ابتكار التَّقليد في السِّياسة الإسلاميَّة


فئة :  ترجمات

ابتكار التَّقليد في السِّياسة الإسلاميَّة

ابتكار التَّقليد في السِّياسة الإسلاميَّة

كان الرَّأي الشَّائع منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي؛ هو أنَّ مجتمعات الشَّرق الأوسط واجهَت خياراً قاسياً، «إمَّا مَكَّة أو المكنَنَة»[1]، وهي عبارة تلخِّص نظريَّة التَّحديث كما طُبِّقَتْ على المجتمعات الإسلاميَّة للشَّرق الأوسط. كما أنَّ المفاهيم الَّتي تحتويها العبارة تحكَّمَت في القرارات السِّياسيَّة في «العالم الواقعيِّ». ويعتبر شاه إيران الأخير واحداً فقط من العديد من قادة المجتمعات الإسلاميَّة الَّذين حاولوا نزع المشروعيَّة عن دور الإسلام في السِّياسة من خلال نعتِ الإسلام بالرَّجعيَّة والتَّخلُّف. ويمكن أن نقيسَ كيف رفض زعماء مسلمون آخرون هذه الثُّنائيَّة من خلال موقف آية الله الخميني (1902-1989):

إنَّ ادِّعاءَ أنَّ الإسلام يعارض التَّجديدات (التِّقنيَّة) الحديثة يشبه ادِّعاء محمَّد رضا بهلوي المخلوع بأنَّ هذا الشَّعب [الثُّوَّار المسلمون] يريدون السَّفَر على ظهر حيوانات تدبُّ على أربع، وليس هذا سوى اتِّهام أخرق. لذلك؛ إذا كانت مظاهر الحضارة تعني التَّجديدات التِّقنيَّة والمنتوجات الجديدة والابتكارات الجديدة والتِّكنولوجيا الصِّناعيَّة المتقدِّمة الَّتي تساعد على تقدُّم البشريَّة؛ فإنَّ الإسلام، أو أيَّ دينٍ توحيديٍّ آخَر، لم يعترض أبداً على تبنِّيها. بل على العكس مِن ذلك؛ يؤكِّد الإسلام والقرآن الكريم على العلم والصِّناعة[2].

إنَّ هذا التَّأكيد الحازم على توافق الإسلام مع التَّحديث يبدو لافتاً للنَّظر، وذلك بالنَّظر إلى تصوير الإعلام الغربيِّ لآية اللهِ بالخصوص والثَّورة الإيرانيَّة عموماً على أنَّهما رَجعِيَّيْنِ، بل و«ينتميان للقرون الوسطى». كما أنَّ فكرة أنَّ الإسلام يُمثِّل عائقاً أمام التَّقدُّم، والتَّنمية تدين برواجها لاستمرار نظريَّة التَّحديث.

«تحديث» المجتمعات الإسلاميَّة:

كانت هناك تمظهرات عديدة لنظريَّة التَّحديث، هذه النَّظريَّة الاجتماعيَّة الأكثر أهمِّيَّة الَّتي أثَّرَت في المقاربات الأكاديميَّة ومقاربات السِّياسات العموميَّة للعالم الثَّالث من خمسينيات إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي. كان تأثير صيغتها المبكرة أو «الكلاسيكيَّة» واسعَ الانتشار؛ لدرجة أنَّه صاغ سياسات المعونة والتَّنمية الَّتي قدَّمتها الدُّول الغربيَّة المُصنِّعة والمؤسَّسات الدُّوليَّة كالصُّندوق الدُّوليِّ وصندوق النَّقد الدُّوليِّ. وكانت كلُّ تنويعات هذه النَّظريَّة تقتسم مُسلَّمةَ أنَّ البنية الاقتصاديَّة المعقَّدة والتَّنمية السِّياسيَّة تسيران جنباً إلى جنب. هكذا؛ نقرأ في إحدى أكثر صيغها تأثيراً أنَّ «قوى التَّغيير التِّكنولوجيِّ والانتشار الثَّقافيِّ تدفع الأنظمة السِّياسيَّة في اتِّجاهات مُعيَّنة يمكن الإحاطة بها وتحليلها من حيث ارتفاع مستويات التَّنمية»[3].

قيل إنَّ التَّخصُّص الاقتصاديَّ يؤدِّي إلى المأسَسَةِ السِّياسيَّة، وإنَّ تنحيةَ النُّخبة التَّقليديَّة، الَّتي كانت تتمثَّل عادةً في مُلَّاك الأراضي، على يد الطَّبقات الوسطى الحضريَّة تؤدِّي إلى انبثاق بنيات تجاريَّة وبيروقراطيَّة وتعليميَّة مُتمركِزة. ووفقاً لهذه الصِّيغة مِن نظريَّة التَّحديث؛ تراجعت الخرافة وانحسرَ دور الدِّين في الحياة العامَّة. واعتُبِرَتْ المؤسَّسةُ الدِّينيَّةُ مقاومةً للتَّغيير. وما أضحى النِّظام المدنيُّ علمانيَّاً؛ إلَّا وأصبح السُّلوك «العقلانيُّ» هو المعيار؛ مَا أدَّى إلى مساهمة سياسيَّة أكبر؛ أو على الأقلِّ إلى الاستقرار السِّياسيِّ[4].

كان للتَّحيُّز العلمانيِّ لنظريَّة التَّحديث صدىً خاصٌّ في دراسات العالم الإسلاميِّ؛ فقد كان مُنظِّرو التَّحديث في بداية السِّتِّينيات يرون أنَّ العالم الإسلاميَّ يواجه خياراً مُرَّاً: إمَّا «نظام شموليٌّ إسلاميٌّ جديد» عازم على «إحياء الماضي»، أو «إسلامٌ إصلاحيٌّ» سيفتح «أبواب السَّدِّ ليغرقَه الطُّوفان»[5]. هذه النَّظرة المُفرطة في السَّلبيَّة لإمكانيَّات التَّطوُّر في المجتمعات الإسلاميَّة؛ تكشف عن اختيارٍ ملازمٍ لهؤلاء المُصلِحين الَّذين يناضلون من أجل العَلْمَنَة أمثال التُّركيِّ مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938) وأباطرة إيران البهلويِّين: رضا شاه (1878-1944) وابنه محمَّد رضا شاه (1919-1980). وفي سبعينيات القرن الماضي؛ استمرَّت المُسلَّمات المتعلِّقة بدَور الإسلام في عمليَّة التَّنمية تسير على نفس النَّهج: «في الدُّول الصِّناعيَّة؛ تتَّسع الهوَّة الفاصلة بين السُّلطة السِّياسيَّة والسُّلطة الدِّينيَّة أكثر فأكثر»، في حين أنَّ «تأثير الإسلام وسيطرته أقوى؛ نظراً لأنَّهما يحافظان على الوضع القائم في مجتمع مُتخلِّف»[6].

لقد تمَّ توثيق عيوب نظريَّة التَّحديث جيِّداً[7]، وأصبحَت محدوديَّته واضحة في كلِّ تحليلات العالم الإسلاميِّ[8]. تكمن أهمُّ صعوبات هذه النَّظريَّة في التَّعارض الحادِّ بين بناءَيْن مُصطنعَيْنِ: «الحداثة» و«التَّقليد»، وما يترتَّب عن ذلك من سوء فهمٍ لوظائف التَّقليد الاجتماعيَّة الرَّاسخة. وكما يلاحظ بلاك: «إذا كان المرء يعتبر التَّحديثَ إدماجاً أو إعادةَ إدماجٍ للمجتمعات على أساس مبادئ جديدة؛ فيجب عليه أن يعتبرها أيضاً تقتضي تفكيك المجتمعات التَّقليديَّة»[9]. لقد كان يُنظَرُ إلى «الحداثة» كــــ «توسيع للحرِّيَّات البشريَّة» و«تعزيزٍ لمجموع الخيارات» بما أنَّ النَّاس بدأوا «يتحمَّلون مسؤوليَّة» أنفسهم[10]. هكذا تمَّ خفض قيمة التَّقليد باعتباره يحمل النَّقيض من القِيَم. كما اعتُبِرَ عدوَّ التَّحديث الَّذي تؤدِّي إزاحته دائماً إلى العنف وعدم الاستقرار السِّياسيِّ؛ حيث «ينتشر الخراب وتتناثر الهياكل العظميَّة»[11]. لقد ظلَّ العديد من مُنظِّري التحديث منذ ثمانينيات القرن الماضي يوافقون على أنَّ افتراض فصلٍ صارمٍ بين التَّقاليد والحداثة يفرط في تبسيط عمليَّةِ تفاعلٍ معقَّدةٍ يتعايش فيها الدِّين والتَّقليد مع التَّنمية الاقتصاديَّة ومتطلَّبات المجتمع الحديث[12].

تطوَّرت النَّظريَّات الماركسيَّة اللِّينينيَّة للتَّنمية ونظريَّات التَّحديث بشكل متماثل من نواحٍ كثيرة. عندما أدَّت الثَّورة الإيرانيَّة سنة 1979 إلى إعادة النَّظر في نظريَّة التَّحديث في الغرب؛ كانت لها انعكاسات مماثلة في الاتِّحاد السُّوفييتيِّ الَّذي كان فيه الباحثون وصنَّاع السِّياسات يشتغلون في عزلة عن نظرائهم الغربيِّين[13]. لا يمكن تفسير الثَّورة الإسلاميَّة في إيران وظهور النَّشاط السِّياسيِّ الإسلاميِّ كقوَّة في السِّياسة العالميَّة بواسطة أطر المقاربة التَّقليديَّة السُّوفييتيَّة؛ ذلك أنَّ الفكر السُّوفييتيَّ مُقيَّد بالمسلَّمات الماركسيَّة اللِّينينيَّة الَّتي تلحق الدِّين بالبنية الفوقيَّة المثاليَّة المحكوم عليها بالاندثار مع التَّشكيلات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة الَّتي تساندها. وكما قال ميخائيل بيوتروفسكي، مدير متحف «المنسك» في بيترسبورغ، سنة 1990: «كُنَّا قبل عشرين سنة نعتقد أنَّ المعتقدات الدِّينيَّة تحتضر. وها نحن اليوم نجني ثمار هذا الإهمال»[14].

