إيديولوجيا الجسد في المخيال الديني: تقديم كتاب "إيديولوجيا الجسد" لفؤاد إسحاق خوري


فئة :  قراءات في كتب

إيديولوجيا الجسد في المخيال الديني: تقديم كتاب "إيديولوجيا الجسد" لفؤاد إسحاق خوري

يمثّل الجسد في الذّاكرة الإنسانية، والمخيال الجمعي الدّيني على وجه الخصوص، نقطة التجاذبات الكبرى، والأرضية التي تتلاقى حول دراستها مجموعة من الحقول المعرفية، ليكتسب بهذه الحظوة المكانة الأولى في دراسة الأبعاد الإنسانية. لم يكن هذا الاهتمام وليد اللّحظة التي ازدهر فيها الاجتماع الإنساني، أو الأنساق الفلسفية والأنثروبولوجية التي جعلت الكائن الإنساني محوراً لأبحاثها. ولكنّ الاهتمام بالجسد، لصيق باللّحظة الأولى التي انفجر فيها الوعي الإنساني بذاته، وجسده، مثيرا كلّ التساؤلات حوله. ولعلّ الدِّين في شقّه التوحيدي، من خلال نصوصه المقدّسة كان ولا زال يقرأ الجسد من منظورات مختلفة تتراوح بين الثنائيات المتناقضة كما سيأتي لاحقاً. فالجسد من خلال هذه التّعابير الدّينية إما يكون رمزا للطّهارة تارة، وإمّا مدعاة للنّجاسة تارة أخرى بتحديدات تختلف في الشّكل وتتّفق في المضمون من خلال تخريجات يؤصِّل لها كلّ دين على حدة.

ولم تختلف النّظرة إلى الجسد في الدين عن غيرها من المناظير الأخرى، خاصة تلك المتعلّقة بالاجتماع الإنساني. فعالم الجسد هو ذلك العالم المليء بالرّموز والإشارات والتعابير في مختلف الأوضاع التي يجترحها وقوفاً وركوعا، وجلوساً، وفرحاً وحزناً. فكان بحقّ يشبه المجتمع في تراتبيته كما أشار إلى ذلك الكتاب قيد المدارسة، حيث تراتبية الجسد تبدأ بالأعلى وتنتهي بالأدنى. فالأعلى يرمز إلى السموّ والوجاهة والكرامة، والأدنى يحمل كلّ معاني التّحقير والازدراء. وهذه التراتبية في الجسد تتماشى مع تراتبية المجتمع، وتتماهى معها. فعلية القوم دوما هم "الرؤساء" من الرأس و"الوجهاء" من الوجه و"الأعيان" من العين. وفي المقابل تجد كلمات تنتمي إلى الجزء السّفلي من الجسد تعبّر صراحة على هذا النّمط الوضيع الذي يحتلّه هذا الجزء من المجتمع في النظرة إلى الجسد، ككلمة "خدم" التي تشبه إلى حد كبير كلمة "قدم".

يأتي كتاب "إيديولوجيا الجسد رموزية الطّهارة والنّجاسة" للدكتور فؤاد إسحاق خوري في هذا السّياق التّوضيحي لموضوع الجسد، والمتناقضات التي يحيى وسطها. وقد صدر الكتاب عن دار السّاقي في طبعته الأولى سنة 1997. مقسّما إلى فصول ستة كلّها تعبّر عن رمزية الجسد وتعبيراته الاجتماعية، وعلاقة الجسد بالروح، والتّركيز على التّصورات الدّينية للجسد وكيفية تأثيرها على مسلك المؤمنين. كما تناولت تصنيف المخلوقات والكائنات إلى طاهر ونجس، وهو ما سيبينه الحديث عن رمزية الدم والجنابة.

بعد المقدمة التي اعتبرها فؤاد إسحاق خوري بمثابة الفصل الأول، موضحا من خلالها تجليّات الجسد الاجتماعية، واختلاف النظرة إليه، تبعا للتراتبية التي يعرفها المجتمع، ينتقل بنا الكاتب إلى الفصل الثاني للحديث عن العلاقة الجامعة بين الرّوح والجسد، وهذا الفصل بين الرّوح والجسد في الثقافات الإنسانية، حيث يمثل الجسد ذلك البعد الظاهري من الكائن الإنساني، والرّوح ذلك البعد الغيبي الأزلي منه. وفي القرآن الكريم استعملت لفظة الجسد بمعنى الصّورة أو الجسم الذي لا حياة فيه: "فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ" (طه 88). أو صفة من صفات الخلق الميت: "وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ" (الأنبياء 8).

