إستطيقا شوبنهاور: نحو نظرية معرفية للفن


فئة :  مقالات

إستطيقا شوبنهاور: نحو نظرية معرفية للفن

إستطيقا شوبنهاور: نحو نظرية معرفية للفن

الملخص:

يروم هذا البحث تبيان أصالة التصور الإستطيقي داخل المنجز الشوبنهاوري من خلال توضيح دور الفن بوصفه معرفة عليا تهدف بلوغ الأصل الميتافيزيقي للوجود؛ إذ ينفذ إلى الغور العميق الموجود بمنأى عن إدراكات الإنسان العادي، وعن العلم الذي يظل حبيس الظواهر الخاضعة لمبدأ العلة الكافية، وهذا يعني أن الفن داخل التصور الشوبنهاوري يتفوق على العلم في إدراك حقيقة العالم المتعلقة بالإرادة، حيث يستطيع تقصي تجلياتها (الإرادة) الكامنة في المثل والتعبير عنها في صيغ فنية تعكس الحقائق الخالدة، وتعبر عنها بواسطة الأعمال الفنية الأصيلة.

مقدمة

قارب شوبنهاور إشكالية الحياة بارتياب شديد، واهتجس منذ البداية بسبر أغوارها والنفاذ إلى حقيقتها معتليا الأسئلة الحارقة التي وضعته في دروب من الحيرة والاضطراب، متسلحا بنظرة ثاقبة وحصافة تتغيا الظفر برؤية كلية تفسر كل ما يحصل داخل العالم؛ إذ تكمن جسارة هذا الفيلسوف في محاولته الدؤوبة لولوج بوابة الحياة في رعبها وتراجيديتها، والحث على القبول بعبثيتها المدمرة من حيث كونها فضاء لممارسة الأفعال غير العقلانية، واستثارة للكائنات كي تسعى نحو خدمة غاية تعلو عليها.

تنبع قوة فلسفة شوبنهاور من شجبها للتفسيرات العقلانية التي دأبت على تقديم مبررات ومسوغات منطقية للحياة؛ فهذه الأخيرة -حسب تصوره- عبثية لا مبرر لها؛ ففي آخر المطاف ليست الحياة سوى مسرح للألم ومجال لابتلاع جميع الكائنات المفتقِرة للمعنى وللغاية، والساعية بلا هوادة نحو شيء لا تدريه، لكن الإنسان يجهل هذه الحقيقة وتغيب عنه حيثياتها، لهذا نلمح الفرد في كثير من الأحيان يُسقط على الحياة معان وهمية، مستندا تارة إلى ميتافيزيقا العقل، وتارة أخرى إلى دوغمائية اللاهوت.

إن صعوبة إدراك حقيقة الحياة واحتجاب ماهيتها أمام الإنسان، يجعل الفرد تائها في دوامة الوجود، يعيش حياة شبيهة بأوديب الذي فقأ عينيه وسار في عتمته دون وجهة، بعدما تراءت له حقيقة جرمه الذي اقترفه دون قصد، هكذا هو الإنسان يعتلي مآسيه دون معرفة عللها، ويُقبل على العيش دون رؤية الخيوط المتحكمة في مصيره، معتقدا أنه الكائن الواعي القادر على تحصيل غاياته وكلما داهمته الخيبة وأحس بفشله في بلوغ المرام التي رسمها لنفسه، ظن أن الأسباب نابعة من قصوره وقلة مجهوده التي حالت دون تحقيق أهدافه ومن تم بلوغ سعادته، لكن ما يغيب عنه -في نظر شوبنهاور- هو أنه واقع تحت نير قوة مستبدة تبتلع كل الموجودات وتسيّرها وفق ما ترتضيه، وهي قوة الإرادة التي تعيق كل محاولات الإنسان نحو السعادة.

حازت الإرادة في المتن الشوبنهاوري مكانة خاصة وانطوت على دلالة متميزة، حيث شكلت معالم فلسفته وجوهرها، واعتبرها مفتاح فهم لغز الوجود، فعن طريقها نفهم مأزق الحياة بوصفها ورطة لا حل لها، ونصل إلى الغور العميق الذي يفسر معاناتنا وآلامنا، بيد أن سبر هذا الغور واقتحام أسراره ليس بالأمر الهيّن؛ لأن إرادة الحياة لا تكشف عن نفسها بشكل مباشر وتجيد التخفي في مسكنها الميتافيزيقي بمنأى عن الذهن الإنساني، لهذا انبرى شوبنهاور يتقصى طرائق معرفتها وإمكانية اقتحام خباياها، وتحقيقا لهذا المسعى تبدى له الفن طريقا لبلوغ هذه الحقيقة.

ومن هنا، تنبع أهمية الفن الذي ينخرط في الكشف عن حقيقة الإرادة وإبراز تجلياتها في حياتنا؛ إذ يقدمه شوبنهاور بوصفه معرفة عليا تروم كشف الأساس الميتافيزيقي الذي يحكم حياتنا ويوجهها؛ ذلك أن الفنان يستطيع إدراك الإرادة عن طريق التخلص منها مؤقتا وأخذ استراحة من شباكها، لكي يتسنى له تأملها؛ أي ينصرف عنها ليصبح ذاتا عارفة خالصة تسعى إلى إدراك الكينونة دون أي شهوة أو رغبة سابقة.