إلَّا أنَّ العديد من المفكِّرين الماركسيِّين (المتأثِّرين كثيراً بالتَّقاليد الماركسيَّة) والاشتراكيِّين واليساريِّين؛ ما زالوا ينظرون إلى السِّياسة في الشَّرق الأوسط وفي أماكن أخرى كما لو أنَّها محكومة ببورجوازيَّة صغيرة «أبويَّة» محدَّدة بالقيم التَّقليديَّة ومُدافعة عنها. ووفقاً لوجهة النَّظر هذه؛ تتعارض النُّخبة الأبويَّة الجديدة مع النُّخبة البورجوازيَّة العازمة على التَّحديث والنُّخبة البروليتاريَّة الملتزمة بالثَّورة[15]. ويُعتَقَدُ أنَّ المشكلة تكمن في الفصام الثَّقافيِّ؛ إلَّا أنَّ التَّقسيم الثُّنائيَّ التَّبسيطيَّ بين التَّقليد والحداثة واضح هنا مرَّةً أُخرى:

إنَّ الطَّبقات والدُّول الأبويَّة الجديدة الحاكمة في الشَّرق الأوسط لها وجهان متعارضان؛ نظراً لأنَّها تنظر في نفس الوقت إلى الوراء والأمام، نحو التَّقليد والحداثة. إنَّها تتميَّز بالازدواجيَّة نظراً لأنَّها ليست ذات نزعة تنمويَّة تماماً، وليست ما قبل رأسماليَّة وقبل صناعيَّة تماماً. لهذا السَّبب؛ لم يستطعْ أيُّ بلد في الشَّرق الأوسط إنتاج صناعات من مستوى صناعات أمريكا الجنوبيَّة والبرازيل والفيليبِّين والتَّايلاند... ولهذا السَّبب أيضاً؛ توجد في المنطقة تذبذبات وتأرجحات، ولا سيَّما فيما يتعلَّق بمسألة المرأة[16].

يقدِّم هشام شرابي مناقشة ماهرة للمجتمعات الأبويَّة والأبويَّة الجديدة الَّتي تطوَّرت عبر عدَّة مراحل، وتمثَّلت في عدد من أنماط التَّشكيلات الاجتماعيَّة. إنَّ النِّظام الأبويَّ الجديد «بنية سوسيواقتصادية تابعة وغير حديثة، تمثِّل المجتمع المتخلف بشكلٍ جوهريٍّ»[17]. ورغم أنَّه يرى أنَّ النِّظام الأبويَّ الجديد سوف لن يتمَّ استبداله «دفعةً واحدةً» بــــ «التَّنمية» أو «التَّحديث»، فإنَّه يؤكِّد بشكلٍ ضمنيٍّ على مقاربة ثنائيَّة؛ إذ يحيل إلى الحداثة باعتبارها «قطيعة مع الأساليب التَّقليديَّة (الأسطوريَّة) لفهم الواقع لصالح أنماط تفكير جديدة (علميَّة)»[18]، ويختم بالإفصاح عن أمله في أن يتغلَّب المجتمع العربيُّ على «أعمق أمراضه؛ أي: النِّظام الأبويِّ، وأن يصبح مجتمعاً حديثاً... إنَّ الحداثة القادمة والدِّيموقراطيَّة العلمانيَّة والاشتراكيَّة التَّحرُّريَّة» ستزيح «النِّظام الأبويَّ الجديد القائم»[19].

على خلاف مفترضات نظريَّة التَّحديث المبكِّرة والنَّظريَّات الَّتي تستلهم الماركسيَّة؛ كان التَّقليد دوماً ناقلاً عميقاً للتَّطوُّر والتَّغيير الثَّوريِّ. إنَّ التَّقليد، بمعناه الأوربيِّ المعاصر، يعني التَّدابير الموروثة عن الماضي؛ الَّتي لا تقبل الانصياع إلى التَّعديل الواعي؛ والَّتي تقاوم «الحداثة». فانطلاقاً من وجهة نظر باحثٍ غربيٍّ في مطلع ستِّينيات القرن العشرين؛ لا يفعل التَّقليد شيئاً يُذكَر لمساعدة المسلم على «التَّكيُّف مع العالم الحديث الَّذي يُهدِّده بالتَّفكُّك». في الواقع؛ «أنْ يكونَ المرء تقليديَّاً... معناه أن يظلَّ منفصلاً عن الاختيارات السِّياسيَّة الحديثة»[20]. وكما أشرنا مِن قبل؛ فإنَّ العديد من أهالي الشَّرق الأوسط، وخصوصاً أولئك الَّذين درسوا في الغرب أو تأثَّروا بالقيم الغربيَّة، يقبلون أيضاً هذا المعنى القَدحيَّ للتَّقليد. إنَّ صفة «تقليديٍّ» تعني بالنِّسبة إليهم التَّقيُّدَ بالماضي والعزوف عن المشاركة في النِّقاشات المتعلِّقة بإصلاح المؤسَّسات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة القائمة.

إلَّا أنَّ بعض الدِّراسات الَّتي تناولت التَّحديث مؤخَّراً[21] ترى أنَّه لا ينبغي تفسير التَّقليد كشيءٍ سلبيٍّ خالص. حيث يمكن للعائلة التَّقليديَّة والشَّبكات الدِّينيَّة في الواقع أنْ تُسهِّل سيرورة التَّنمية، وغالباً؛ لا تكون التَّحوُّلاتُ الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة ممكنةً إلَّا نظراً لأنَّها مصاغةٌ في إطار تقليديٍّ[22]. فقد ساهمت «المقاولة العائليَّة» ومحاباة الأقارب [المحسوبيَّة] مثلاً في النَّجاح الاقتصاديِّ لهونغ كونغ[23]. وعلى الرَّغم مِمَّا قيل بأنَّ الإسلام لا يساعد في عمليَّة التَّحديث[24]؛ فإنَّ ادِّعاء أنَّ للتَّغييراتِ طبيعةً إسلاميَّةً؛ يعني جعلَها مشروعةً ومقبولةً. فعندما يدافع المصلحون على فكرة أنَّ التَّحوُّلات تتوافق مع «جوهر» الإسلام؛ فإنَّهم يدحضون بذلك الانتقاد المتمثِّل في أنَّ التَّغييرات تتعارض مع قيم المجتمع. كما أنَّهم عندما يربطون الإصلاحات بالمسؤوليَّة الأساسيَّة للمسلمين في طاعة الله وأولياء الأمور، كما أمر بذلك القرآن (مثلاً سورة النِّساء، الآية 59)، فإنَّهم يُشجِّعون على الاعتقاد بأنَّ تجديد التَّشريعات أمر واجب.

عرفت الشَّريعة الإسلاميَّة الَّتي يزعم أنَّها ثابتة وكاملة؛ تنقيحاتٍ وإضافاتٍ عديدةً طوال التَّاريخ الإسلاميِّ، ولا سيَّما في منتصف القرن التَّاسع عشر. فقد حافظ الفقهاء المسلمون بصرامة على الاعتقاد المغالَى فيه بأنَّه لا يمكن تغيير الشَّريعة الَّتي أوحى بها الله، حتَّى وإن كانوا قد اجتهدوا لخَلقِ نوع من الأمر الواقع التَّشريعيِّ[25]. فعلى سبيل المثال؛ قدَّمت الإصلاحاتُ العثمانيَّةُ في القرن التَّاسع عشر -(تنظيمات 1839-1876) بما فيها القانون التِّجاريُّ لسنة 1850- للعثمانيِّين تشريعاتٍ جنائيَّةً وتجاريَّةً شبيهةً بتلك الموجودة في أوربا. كما أنَّ مجلَّة الأحكام العدليَّة لسنة 1870، وهي مدوَّنة القوانين المستوحاة من المذهب الحنفيِّ الَّذي يعتبر أحد التَّقاليد القانونيَّة الإسلاميَّة الرَّئيسة، وفَّرَت أعلى درجة من الانتظام الَّذي تقتضيه المعاملات الاقتصاديَّة المعقَّدة، بما في ذلك المعاملات التِّجاريَّة مع القوى غير المسلمة. وفي القرن العشرين؛ سعت قوانين الأوقاف، الَّتي صدرت في مصر (1946) ولبنان (1947) وسوريا (1949)، إلى معالجة الوضعيَّة الَّتي خلقتها الأوقاف الَّتي منعت استغلال الأراضي المنتجة والتي أُحدِثَتْ، تحت ذريعة الإحسان الدِّينيِّ، من أجل حرمان الورثة من الممتلكات الَّتي كانت تعود إليهم عادةً.

تجري الإصلاحات القانونيَّة بشكل روتينيٍّ حتَّى في المملكة العربيَّة السُّعوديَّة المشهورة بطابعها المحافظ، وما يسمح بذلك في الغالب هو استحضارُ «المصلحة العامَّة» باعتبارها مسألةً إسلاميَّة جوهريَّة. وعلى سبيل المثال لا الحصر: يمثِّل قانون التَّأمين الاجتماعيِّ لسنة 1970 خروجاً واضحاً عن القوانين الكلاسيكيَّة المتعلِّقة بالإرث في حالة العامل الهالك: ذلك أنَّ التَّأمين الَّذي تضمنه الحكومة للعامل المتوفَّى يعود بالأساس إلى زوجته وأطفاله؛ وليس إلى أقاربه العصبيِّين الذُّكور كما يمكن أن يتبادر إلى الذِّهن[26].

