إشكالية الأنسنة في الخطاب الديني المعاصر


فئة :  مقالات

إشكالية الأنسنة في الخطاب الديني المعاصر

إشكالية الأنسنة في الخطاب الديني المعاصر*


المقدمة:

تتسلل لدينا مصطلحات فكرية وفلسفية عديدة ليست من إنتاج ثقافتنا الإسلامية أو العربية، نقف أمامها في الغالب على نحو ثلاثة مواقف متكررة، غالبا ما نبدأ بالرفض وعدم القبول لها لنكارة ذلك الجديد على ثقافتنا، وإما بالتماهي والانسياق وفق مدلولاتها ذات الطابع الخاص لبيئتها المنتجة، وكثيرا ما نمتثل دور التطبيق النصّي لمراد المصطلح أو مراد من أنتجه، والموقف الثالث؛ وهو أعدلها طريقةً؛ حيث يُفحص الجديد ويُقبل منه المفيد ويُطوّر وفق اعتبارات الخصوصية الفكرية والعرفية لمجتمعنا وزماننا المعاش.

فالمصطلحات التي تموضعت في المواقف الثلاثة ليست بالقليلة وليست وليدة عصرنا الحاضر، فمنذ أن دخل مصطلح الفلسفة والمنطق ونحن في جدل تجاهها وتوجس من كل جديد، وإلى يومنا هذا ونحن نعيش قلق هذه الحالة، زاد من توترنا ذلك النتاج الهائل الذي يصدره الغرب من تلك المصطلحات والمفاهيم نتيجة حراكه الفكري المتسارع ولهيمنته السياسية والثقافية على العالم، ومن أبرز مصطلحات الحيرة لدينا، المفاهيم والأشكال المختلفة للديمقراطية والليبرالية والرأسمالية والحداثة وبكل ما يتصل بها من أدبيات وقيم.

والفكر الغربي اليوم لا يزال ينتج الكثير من النظريات والمواقف تجاه كل شي، بيد أنه أصبح أكثر خشونة في تسويق أطروحاته التي تتصف بالميوعة والهلامية في قبض معانيها!؛ بل زاد تسارعه نحو المابعديات (كما بعد الحداثة، وما بعد التاريخ، وما بعد الأيديولوجيا) أو نحو النهايات القاتمة (كما في موت الإله، وموت الإنسان، وموت المؤلف) وغيرها، دون انتظار لنضجها وتفاعل الفلاسفة معها، بينما ثقافتنا الإسلامية والعربية لا تزال تغص في القديم فضلا أن تستوعب وتبتلع ذلك الجديد، فهي إلى الآن لم تحسم أمرها بعد في مفاهيم أكثر وضوحا في تراثها وتاريخها ربما مرّ عليها عشرة قرون وهي تراوح في ذات الموقف دون أن تتجاوز تحرير المصطلح فضلا عن كشف دلالاته وتطبيقاته.

حول مصطلح الأنسنة

هذه المقدمة من أجل أن أورد مصطلح (الأنسنة) ليس كما نفهمه من لفظه المنطوق؛ بل من خلال ما يجرّه هذا المصطلح من مفاهيم وفلسفات برزت مع استعماله عند نشأته في الغرب في بدايات القرن الرابع عشر الميلادي (حسب قول د. فيصل عباس في الفلسفة والإنسان ص142 دار الفكر العربي)، أو يمكن أن نرجع بداية حركة الأنسنة إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر (حسب قول فيليب هودار في كتاب فلسفة الحداثة. نصوص مختارة. الذي جمعه محمد بن سبيلا وعبدالسلام بنعبدالعالي ص 106-107، طبعة الشبكة العربية للأبحاث والنشر) فإنه يرى أن مولد النزعة الإنسانية في الفكر الغربي ظهر أول مرة في عام 1808م من خلال المربي البافاري نيثمر، وقصد بها نسقا تربويا يستهدف تكوين الشخصية الإنسانية وإعطائها كرامتها وقيمتها، ثم قدّم ماركس فكرته الأوضح حول الإنسان الكلي عام 1844م، وتبعه عدد من الفلاسفة الألمان وكذا من بقية الأوروبين، ويمكن أن نعتبر الأنسنة في بدايتها ثورة مضادة للكنيسة، وليست تياراً فكرياً منظماً ومتكاملاً بالمعنى المعروف، فقد كانت رغبة جامحة في الانقلاب على الموروث الذي كانت الكنيسة قد قررته كمقدس لا يقبل النقاش بجعل الإنسان كائنا مدنسا بالخطيئة الأصلية، فحركة الأنسنة جاءت لتحرير الإنسان من أي سلطة خارجة عن ذاته، ولتحريره أيضا من التبعية اللاهوتية، فهو الذي يجب أن يضع المعايير والمقاييس التي ينبغي أن يسير عليها في حياته، ويرسم طريقه القيمي والفكري بعيدا عن أي سلطة لا تمثّل إرادته البشرية.