أما الروح فتأتي بمعنى الرحمة: "لا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف 87). وقد تأتي بمعنى ملك من الملائكة كما في سورة مريم: "فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا" (مريم 17). وكذلك في آيات خلق عيسى ابن مريم وآدم: "فإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (الحجر 29). وهذا يحيلنا إلى صعوبة الفصل بين الجسد والروح في هذا السياق الديني. وهذا ما أشار إليه الكاتب بوضوح حينما قال بأن: "تحوّل الروح إلى جسد والجسد إلى روح يعني أنّ الفصل بين الروح والجسد... لا يأتي بشكل قاطع وحاد كما يستدل من معناه اللغوي الصرف"[1].

ولكي يتضح المشهد أكثر في أبعاده الدّينية أضاء الكاتب على مسألة العلاقة الجامعة بين الطّهارة والنّجاسة في الجسد. فطهارة الجسد هي طهارة للروح، ونجاسته هو نجاسة لها. وهو ما يبيّن هذا الارتباط العقائدي في البنية الفكرية الدينية عموما مهْما اختلفت التّفاصيل. ومن هنا نفهم فكرة الوضوء والغُسل، وأيضا الصوم عن الطعام والشراب عند مناولة القدّاس في تقاليد الكنائس الشرقية. ولكي يتّضح هذا البعد العقائدي في عالم الأديان بشكل أكبر، ينقل لنا الكاتب صورة أخرى من عالم الإنسان، أو من ثقافتنا اليومية. فالطّهارة والنّجاسة وهما تعبيران عن عالم مقدّس، يقابلهما فكرتا النّظافة والقذارة. فالاغتسال قبل الصّلاة طهارة، أما بعد مزاولة الرياضة فنظافة. وكذلك الصوم فهو تهييء لتقبّل جسد المسيح، لكنّه حمية في ثقافتنا.

والغرض من هذا العرض أنّ الأديان وحدها هي من تجعل الجسد في مراتب روحية، تخرج به عن وضعياته الدنيوية عن طريق العبادات والطقوس المرافقة لها من وضوء وصيام، واغتسال. وبالرغم من ثنائية الفصل بين الجسد والروح "إلا أنّ هناك مفاهيم دينية كثيرة كالطّهارة والنجاسة مثلا لا يمكن التّعبير عنها إلا بالمظاهر الجسدية بغضِّ النظر عن مدى الأوضاع الرّوحية التي تعكسها"[2].

في الفصل المتعلّق بالتصوّر الدّيني للجسد يرى فؤاد إسحاق خوري أنّ التصور والمسلَّمات الإيديولوجية للجسد تحدّد كيفية التعامل معه من النّاحية المسلكية وبالتالي تقولب مفاهيم الحشمة والعفة والطّهارة والنجاسة تبعاً لهذه التّصورات. فالجسد الإنساني عورة سواء تعلّق الأمر بالرّجال أو النساء، ولهذا جاء الأمر بغضّ البصر عن المؤمنين والمؤمنات، وكذلك الأمر بتحصين الفرج، وهو الواقع بين فخدي الرجل والمرأة، وكذلك يجب إخفاء زينة النساء إلا على لائحة تمّ ذكرها في آيات سورة النور، وتحدّد من يباح لهم النظر إلى زينة النساء.

لكنّ الملاحظ هنا ومن منظور ديني هو التّركيز على جانب النّساء أكثر من الرّجال، وذلك من خلال الأمر باستعمال الحجاب، والنّهي عن الضّرب بالأرجل، وإخفاء الزينة. مما يدلّ دلالة واضحة على عدم التساوي بين جسد المرأة والرجل في المخيال الديني، بالرّغم من أنّ الآيات تجعل المرأة والرجل متساويان على مستوى الخلقة البشرية: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً" (النساء 1). ولا يقف التناقض عند هذا الحدّ. فلقد صوّر القرآن الكريم، الاستمتاع بالنّساء واعتبارهنّ زينة من أمتعة هذه الحياة الدنيا، في حين أنّ ملامسة النّساء، والجماع معهنّ، يضع جسد الرجل في مرتبة النّجاسة الموجبة للطهارة. وكذلك الأمر بالنسبة لتحديد عورة الرجل والمرأة، فبينما تحدّد عورة الرجل في الجزء الواقع بين السرة وما تحت الركبة، يعتبر جسد المرأة كله عورة عند البعض، واستثناء الوجه والكفين عن البعض الآخر.