لقد أصبحت هذه التَّشريعات الاجتماعيَّة مألوفةً جدَّاً في العربيَّة السُّعوديَّة؛ إلى درجة أنَّ الملك فهد افتتح مجمَع الفقه الإسلاميِّ التَّابع لمنظَّمة المؤتمر الإسلاميِّ بالدِّفاع عن الاجتهاد كوسيلة لإيجاد حلول جديدة لمشاكل العصر:

هذا الاجتهاد يتطلَّب قبول العلماء بعد استقصاء البحث والنَّظر في الفقه القديم والجديد. وفي هذا الصَّدد؛ فإنَّ الدَّعوة لإنشاء مجمعٍ عالميٍّ للفقه الإسلاميِّ تشكِّل ضرورة حتميَّة في هذه المرحلة من مراحل تطوُّر الأمَّة الإسلاميَّة؛ حيث تجد فيها الإجابة الإسلاميَّة الأصيلة لكلِّ سؤال تطرحه أمامها تحدِّيات الحياة المعاصرة من أجل إسعاد البشريَّة عامَّةً والمسلمين خاصَّةً، وذلك يقتضي حشد جهود فقهاء وعلماء وحكماء ومفكِّري العالم الإسلاميِّ للإجابة على الأسئلة الَّتي تطرحها تحدِّيات هذا العصر من واقع شريعتنا السَّمحة[27].

هكذا مزج فهد بمهارة بين التَّأكيد على الحاجة إلى التَّفكير المستقلِّ من جهة، والإقرار بالدَّور الَّذي يلعبه المثقَّفون والمفكِّرون المسلمون الَّذين لا ينتمون إلى إطار السُّلطات الدِّينيَّة ذات التَّعليم التَّقليديِّ من جهة أخرى.

إذا كان استحضارُ الإطار التَّقليديِّ يُسهِّل التَّغيير التَّدريجيَّ؛ فإنَّ العمل الثَّوريَّ نفسه غالباً ما يتمُّ تبريره باللُّجوء إلى ذلك الإطار. فقد حصل محمَّد أحمد المهديُّ السُّودانيُّ (1844-1885) على مساندة شعبيَّة كبيرة بالإعلان عن أنَّ استراتيجيَّته وجولة أنشطته اليوميَّة تتطابق حرفيَّاً مع أنشطة الرَّسول محمَّد في القرن السَّابع الميلاديِّ في الجزيرة العربيَّة. إنَّ هذه الادِّعاءات بالنَّسخ الحرفيِّ للماضي ادِّعاءات مُتطرِّفة، لكنَّ السُّلوك السِّياسيَّ المعاصر يستند إلى أبرع استحضار للقيم والممارسات الماضية.

يجسِّد التَّطوُّر الدُّستوريُّ في إيران مثالاً متأخِّراً على ذلك؛ فقد اعترض الشَّيخ فضل الله نوري (1842-1909)، إبَّان الثَّورة الدُّستوريَّة (1905-1911)، على فكرة دستورٍ مكتوبٍ؛ مُعلِّلاً ذلك بوجهتَي نظر؛ أمَّا الأولى: فلأنَّه يعتزم ضمان المساواة الَّتي لا يمكن أن تتحقَّق بين الأحرار والعبيد، وبين الرِّجال وزوجاتهم، وبين المسلم والكافر، وبين الصَّحيح والمريض. وأمَّا الثَّانية: فلأنَّه ينصُّ على هيئة تشريعيَّة من شأنها انتهاك الشَّريعة الموحَى بها مِن طرف الله[28]. وبالتَّالي؛ فإنَّ الدُّستور المكتوب، بالنِّسبة إليه، يوجد خارج الإطار الإسلاميِّ المقبول.

على الرَّغم مِن إعرابه عن إعجابه بالشَّيخ نوري؛ اتَّخذ آية الله الخميني موقفاً عمليَّاً في صياغة دستور الجمهوريَّة الإسلاميَّة لسنة 1979. فلا بُدَّ أنَّه كان على علم بأفكار تحديد سلطات الحكومة والدَّور المركزيِّ للشَّعب الَّتي عبَّر عنها وزيره الأوَّل المهدي بازرغان (1905-1995): «يؤكِّد القرآن الكريم على أنَّ أيَّ نوع من الحكم أو الوكالة ينبغي أن ينبثق من الشَّعب، ويجب على الشَّعب نفسه، بعد أن يختار نوع الحكم الَّذي يريد ويُعبِّر عن هذا الاختيار، أن يكون قوَّة توَّاقة إلى تقوية هذا الحكم ومراقبته»[29].

إنَّ ديباجة الدُّستور، الَّتي تتضمَّن فكرة أنَّ المسلمين جماعةٌ قائمةٌ على الخضوع للإرادة الإلهيَّة؛ تنصُّ على أنَّ الحكومة «تُجسِّد التَّطلُّعات السِّياسيَّة لشعبٍ مُتَّحد في دينه وتفكيره؛ حيث يقوم بتنظيم نفسه حتَّى يستطيع من خلال التَّغيير الفكريِّ والعقائديِّ أن يسلك طريقه نحو هدفه النِّهائيَّ؛ وهو الحركة إلى الله». ومع أنَّ واضعي الدُّستور يؤكِّدون على الفور توجُّهاته الإسلاميَّة؛ فإنَّهم يجمعون فكرتَيْ الخضوع والمشاركة. فمن جهة: «إنَّ الهدف من إقامة الحكومة هو هداية الإنسان للسَّير نحو النِّظام الإلهيِّ»، ومن جهة أُخرى: «يقوم الدُّستور بتهيئة الظُّروف اللَّازمة لهذه المشاركة لجميع أفراد المجتمع... ليصبح كلُّ فرد، في مسير تكامل الإنسان، هو بالذَّات مسؤولاً مباشراً في مجال نموِّ القيادة ونضجها».

تعرض موادُّ الدُّستور الجوهريَّة تعايش هاتين الفكرتين المتعارضتين للحكم؛ إذ تؤكِّدان على التَّصوُّر التَّقليديِّ لحكم الله المطلق (المادَّتان 2 و56)، وتَتَّسِعان في نفس الوقت لاستيعاب الفكرة المختلفة جدَّاً؛ والمتمثِّلة في السِّيادة الشَّعبيَّة من خلال منح جميع النَّاس الحقَّ في تقرير «مصيرهم» (المادَّة 3: 8) والسَّماح بالاستفتاء العامِّ (المادَّة 59) وانتخاب مجلس الشُّورى الإسلاميِّ (المادَّة 62)[30].

ضبابيَّة التَّقليد والحداثة:

لا يشكُّ المسلمون وغير المسلمين في الادِّعاء الإيديولوجيِّ لبعض المسلمين بأنَّ العناصر الأساسيَّة للتَّقليد الإسلاميِّ ثابتة. والحال أنَّ فكرةَ التَّقليدِ مشروطةٌ بقوَّة بالدَّور المركزيِّ الَّذي تلعبه النُّصوص المؤسِّسة والقدوة النَّبويَّة. وإذا كان المسلمون يعتبرون القرآن، بوصفه كلام الله، غير قابل للتَّغيير؛ فإنَّهم يعتبرون أحاديث الرَّسول محمَّد وأفعاله نموذجاً للسُّلوك في الزَّمن الحاضر.

إلَّا أنَّ كلَّ التَّقاليد يتمُّ خلقها من خلال الممارسات المشتركة، ويمكن تغييرها والتَّلاعب بها بشكل عميق وواعٍ؛ بذريعة العودة إلى الممارسة الأولى الأكثر مشروعيَّة. ولا يقلُّ أهمِّيَّةً كونُ الشُّروط الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة المتغيِّرة يمكنها أن تلحق تغييراتٍ عميقةً بمعنى ودلالة الأفكار والحركات والهويَّات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، والتَّرتيبات المؤسَّساتيَّة، دون أن يكون أنصار هذه الأفكار واعين تمام الوعي بطبيعة التَّغيير. فالمجتمعات والمناطق المسلمة، من إندونسيا إلى المغرب، تؤمن بأنَّ سلوكياتها تتميَّز بالاستمراريَّة المحدَّدة إسلاميَّاً.

سبق أن أوضحنا أنَّ السِّياسة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعمليَّة الإنتاج الرَّمزيِّ؛ لكن بما أنَّ الرُّموز تتميَّز بالعموميَّة والغموض أكثر مِمَّا تتميَّز بالتَّحديد؛ فإنَّها تُمثِّل في نفس الوقت علاقةً بالماضي ومكاناً للتَّغيير[31]. إن مفاعيلَ ما يسمَّى «ما بعد التَّحديث» يمكن تلطيفُها بالتَّجذُّر والمرونة معاً. فلمَّا كانت القيمُ تكتسي شكلاً رمزيَّاً؛ فإنَّ معالمَ الثَّقافةِ تبدو وكأنَّها تبقى بمنأى عن التَّغيير، بينما الحقيقةُ أنَّ تجديدَ القيمِ وتغييرَها يحدثان بالفعل. هكذا؛ يتمُّ تأكيدُ ثَبَاتِ التَّقاليدِ والأساطيرِ المشتركةِ حتَّى في الوقت الَّذي تتغيَّر فيه القيمُ والمعتقداتُ، ويتمُّ فيه ابتكارُ التَّقاليد[32]. ففي حالة الولايات المتَّحدة مثلاً؛ تؤكِّد أساطيرُ الدُّستورِ الباعثةُ على الاطمئنان أنَّه لا يتمُّ تعديلُ الدُّستور إلَّا نادراً. بينما في الواقع؛ تتمُّ إعادةُ تأويله بشكل شبه يوميٍّ من قِبَل القرارات القضائيَّة والإداريَّة والتَّشريعيَّة الَّتي لا حصر لها.