إن الفن – في نظر شوبنهاور- هو طريقة لتأمل الحياة وفهمها، فالعمل الفني الأصيل مرآة تعكس الحقائق الخالدة وتعبر عنها، لكن كيف يحقق الفن هذه المعرفة؟ وما هو المنهج الذي يتبعه الفنان لتحصيليها؟ وما هي المسوغات النظرية الكامنة وراء التصنيف الهرمي للفنون الذي أقامه شوبنهاور؟

تقتضي الإجابة عن هذه الأسئلة تحليلا لبعض العناصر المؤسسة لنظرة شوبنهاور الجمالية اعتمادا على النقاط الآتية:

- الأسس النظرية لإستطيقا شوبنهاور

- الفن بوصفه إدراكا لحقيقة الوجود

- التصنيف الهرمي للفنون

أولا: الأسس النظرية لإستطيقا شوبنهاور

نشأ شوبنهاور في كنف عائلة أرستقراطية، إذ كان والده تاجرا، يجوب مختلف الأقطار مصطحبا ابنه الذي سعى إلى إقناعه بكل الطرق، ليقتفي أثره ويمشي في السمت نفسه، وبالفعل استسلم شوبنهاور لرغبة أبيه على مضض، وانبرى يرافقه في جل رحلاته التجارية داخل مناطق متعددة ودول متباينة، مما ساهم في تكوين شخصيته، وإغناء فكره الذي تشرب من منابع وثقافات مختلفة، لكن ظلت رغبته في دراسة الأدب والفلسفة مطمورة بين ثنايا ذاته الشغوفة بالسؤال والمعرفة إلى حين وفاة والده.

أدرك شوبنهاور بعد فاجعة الفراق أنه لا مناص من العودة إلى أحلامه الأولى ومعانقة ميولاته الأصلية، فاختار في البداية قراءة الأدب اليوناني، ولا سيما أنه كان على دراية تامة باللغة اليونانية، مما خول له الاطلاع على هذا الفكر في مظانه الأصلية، وقد استهوته التراجيديا الإغريقية واستلهم منها فكرة عبثية الوجود التي أسست فيما بعد لتشاؤميته، كما تعرف على غوته إبان حضوره للصالون الأدبي الخاص بوالدته.

كان لقاء شوبنهاور مع غوته مميزا، حيث أُعجب به كثيرا معتبرا أن "فاوست" تشكل عبقرية الفكر الألماني وألقه المكتمل، كما أن غوته نفسه تنبأ لشوبنهاور بمستقبل فلسفي زاهر وشجعه على الإبداع والسير بالفلسفة في أفق جديد يثري الفكر جمالا وغنى ويخرجه من تصدعات وجمود العقلانية، على خلاف والدته التي طالما احتقرت إنجاز ابنها وأهانته واتهمته بتفاهة كتابته ونشاز فكره، وقد احتدم الصراع بينهما إلى حد القطيعة، خاصة عندما سخرت من رسالته للدكتوراه "عن الجذر الرباعي للعلة الكافية".

خلعت عليه هذه الرسالة لقب دكتور في الفلسفة وفسحت له المجال لاعتلاء كرسي التدريس، بيد أنه اكتشف الجمود الذي يغمر الجامعة وتبدت له أشكال التنميط المسيطرة عليها؛ إذ باتت تمثل- في نظره- إيديولوجية الدولة ومصالحها، لذلك أدرك منذ الوهلة الأولى قصور هذه المؤسسة في احتضان فلسفته، ففضل الانسحاب والتأمل خارج أسوارها، ولاسيما أن دروسه لم تلق إقبالا من طرف الطلاب الذين آثروا الاستماع لمحاضرات هيجل المتزامنة مع محاضراته.

كان شوبنهاور يعادي فكر هيجل ويخاصمه كليا، ويعتبره مجرد انعكاس للاهوت السائد وتمثيل فاضح لإيديولوجية الدولة، لهذا استشعر خيبة أمل مضنية عندما تراءت له أفواج الطلبة، وهم يتهافتون على الإنصات للفكر الهيجيلي، وقد تفاقم الخذلان والإحساس بالأسى إبان نشر مؤلفه الضخم "العالم بوصفه إرادة وتمثلا" الذي لم يلق أي نجاح في بدايته، وهذا شأن جل كتاباته التي لم يبزغ نجمها إلا عندما اقتربت لحظة وفاته.

أودع شوبنهاور مجمل فلسفته في كتابه "العالم بوصفه إرادة وتمثلا"(*)، بينما الكتابات الأخرى تكاد تكون شرحا وتفصيلا لعناصر هذا المؤلف الذي كتبه بعد مخاضات كثيرة، هضم بواسطتها مجموعة من التيارات وتأثر بروافد مختلفة نجم عنها غنى فلسفته وثراء تصوره للحياة وللوجود، ومن هنا نتساءل ما هي التيارات الرئيسة التي ساهمت في بلورة فكره، وبناء رؤيته الإستطيقية؟

على الرغم من تأثر شوبنهاور بمجموعة من التيارات الفنية والفلسفية، إلا أنه ارتشف بشكل كبير من منابع فلسفة أفلاطون وفلسفة كانط والأوبانشا الهندية:

أ- فلسفة أفلاطون: تزخر فلسفة شوبنهاور بالتأثيرات الأفلاطونية، لكن هذا لا يعني أن تصورهما للفن والجمال متشابه، بل هو على النقيض تماما مختلف ومتباعد. ويبرز تأثير أفلاطون في نظرية المثل التي اقتبسها شوبنهاور، وسار بها في منحى آخر موظفا إياها بشكل خاص في الفن؛ إذ أضحى المثال – في نظره- تعبيرا عن درجة تجسد الإرادة التي تحتجب وراء ظواهر الأشياء وتتخفى معالمها خلف التجربة اليومية، بينما يستطيع الفن العبور إليها وإدراك هذا الاحتجاب عبر تجسيداتها الكامنة في المثل.