والميل إلى قِدم الحركة الإنسنية ومفاهيمها الفلسفية بما قبل القرن التاسع عشر الميلادي هو الأقرب للصواب، فمن أبرز نشاطات الأنسنة السابقة للقرن التاسع عشر ما قام به غراتيوس الهولندي سنة 1625م كبدايةً عملية في اعتبار الطبيعة الإنسانية مصدرا للقوانين بدلا من المصدر الإلهي، ثم جاء الدور الأبرز لسبينوزا في فصله بين الفلسفة واللاهوت حوالي عام 1663م، فأضحت هذه المحاولات وغيرها من أهم نظريات الأنسنة التي التقت عليها عدد من الفلسفات القانونية والسياسية والاجتماعية التي جاءت فيما بعد. (انظر: في نقد الحاجة إلى الإصلاح لمحمد الجابري ص 147، 151. طبعة مركز دراسات الوحدة العربية)، فمصطلح الأنسنة ولد ونشأ في الفكر الغربي نتيجة عوامل كثيرة ذكرتُ بعضها، ولكنه لم ينضج حتى الآن، سواء كان على المستوى العملي أو الفلسفي؛ بدليل فكرة ميشيل فوكو الأخيرة حول (موت الإنسان) والتي طرحها في أوائل السبعينات الميلادية، حيث ألغى الكائن الإنساني وجعله خاضعا لمنظومة لغوية أو أسطورية، وتفكيك البنية التي تتأسس عليها مطلقات وحقائق الإنسان، وربما ساهم تغول التقنية وارتداداتها على الحياة أثرا في فكرة (موت الإنسان) لدى فوكو. (انظر: د. عبد الرزاق الدُواي. موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر. بيروت: دار الطليعة، 1992م).

مفهوم الأنسنة في التراث الإسلامي

أما مفهوم الأنسنة في التراث الإسلامي فلم يستعمل لفظه كما حصل لاحقا في أوروبا؛ بل هناك فرق جوهري لابد أن يعلم من تناولنا للأنسنة أو الإنسانوية، فالغرب أراد أن يجعل من الإنسان آلهته التي لم يؤمن بها في مسيحيته، بينما الإسلام كان ينظر للإنسان كقيمة عليا وتكريمه كمقصد أسنى جاء مع الوحي الإلهي وليس متعارضا معه، فالأنسنة في مقصودي من هذا العرض هو "اعتبار إنسانية الفرد وطبيعته واحتياجاته أصل للبيان والتأويل والتفكير العلمي والتنزيل العملي لقضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع" فمقاصد الدين جاءت لإسعاد الإنسان وتكريمه وليس لتهميشه والتقليل من قدره، يقول الإمام الشاطبي: "أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل" (الموافقات، تحقيق عبدالله دراز 2/6، طبعة دار المعرفة). وأثبت رحمه الله أن دليلنا في ذلك هو الأستقراء التام لنصوص الوحي المعلّلة بالمصلحة التي يدركها الإنسان وتعود له بالنفع ويكون بالتالي محورها الثابت ومرجعها في الأحكام.

وهذا يعني أن الأنسنة ليس صداما أو بديلا عن الوحي، ومحاولة اعتبار الأنسانوية مرجعا فكريا وقيميا بديلا عن الوحي المنزّل، قد تكون إلتفافا على الفطرة المستقيمة نحو أهواء الإنسان الغلّابة، فمع اهتمام الوحي بمرجعية مصالح الإنسان غير أنه حذّر من خضوع الشرع لأهواء الإنسان وملذاته لأن مآلها سيفضي إلى إفساد الإنسان والحياة، كما في قوله تعالى: "ولو اتبع الحق أهوائهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن" (سورة المؤمنون 18)، وقوله تعالى: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" (سورة ص 26) ويقرر الإمام الشاطبي قاعدة كلية في هذا المقام بقوله: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا" (المرجع السابق 2/168).