إنَّ هناك مجالاً للتَّغيير في حالة الإسلام أيضاً، ويمكن العثور على العديد من التَّقاليد الإسلاميَّة. فمنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين؛ أصبح الشِّيعة الإيرانيُّون، الَّذين لعب عندهم الحوار والنِّقاش دوراً أساسيَّاً على جميع مستويات الوعي الدِّينيِّ، مُتعدِّدي الجنسيَّات بشكل واضح. إنَّ اللُّغاتِ المتعدِّدةَ التي يتحدَّثها الشِّيعة في إيران نفسها -الفارسيَّة، الآذريَّة [أو الأذربيجانيَّة]، الكرديَّة، العربيَّة (سواءٌ كلغة مكتسبة أولى لبعض الإيرانيِّين أو كلغة ضروريَّة للدِّراسات الدِّينيَّة العليا)- تشجِّع الوعيَ بمختلف منظورات الأخلاق والسِّياسة وتأويلات الماضي. إنَّ الحجَّ إلى مكَّة، أو زيارات أضرحة الشُّهداء الشِّيعة، أو شعائر الولادة والختان والموت، في المنفى أو في الخارج، تنتج كلُّها معنىً مُؤَوَّلاً للتَّاريخ و«الجوهريِّ» الَّذي ينبغي الإيمان به وممارسته[33].

ليس معنى التَّاريخ والماضي محايداً من النَّاحية السِّياسيَّة أبداً. يميِّز إدوارد شيلز[34] بين ماضي الأحداثِ المتحقِّقةِ والماضي المدرَك الَّذي يتميَّز «بمرونةٍ أكبر». في الواقع؛ بما أنَّ الخطَّ الفاصلَ بين الماضي المتحقِّق والماضي المدرَك يتوقَّف على بناءِ السَّرديَّات التَّاريخيَّة الرَّسميَّة ونشرِها وقبولِها؛ فإنَّ ماضي الأحداث المتحقِّقة يوجد في الغالب كمجموعة من الموارد الَّتي يمكن الاعتماد عليها في الوضعيَّات التَّقليديَّة والحديثة لقبول الممارسة الحاليَّة. وبالفعل؛ فإنَّ الخطَّ الفاصل بين الأحداث الواقعة والأحداث المُدرَكة واضحٌ أصلاً؛ نظراً لأنَّ عمليَّةَ خلقِ التَّقليد عمليَّةٌ واعيَّةٌ وضمنيَّةٌ، لا واعيةٌ وصريحةٌ في الوقت نفسِه.

إنَّ ابتكار التَّقليد هو «عمليَّة الصَّورنة والطَّقسَنَة الَّتي تتميَّز بالإحالة إلى الماضي»[35]. يمكن للتَّقاليد المبتَكرة أن تنبثق من الممارسات المشتركة للأسر الممتدَّة وعلاقات الجوار والقبائل؛ ويمكن لها أن تتطوَّر في سياقات ذات طابع رسميٍّ أقوى (كما في إجراءات المحاكم أو النَّقابات التِّجاريَّة)؛ كما يمكن أن تَتَشَكَّلَ وتُقَنَّنَ بيراقراطيَّاً. لقد تمَّ إيلاءُ اهتمامٍ أقلَّ للوعي النَّقديِّ بكيفيَّةِ تَأَثُّرِ هذه التَّقاليد- ادِّعاءات ما هو حقَّاً إسلاميٌّ على سبيل المثال- بالظُّروف السِّياسيَّة والاقتصاديَّة وأنماط النَّقل المتغيِّرة. وتشمل هذه الأخيرةُ التَّقاليدَ الشَّفاهيَّةَ وغيرَ المكتوبة الَّتي نقلتها السُّلطات المحلِّيَّة، وكذا التَّقاليد الَّتي يتمُّ تعلُّمها من التِّلفزيون الرَّسميِّ والنُّصوص الرَّسميَّة كالكتب المدرسيَّة.

يتمُّ ابتكارُ التَّقليد في كلِّ الأزمنة والأمكنة، لكن؛ كما يقول هوبسباوم: «يجب أن نتوقَّع أن يحدث بأكبر قدر من التَّواتر عندما يؤدِّي التَّحوُّل السَّريع للمجتمع إلى إضعاف أو تدمير» الأنماط الاجتماعيَّة القديمة أو ينتج «أنماطاً جديدة لم تكن تنطبق عليها»[36]. وبخلاف مفترضات الفكر اللِّيبيراليِّ للقرن التَاسع عشر ونظريَّة التَّحديث لمنتصف القرن العشرين، يشير هوبسباوم إلى أنَّ التَّقاليد اكتسَت طابعاً رسميَّاً في المجتمعات «الحديثة» والمجتمعات «التَّقليديَّة» على حدٍّ سواء، الشَّيء الَّذي يذكِّرنا مرَّة أُخرى بأنَّ التَّناقضَ الشَّكليَّ بين التَّقليديِّ والحديث تناقضٌ مضلِّلٌ.

من الخلافة إلى الدَّولة الإسلاميَّة:

لا أقصد هنا أنَّ الميلَ إلى تبريرِ التَّجديدِ الحاليٍّ بالممارسة الماضية يظهر أكثرَ وضوحاً مِمَّا هو عليه في الاستدلالات الَّتي عُرِضَتْ مؤخَّراً حول طبيعة الدَّولة الإسلاميَّة. إنَّ هذا النِّقاش لم يحدث في فراغ: فقد تبلور في مطلع القرن العشرين عندما كان المسلمون يبحثون عن بديلٍ لمذهب الخلافة على إثرِ انهيار الإمبراطوريَّة العثمانيَّة[37].

ألغَت الجمهوريَّةُ التُّركيَّةُ سنة 1924 بشكلٍ رسميٍّ الخلافةَ العثمانيَّةَ الَّتي تعود جذورها إلى نهاية القرن الرَّابع عشر. لم يكن الخلفاء، في أوج القوَّة العثمانيَّة في القرنين السَّادس عشر والسَّابع عشر، يشدِّدون كثيراً على لقب الخلافة ومفهومها. لكن عندما تتمُّ إثارتهما؛ كانت مطالبةُ الخلفاءِ بالسُّلطة تستند إلى تأكيدهم على أنَّهم، وفقاً للإرادة الإلهيَّة، أكثرُ المدافعينَ فعاليةً عن الإسلام. وعندما كانوا يصلون إلى منصب الخليفة؛ كانوا يتمتَّعون بكلِّ سلطات النَّبيِّ محمَّد باستثناء النُّبوَّة.

أعاد العثمانيُّون ابتكارَ تقليدِ الخلافةِ عندما انهارت الإمبراطوريَّة بفعل الضَّغط الدَّاخليِّ والتَّحدِّيات الخارجيَّة القادمة من الغرب في القرنين الثَّامن عشر والتَّاسع عشر. ففي القرن الثَّامن عشر؛ كانت إحدى الأساطير تقول: إنَّ الخليفة العباسيَّ الأخير الَّذي كان مقرُّه بالقاهرة نقل مقرَّ الخلافة إلى العثمانيِّين في مطلع القرن السَّادس عشر، مُضْفِياً بذلك المشروعيَّةَ على وراثةٍ موصولةٍ منذ عهد النَّبيِّ[38]. «لقد كانت هناك أسبابٌ سياسيَّةٌ واضحةٌ لإعادةِ السَّلاطين العثمانيِّين صياغةَ النَّظريَّة الكلاسيكيَّة للخلافة والاستحواذ عليها في عهد الانحطاط»[39].

ظهرَت فكرةُ الدَّولة العثمانيَّة في القرن العشرين بوصفها إعادةَ ابتكارٍ مماثلةٍ للتَّقليد. وكان اللَّفظ الأكثرُ شيوعاً للدَّولة في اللُّغة العربيَّة قد ظهر في وقت مبكر من القرن الثَّامن عندما كان يُشار به إلى الحكم الوراثيِّ عند العبَّاسيِّين[40]. وتحوَّل المصطلحُ في القرن العشرين إلى الدَّولة الإسلاميَّة الَّتي يتطلَّع إليها المسلمون. وكما هو الحال بالنِّسبة لنظريَّة الخلافة السَّابقة؛ يقوم التَّبرير بالنِّسبة للدَّولة الإسلاميَّة على التَّمسُّك بالشَّريعة.

لعب المثقَّفون المسلمون دوراً رئيساً في هذه العمليَّة؛ إذ روَّجوا لمفهوم الدَّولة الإسلاميَّة باعتباره المُكافئ الوظيفيَّ للخلافة. وفي هذا السِّياق؛ تعتبر أطروحةُ أبي الحسن الماورديِّ (991-1058) حول الخلافة (كتاب الأحكام السُّلطانيَّة- 1960) هي المقاربة السُّنِّيَّة النَّموذجيَّة لهذا الموضوع. يُحاجج الماورديُّ على أنَّ الخلافةَ ضروريَّةٌ للحفاظ على الشَّريعة وتطبيق مبادئها؛ وقد استعمل هذه الحُجَّة لدعم سلطة الحكم العباسيِّ في وجه هجومات أمراء الحرب المحلِّيِّين في العراق ومصر؛ الَّذين كانوا بدورهم يطالبون بأن يكونوا حُكَّاماً «شرعيِّين» للعالم الإسلاميِّ برمَّته[41] (انظر الشَّكل1).