لهذا عندما اقتبس فكرة المثال استخدمه بالمعنى الأفلاطوني أي الفكرة الحقيقية، لكن بالمقابل عارضه فيما يتعلق بكيفية إدراكها، ودأبه في ذلك جعل المثال محايثا للعالم الواقعي؛ إذ يتم الوصول إلى حقيقته بواسطة التجربة العيانية بدل الاستدلال العقلي، وهو ما لم يكن واردا في المتن الأفلاطوني المتمركز حول التجريد والجدل الصاعد بوصفه طريقا لمعرفة عالم المثل.

ب- فلسفة كانط:

سوف لن نقف عند فلسفة كانط بالمجمل، وإنما سنتطرق فقط إلى بعض الأفكار التي اقتبسها شوبنهاور من فلسفته والمتعلقة بثلاثة عناصر أساسية:

- التمييز بين النومين والفينومين: يميز كانط بين ظواهر الأشياء وبين الشيء في ذاته، بينما يمكن معرفة الأولى من خلال التجربة، من المستحيل بلوغ الثاني عن طريقها؛ لأنه يتجاوز التجربة التي لا تستطيع التعامل إلا مع المحسوسات، ويترتب عن هذا أن لكل عنصر مجموعة من الخصائص إذا جردناه منها يظل الجوهر بوصفه حقيقة بمنأى عن إمكانيات العقل الإنساني العاجز عن فهم الوجود دون إسقاط قوالبه القبلية، وقد تجلى هذا التأثير داخل المتن الشوبنهاوري من خلال الثنائية الميتافيزيقة القائمة على ظاهر الكون بوصفه تمثلا (*)خاضعا لمبدأ العلة الكافية وباطنه المتخفي الواقع تحت سيطرة الإرادة، بيد أنه وعلى خلاف كانط اعتقد شوبنهاور بإمكانية معرفة الشيء في ذاته بواسطة تجلياته في العالم الحسي.

- مبدأ العلة الكافية: يعتقد كانط بوجود مقولات سابقة عن التجربة ومن بينها الزمان والمكان والعلية، وهي عناصر غير مستمدة من العالم الخارجي، بل كامنة في العقل بشكل قبلي وتستحيل التجربة من دونها، حيث يشير المكان إلى فكرة الثبات، بينما يرتبط الزمان بالصيرورة والحركة والتغير أي التوالي. أما العلية، فلا تعدو أن تكون ترجمة مباشرة لعلاقة الزمان بالمكان، فـ "الزمان والمكان يدركان بشكل خالص، وارتباطهما يتحدد من خلال العلية التي يتجلى وجودها في فعلها"[1]؛ أي تشكل العلية وحدة الزمان والمكان.

استعار شوبنهاور من كانط المقولات القبلية للعقل -وإن اكتفى بالزمان والمكان والعلية منصرفا عما عداها- وأطلق عليها مبدأ العلة الكافية؛ فقد استندت نظريته حول العالم الفيزيقي إلى رؤية ميتافيزيقية تقارب الواقع الحسي، باعتباره مجموعة من الظواهر التي يعجز العقل على إدراكها في ذاتها دون إسقاط قوالب العقل القبلية، يقول في هذا الصدد: "الزمان والمكان والعلية لا تنتمي إلى الشيء في ذاته، وإنما تنتمي فقط إلى مظهره أو وجوده الظاهري"[2]، وما يثبت ذلك هو أن الإنسان قادر على تمثل الزمان والمكان بشكل خالص دون العودة لعالم التجربة. أما هذه الأخيرة، فيستحيل قيامها دون مقولات العقل القبلية.

- نقد التجريبيين والعقلانيين: ليست الذات -في نظر كانط- نقيضا للموضوع؛ لأن المعرفة لا تقتضي حضور الذات أو الموضوع، بل تفترضهما معا، وتنطلق منهما، فالعالم هو ما يُعرف والذات هي العارفة، ومن ثمة ندرك العالم استنادا إلى الذات ولا نعرفه موضوعيا، الشيء الذي انعكس بشكل واضح على تصور شوبنهاور للوجود حين صرح قائلا: "العالم تمثلي هذه حقيقة تصدق على كل موجود يحيا ويدرك.... فحقيقة التمثل أهم من جميع الصور بما في ذلك الزمان والمكان والعلية؛ لأن هذه الصور جميعها تفترضه"[3].

وبناء عليه، يرى شوبنهاور أن مذهبه يفترض مسبقا فهم الكتابات الرئيسة لكانط التي اعتبر أن لها عميق الأثر على فكره، وفي هذا الصدد يقول: "لقد بينت في مقدمة الطبعة الأولى أن فلسفتي مؤسسة على فلسفة كانط، لذلك تفترض دراية تامة بها، فتعاليم كانط تحدث في عقل كل فرد تغييرا أساسيا يكون كبيرا إلى الحد الذي يمكن معه أن نعتبر هذا التغيير ميلادا عقليا جديدا"[4]، ورغم ذلك، فإن كانط لم يسلم في كثير من الأحيان من نقد شوبنهاور خصوصا فيما يتعلق بالشيء في ذاته، فمن بين مآخذه على أستاذه أنه لم يتنبه إلى دور الإدراكات الحدسية في سبر أغوار الحقيقة واكتفى بالعقل الذي قاد نظريته النقدية إلى طريق مغلق معلنا استحالة إدراك النومين.