انتقل هذا الوضع الاعتباري للجسد من المنظور الدّيني إلى نطاقات أخرى لعلّ أهمها الفنّ. فاعتبار الجسد عورة جعل الفنّ الإسلامي يزخر بالاهتمام بالخطّ والحرف على حساب الصّورة ومفاتن الجسد. وهنا الفرق بين التصوّر المسيحي للجسد، والتصوّر الإسلامي للنّظرة إليه. فالمسجد الإسلامي لا يتوفر على صور أو رسوم تعتني بالجسد الإنساني لاعتبارات تمّ الإشارة إلى بعضها، وكذلك الرّبط بين الصّورة والرسم وبين الخلق. حيث لا يجوز في التصور الإسلامي مضاهاة الله في عملية الخلق. بخلاف المسيحية وخاصّة الكنيسة الشرقية، التي تحفل بصورتي المسيح والعذراء، وصور القدّيسين، والصّليب. وهو ما يحيلنا على تأله الجسد في النّسق المسيحي.

هذا التأكيد على خلاص الجسد في النّسق الديني المسيحي أدّى إلى التشديد على القلب في الإيمان أيْ تقبل المسيح في القلوب. وهنا تحضر إشكالية خلق الله الإنسان على صورته المتواجدة في النّسقين المسيحي والإسلامي. فحسب التفسير الأرثوذوكسي للإله هناك تركيز على أوّلية الأب في الثالوث أو الأقانيم الثلاثة (الأب، الابن، الروح القدس). بينما التّفسير الكاثوليكي يساوي بينهم.

إنّ الجسد في المفهوم المسيحي يرمز إلى كينونة الإنسان بكامله كما يؤكّد على ذلك فؤاد إسحاق خوري، فهو الذات والنفس والشخص. ومن هنا كان الاعتقاد بأن الاقتران أو الزواج يؤدي إلى وحدة الرجل والمرأة في جسد واحد كما تؤكد على ذلك بعض النصوص الدينية.

الفصل الرابع يخصّصه الكاتب إلى تصنيف الجسد بين الطّاهر والنجس، وهو تتمة لما أشرنا إليه سابقا. فإذا كان الجسد عورة فالأجدر به أنْ يحصّن ويطهر. أما إذا كان الجسد مؤلّها كما رأيناه في السّياق المسيحي، فهو طاهر لا يحتاج إلى تطهير. فالجسد هنا طاهر لأنّ وجود الإنسان هو امتداد لوجود الله، وهو خليفته بالتعبيرات الإسلامية. هذه الطّهارة لا تقتصر على الإنسان بل تتعدّاه إلى باقي الكائنات والمخلوقات. وعلى أساس هذا الاعتقاد انتفت صفة النجاسة عن الأشياء والمخلوقات كما انتفت من الأطعمة المشتقة منها. فكلّ طعام حسب هذا التصوّر هو طعام طاهر ما لم يتسبّب في إضعاف الأخ أو زرع الشك بإيمانه. وقد ورد في الإنجيل: "أما تفهمون أن كل ما يدخل الإنسان من خارج لا يقدر أن ينجسه لأنه لا يدخل إلى قلبه بل إلى الجوف، ثم يخرج إلى الخلاء، وذلك يطهر كل الأطعمة ثم قال: إن الذي يخرج من الإنسان ذلك ينجس الإنسان لأنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة: زنى، فسق، قتل سرقة، طمع، خبث، مكر، عهارة، عين شريرة، تجديف، كبرياء، جهل جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان" (مرقس إص 7: 18/23).

وهكذا تكون المسيحية قد فتحت مجالا جديدا في عوالم اليهودية التي كانت تركز كثيرا على نجاسة الأشياء والمخلوقات كما ورد في العهد القديم. وبهذا التحوّل في العهد الجديد تصير النجاسة ملتصقة بالأعمال الشريرة، وليس في بعض الموجودات والأشياء.