الشَّكل1. تنطوي الخلافة، مثل مراقبة الأماكن المقدَّسة في شبه الجزيرة العربيَّة، على مركز جغرافيٍّ ومنطقة ترابيَّة متماسكة للعالم الإسلاميِّ. تعرَّضت هذه النَّظرة لإزاحة متزايدة بسبب تعدُّد المراكز السِّياسيَّة. وبالفعل؛ إنَّ النَّظرة الَّتي تعتبر مكَّة مركز العالم تحوِّر الاحتجاج على السِّياسة الإسلاميَّة الَّتي تشمل «هوامش» المركز الَّتي كانت تتمثَّل في الماضي في الصِّين وإندونيسيا وأمريكا.

كان المُصلح المصريُّ رشيد رضا (1865-1935) حلقةَ وصلٍ مهمَّةً بين نظريَّات الخلافة الكلاسيكيَّة، كنظريَّة الماورديِّ، ومفاهيم الدَّولة الإسلاميَّة في القرن العشرين. يعود رضا إلى «العصر الذَّهبيِّ» للحكم الإسلاميِّ، ويستند إلى وجهة النَّظر الرَّاسخة للإسطوغرافيا الإسلاميَّة من أجل التَّمييز بين الخلافة المثاليَّة للخلفاء الرَّاشدين والخلافة الحاليَّة الَّتي كانت مُجبرةً على التَّواطؤ مع المستبدِّين، وأصبحت نفسُها مُستبِدَّةً. يؤكِّد رضا[42] على أنَّ «العلماء»، الَّذين كانوا مكلَّفين بمهمَّة الحفاظ على الشَّريعة، أصبحوا فاسدين بفعل تواطئهم مع السُّلطة، وبالتَّالي؛ أصبح معظمُهم يُسخِّر نفسَه لدعم الطُّغاة.

اعترف رضا باستحالة إحياء الخلافة كمصدرٍ وحيد للسُّلطة الرُّوحيَّة، لكنَّه رأى أنَّ تحويلَ وظيفتها إلى الدَّولة الإسلاميَّة يُشكِّل بديلاً عمليَّاً. إنَّ الكلمات الَّتي يستعملها لوصف الدَّولة الإسلاميَّة، بما فيها «حكومة الخلافة» و«الخلافة الإسلاميَّة»، تؤكِّد الرَّوابط القائمة بين نظريَّة الخلافة ونظريَّة الدَّولة الإسلاميَّة[43]. وأصبح فكر رضا في وقتٍ لاحق غامضاً ومتناقضاً؛ ويذهب روزنتال بعيداً عندما اعتبر موقفه الأساسيَّ «طوباويَّاً ورومانسيَّاً»[44]. إلَّا أنَّه حدَّد القضايا المشتركة لأنصار الدَّولة الإسلاميَّة من بعده، وصاغ «التَّقليد» المتمثِّلَ في أنَّ هذه الدَّولة تجسِّد أفكارَ السِّيادة الشَّعبيَّة والتَّشريع البشريِّ[45].

يصف أوليفييه روا محاولة تجسيد «وهم» الدَّولة الإسلاميَّة بـــ «الكلام الفارغ». ويُقيم روا هذا الحُكمَ على الإفلاس الفكريِّ للإسلاميِّين المعاصرين وهم يواجهون تحدِّيات المجتمعات الحديثة. ويُحاجج على أنَّهم يفتقدون إلى حلولٍ للمشاكل اليوميَّة المُلحَّة- «البؤس، الاقتلاع من الجذور، أزمة القيم والهويَّات، انهيار المنظومات التَّعليميَّة، الصِّراع شمال-جنوب، ومشكلة اندماج المهاجرين في مجتمعات الاستقبال»[46].

غير أنَّ ابتكار تقليد الدَّولة الإسلاميَّة أثَّر تأثيراً عميقاً في العمليَّات السِّياسيَّة للمجتمعات الإسلاميَّة في كلِّ مكان، وحدَّد نقاشات السِّياسات العموميَّة فيها. ففي مصر مثلاً؛ عمد نُقَّاد النِّظام، الَّذين يُغطُّون طيفاً يمتدُّ مِن الإخوان المسلمين المعتدلين نسبيَّاً إلى الشبكة الأكثر تشدُّداً لـ «الجماعات الإسلاميَّة»، إلى التَّساؤل: كيف يمكن لمصر أن تدَّعي أنَّها إسلاميَّة؛ في الوقت الَّذي تظلُّ الشَّريعةُ مجرَّد مصدر للقوانين من بين مصادر أُخرى بدلاً من أن تكون المصدر الأساسيَّ أو الوحيد؟. شاركت الجماعة الإسلاميَّة القوَّية في الجزائر، جبهة الإنقاذ الإسلاميَّة، في الانتخابات البرلمانيَّة في كانون الأول/ديسمبر 1991، وطالبت بتغيير الجمهوريَّة الشَّعبيَّة الدِّيموقراطيَّة الجزائريَّة (الاسم الرَّسميُّ الكامل للبلد) إلى دولة إسلاميَّة. دفع فوزُ الجبهة بالجولة الأولى من الانتخابات بالرَّئيس إلى تقديم استقالته، وعجَّل بالأزمة السِّياسيَّة الَّتي أدَّت إلى تدخُّل عسكرٍ مُعادٍ جدَّاً لمطالِب الجبهة وجماعات مماثلة. كما أنَّ حزب النَّهضة الإسلاميَّ بجمهوريَّة طاجيكيستان في آسيا الوسطى، والَّذي له فروع في جمهوريَّات أُخرى بآسيا الوسطى وروسيا، أصبح يتمتَّع بشعبيَّة كُبرى بعد انهيار الاتِّحاد السُّوفييتيِّ؛ لدرجة أنْ شعرَ الكثيرون بالقلق من أن تصبح طاجيكيستان أوَّل جمهوريَّة إسلاميَّة في المنطقة[47].

أصبح مفهوم الدَّولة الإسلاميَّة مركزيَّاً جدَّاً في الخطاب الإسلاميِّ؛ لدرجة أن شكَّل السِّياسة الرَّمزيَّة لنيجيريا وأندونيسيا. إنَّ التماسَ الحكومة النِّيجيريَّة بأن تصبح عضواً كاملاً في منظَّمة المؤتمر الإسلاميِّ، المنظَّمة البيحكوميَّة للدُّول الإسلاميَّة، عجَّلَ باندلاع أعمال الشَّغب والاحتجاجات السِّياسيَّة. فقد ساند النُّشطاء الإسلاميُّون ملتمسَ الانخراط في المنظَّمة على أمل أن يشجِّع ذلك على أسلَمَةِ السُّكَّان في نيجيريا، بينما خشيَ الزُّعماء المسيحيُّون من أن يعني الانضمامُ إلى منظَّمة المؤتمر الإسلاميِّ التَّوجُّهَ نحو دولة إسلاميَّة، وتقويضَ التَّعدُّديَّة العلمانيَّة في نيجيريا[48]. كما توجد حساسيَّاتٌ مماثلةٌ تتعلَّق بنشأة دولة إسلاميَّة في إندونيسيا، جاءت نتيجة لتاريخ طويل من النِّزاعات حول طبيعة الدَّولة في مجتمع مُتعدِّد الطَّوائف مع سيادة أغلبيَّة مسلمة (مقدَّرة بحوالي 90 في المائة). فعلى الرَّغم من أنَّ الحكومةَ ملتزمةٌ رسميَّاً بالعلمانيَّة والتَّعدُّديَّة، كما تقدِّم ذلك الإيديولوجيا الرَّسميَّة، فإنَّ البانشاسيلا («المبادئ الخمسة») تطالب بإقامة دولة إسلاميَّة أشعلت ثورة دار الإسلام في غرب جاوة (1948-1962)، وبقيت على رأس جدول الأعمال السِّياسيَّة[49].

«العصر الذَّهبيُّ» الإسلاميُّ:

يرى أنصار الدَّولة الإسلاميَّة أنَّ ما يُبرِّر هذه الأخيرة؛ هو الرُّجوع إلى سنوات الإسلام الأولى. ويحاججون على أنَّ الدَّولة الإسلاميَّة أصبحت مشكلةً مع وفاة النَّبيِّ. يكتب أحد الحداثيِّين أنَّه في عهد النَّبيِّ؛ «كانت العقوبةُ أخلاقيَّةً تماماً، ولم تكن لها أيَّةُ علاقةٍ بالطُّرق المعمول بها في دولة الإكراه»[50]. وفقاً لوجهة النَّظر هذه؛ كان الولاء للدَّولة الإسلاميَّة في حياة النَّبيِّ ولاءً طوعيَّاً. إلَّا أنَّه بعد وفاته؛ «بدا أنَّ إنشاء سُلطة سياسيَّة إكراهيَّة أمرٌ ضروريٌّ». وعلى الرَّغم مِن أنَّ مشكلةَ الزَّعامةِ قد تمَّ حلُّها بواسطة «الإجماع المعقول»؛ فإنَّ مشاكل أُخرى أدَّت بسرعة إلى اندلاع حربٍ أهليَّةٍ وانهيار «الدَّولة المثاليَّة»[51].

يعتبر المسلمون المعاصرون فترةَ حكمِ «الخلفاء الرَّاشدين» فترةً كان فيها الفرقُ بين المُثُلِ والواقعِ فرقاً ضئيلاً. ومع ذلك؛ فإنَّ الخليفة الأوَّل مِن هؤلاء الأربعة، وهو أبو بكر (حكمَ بين سنتي 632-634)، هو وحده مَن مات ميتةً طبيعيَّة؛ إذ اغتيل عمر بن الخطَّاب (حكمَ بين عامي 634-644) على يدِ عبدٍ مسيحيٍّ لحاكم البَصرة. وقُتِلَ الخليفةُ الثَّالث، عثمان بن عفَّان (حكمَ بين سنتي 644 و656)، ونُهِبَ بيتُه على يد متمرِّدين كانوا يعتبرون حكمه حكماً استبداديَّاً. أمَّا الخليفة الرَّابع عليُّ بن أبي طالب زوج ابنة النَّبيِّ (حكمَ بين 656 و661)؛ فقد قُتِلَ وهو في طريقه إلى المسجد في فترة كان فيها المجتمع الإسلاميُّ عرضةً للشِّقاق.