ج- الأوبانشا(*) الهندية: اعتبرت الأوبانشا أن الكون له طبيعة مزدوجة جانب ذاتي يشار إليه باسم "أتمان" وجانب موضوعي براهمان، وهي الأطروحة التي أثارت شوبنهاور، عندما تعرف على الفكر الهندي في أواخر سنة 1813، على يد المستشرق فريدريش ماجر (1771 - 1818)، والذي كان يتردد على الصالون الأدبي الخاص بوالدته، حيث نلمح تأثير الأوبانشا بشكل صريح في مؤلفه العالم "بوصفه إرادة وتمثلا"، خصوصا فيما يتعلق بالوحدة الصوفية الكامنة بين تضاعيف هذا الفكر الذي صرح بأن الوجود في ظاهره وهم يُظهر الموجودات وكأنها وحدات منفصلة، لكن عندما يتأمل المرء أعماق العالم يتبين الوحدة المباطنة لجميع الكائنات.

لقد أضحت معالم الأوبانشا واضحة في فلسفة شوبنهاور، عندما أعلن عن مذهبه في الإرادة المنطوية على وحدة الوجود؛ إذ ارتأى بأن التشظي والتجزيء المرتبط بعناصر الطبيعة ما هو إلا وهم وستار المايا التي تطمس خبايا الحقيقة الأولى المغمورة بالمعاناة والأسى والعبثية النابعة من أصل واحد هو الإرادة المتحكمة في جميع مكونات الوجود. لهذا يجب الإشفاق على حالنا وعلى حال جميع الكائنات ما دمنا شركاء في المعاناة وواقعين في شباك الإرادة وتحت وطأتها، ويسعفنا التعاطف في إدراك المبدأ الصوفي الذي قامت عليه الأوبانشا: "أنت هو أنا".

إن الجامع بين هذه الفلسفات: فلسفة أفلاطون وكانط وفكر الأوبانشا، هي التمييز بين الظاهر والباطن، بين الوهم والحقيقة، حيث اعتقدت بوجود ثنائية ميتافيزيقية، وأكدت أن عالم الفيزيقا هو وهم يخفي ويطمس عنا الحقيقة، لكن هناك اختلاف واضح بين أفلاطون وكانط والأوبانشا، حيث اعتقد الأول أن هذه الحقيقة نبلغها بواسطة التأمل العقلي النظري. أما الثاني، فيعترف بحدود العقل العاجز على تحصيل الشيء في ذاته الكامن في عالمنا، بينما تكشف الأوبانشا عن هذه الحقيقة من خلال الزهد والتعاطف والحدس، وجميع هذه الفلسفات اقتبس منها شوبنهاور أطروحته حول البناء الميتافيزيقي للعالم، وألف بين بعض عناصرها لبلورة تصوره الإستطيقي والفني المنطوي على حدسية عميقة للوجود.

ثانيا- ميتافيزيقا الفن في فلسفة شوبنهاور: الفن بوصفه إدراكا لحقيقة الوجود

يصعب إدراك تصور شوبنهاور للفن دون العودة إلى رؤيته الميتافيزيقية للوجود، والتي ارتأى من خلالها تقسيم العالم إلى تمثل وإرادة، يقول: "العالم يكون في أحد جوانبه تمثلا بإطلاق تماما مثلما أنه يكون في جانبه الآخر إرادة بإطلاق"[5] فالعالم في ظاهره تمثل يخضع إلى مقولات الزمان والمكان والعلية باعتبارها مقولات قبلية مبثوثة في العقل الإنساني وأطلق عليها مبدأ العلة الكافية. أما الإرادة، فهي جوهر الوجود ووحدته وحقيقته المتحررة كليا من شروط العلة الكافية وقيودها.

تنبسط حقيقة الحياة في - نظر شوبنهاور- داخل غور عميق يشكل نواة مشتركة بين جميع الكائنات ويتعلق الأمر بـ "الإرادة"، إلا أن هذه الأخيرة لا تدل في المتن الشوبنهاوري على ذلك الفعل الذي يسترشد بالعقل، وإنما تشير إلى اندفاع أعمى لا واع، يفسر كل تحركات الموجودات وأفعالها أي أنها مفهوم شاسع يضم بين تضاعيفه الدوافع والغرائز والرغبات، وهي واحدة غير قابلة للتجزيء.

تعتبر الإرادة في المنجز الشوبنهاوري مفتاح فهم لغز الوجود وبوابة اقتحام أسراره، فهي المبرر الوحيد لبؤس العالم ومعاناته والسبب الرئيس في ما نعيشه من تعب وحزن، ويكفي تأمل إرهاق الكائنات التي تلهث بشكل مستمر وتركض بدون استكانة بحثا عن شيء غير محدد معتقدة أنها تحصل غاية معينة: "الإرادة تعرف دائما ما تريده هنا والآن، ولكنها لا تعرف أبدا ما تريده على وجه العموم، فكل فعل فردي يكون له غرض أو غاية ولكن المشيئة في مجملها ليست لها غاية مرتبة".[6]

ما يمكن استشفافه من حيثيات هذا القول أننا لا نبتغي غاية محددة، بل نسعى إلى تحقيق أغراض الإرادة ومراميها ونخدمها في خضوع تام، ونقبل بعماء أنطولوجي على مؤامراتها التي تبتلع كل العناصر وتدخلها في شراكها: "إن الإرادة تظهر في كل قوة عمياء من قوى الطبيعة مثلما تظهر في كل فعل مدروس من أفعال الإنسان"[7] بيد أن السؤال المنبثق أمامنا: إذا كانت الإرادة واحدة فلماذا هناك تباين بين الموجودات؟ يجيبنا شوبنهاور إن الفارق بين عناصر الطبيعة ليس فارقا في الأصل والماهية، وإنما في الدرجة فقط، فالإرادة توجد كاملة في كل عنصر وتقبع كلية داخله، لكن يستحيل إدراكها بشكل مباشر ولا نتعرف عليها إلا اعتمادا على تجلياتها، لهذا فالاختلاف بين الكائنات منوط بدرجات تجسد الإرادة وتجلياتها.