مظاهر الأنسنة في الإسلام

مظاهر الخطاب الأنسني في الإسلام كثيرة، ولكن يمكن أن نجمل بعضها في أهم سياقين يظهر فيهما الفكر والفعل الأنسني في الإسلام.

أحدهما: سياق الفطرة الإنسانية، وهي الجبلة التي خُلِق عليها الإنسان وفق طبائعه وصفاته الأصيلة، والشريعة الإسلامية انطلقت أحكامها على قاعدة الفطرة دون تهميش لها أو تقليل من تأثيرها في الاجتهاد، يقول الإمام ابن عاشور: "إن حكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل في هذه الشريعة دين الفطرة، وأُمور الفطرة راجعة إلى الجبلة، فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها، ومن الفطرة: النفور من الشدة والإعنات، قال تعالى (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) (النساء 28)، وقد أراد الله تعالى أن تكون شريعة الإسلام شريعة عامة ودائمة، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلا، ولا يكون ذلك إلا إذا انتفى الإعنات" ويرى كذلك أن "جميع أصول الإسلام وقواعده تنفجر من ينبوع معنى الفطرة". (مقاصد الشريعة 61، طبعة الشركة التونسية للتوزيع).

الأمر الثاني: نصوص وقواعد التكريم الإلهي للإنسان: وأساسها ماجاء في قوله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (الإسراء 70) فهذا النص القرآني جاء لإنقاذ البشر من الإهانة والظلم والدونية دون تفريق بين أحد منهم، كذلك جعل الله تعالى الإنسان خليفته في الأرض "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً" (سورة البقرة 30). كذلك سخّر الله تعالى الكون كله لخدمة الإنسان، قال تعالى: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً" (لقمان 20)، وألغى الإسلام أي وساطة كهنوتية بين الله والإنسان، وهناك نصوص عديدة في ذلك منها قوله تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (سورة البقرة 186). هذه بعض صور التكريم الرباني للإنسان، وكلها تدل بشكل واضح أن تلك النصوص التي نزلت من القرن السابع الميلادي كانت سابقة للحال الأوروبي بقرون عديدة.

واقع الأنسنة في الخطاب الديني المعاصر

ولكن الواقع الإسلامي اليوم ليس على حال التنزيل الأول للوحي أو قريباً للحال الأوروبي الراهن؛ بل ظهرت عليه أمارات عودة التأويل المنحرف للإنسان وغلبة التهميش الاجتهادي لحاجاته الطبيعية، ولعلي بشيء من الإيجاز أن أرصد أهم مظاهر هذا التهميش للأنسنة في خطابنا الدعوي والمعرفي:

أولها: غلبة الخطاب الأخروي على حساب الخطاب الدنيوي في مسائل الحياة المعاصرة التي تقتضي نظرا للمعاش واقترابا من الواقع، ويبقى خطاب الوعد والوعيد أداةً لتهذيب النفس وتحذيراً للهوى من الانحراف، ولكن أن يتم معالجة الفقر والتخلف والأمية والاستبداد والفساد بوعود الآخرة فقط ربما يصبح نوعا من تخدير الإنسان وتهميش دوره الحياتي في الأرض.

وثانيها: إغفال الخطاب الحقوقي المدافع عن حرية الإنسان وكرامته وأرضه وبيئته من ضمن العمل الفقهي أو الوعظ والإرشاد أو التعليم الديني مع أهميته الشرعية والواقعية.

ثالثها: إحكام الديني والطائفي والقبلي على كل صور العلاقة بين الإنسان والإنسان أو بينه وبين احتياجاته الحياتية أو مطالبه الحقوقية أو حظوظه الدنيوية، فالإنسان اليوم قد لا ينال ذلك كله إلا وفق انتمائه الديني أو الطائفي حسب تقسيمات السياسة الراهنة بكافة حالاتها المتوحشة والمادية، ويبقى طوق النجاة لمجتمع أكثر أمنا وأستقرارا ورغدا في العيش؛ مرهونٌ بعودة كرامة الإنسان والاعتبار الأنسني لاحتياجاته.