إنَّ استحضار العصر الذَّهبيِّ شائعٌ بالخصوص في فكر المسلمين الَّذين يهدفون بالأساس إلى البرهنة على توافق الإسلام مع الخيرات الكونيَّة الَّتي وعد بها العصر الحديث: العِلم، الدِّيموقراطيَّة، العدالة الاجتماعيَّة، حقوق الإنسان. هؤلاء المفكِّرون، سواءٌ أطلقوا على أنفسهم اسم المصلحين الحداثيِّين أو الدُّعاة الإسلاميِّين، وجدوا في استحضار العصر الذَّهبيِّ أداةً ناجعةً للبرهنة على ضرورة إصلاح المجتمعات الإسلاميَّة. وبالفعل، على الرَّغم مِن أنَّ فترة الخلفاء الرَّاشدين لم تكن حاضرةً بقوَّة في عمليَّة التَّثقيف الأخلاقيِّ لهذه المجتمعات؛ فقد كان على أولئك المثقَّفين أن يبتكروا هذا الأنموذج من أجل تسليط الضَّوء على الوضع الرَّاهن، وأن يوفِّروا معياراً لا يرقى إليه الشَّك للحُكم على هذا الوضع وإدانته؛ إذ أُسنِدَتْ للمجتمع الأوَّل في فترة النَّبيِّ وخلفائه الرَّاشدين خصائصُ أخلاقيَّةٌ كانت غائبةً بشكل واضحٍ في القرون اللَّاحقة عندما بدأت البدعة. وكان يُعتَقَدُ أنَّ هذا الانحطاطَ واضحٌ في فترات حكم الأمويِّين (661-750) والعبَّاسيِّين (750-1258).

إنَّ المدرسة الفكريَّة الَّتي ظهرت في نهاية القرن التَّاسع عشر وأصبحت تُعرَفُ بالسَّلفيَّة؛ توضح هذا الميلَ إلى العثور على الإلهام في المجتمع الإسلاميِّ الأوَّل. يدافع محمَّد عبده (1849-1905)، أحدُ أهمِّ أعلام هذه المدرسة، على أنَّ المسلمَ أهمل المصلحة العامَّة في المسائل القانونيَّة، وأنَّ تركيز الحُكَّام على الطَّاعة على حساب العدل؛ خلقَ الغموضَ الفكريَّ والجمودَ القانونيَّ والفسادَ السِّياسيَّ وانهيار الإسلام[52]. وما زال الدُّعاة الإسلاميُّون يردِّدون صدى هذه اللَّازمة في نهاية القرن العشرين.

فهذا صادق المهديُّ مثلاً (ولد سنة 1936؛ حكم في فترات 1966-1967، 1986-1987، 1988-1989)، الوزير الأوَّل السُّودانيُّ الأسبق وحفيد المهديِّ السُّودانيِّ الَّذي قاد التَّمرُّد ضدَّ البريطانيِّين في القرن التَّاسع عشر (1881-1891)، يعتبر عصر الخلفاء الرَّاشدين عصراً مثاليَّاً؛ نظراً لاتِّصالهم المباشر بالنَّبيِّ، ولنقاء المجتمع الدِّينيِّ الأوَّل. يقول المهديُّ انطلاقاً من تأويله للمجتمع الإسلاميِّ الأوَّل: «أنتج الإسلامُ مبادئَ سياسيَّةً مثل الحرِّيَّة والعدالة والمساواة وحاجة الشَّعب إلى الحكومة». وقد تطوَّر المجتمع الدِّيموقراطيُّ إلى أن أصبح يتضمَّن كلَّ هذه الأفكار، لكن؛ يجب على المسلمين اليوم أن يسعوا إلى استعادة جوهر تقليدهم الخاصِّ «الَّذي ظهر قبل خمسة عشر قرناً»[53].

يُذكِّرنا استدلال المهديِّ بأنَّ النَّظريَّة السِّياسيَّة في العالم الإسلاميِّ تجد تعبيرها الملموس في تمثل التَّقليد التَّاريخيِّ؛ ذلك أنَّ صَوْرَنَة تقليد «العصر الذَّهبيِّ» تشتغل في الوقت ذاته كأداة لإدانة شذوذ المجتمعات الإسلاميَّة الحديثة وكخطَّة عمل؛ إذ بالفعل، يقوم التَّقليد بإضفاء المشروعيَّة على الانتقادات الموجَّهة إلى الوضع القائم، وبتسهيل الثَّورة والتَّحقيق التَّدريجيِّ للتَّغيير.

يشير التَّغييرُ الَّذي يمسُّ مفهومَ الدَّعوة وممارستَها إلى أنَّ إعادة صياغة المفاهيم الإسلاميَّة لا تشمل نخب الدَّولة والمثقَّفين فقط؛ بل والجماهير أيضاً. يبدأ التَّغيير من قمَّة المجتمع إن صحَّ التَّعبير، ولكن مِن القاعدة أيضاً. إنَّ الدَّعوة مذكورة في القرآن (آل عمران: 64)؛ حيث «يدعو» اللهُ المجتمعَ البشريَّ إلى أن يجدوا في الإسلام الدِّينَ الحقَّ. وقد تطوَّر هذا اللَّفظ عبر القرون في إطار إيديولوجيا تبشيريَّة صريحة. إنَّ الدَّعوة، الَّتي لم تنفصل أبداً عن السِّياقات السِّياسيَّة والاجتماعيَّة للمسلمين، استُعمِلَتْ لنشر المطالب الخاصَّة بالأُسَرِ الملكيَّة (العبَّاسيِّين مثلاً) وبالطَّوائف (الإسماعيليَّة مثلاً). في الواقع، أصبح اللَّفظُ في عهد الإسماعليِّين مرادفاً تقريباً للدِّعاية، ذلك أنَّ الدُّعاةَ الإسماعيليِّين للسُّلالة الفاطميَّة الحاكمة، الَّتي كان مقرُّها في القاهرة (969-1171)، أصبحوا يستعملون مصطلح الدَّعوة؛ لتجنيد الأتباع في المذهب الدِّينيِّ وللاستقطاب السِّياسيِّ. وكان التَّعليم أداةً مركزيَّةً في عمليَّات مَفْهَمَة الدَّعوة؛ فقد اكتسب المسلمون وغير المسلمين بواسطة العمل التَّبشيريِّ -سواءٌ بشكل رسميٍّ في البلاط كما كان عليه الحال مع الفاطميِّين[54] أو في الدَّوائر غير الرَّسميَّة للعلماء- تصوُّراً لحياة الإيمان: كيفيَّة تلاوة القرآن، وتطبيق الشَّريعة، وتسيير شؤون الحياة اليوميَّة بروح إسلاميَّة.

واليوم؛ بدأ تقليد الدَّعوة يخضعُ لإعادةِ صياغةٍ بطريقة خفيَّة لكنَّها مُهمَّة. ويظلُّ التَّعليم أداةً مركزيَّةً، بل إنَّ نمط التَّسييس عاود الظُّهور. وعلى سبيل المثال؛ إنَّ إحدى أهمِّ الجماعات الشِّيعيَّة العراقيَّة الَّتي كانت تُعارض حكم صدَّام حسين (1937-2006) تحمل اسم: حزب الدَّعوة الإسلاميَّة، وإنَّ إحدى أهمِّ أدوات نشر الأفكار الدِّينيَّة والسِّياسيَّة في ليبيا هي جماعة الدَّعوة الإسلاميَّة. كما تمتُّ إعادة تعريف تقليد الدَّعوة ليشمل فكرة الرِّعاية الاجتماعيَّة: مصحَّات طبِّيَّة مجَّانيَّة، شربات الدَّجاج للفقراء، السَّكن المدعوم، وأشكال أخرى من المساعدة المتبادلة الَّتي تُعوِّض الخدمات الحكوميَّة غير الفعَّالة أو المُنعدِمة. إنَّ الارتباط الصَّريح بالتَّقليد «الماضي» هو التَّأكيد على أنَّه يجب على المسلمين، المُلزَمين باتِّباع دعوة الله، أن يستجيبوا للواجب القرآنيِّ المتمثِّل في خلق الميزان والقِسط (العدل) في شؤون البشر (النَّحل: 90 والرَّحمن: 9). وبما أنَّ الإسلام يشمل كلَّ مناحي الحياة؛ فإنَّ المسلمين سيتخلَّون عن مسؤوليَّتهم إذا ما فشلوا في تصحيح أشكال الظُّلم الاجتماعيِّ والتَّفاوتات الاقتصاديَّة.