عندما شرع شوبنهاور في الحديث عن تجليات الإرادة، استشعر صعوبة الانتقال من الجوهر إلى الظاهر، وهنا استدعى أفلاطون واستعار منه المثال الذي هو بمثابة التجلي الموضوعي للإرادة، وهكذا نصل إلى التركيب الميتافيزيقي للوجود في فلسفة شوبنهاور:

أ- الإرادة باعتبارها جوهرا واحدا لا ندركها في ذاتها.

ب- تجسد الإرادة داخل المثال المتعلق بالقوة الطبيعية والأنواع الطبيعية، ونرنو إلى حقيقته بتوسل الفن والفلسفة.

ت- عالم الكثرة المطبق على التجربة اليومية والمعرفة العلمية.

وبناء على هذا التقسيم، فإن ميتافيزيقا الإرادة عند شوبنهاور تكون متجسدة في العناصر التي ندركها ظاهريا عبر مبدأ العلة الكافية كما ندركها باطنيا بواسطة المثل الأفلاطونية، لكن هذه الأخيرة تقتضي ضرورة التخلص من تفسيرنا الاعتيادي للعالم الذي ألفناه، سواء في التجربة اليومية أو في المعرفة العلمية، والتي تفهم الوجود انطلاقا من قوانين العقل القبلية أي بواسطة العلة الكافية، ويروم هذا التخلص الوصول إلى المثل بوصفها تموضعا أساسيا للخبرة الجمالية.

يشير الجمال إذن إلى المثال الكامن في الشيء والمتعلق بالخصائص العامة للنوع الذي يعلو على الصفات الفردية ويتخلى عنها؛ وذلك من أجل الاقتراب من حقيقة الإرادة وماهيتها الثابتة؛ فـ "الجمال هو حالة التأمل الخالص والوجداني في العيان ونسيان كل فردية، والقضاء على هذا النوع من المعرفة الخاضع لمبدأ العلة، والذي لا يعرف غير العلاقات بين الأشياء: وهي اللحظة التي يتحرك بها الشيء الجزئي بحركة واحدة إلى صورة نوعه والفرد العارف إلى ذات مجردة عارفة بمعرفة متحررة من الإرادة"[8].

من حيثيات هذا التعريف، يمكن استنباط بعض الملاحظات:

أ- إذا كان الجمال هو إدراك الكلي المتخفي وراء الجزئي، فإن جميع الموجودات الطبيعية جميلة وإن كان جمالها يختلف حسب تجسيدات الإرادة.

ب- إن الانتقال من عالم الجزئيات إلى عالم الكليات هو انتقال من الذاتية إلى الموضوعية؛ ففي العالم الفيزيقي الظاهري تعرف الذات عناصر الوجود بناء على قوانين العلة الكافية؛ أي تسقط مقولاتها القبلية على الموضوع، بينما تدرك المثال من خلال تحرر الذات من ذاتيتها ومن مقولة الزمان والمكان والعلية.

ت- إن الوصول للجمال المطمور في كل عنصر يتحقق دون نضال مادام ينبني على الانسجام بين الذات والموضوع.

لقد وسمت هذه الخصائص منظور شوبنهاور للفن، الذي يروم الإجابة عن سؤال ما الحياة؟ وما الوجود؟ ذلك أن الفن شأنه شأن الفلسفة قادر على النفاذ إلى هذه الحقيقة وتبليغها، والاختلاف بينه وبين الفكر الفلسفي هو اختلاف في المنهج؛ إذ تكمن القدرة الفلسفية في "معرفة الواحد في الكثير ومعرفة الكثير في الواحد. وعلى هذا، فإن الفلسفة تصبح نتاج أحكام كلية للغاية تتخذ أساسها المعرفة بصورة مباشرة في العالم ذاته... إنها تصبح ملخصا تاما للعالم إن جاز التعبير أي انعكاسا للعالم في تصورات مجردة"[9]. فإذا كانت الفلسفة هي التعبير عن حقيقة العالم عبر التصورات، فإن الفن هو التمثيل الحدسي لهذه الحقيقة، وكلاهما يتجاوزان سطحية العلوم ومحدوديتها؛ إذ "يعرف شوبنهاور المعرفة الفلسفية والفنية بوصفهما معرفة الفكرة ويعارضهما بالمعرفة العلمية"[10]؛ أي إن الفن والفلسفة يتفوقان على العلم الذي يظل حبيس ظواهر الأشياء دون القدرة على الكشف عن الشيء في ذاته.

ويعتقد شوبنهاور أن الفنان يصل إلى المثال انطلاقا من منهج العبقري القائم على عنصري الحدس والخيال، حيث ينطوي الأول على معرفة مباشرة من دون وسائط ومن دون عناء ويتحقق عبر الخلاص من الإرادة وإسكاتها، بينما يخول الثاني إكمال الواقعي بخيال الفنان، ولا سيما أن مثول الكلي يكون دوما مثولا ناقصا مما يستلزم استدعاء الخيال.

يقتضي بلوغ حقيقة العالم التأمل النزيه؛ أي التحرر من الإرادة والتخلص منها مؤقتا، حيث يصير الإنسان عقلا خالصا متأملا خاليا من أي حاجيات وأغراض، آنذاك تظهر الذات بوصفها عارفة ويعلو العالم باعتباره تمثلا، إلا أن التمثل في الفن غير خاضع لمبادئ العلة الكافية على خلاف التمثل في الحياة اليومية أو في العلم؛ إذ تنبسط حقيقة العالم أمام الفنان دون إسقاط مقولاته القبلية الكامنة في العقل أو بعبارة أخرى تذوب الذات في الموضوع وتتلاحم معه، وتصير آنذاك بمثابة مرآة تنقل ماهية الأشياء.