ولو انتقلنا بشكل موجز إلى النسقين الدّينيين اليهودي والإسلامي، لاتضح لنا بأنّ النجاسة والطهارة ملتصقة بكينونة بعض الأشياء والموجودات، وليس بالعنصر البشري الذي ينجّسها كما سقناه في الأمثلة السابقة بالنسبة للمسيحية. ففي هذين النسقين الدّينيين هناك الأشياء الطّاهرة وهناك النّجسة، وينسحب هذا التوصيف على مجموعة من الأشياء والموجودات، ففي باب الطّاهر هناك الأنعام المجترة والمشقوقة الظلف كالبقر والجاموس والغنم...: "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ۖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ" (الأنعام 17). وهناك اختلاف على مستوى الإبل، فاليهودية تعتبرها نجسة، في حين يحللها الإسلام. كما حرّم الإسلام كذلك الكلب والخنزير لنجاستهما، وحرم كل ذي مخلب من الطّيور المفترسة كالنسر والصقر. أما الحشرات فلا نص عليها إلا من باب إلحاقها في الفقه الإسلامي بالخبائث. وما يقال عن هذه الأنواع يقال عن السمك والطيور ومنتوجاتها. فما حلّ لحمه حلّ بيضه، والعكس صحيح.

إنّ هذه التصنيفات غير خاضعة لمنطق واقعي، ونجد فيها تباينات وتناقضات من مجتمعات لأخرى، ولعلّ الفقهاء أو رجال الدين عموما يحاولون تلبيس الأمر طابعاً صحيا، حينما يربطون التّحريم بمسألة الحفاظ على النّفس، أو الضّرر الذي قد تسبّبه هذه المأكولات أو الموجودات والأشياء، وأنّ طبيعتها لا تخلو من نجاسة أصلية متلبّسة بها. غير أنّ الواقع لا يساير هذا الطرح النصّي والفقهي الظاهري. إذ ليس كل ذي ناب أو ظفر أو مخلب هو من أكلة اللحوم كالفيل مثلا، فهو حيوان عاشب. كما أنّ تحريم أكل لحم الخنزيز قد تمّ ربطه بأنّه حيوان يعشق المزابل ويتغدى على القاذورات والأوساخ. في حين أنّ الدجاج أيضا يعشق هذه المأكولات والأماكن، ولحمه يحمل أمراضا كثيرة، ولعلّ أهمها ما يسمّى الآن بأنفلونزا الطيور والدجاج واحد منها.

لعلّ موضع الغرابة هنا في هذا التصنيف الديني للموجودات الطاهرة من النجسة، هو اعتمادها على مقاييس غير علمية حيث أنّ إصابة بعض الحيوانات والطيور بأمراض معدية تنتقل إلى الإنسان وتهدّد وجوده لا تجيب عن سؤال الطّهارة والنّجاسة. فلماذا يحرّم كل ذي ناب أو مخلب أو ظفر؟ ماذا في النّاب أو الظفر حتى يحرم؟. وهنا يؤكّد الكاتب على أنّ تحريم الكواسر وتحليل الأنعام يعود إلى سبب بسيط هو أنّ الإنسان البدائي لم تكن لديه الوسائل التقنية للتغلّب على الوحوش الضّارية بسهولة، فحرّمها، لعدم قدرته على التغلّب عليها. بخلاف الأنعام المجترة التي تدخل في نطاق جماعته من خلال تدجينه لها. كما أنّ هذه التصنيفات الانتقائية للأشياء الطّاهرة والنّجسة لا تعود بالضرورة إلى نجاستها أو طهارتها الأصليتين، أو بسبب نقلها للأمراض المعدية. فالسبب الأساسي هنا هو عدم توافقها مع نظرية الخلق والتكوين، أو إلى صعوبة دمجها في التصنيف الثنائي للمخلوقات. ومن هنا نفهم لفظة النجاسة في القرآن: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا" (التوبة 28). فالنجس هنا هو الخارج عن المجموعة العقدية أي عن جماعة المسلمين، وينسحب هذا الأمر أيضا على المرتدين. وكذلك الخارج عن مجموعته العصبية هو نجس، وكان يسمى بالصعلوك.

في الفصل الخامس يضيء فؤاد إسحاق خوري على نجاسة الدم، ليؤكّد على أنّ النّجاسة ليست شيئا ثابتا. بل هي كالأشّعة أو الوباء ينتقل من مريض إلى آخر. ومن هنا فالسّوائل مثلها كباقي الموجودات، ينسحب عليها وصف النّجاسة والطّهارة كالدم والمني، والبول...