روَّجت الشَّخصيَّةُ الدِّينيَّةُ الشِّيعيَّةُ اللُّبنانيَّةُ النَّافذةُ، موسى الصَّدر (1928- اختفى عام 1978)، لنوعٍ جديدٍ من النِّضال الشِّيعيِّ الَّذي كان يشتمل، من بين أشياء أُخرى، على إقامة مراكز للتَّكوين المهنيِّ في مدينة صُوْر، والَّتي ما زالت تعمل إلى الآن[55]. كما طوَّر حزبُ الله في لبنان نظامَ رعايةٍ اجتماعيَّةٍ واسع النِّطاق؛ شملَ المساعدات التَّعليميَّة والزِّراعيَّة والطِّبِّيَّة والسَّكنيَّة. فقد أنشأ في حارة بير العبيد ببيروت سوقاً تعاونيَّةً تبيع المنتجات بالتَّقسيط بأقلِّ مِن تكلفتها[56]، لكنَّ الأهمَّ؛ هو أنَّه كان يوفِّر المِنَح الدِّراسيَّة، وينشئ العيادات الصِّحِّيَّة، ويساعد المحتاجين على اقتناء السَّكَن. وكان المجلس الإسلاميُّ الأمريكيُّ (1992) في الولايات المتَّحدة يؤكِّد على الحاجة إلى إحداث «مؤسَّسات الخدمة الاجتماعيَّة»، وكانت جماعة نصر الإسلام بشمال نيجيريا تدير العيادات الصِّحِّيَّة، و«جماعة المعونات» الَّتي تُشبه طريقةُ اشتغالها كثيراً طريقةَ الصَّليب الأحمر. وفي الأردن؛ يحظَى المستشفى الإسلاميُّ في عمَّان بتقدير كبير. وفي ماليزيا؛ تتحدَّث حركة الشَّباب المسلم الماليزيِّ (abim) عن ضرورة «الخدمة الميدانيَّة الإسلاميَّة»، وأنشأت دار الأرقم عيادةً صحِّيَّةً ومزارع ومصانع لإنتاج الموادِّ الغذائيَّة الحلال ومعجون الأسنان والصَّابون[57]. إنَّ أنشطة الرِّعاية الاجتماعيَّة هذه تُعزِّز الأساس الجماعاتيَّ للجماعات الإسلاميَّة في نفس الوقت الَّذي تخدم استراتيجيَّات الجماعات الَّتي تسعى إلى السُّلطة.

كما تبنَّى أشفق أحمد، عضو الجمعيَّة الإسلاميَّة في بابوازيا غينيا الجديدة، التَّأنِّي الَّذي كانت تتمُّ به إعادةُ صياغةِ تقليدِ الدَّعوةِ:

يجب استكمال عمل الدَّعوة بالتَّنمية الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والاقتصاديَّة للبلد؛ إذ ينبغي تخصيص قدر كبير من المال من أجل إنفاقه في هذه البلدان في مجال الصِّحَّة والتَّعليم وتحسين الظُّروف المعيشيَّة للشَّعب الَّذي يعيش هناك في شكل منح أو مساعدات أو قروض... يجب غرس روح التَّعاون والأخوَّة، ويجب أن تتخلَّلَ هذه الرُّوحُ كلَّ أنشطة التَّنمية، وذلك لكي يُقدِّر النَّاسُ الفرقَ بين هذا العمل والاستعمار[58].

يجب على هؤلاء الَّذين يقومون بهذه الممارسات الدَّعويَّة -الدُّعاة، رجال الصِّحَّة، المدرِّسون، والمهندسون- ألَّا يسعوا عن وعي إلى تغيير التَّقليد، بل إنَّ أنشطتهم تساهم كثيراً في عمليَّة التَّغيير بقدر مساهمة الخطاب الرَّسميِّ للمفكِّرين المسلمين.

موضعة الوعي الإسلاميِّ:

كما رأينا؛ إنَّ التَّقليدَ مفهومٌ دقيقٌ ومَرِنٌ. إذ يحيل أحياناً إلى التَّصوُّرات المشتركة غير المكتوبة للجماعات الصَّغيرة المعزولة نسبيَّاً، والَّتي تتغيَّر بمجرَّد مَا تنتقل من جيل إلى جيل، حتَّى وإن كان يصعب إدراك هذه التَّغييرات؛ نظراً لغياب تسجيلات ثابتة لــــ«ما كانت عليه الأمور من قبل». كما يمكن للتَّقليد أن يحيل إلى التَّصوُّرات المشتركة للجماعات العائليَّة المُمتدَّة أو للأُسَر. ويشمل المفهوم أيضاً العناصر الأساسيَّة للتَّقاليد الدِّينيَّة العالميَّة؛ مثل «المدارس» السُّنِّيَّة المنظَّمة (المذاهب الأربعة) للفقه الإسلاميِّ. تتميَّز كلُّ معاني التَّقليد بالمرونة؛ حيث يتمُّ الحفاظ عليها أو إعادة خلقها في سياقات اجتماعيَّة وتاريخيَّة متنوِّعة، بدءاً مِن حميميَّات الحياة الأُسَريَّة إلى تسيير شؤون الدَّولة. وعلى الرَّغم من الاستعارة القويَّة للمفكِّر الإسلاميِّ الكبير أبو حامد محمَّد الغزاليِّ[59] (1058-1111)، الَّتي مفادها أنَّه عندما تتكسَّر «مرآة» الإيمان التَّقليديِّ؛ يستحيل تقويمها، فإنَّ رؤية التَّقليد الَّتي قدَّمناها تقترح فكرةَ أنَّ مادةَ التَّقليدِ وشكلَه مَرِنَان ويخضعان للتَّجديد.

بدلاً مِن تصوُّر التَّقليد والحداثة كشيئين مُتعارضين تعارضاً تامَّاً، وكتمييزات تشمل كلَّ شيء، يبدو لنا أنَّه من الأجدى حصر تركيزنا على العمليَّات الَّتي تُصبح بها العديدُ من مظاهر الحياة الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة موضوعاً للتَّفكير والنِّقاش والسِّجال. إنَّ مِن شأن المثال الملموس التَّالي أن يوضح هذه النقطة: في سنة 1979، وفي إحدى العواصم الإقليميَّة لسلطنة عُمَان، كان أحدُ الكُتَّاب ينام في غرفة الضُّيوف (سابيا) بمنزل زعيمٍ قبليٍّ كبيرٍ. استُيقظ الضُّيوف الآخرون، وهم كلُّهم عمانيُّون، قبل ساعة من الفجر ليتوضَّؤوا استعداداً للصَّلاة. لكنَّ الكاتب عاد إلى النَّوم ولم يستجب لنداء «الاستيقاظ». فتمَّ استدعاء الزَّعيم القَبَليِّ الَّذي سأل الكاتب إن كان مريضاً. وأوضح الكاتب لاحقاً أنَّه صلَّى بطريقة مختلفة، ولذلك لم يتوضَّأ ولم يُصَلِّ. وعَلِمَ في وقت لاحق مِن شابٍّ عمانيٍّ أنَّه كان من البديهيِّ أن يتَّبع الكاتب، وهو ناطق بالعربيَّة وعلى دراية بآداب المعاملة المحلِّيَّة، الممارسات المحلِّيَّة. كان الإباضيُّون العمانيُّون من الدَّاخل الشَّماليِّ طبعاً على علمٍ بالتَّقاليد الإسلاميَّة وغير الإسلاميَّة، لكنَّهم كانوا على هامش الخيال الاجتماعيِّ والأخلاقيِّ لتلك التَّقاليد.

وبعد مرور عدَّة سنوات على هذا الحدث؛ بدأ ينبثق حسٌّ أكثرُ وعياً بالتَّقليد، أوحى به الفوج المتنامي من الشَّباب العمانيِّ الَّذي تلقَّى تعليماً ثانويَّاً أو جامعيَّاً، والَّذي بدأ يتساءل عن معنى أن يكون الإنسان مُسلماً، وذلك بفضل السُّهولة المتزايدة لوسائل النَّقل وتوسُّع شبكات اللِّقاء بين الشَّباب بفعل التَّمدرس والخدمة العسكريَّة والشُّغل. وكما لاحظ أحدُ معلِّمي القُرى من الجيل الأوَّل بخصوص الدَّاخل الشَّماليِّ لعُمَان: «لا يعرف النَّاس هنا الإسلام؛ إنَّهم يُصلُّون ويقومون بواجب العيد الأضحى، لكنَّهم لا يعرفون لماذا» (مقابلة، منطقة نِزوى، 9 آذار/مارس 1988).

قبل منتصف سبعينيات القرن الماضي؛ لم يكن هذا الكلام ذو الحسِّ النَّقديِّ الواعي مفهوماً تقريباً في معظم مدن عُمَان وقُرَاها، ولم يكن ليخطر على بال معظم النَّاس أنَّ ممارستهم الدِّينيَّة ستكون محطَّ تساؤل، إلَّا أنَّ هذا التَّساؤل أصبح في أواخر ثمانينيات القرن العشرين أمراً شائعاً، ووصلَت ما نُطلق عليها «الموضعة» إلى كلِّ أجزاء العالم الإسلاميِّ.

إنَّ الموضعة هي العمليَّة الَّتي أضحت بها الأسئلة الأساسيَّة ملحوظةً في وعي عدد كبير من المؤمنين: «ما هو ديني؟»، «لماذا هو مهمُّ بالنِّسبة لحياتي؟»، «كيف تُوجِّه معتقداتي سلوكي؟». لا تفترض الموضعة فكرةَ أنَّ الدِّينَ كيانٌ موحَّدٌ ومتجانسٌ (على الرَّغم من أنَّه يعني ذلك بالنِّسبة لبعض المفكِّرين). إنَّ هذه الأسئلةَ الصَّريحةَ، المشتركةَ على نطاق واسع و«الموضوعيَّةَ»، استفساراتٌ حديثةٌ شكَّلَت على نحو متزايد خطابَ وممارسةَ المسلمين في كلِّ الطَّبقات الاجتماعيَّة، حتَّى وإن كان بعضُهم يُبرِّرون أفعالهم ومعتقداتهم بادِّعاء أنَّهم يطالبون بعودةٍ إلى ما يزعمون أنَّها التَّقاليد الأصيلة. توجد الموضعة في كلِّ الطَّبقات، وأصبح الدِّين نظاماً قائماً بذاته يُمكن لمعتنقيه أن يُنقِّحوه ويُحدِّدوا طبيعته ويُميِّزوه عن أنظمة معتقدات أخرى.