وهذا ما يجعل الفنان متفوقا على الإنسان العادي العاجز عن تأمل الموجودات دون إسقاط حاجياته ورغباته. لهذا يتأمل الفرد دوما العلاقات بين الأشياء دون النفاذ إلى ماهيتها، على خلاف العبقري الذي يعزو إليه شوبنهاور دورا فريدا مؤداه تقديم الحقائق الخالدة الكامنة في المثل على شكل صيغ جمالية تنسكب في إبداعية داخل الفنون الجميلة، لذلك يؤسس ما يمكن تسميته بميتافيزيقا الفن، والتي تسمح برؤية العالم في كليته وليس في أجزائه.

خلاصة القول يتسم الفن داخل المنجز الشوبنهاوري بكونه معرفة موضوعية بالعالم، تتغيا تقديم رؤية ميتافيزيقية للوجود بواسطة الكشف عن درجات تجسد الإرادة داخل الشيء، لهذا تتفاوت نسبة الجمال حسب نسبة هذا التموضع، وهنا يتجلى الإنسان بوصفه الموضوع الأكثر جمالا مادام يجسد أعلى درجات الإرادة وأوضحها، هذا ويرى شوبنهاور أنه كلما قل منسوب الذاتية داخل العمل الفني إلا وارتفعت قيمته ومكانته، وانطلاقا من هذا المعيار انبثق التصنيف الهرمي للفنون.

ثالثا: التصنيف الهرمي للفنون

1- فن المعمار والبستنة وتنسيق المياه

- فن المعمار: يرتبط فن المعمار بالطبيعة اللاعضوية التي تشكل أدنى درجات تموضع الإرادة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يرتبط بغايات نفعية، لكن هذا لا يعني أن الجمال يغيب في هذا الفن، بل هو موجود وإن كان ضئيلا، حيث "يعبر عن بعض الصور الدنيا لموضوعية الإرادة بوضوح أكبر مما نجده في الطبيعة، وهذه الصور الدنيا هي مثل أو صور الإرادة حينما تتجسد في الطبيعة اللاعضوية، ومن أمثلتها: الثقل والتماسك والصلابة"[11]؛ أي إن فن المعمار يعبر عن خصائص الطبيعة اللاعضوية، والتي يكشف عنها الفنان، يقول شوبنهاور: "الصراع بين الجاذبية والسكون هو بكلام دقيق، المادة الجمالية الوحيدة في العمارة".

لذلك، فمشكلة العمارة إنما هي في "تبيان ذلك الصراع بطرق متعددة ومختلفة"[12]. أما غاية العمارة كامنة في التعبير عن صورة الإرادة في تجسيداتها الضعيفة والغامضة، من خلال إبراز الصراع بين الثقل والصلابة؛ أي إن تمظهر وتموضع الإرادة يكون فقط على شكل صراع، وإن كان هذا التمظهر غامضا وضعيفا يتطلب مجهودا من المتأمل.

- فن تنسيق المياه والبستنة: يعبر الأول عن العلاقة بين الثقل والسيولة، حيث يكشف عن خصائص المياه التي تتميز بثقلها وعدم قابليتها للتشكل، بينما توضح البستنة خصائص وطبيعة النبات، والجمال الكامن في البستنة لا يغدو أن يكون نفسه الطبيعة جمال الطبيعة الخام، وهذا ما يفسر تفضيل شوبنهاور للطبيعة التي لا يتدخل فيها الإنسان.

2- فن التصوير والنحت

أ- فن النحت: يعبر النحت عن الجمال والرشاقة، حيث تتحقق الإرادة موضوعيا في المكان من خلال الصورة فيكون الجمال، بينما تتحقق في الزمان عبر الحركة فتكون الرشاقة، وهما العنصران المشكلان لفن النحت، وفي هذا السياق يرفض شوبنهار المجاز في النحت.

ب- فن التصوير: يشكل الجمال الإنساني أسمى موضوع يتطرق إليه فن التصوير، ما دام هذا الكائن يمثل أعلى درجات تموضع الإرادة، ويهدف هذا الفن إلى إبراز الخصائص المميزة للنوع التي يصعب تبينها في الحيوان؛ "لأن الحيوانات لا تمتلك سوى طابع نوعها وليس لها طابع فردي، وإن كانت تعبر بدرجات مختلفة عن هذا الطابع"[13]، لكن تظل السمات المميزة والخاصة ضعيفة بالمقارنة مع الكائن البشري. ومع ذلك يعتقد شوبنهاور أن هناك مشكلا يعتري الفنان إبان تصويره للإنسان؛ لأن هذا الأخير يحمل خصائص النوع وخصائص الفرد، وعلى الفنان أن يصورهما معا، ويحصل حقيقتهما في إبداع يؤلف بين ما هو مشترك بين الناس وبين الطابع الخاص للفرد.

فالإنسان -في نظر شوبنهاور- يحمل مثالين: مثال النوع ومثال فرديته؛ الخصائص العامة للنوع والخصائص الفردية التي تميزه، لكن يجب إدراك قصد شوبنهاور من الخصائص الفردية، فهي ليست - في نظره- رديفة للصورة الجزئية للمثال، وإنما المقصود الإرادة الفردية بما هي صورة من صور الإرادة الكلية، وعلى الفنان أن يجيد تصوير الفردي مبرزا خصائص الكلي أي يتم استحضارهما معا دون أن يطغى أحدهما على الآخر، "فإذا ألغى الطابع الفردي طابع النوع، فإن النتيجة ستكون رسما كاريكاتوريا، وإذا ألغى طابع النوع الطابع الفردي، فستكون النتيجة انعدام المعنى"[14]، وفي هذا السياق يفضل شوبنهاور التصوير المسيحي؛ لأنه يعبر عن الخصائص العامة للروح المسيحية خاصة رافائيل وكوريجبيو.