رابعها: الخطاب الديني لا يعنى بإنقاذ الانسان المعاصر من وهدة التسليع المادي لكينونته، أو تخفيف تمرد الإنسان على فطرته وكرامته، ومع هذا الغياب من مناقشة تلك الظواهر الإنسانية المتعالية في تقزيم الفرد وتحويله إلى حيوان لذائذي لا نجد إلا القليل ممن ينقاش تلك المشاهد وبإسلوب وعظي ترهيبي لا يسبر غور الإشكال ولا يحلل أبعاده الفلسفية والفكرية والاجتماعية.

والعودة للأنسنة ضرورة معاشية وحاجة دينية تلبي رغبتنا في التجديد نحو أفق أوسع لإعمال الدين وتطوير وجودنا الحياتي في العالم. فمن وجهة نظري أن التجديد يكمن حيث تكون العودة للمسلمات والأصول التي تنطبق عليها الأوصاف الثلاث الأتية: أن تكون واضحة وجامعة ودافعة.

واعتقد أن المقاصد نجحت نجاحا تاريخيا تجديديا، نقلت الفكر والفقه من تعقيدات الفقهاء وخلافاتهم مع الخصوم، وهيمنة التصورات الشخصية على بعض مفردات الشريعة، نحو طور جديد حقق وئاما وأئتلافا جمع الأمة في بعض اللحظات الحرجة من الفرقة والضعف، وأعاد للنظر والاجتهاد وهجه بعيدا عن مدونات التقليد وما أفرزته من تعصب وانغلاق، فمشروع الإمام الشافعي في وضع قواعد الإستدلال ورسم خارطة الإجتهاد الفقهي، كان بمثابة رباط جامع للمدارس التي بدأت تتنافر لغياب تلك القواعد الجامعة، فعملية إظهار معالم الإستدلال هو نزوع نحو الكليات وردّ للمقاصد يوجّه الأمة نحو الوحدة، ومثله قام الغزالي في إحياء علوم الدين بإظهار مقاصد العلوم من خلال إحياء القلوب وتزكيتها كونها ثمرة العلم ونتاج المعرفة، وكذا فعل ابن تيمية في تطهير علم الكلام من تخيلات الفلاسفة وفرضياتهم نحو جوامع وكليات طريقة السلف في فهم نصوص العقائد، ولا يخفى دور الشاطبي في إكمال منهج الشافعي برسم معالم أعلى تظهر على الفروع والأصول من خلال كتابه الموافقات بالرد إلى مقاصد الشريعة العليا كمنهج نظر وترجيح عند الإختلاف والتعارض. كل ما سبق من تجارب مقاصدية كان لها دورا إحيائيا وتجديديا لبنية الفكر بعدما تقوقع العقل الحضاري في التقليد وانغمس في جدل الخلافات.

والتجديد اليوم في أمس الحاجة لتلك الكليات الجامعة الواضحة الدافعة التي أرى انطباقها على القيم العليا للإنسان، ولا شك أن العالم اليوم بكل أديانه وتنوعاته ستجد في القيم الإنسانية المشتركة ضالتها، في التعاون والتخلّق وتسيّد العقل القيمي بدلا من العبثية والفوضوية وتسليع العالم بالماديات الاستهلاكية التي تميت إنسانوية الفرد بدلا من إحيائه.

