فيما هو تقني واقتصادي أدّت إلى استتباب سيادة الخبراء على جميع المجالات كما أدت إلى تعميق الهوّة بين من يمتلك المعرفة ومن لا يمتلك إلاّ جزءا ضئيلا منها، وهي نفس السيرورة التي تتحكّم في الانخراط داخل التكنولوجيات الجديدة للتواصل، والتي تميّز الدول الغنيّة عن الدول الفقيرة.

إنّ هذه الآلة الكبرى كما يرى موران "لم تنتج المعرفة والوضوح، بل أنتجت كذلك الجهل والعماء"[14]. وبما هي كذلك، فإنّ آليات التشريط الّتي باتت تُمارس على الإنسان والثقافات والقيم اليوم، لم تعد تقتصر على مفهوم السيادة في إطار الدولة الأمة أو في إطار دولة الرفاه، بل أصبحت عابرة للثقافات والقارات مع رغبة القوي في تعميم نموذجه الحضاري. ومن أجل ذلك، إذا كان من الوجيه أن نتحدّث عن حقوق كونيّة وإنسانيّة من شأنها أن تُعطي الحقّ في الاختلاف، فإنّه يبقى بعد ذلك سؤال أساسي يُمكن صياغته كالتالي: من هو الإنسان الذي سيتكفّل بضمان حقوق الإنسان؟ أو بمعنى أدقّ هل يمكن أن نتحدّث عن سيادة الشعوب بمعزل عن السياسات التكنو-اقتصادية العالميّة وهلاك القيم الكونية أمام هيمنة الفكر العولمي كما تحدّث عن ذلك بودريار ذات نص[15]؟ هذه المواعيد المستحيلة مع قيم الحرية والمساواة والإيخاء في عالم بلا هويّة هي ما يفيد اختلاط كلّ العلامات، وكلّ القيم بما في ذلك أشكال العنف الفكري الّتي باتت تُمارس على الآخر باسم "مبادئ عليا" لا علاقة لها بمبادئ "العقل الكوني" أو بالقيم الكونية والإنسانيّة. ولكن هل يعنى هذا، التّشريع لمنطق الوهم؟ وهل في ذلك ما يبرّر التخلّي عن الديمقراطيّة؟

5. الخاتمة: مستقبل الديمقراطية

باختصار، إنّ ما نحتاجه اليوم هو تعميق البحث في حدود الممكن الإنساني، وذلك باستدراج ما يضمن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وما يجعل "النوع البشري يتطّور في اتجاه الإنسانيّة"[16]. ولكنّ الطريق إلى الإنسانية لا يبدأ بتشخيص ومعالجة أدواء الديمقراطية فحسب، بل وأيضاً بالعمل على تبادل الاعتراف بإنسانيتنا المشتركة، والعمل على تحقّقها فينا وداخل كلّ واحد منّا لأنّ سؤال سؤال "من نحن؟" من وجهة نظر موران يستحيل فصله عن سؤال "أين نحن؟"[17] ومن أين جئنا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ ويترجم موران هذه الأسئلة بلغته الخاصة عندما يعتبر أنّ مساءلة الشرط الإنساني هو أولا وقبل كلّ شيء مساءلة "وضعنا داخل العالم"[18]. ولأمر كهذا، فإنّ الإنسانيّة لا يمكن أن تُفهم بأي حال من الأحوال، ههنا، باعتبارها فكرة مثاليّة ومجرّدة بل بوصفها قضيّة نابضة بالحياة ولكنّها مهدّدة بالموت أكثر من أي وقت مضى. وعلى هذا النّحو، يمكننا كبشر أن نذهب فيما أبعد من المواطنة المحليّة نحو مواطنة عالمية يُفترض فيها المحافظة على الخصوصيّات، كما يُفترض فيها تمرين النّاس على إتيقا إنسية حقًّا، حق الإنسانيّة في الحياة والوجود. فإذا كان الأمر يجري على هذا النّحو حقًّا، أليست الدعوة إلى الكونيّة هي المهمّة الإتيقيّة للسياسة؟

 

لائحة المراجع

  • بودريار (جان)، السلطة الجهنميّة، ترجمة بدر الدين عرودكي، ضمن مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 134-135، شتاء 2006
  • روسو (جان جاك)، في العقد الاجتماعي، ترجمة عبد الكريم أحمد، مراجعة توفيق اسكندر، بإشراف الإدارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي، مصر.
  • موران (إدغار)، تربية المستقبل المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل، ترجمة عزيز لزرق ومنير حجوجي، اليونسكو ودار توبقال للنشر، ط1، 2002

[1] المرجع نفسه، ص 99-108

[2] موران، تربية المستقبل، مرجع مذكور، ص 101

[3] جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي، ترجمة عبد الكريم أحمد، مراجعة توفيق اسكندر، بإشراف الإدارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي، مصر، ص 103

[4] إدغار موران، تربية المستقبل، ص 101

[5] موران، تربية المستقبل، ص 100

[6] انظر: المرجع نفسه، ص 101

[7] موران، تربية المستقبل، ص 101

[8] المرجع نفسه، ص 102

[9] المرجع نفسه، ص 102

[10] المرجع نفسه، ص 100

[11] المرجع نفسه، ص 102

[12] موران، تربية المستقبل، ص 101

[13] المرجع نفسه، ص 104

[14] موران، تربية المستقبل، ص 104

[15] جان بودريار، السلطة الجهنميّة، ترجمة بدر الدين عرودكي، ورد ضمن مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 134-135، شتاء 2006، تحت عنوان عنف عالمي، ص 42

[16] موران، تربية المستقبل، ص 107

[17] موران، تربية المستقبل، ص 45

[18] المرجع نفسه، ص 45