وما يسترعي الانتباه في هذا السياق، وداخل هذا الفصل تحديدا، هو قصره البحث عن الدم. فرمزية هذا الأخير يلازمها التّضاد والتّناقض. فمن جهة هو رمز للعذرية والطهارة والشّرف. ومن جهة أخرى هو رمز للنجاسة والرّجس: رِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ" (المائدة 3). لهذا كان عقابا حسب القرآن لبني إسرائيل كما أكّدت الآية: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ" (الأعراف 133). ولم تقف نجاسة الدّم عند هذا الحد، حيث اعتبر دم الحيض نجساً لا يجوز وطء المرأة خلال فترته: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ" (البقرة 222). كما يحرّم عليها بسببه تأدية الصلاة، وقراءة القرآن مصداقا للآية: "لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ" (الواقعة 79). وفي بعض الكنائس المسيحية يحرّم على المرأة الحائض، دخول الهيكل وتمنع عنها المناولة لأنّها نجسة. ويزيد التناقض وضوحا أيضا في كيفية النظرة إلى دم الشهيد، فهذا الدّم مقدّس، وطاهر بحيث يتم دفنه دون غسل، وبثيابه. كما أنّ دم الثأر طاهر كسلفه.

في الفصل السّادس يضيء فؤاد إسحاق خوري على مسألة أخرى تحمل من التناقض ما حمله سلفها. وهو الشيء المتعلق بالجنابة وملامسة النساء. حيث أنّ الجنابة في الفكر الدّيني، والتصورات الفقهية التقليدية نجاسة، ولكن الأولاد والبنين والنّساء وهي كلّها أمور تفرض طبيعتها الجنابة، تصنّف من أمتعة الدنيا. ورغم اعتبار الأولاد فتنة في الحياة الدنيا، إلا أنّ هناك الكثير من النصوص التي تشجع على الزّواج، وحسن اختيار الزوجة، والتركيز في ذلك على الجانب الأخلاقي.

وفي الجانب المقابل فالأبناء زينة الحياة الدنيا، لذلك دعا القرآن إلى إتيان النساء أنى شاء الرجال: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ" (البقرة 223). والتعبير بأنّى شئتم يعني أنّ الزواج لغرض اللذة دون الإنجاب مسلك مقبول. وبالرغم من هذا الإطلاق في الآية "أنى شئتم"، فقد جاءت آية أخرى لتقيد هذا الإطلاق: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ" (البقرة 222). وهناك إجماع كبير على أنّ المراد ب آية: "مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ" هو الفرج. وفي هذا السّياق نفسه تمّ تحريم اللّواط وتمّ الأمر بقتل الفاعل والمفعول به كما جاءت بذلك العديد من الروايات. وكذلك تمّ تحريم الزنا، وعوقب فاعله بالجلد مائة جلدة بالنسبة لغير المحصن، أما إذا كان الفاعل أو الفاعلة محصن أو محصنة فعقابه الرجم.

وبالرغم من كلّ هذه الآيات والأحاديث الواضحة في الدّعوة إلى الاستمتاع بالزّواج، واعتبار النّساء متاعاً من أمتعة الحياة الدنيا، والدّعوة إلى ملاعبتهن والاستمتاع بطيبهنّ وحسن معاشرتهنّ، إلا أنّ هذه المعاشرة الزوجية وملامسة النّساء تفضي بالضرورة إلى الجنابة التي يرى فيها الفقه الإسلامي عين النّجاسة، التي وجب على المسلم التطهّر منها، بحيث لا يجوز له الصلاة بها، ولا إقامة بعض الفرائض الدينية المرتبطة بيوميات المسلم. فهذه الأقوال والتصوّرات المبالغ فيها حول الوضع الجنسي للمرأة إنّما تعكس وضعا حضاريا خاصا بالمجتمع العربي الإسلامي، ولا تعكس بالضرورة واقعا فيزيولوجيا كما أكّد الكاتب نفسه. لهذا وبفعل هذا التضاد الرمزي ترى البعض من المؤمنين لا يأتي امرأته إلا بعد الاستعاذة بالله من الشّيطان الرجيم، وكأنّه مقدِم على عمل شنيع ومنكر.


[1] إيديولوجيا الجسد: رموزيّة الطهارة والنجاسة، الطبعة الأولى، دار الساقي لندن 1997، ص 12

[2]ـ إيديولوجيا الجسد، ص 21