مشاريع الأنسنة المعاصرة: مقاربة بين الطاهر ابن عاشور ومحمد أركون

يُطرح مفهوم الأنسنة في سياقات متعددة منذ ظهور هذا المصطلح وما تبعه من معانٍ ودلالات فلسفية، كانت البدايات في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي بأوروبا أو في القرن العاشر الميلادي ببلاد العرب في عهد الدولة البويهية، حسب ما توصل إليه الباحث الدكتور محمد أركون (انظر: الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي ونقدي، ترجمة محمود عزب، دار الطليعة، الطبعة الأولى 2010م ص 36)، ولكن الاستعمال الأكثر جدلا في ساحتنا الإسلامية، والمستجلب معه معارك فكرية لا تزال فتائلها تشتعل حتى اليوم؛ وضع الأنسنة مقابل الإسلام عقيدةً وشريعة، بحيث يكونا متضادين دون تلاقي، ويقصد بها في هذا المقام المغاير، مركزية الإنسان وتحرره العقلي من أي قيود، بحيث يتم التعامل مع كل المعطيات والموجودات وفق النظر الإنساني البعيد عن كل التصورات القبلية، أو الدينية على وجه الخصوص، بحكم أن الأنسنة نتاج الردّة عن التطرف الأصولي للدين، وهي بهذا الاعتبار تنطلق من خلال مفاهيم علمانية مابعد مسيحية، حيث بدأت المناداة بالأنسنة المشتركة بين البشر، بعدما ضاقت المجتمعات من حروب الطوائف واقتتال أهل الأديان ومواجهات التيارات الأصولية للمجتمعات الإنسانية، لذلك برز في هذا الميدان عدد من الباحثين المنادين بالنزعة الإنسانوية أو الأنسنة أو الإنسانية؛ كمدخل نقدي وفكري يعالج تلك الظواهر الدينية المتشددة ويقدم حلولاً فكرية بديلةً عن لبوس العقائد والأديان، ولعل أبرز المساهمين العرب في هذا المنحى الأنسانوي في عصرنا الحاضر هو المفكر الدكتور محمد أركون (1928-2010م) من خلال عدد من كتبه وأطروحاته العلمية، مثل كتابه "نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي، ترجمة هاشم صالح، طبعة دار الساقي 2006م" وكتابه الآخر "معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ترجمة وتعليق هاشم صالح، طبعة دار الساقي 2001م" بالإضافة للكتاب الذي ذكرته في مطلع الحديث.

ويعتبر أركون من أكثر المعاصرين استجلابا للأنسنة وطرحها كرؤية ومخلص للعالم والإنسان شرطها الأساس تحرير عقل الإنسان من أغلال التقليد، وفتحه على التأويل الحرّ، الذي يعتمد علاقة جديدة بينه وبين النص، وبـيـنه وبيـن العـالـم، تـكون الأسبقية فيها للإنسان، أي أن الإنسان هو مرجعية ذاته، وهو الذي يؤوّل النص بعيداً عن كل محدّداته القبلية أو التاريخية أو الأيديولوجية.

اتجاه محمد أركون في الأنسنة

ولعلي أُبرز أهم ملاحظتين على هذا الإتجاه الأركوني للأنسنة من خلال ما يلي:

أولا: يفرق أركون بين الأنسنة الشكلانية المنفصلة عن الواقع والعنصرية في نظرتها للمجتمعات البشرية، والمتجهة نحو الإلحاد الذي لا يمكن للإنسان مهما كان؛ الاستغناء عن حاجاته الروحية، كما ينتقد وبشكل أكبر الأنسنة الدينية التي تدّعي الحقيقة المطلقة وتتمركز حول توظيف كل أشكال الحياة بأنها إرادة الإله القطعية، وهذا التصورات للأنسنة عند أركون صحيحة من حيث مطابقتها للواقع الإسلامي أو المسيحي في صورته المحرّفة أو المتشددة، لذا يجعلها هدفه الأول في معاركه الفلسفية ضد أعداء الأنسنة، لكن يؤخذ عليه مبالغته الشديدة في الربط بين الأديان السماوية باعتبار وجود الجامع اللاهوتي المناقض لتحرر العقل وانفتاحه، وبالتالي يلغي أي فروق بين الإسلام والمسيحية في تعاملها مع مركزية الإنسان والإهتمام بعقله، كما في قوله: "إن قوة الانتفاض التاريخي للإسلام السياسي الحالي تجبرنا على استعادة المسار النقدي والجينيالوجي الذي اعتمده الفكر الاوروبي في مواجهة سلطة الكنيسة الكاثوليكية وضغوطها ومقاومتها ووضعيتها... فلا يمكن أن ينجح مادامت الأطر والأسس التاريخية القصصية للإيمان غير مهدمة، كما هدمت أسس الإيمان المسيحي منذ القرن الثامن عشر" (الأنسنة والإسلام ص 34) وتكرر هذا المنحى في أكثر من موضع في كتبه، وهذا يجعل المعالجات التفكيكية للفكر اللاهوتي (المسيحي والإسلامي) تبدو واحدة ومتطابقة في شكلها ومضمونها التاريخي، وهو ما يحاول أركون تعميقه وإثباته بفتح باب النقد ليس على الممارسات المتطرفة للمسلمين؛ بل في جوهر الإسلام ذاته ومعتقداته المسلّمة التي لم تصطدم مع العقل أوتصادره، كما في مبحث الخلاص والسعادة من كتابه (انظر: الأنسنة والإسلام 65-85) باعتبارها حقائق نسبية وضعها البشر أنفسهم، وهذا ما يجعل موقفه حاداً ضد الأديان وممارساتها التقليدية ومنفتحا للروحانيات الغنوصية والأدب الفلسفي الملحد.