3- الشعر والتراجيديا:

يضع شوبنهاور الشعر في قمة الهرم؛ إذ يسمو على فن العمارة وعلى النحت والرسم ويتفوق عليهما؛ لأنه يتعقب الإرادة كما تتجلى في الإنسان داخل مشاعره وأفكاره وتقلباته الوجدانية والنفسية، والشعر هو "الذي يستثير الخيال بواسطة الكلمات"[15] ووسيلته في ذلك الوزن والقافية، حيث ندرك في الشعر درجة عليا من درجات الإرادة؛ وذلك عن طريق التعبير عن نوازع الإنسان وأفعاله، وما يميز الشعر عن التاريخ أن الأول يعبر عن صورة الإنسان، بينما يعبر التاريخ عن الحوادث المتغيرة، لذلك يؤكد شوبنهاور أن الفهم العميق للإنسان يقتضي قراءة دقيقة للشعراء العباقرة، غير أن الشعر أنواع متمايزة عن بعضها، فقد ميز شوبنهاور بين الشعر الغنائي والشعر التراجيدي، وأعلى من شأن الثاني بالمقارنة مع الأول؛ ذلك أن الشعر الغنائي تغلب عليه الذاتية؛ لأن الشاعر يدرك المثال بواسطة تأمله لحالاته الباطنية، بينما تسود الموضوعية في التراجيديا، وفي هذا الصدد يرى شوبنهاور أن هذه الأخيرة تمر من ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: عندما يثير انتباهنا الشخصيات التراجيدية، حيث نتتبع أهدافهم التي تشبه أهدافنا، المرحلة الثانية: تعاطفنا مع البطل وفي نفس الوقت تعاطفنا مع أنفسنا، المرحلة الثالثة: "نصل إلى العقدة أو نقطة التحول الحاسمة في الحدث وفي هذه المرحلة تصبح الدراما مأساوية"[16]، حيث يظهر بؤس الحياة، ونعرف عبثية الفعل الإنساني الذي يؤول إلى جهد لا طائل منه، ووضع التراجيديا في قمة الهرم، لكنه ظل يفضل التراجيديا المسيحية على التراجيديا الإغريقية.

4- الموسيقى:

وضع شوبنهاور الموسيقى بشكل مستقل خارج التصنيف الهرمي؛ لأنها تحقق موضوعي للإرادة، وليست تأملا لصور الإرادة؛ أي إنها تعبير مباشر للإرادة، وهذا ما يجعلها تنفذ من دون حواجز إلى بواطن الذات؛ فالموسيقى لا تعبر عن ألم شخص ما أو فرحه، وإنما تعبر عن الفرح بإطلاق والألم بإطلاق، هي التعبير الفيزيقي عن الوجود الميتافيزيقي الذي هو الإرادة، بل والأكثر من هذا انبرى شوبنهاور يماثل بين الإرادة وأصوات الموسيقى قائلا: "إن الأصوات الأربعة التي تكون كل انسجام وهي الأعلى تينور Ténor، والأدنى باص Basse والعليا سوبرانو Soprano والدنيا ألتو Alto أي النغمة الأساسية والثالثة والخامسة والثامنة، هذه الأصوات تماثل الدرجات الأربع لسلم الكائنات أعني المملكة المعدنية والمملكة النباتية والمملكة الحيوانية والإنسان"[17].

خاتمة:

لقد أفضت مقاربتنا لسؤال الفن داخل فلسفة شوبنهاور إلى مجموعة من الخلاصات، والتي يمكن إدراجها بإيجاز على الشكل الآتي:

- أفرز منظور شوبنهاور للفن رؤية ميتافيزيقية للوجود تنم عن الدور المعرفي المنوط به، باعتباره طريقا للكشف عن جوهر العالم.

- يتفوق الفن على العلم الذي يقارب الظواهر الخاضعة لمبدأ العلة الكافية؛ ذلك أن الفن يدرك ما وراء الظواهر من خلال النفاذ إلى عالم المثل بوصفه تجسيدا للكلي الكامن في عناصر الطبيعة، وبما أن الفلسفة هي أيضا إدراك للكليات، فإن الفن والفلسفة يشتركان في قدرتهما على بلوغ حقيقة العالم، لكن يختلفان في المنهج: فبينما تبلغ الفلسفة هذه الغاية بواسطة التصور يحصل الفن هذا المرام متوسلا الحدس.

- تتجلى الإرادة في جميع الكائنات، لكن تتفاوت درجات هذه التجسيدات من الجماد والنبات؛ فالحيوان ثم الإنسان الذي يشكل أعلى درجات تجسد الإرادة لهذا يعدو الموضوع الأكثر جمالا.

- إن الهدف من الفن هو التخلص من الذاتية وبلوغ الأساس الموضوعي للعالم، على أساس أن الموضوعية في الفن تحتم التأمل النزيه والابتعاد عن كل منفعة أو هوى؛ أي إسكات الإرادة مؤقتا، ليتسنى للفنان تأمل تجلياتها في الكائنات.