ثانيا: يقدم أركون قراءتين مزدوجتين، الأولى؛ تنظر إلى الفقهاء السنيين أنهم "صغار الأئمة قليلي المهارة لم يتجاوزوا حتى الآن التلفيقية التفسيرية الساذجة التي تعيد بعض الثقة إلى المؤمنين والمؤمنات البسطاء المجذوبين نحو طقوسية وأيديولوجيا إسلام المعركة السياسية.. فالسياسة السنية التقليدية (الأرثوذكسية)أو بالأحرى سياسة التشدد الدغمائية التي تقيد التعددية العقائدية، فهذه تعززت مع ظهور السلاجقة الأتراك ثم ازدادت قوة لعهد طويل مع ظهور العثمانيين" (الأنسنة والإسلام 42)، فاركون هنا يحمّل هؤلاء أو كما سماهم أصحاب (الاسلامويات التقليدية) وزر تراجع ونكوص نزعة الأنسنة، بينما يقدم قراءة نرجسية منتقاة للدولة البويهية الفارسية التي استولت على السلطة في بغداد سنة 945م، لأنها أنتسبت للفلسفة المثالية كما يتصور، وظهر فيها أبو حيان التوحيدي لتمرده الفكري على السياقات السنية التقليدية، ويعتبر استيلاء السلاجقة السُنّة عودة لهذا السياق اللاإنساني، ولم يقصد أركون من هذا التقسيم النفَس الطائفي؛ بل جعل أي حركة معلمنة ومتأثرة بالفلسفة اليونانية أو الليبرالية؛ سواء كانت في علم الكلام أو الأدب أو السياسة، هي منتج أنسني متقدم ينبغي الاحتفاء به، لكن من المهم الإشارة أن هناك نماذج سنية يُعتبرون من أهم الفقهاء التقليديين - على حد تعبير أركون عنهم - من حيث تناولهم التأويل السلفي للعقائد والنصوص، كابن حزم وابن رشد وابن خلدون، ومع توجههم اللاهوتي أو الديني؛ فإن اركون يشيد دائما بدورهم الأنسني، لذلك ليست العلة عند أركون في الأنسنة من عدمها ارتباط الفقيه بالنص واعتباره المنهج الأصولي في النظر والاجتهاد؛ بل بمدى تحرره من التقليد واتساع أفقه للثقافات الأخرى واعتماده على العقل في فهم الوحي وتنزيله، وهذه المواصفات موجودة في عدد من الفقهاء قديما وحديثا، ولو خصص أركون نقده في الممارسات المتشددة والمتعصبة دون ربط ذلك بالوحي وقدسية نصوصه لكان أجدى في النظر من لغة التعميم الطاغية في أبحاثه. (انظر للاستزادة: كتاب الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون، تأليف كحيل مصطفى، طبعة الدار العربية للعلوم – ناشرون، وكتاب الدين والنص والحقيقة. قراءة تحليلية في فكر محمد أركون للدكتور مصطفى الحسن، طبعة الشركة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2012م، ص 93-110).

ومع حاجتي الماسة في التعمق وزيادة البحث في فكر أركون، إلا أن لدي انطباع عام فيما توصلت إليه من قراءة؛ أن أركون تناول موضوعا مهما ثريا في حقل الفكر الإسلامي كان يريد به العودة للفضاء الإنساني ومركزيته، التي لم ينفيها القرآن في كون الإنسان خليفة الله ومحور رسالاته والمسخَّر له الكون وغير ذلك من قطعيات القرآن، لكن أركون من خلال موقفه اللاهوتي النقدي وعقله الوجودي جعل فكرته للأنسنة تعود للمثالية الفلسفية عقلا لا واقعا.

اتجاه ابن عاشور في الأنسنة:

أما الجزء الآخر من البحث، والمتعلق بالمقاربة المفاهيمية للأنسنة من خلال أنموذج الفقيه الأصولي، فقد اخترت الإمام الطاهر ابن عاشور (1879-1973م) وهو أسبق في السياق الزمني من الدكتور أركون ولكن الأخير هو الأكثر من حيث التناول والإنتاج المعرفي في حقل الأنسنة.

الإمام ابن عاشور قامة علمية يندر تكررها في التاريخ المعاصر، لسعة معارفه ودقة فهمه لأسرار الشريعة ومقاصدها، يظهر ذلك في مؤلفاته الباهرة، وأهمها تفسيره العظيم "التحرير والتنوير" وكتابه المميز في "مقاصد الشريعة الإسلامية"، والمقصود في هذا المقام؛ إبراز النزعة الإنسانية على وجه الخصوص، باعتبار أن الإمام ابن عاشور قد أهتم بالنزعة الإنسانية وجعلها وصف الشريعة الإسلامية الأعظم، ومن خلالها بُنيت مقاصد الشريعة وذلك من خلال مفهوم (الفطرة)، فقد رأى أن معنى الفطرة الوارد في القرآن لم يجد من أتقن الإفصاح عنه. (انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع 1978م ص 57) كما في قوله تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ". (الروم 30)، فاستنتج ابن عاشور أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي أصل الخلقة الإنسانية، وهذا الأصل الأنسني لا ينبغي أن يغيب في كل عقائد وتشريعات الإسلام، يشرح مراده في تفسيره بقوله: "أن الإنسان مخلوق على حالة الفطرة الإنسانية التي فطر الله النوع ليتصف بآثارها، وهي الفطرة الإنسانية الكاملة في إدراكه إدراكا مستقيما مما يتأدى من المحسوسات الصادقة، أي: الموافقة لحقائق الأشياء الثابتة في نفس الأمر، بسبب سلامة ما تؤديه الحواس السليمة، وما يتلقاه العقل السليم من ذلك ويتصرف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمين، بحيث لو جانبته التلقينات الضالة والعوائد الذميمة والطبائع المنحرفة والتفكير الضار، أو لو تسلطت عليه تسلطا ما فاستطاع دفاعها عنه بدلائل الحق والصواب، لجرى في جميع شئونه على الاستقامة، ولما صدرت منه إلا الأفعال الصالحة، ولكنه قد يتعثر في ذيول اغتراره ويرخي العنان لهواه وشهوته، فترمي به في الضلالات، أو يتغلب عليه دعاة الضلال بعامل التخويف أو الإطماع فيتابعهم طوعا أو كرها، ثم لا يلبث أن يستحكم فيه ما تقلده فيعتاده وينسى الصواب والرشد" (تفسير التحرير والتنوير، طبعة دار سحنون بتونس 31/425)، وهذه النتيجة التي توصل لها، استعان في فهمها بشرح ابن سينا للفطرة، حيث جعل أن مشاهدة المحسوسات وعرضها على الذهن دون شك فهو من فطرة القوة التي تسمى عقلا، وقد تكون الفطرة صادقة من خلال مقدمات مشهورة محمودة أوجب تصديقها شهادة الكل مثل أن العدل جميل، أو تقررت في الأنفس وتعودت عليها دون نكران أو ضرر مثل الحياء والاستيناس، أو صدقتها الفطرة نتيجةً للاستقراء الكثير، وبناءً عليه يرى ابن عاشور أن الإسلام بأصوله وفروعه يتماشى مع الفطرة أي من النزعة الإنسانية الأصلية، والتي هي مشترك بشري عام، ولو افترضنا التعارض بين مطالب الإنسان وماجاء في الشريعة فإن السبب لهذا التعارض هو انحراف الفطرة أو انحراف التأويل للشريعة، لذلك جعل ابن عاشور الفطرة الصافية أو الأنسنة النقية من الأهواء؛ أعظم أوصاف الإسلام وتقوم عليها مقاصد الشريعة.