- يصنف شوبنهاور الفنون بناء على معيار الذاتية والموضوعية؛ فكلما ضعف منسوب الذاتية ارتفعت قيمة الفن، وبناء عليه ارتأى بأن المعمار هو أدنى مراتب الفنون، بينما اعتلت التراجيديا أعلى مراتب هذا السلم. أما الموسيقى، فتقع خارج التصنيف الهرمي؛ لأنها لا تعبر عن تجليات الإرادة، بل هي التمثيل الموضوعي للإرادة، أو بعبارة أخرى هي التعبير الفيزيقي عن ميتافيزيقا العالم.

 

قائمة المصادر والمراجع:

-          شوبنهاور، آرثر "العالم بوصفه إرادة وتمثلا" المجلد الأول، ترجمة سعيد توفيق، المشروع القومي للترجمة، العدد 1075، القاهرة- مصر، الطبعة الأولى، 2006

-          محمد توفيق، سعيد "ميتافيزيقا الفن في فلسفة شوبنهاور"، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 1983

-          روبرت فيكس "شوبنهاور"، ترجمة سعيد توفيق، مؤسسة خليف للنشر والتوزيع، 2017.

-          بدوي، عبد الرحمان "شوبنهاور"، وكالة المطبوعات، الكويت.

-      Schopenhauer, Arthur « le monde comme volonté et comme représentation », traduit par Auguste Burdeau, Librairie Félix Alcan, Paris, 1912

-      Schaeffer, Jean-Marie « L’art de l’âge moderne: l’esthétique et la philosophie de l’art du 18ème siècle à nos jours », Gallimard, Paris-France, 1992

(*) تُرجم المجلد الأول للعربية، بقلم سعيد توفيق الذي يعد من أهم المفكرين في العالم العربي المهتمين بفكر شوبنهاور، حيث أنجز حوله أطروحة دكتوراه "ميتافيزيقا الفن في فلسفة الفن"، بينما المجلد الثاني لم يتم ترجمته لهذا تطرقنا إليه في نسخته الفرنسية.

(*) يشير التمثل إلى الكلمة الألمانية (Vorstellung)، والتي طرحت صعوبة كبيرة على مستوى الترجمة، فالترجمة الانجليزية القديمة مثلا (The World as Will and Idea) ترجمت "Vorstellung" بـ "Idea"، وهي كلمة تبعد كثيرا عن المعنى الفعلي للكلمة الألمانية Vorstellung، الذي تنطوي على دلالة أوسع، ولهذا فإن E.F.Payne يفضل ترجمة هذه الكلمة إلى تمثل représentation، لأنها تغطي المعنى المقصود الكامن في اللغة الألمانية، ولأن كلمة Idea الواردة في الترجمة الانجليزية القديمة قد تحدث التباسا مع كلمة مثال والتي يتكرر ذكرها في مؤلف شوبنهاور.

كما نجد بعض الباحثين العرب قد ترجموا Vorstellug إلى امتثال ومن أبرزهم عبد الرحمن بدوي، وتكاد هذه الترجمة أيضا تضيع المعنى الأساسي للمفهوم، وذلك لأن هناك فروقات دقيقة بين الامتثال والتمثل: فالأول يعني أن الشيء قائم هناك أمام الوعي أو الذهن لا أكثر، وهي بذلك تخلق نوعا من الانفصال بين الشيء والوعي، أما كلمة تمثل فهي تذهب إلى أبعد من ذلك، لأنها تعني مثول الشيء في الوعي، وأنه لا يقوم إلا من خلال هذا الوعي أو إدراك الذهن له، وهذا المعنى الأخير يستقيم وكتابات شوبنهاور.

للتفصيل ينظر إلى: "ميتافيزيقا الفن في فلسفة شوبنهاور" سعيد توفيق، ص ص27-28

[1] شوبنهاور، آرثر "العالم بوصفه إرادة وتمثلا" المجلد الأول، ترجمة سعيد توفيق، المشروع القومي للترجمة، العدد 1075، القاهرة- مصر، الطبعة الأولى، 2006، ص66

[2] المصدر نفسه، ص95

[3] المصدر نفسه، ص55

[4] محمد توفيق، سعيد "ميتافيزيقا الفن في فلسفة شوبنهاور"، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 1983 ص 34

(*) هي مجموعة من الكتابات الفلسفية في مجال العقيدة والحكمة الهندية القديمة، وتتضمن شرحا لكتب الفيدا المقدسة التي تقع في أربعة كتب باللغة السنسكريتية القديمة، للتفصيل يمكن العودة ل: روبرت فيكس "شوبنهاور"، ترجمة سعيد توفيق، مؤسسة خليف للنشر والتوزيع، 2017، ص10

[5] شوبنهاور، آرثر "العالم بوصفه إرادة وتمثلا" المجلد الأول، ص57

[6] المصدر نفسه، ص286

[7] المصدر نفسه، ص209

[8] بدوي، عبد الرحمان "شوبنهاور"، وكالة المطبوعات، الكويت، ص152.

[9] شوبنهاور، آرثر "العالم بوصفه إرادة وتمثلا" المجلد الأول، 171

[10] Schaeffer, Jean-Marie « l’esthétique et la philosophie de l’art du 18ème siècle à nos jours: « L’art de l’âge moderne », Gallimard, Paris- France, 1992, p 239

[11] Schopenhauer, Arthur « le monde comme volonté et comme représentation », traduit par Auguste Burdeau, Librairie Félix Alcan, Paris, 1912, p1308.

[12] سعيد توفيق "ميتافيزيقا الفن في فلسفة شوبنهاور"، ص165

[13] المرجع نفسه، ص212

[14] المرجع نفسه، ص213

[15] Schopenhauer « le monde comme volonté et comme représentation », 1326

[16] سعيد توفيق "ميتافيزيقا الفن في فلسفة شوبنهاور"، ص235.

[17] Schopenhauer « le monde comme volonté et comme représentation », p1355