وقد أهتم بضبط مفهوم الأنسنة من خلال معنى الفطرة الوارد في القرآن وذلك بذكر المحترزات، خوفا من الوقوع في زلل الأفهام وانحراف التصورات، وبالتالي يُجعل تصرف الإنسان أيا كان جزء من أحكام الشريعة، ولأجل ذلك قال: "إن المجتمع الإنساني قد مني عصورا طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل، فاختلطت عنده بالعلوم الحق فتقاول الناس عليها وارتاضوا على قبولها، فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته، فتلك يخاف منها أن تتلقى بالتسليم على مرور العصور فيعسر إقلاعهم عنها وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحق، فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كل سبيل، واستوضحوا خطيرها وسليمها فكانوا للسابلة خير دليل.

وكون الإسلام هو الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية، وهذا ما أفاده قوله ذلك الدين القيم. فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح لجميع الأمم، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحا للناس كافة وللعصور عامة وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحا يسرا لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة" (تفسير التحرير والتنوير 22/92). لذلك دعا ابن عاشور للمحافظة على الفطرة بالعوائد السليمة كالآداب ومحاسن الأخلاق؛ بل إنه أبدع في ذلك عندما جعل "الحضارة الحق من الفطرة لأنها من آثار حركة العقل الذي هو من الفطرة، وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة لأنها نشأت عن تلاقح العقول وتفاوضها، والمخترعات من الفطرة لأنها متولدة عن التفكير، وفي الفطرة حب ظهور ما تولد عن الخلقة" (مقاصد الشريعة 59). واعتبر هذا الفهم من ابن عاشور في غاية العظمة والسمو العقلي، فالقليل جداً من سار على هذا المنوال الإبداعي والتجديدي، الذي يطوّر مفاهيم الدين بكليات النظر الأولى، كالعودة للأنسنة أو الفطرة، فيرتقي بالواقع بدلا من سحبه إلى ماضوية الاجتهادات السابقة وتفريعات الفقهاء الأوائل التي نجحت في علاج واقعهم وفق تصورهم آنذاك في حين قد يكون حلّهم السابق مشكلةً واقعة في عصرنا الحاضر، ويمكن أن يُؤسَّس على مفهوم الفطرة عند ابن عاشور؛ مجالات تجديدية متنوعة حسب مساقات الحياة الإنسانية المستجدة.

وأدّعي دون يقين أن فكرة العقد الاجتماعي الذي أتى بها جان جاك روسو (1712-1778م) ليست ببعيدة عن مفهوم الفطرة وتأسيس الأفعال والأقوال والتشريعات صحة وسقما على هذا الأساس الذي سماه بالقانون الطبيعي (انظر: في العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، ترجمة عبدالعزيز لبيب، طبعة مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2011م، ص 120، الكتاب الثاني الفصل السادس).

خاتمة

إن الأنسنة اليوم - من وجهة نظري - مجال خصب وحيوي لفعلٍ حضاري رشيد ومشترك إنساني مفيد، قد يسهم بلا شك في تخفيف سياسات القهر التي تفرضها القوى العظمى على الإنسان الضعيف في العالم الثالث، أو تسلّعه كغرضٍ تجاري قابل للاستهلاك والفناء، ونحن أمام تفعيل هذا النوع من الأفكار المؤسِّسة للمشترك الإنساني ليقاوم هذا المدّ العولمي؛ نحتاج إلى أركون ونقده للأصولية أو الأيديولوجيات التي همّشت الإنسان أمام لاهوت التقليد والتبعية القروسطية العمياء، دون أن نهمّش ما قرره ابن عاشور من صحة ما جاء في فطرة الإسلام من تحقيق عملي لمركزية الإنسان كأصلٍ جوهري لأكثر الأحكام الشرعية بشرط أن تخلص من فساد التصورات والعوائد الباطلة، وبذلك نحيي روح هذا الإنسان وعقله بعدما أعلنت العولمة موته القيمي. 


* ألقيت هذه الورقة في المؤتمر السنوي الثاني لمؤسسة مؤمنون بلا حدود المنعقد بمراكش يومي 17- 18 ماي 2014