منذ قيام الثَّورة الإسلاميَّة في إيران؛ والعديد من خطب الجمعة في مساجد طهران توضح هذا الميلَ إلى تقديم الإسلام باعتباره نظامَ أفكارٍ مجرَّداً يمكن تمييزه عن الأنظمة الأخرى. تفسِّر المرجعيَّاتُ الدِّينيَّةُ في هذه الخطب السِّياساتِ والمشاكلَ وأحداث الأسبوع لفئة من المستمعين أكبر من تلك الَّتي كانت تستمع له في عهد الشَّاه على الرُّغم من سيطرة الدَّولة على وسائل الاتِّصال الجماهيريِّ. قام آية الله محمَّد يازدي، رئيس السُّلطة القضائيَّة الإيرانيَّة، في خطبة شهر حزيران/يونيو 1991 بترديد موضوعٍ شائعٍ، حيث حذَّر مُستمعيه من «الإسلام على الطِّراز الأمريكيِّ». وعرَّف هذا الأخير بأنَّه: «الاقتصار على أنواع معيَّنة من العبادة الفرديَّة والشِّعارات الَّتي لا علاقة لها بالقضايا السِّياسيَّة، والَّتي لا تناقش الأحداث العالميَّة، والَّتي تشمل طقوساً بسيطةً وتتجاهل أُخرى... يجب على المرء أن يكون حذراً؛ نظراً لأنَّ خطر الإسلام على الطِّراز الأمريكيِّ، الَّذي يقول إنَّ الحُكم لا علاقة له بالإسلام، أكبر بكثير من خطر الأسلحة» (bbc swb, me/ii06/ a1-2, june 24, 1991).

يُسلِّط وصفُ آية الله يازدي لـ «الإسلام على الطِّراز الأمريكيِّ» الضَّوءَ على «موضعة» التَّقليد الإسلاميِّ. ومع ذلك؛ فهذا ما يفعله الإسلامُ «المُسَيَّسُ» الَّذي يدَّعي ضمنيَّاً أنَّه الإسلام الأكثر «أصالةً». ولأنَّ هذه الخطب تحيل غالباً إلى المصادر المنشورة وتقدِّم استدلالات تستحضر السُّلطات المعترف بها؛ فإنَّ ذلك يعني أنَّ المستمعين ألفوا النُّصوصَ والمبادئ المستشهد بها. ليس كلُّ المستمعين قادرين على تتبُّع هذه الاستدلالات بكلِّ تفاصيلها، لكنَّهم يعترفون بأشكال السُّلطة. قد يكون هذا الشَّكلُ من الاستدلالِ أكثرَ أهمِّيَّةً للزُّعماء الدِّينيِّين الَّذين لا يتماهون بالتَّعليم التَّقليديِّ. فعلى سبيل المثال؛ لم يتمَّ قبول صدِّيق فاضل؛ أحد زعماء حركة الشَّباب المسلم في ماليزيا (abim)، «بسهولة كعالمٍ من قِبَل الجيل القديم الماليزيِّ وسكَّان المناطق القرويَّة، لكنَّ استعانته المنتظمة والمدروسة في كلامه باستشهادات من القرآن والسُّنَّة؛ ساهمت في تعزيز صورته كزعيم في نظر الكثير من المسلمين»[60].

لا تقتصر العمليَّة الَّتي نُسمِّيها الموضعة على الإسلام وحده؛ فقد خصَّص لها هيفنر[61] وصفاً إثنوغرافيَّاً دقيقاً باعتبارها ظاهرةً موجودةً في الهندوسيَّة والإسلام، وفي مرتفعات تينغر بجاوة الشَّرقيَّة. ويصف مادان[62] انعكاسات الموضعة على الدِّين والسِّياسة في الهند[63]. إلَّا أنَّ ويلفريد كانتويل سميث[64] يؤكِّد على أنَّه من المرجَّح جدَّاً أن يفوق المسلمون أعضاء التَّقاليد الدِّينيَّة الأخرى في تقديم الإسلام «باعتباره كياناً منظَّماً ومُنسَّقاً». ومن هذا المنطلق؛ «أن يكون المرءُ مسلماً» يكتسي أهمِّيَّة سياسيَّة في العالم الحديث أكثر مِمَّا يكتسيها الانتماء إلى تقاليد دينيَّة أُخرى؛ بسبب التَّماهي الواعي للمؤمنين مع تقليدهم الدِّينيِّ.

ينصبُّ اهتمامنا، ونحن نقيم هذا الوعي الذَّاتيَّ المتزايد؛ أي: تنسيق التَّقليد الدِّينيِّ ووضوحه، على الكيفيَّة الَّتي أصبح بها الإسلام مُموضَعاً في وعي كثير من المسلمين في نهاية القرن العشرين وفي بعض السِّياقات. إنَّ هناك ثلاثة جوانب جديرة بالملاحظة؛ أوَّلاً: إنَّ ما يُميِّز العصر الحديث هو أنَّ جمهوراً واسعاً من النَّاس انخرطوا في الحديث عن التَّقليد الإسلاميِّ ومناقشته. كما أنَّ هذا الانخراط يقتضي بالضَّرورة وعياً بالتَّقاليد الإسلاميَّة وغير الإسلاميَّة الأُخرى. فكما أنَّ الإصلاح المسيحيَّ في القرن السَّادس عشر استحقَّ لقب «ابن الطِّباعة» نظراً لأنَّ الطِّباعة سمحت بنشر الأفكار على نطاق واسع؛ فإنَّ التَّعليم الجماهيريَّ ووسائل الإعلام في العالم الحديث يسَّرَت وعياً بالقضايا الجديدة وغير التَّقليديَّة؛ ذلك لأنَّها استطاعت، بفضل تغيير أسلوب وحجم الخطاب الممكن، أن تعيد تشكيل طبيعة الفكر والفعل الدِّينيَّيْنِ، وأن تُشجِّعَ النِّقاش حول المعنى.

يشغل التَّعليم الجماهيريُّ ووسائل الإعلام الجماهيريِّ مكانة مُهمَّة في الدِّيانات العالميَّة المعاصرة. إلَّا أنَّ العالم الإسلاميَّ بدا للتَّوِّ يستشعر الآثار الكاملة للتَّعليم الجماهيريِّ، ولا سيَّما التَّعليم العالي. ففي الشَّرق الأوسط مثلاً؛ يُعتبر التَّعليم الجماهيريُّ ظاهرةً حديثةً نسبيَّاً؛ ذلك أنَّ التَّعليم الابتدائيَّ في مصر لم يبدأ بشكلٍ جدِّيٍّ إلَّا بعد ثورة 1952. وكان يجب انتظار بين خمسة عشرة وعشرين سنة قبل أن ينهي عدد كبير من الطُّلَّاب الأسلاك المتقدِّمة في التَّعليم الَّذي ترعاه الدَّولة. ويختلف توقيت التَّوسُّع التَّعليميِّ بالنِّسبة لأجزاء أُخرى من العالم الإسلاميِّ؛ إذ بدأ أهمُّ توسُّعٍ تعليميٍّ في المغرب مثلاً في أواخر خمسينيات القرن العشرين، وبدأ في مطلع السَّبعينيات بالنِّسبة لبلدان شبه الجزيرة العربيَّة كعُمَان واليمن. ففي عُمَان؛ لم يكمل المرحلة الكاملة من التَّعليم الثَّانويِّ إلى حدود الموسم الدِّراسيِّ 1975-1976 سوى 32 طالباً، رغم أنَّ هذا الرَّقم ارتفع إلى 13500 في الموسم الدِّراسيِّ 1987-1988. ولم تبدأ فئة كبيرة من النَّاس ذوي المستوى الجامعيِّ، القادرين على دعم سوق داخليَّة موسَّعة للصُّحف والدَّوريَّات والكتب، في الانبثاق سوى في أواخر ثمانينيات القرن الماضي[65].

يعتبر إنتاج الكتب على نطاق واسع مقياساً معاصراً للتَّغيير. ففي سنة 1982؛ أنتج العالم العربيُّ 40 كتاباً لكلِّ مليون نسمة؛ أي: أقلَّ بكثير من المتوسِّط العالميِّ البالغ 162 عنواناً لكلِّ مليون نسمة. وعلى الرَّغم من عدم توفُّر أرقام حديثة؛ فإنَّ هناك علامات تشير إلى أنَّ هذه الفجوة بدأت في التَّقلُّص[66]. ذلك أنَّ الطَّلب على الكتب العربيَّة «الجيِّدة» في بلدان مثل المغرب ارتفع منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي[67].

إلَّا أنَّ من الملاحَظ في نفس الوقت أنَّ النُّموَّ المتسارع لعالم الطِّباعة تمثَّل فيما يُسمِّيه غونزاليس-كويخانو[68] «الكتب الإسلاميَّة»، وهي كتب رخيصة وذات طبعة جذَّابة ومتاحة للقرَّاء الَّذين يفتقرون إلى المهارات الأدبيَّة الَّتي كانت تتمتَّع بها الأطر المتعلِّمة في وقت سابق. فالشَّكل المكتوب غالباً ما يستحضر الأسلوب البهيج للإنشاء العاميِّ. وتستفيد الأغلفة من تكنولوجيَّات الطِّباعة الحديثة؛ الشَّيء الَّذي يجعلها سهلةَ الفهم ولافتةً للنَّظر. وكمثال على ذلك؛ يحتوي كتيبٌ سعوديٌّ على غلافٍ مثيرٍ للغرابة، حيث يظهر كرةً حمراء مشرقةً تسقط في بئرٍ في صحراء عطشى (الشَّكل. 2). ويشرح النَّصُّ أنَّ الدِّيموقراطيَّة، الَّتي تتسرَّب إلى العالم الإسلاميِّ، لا تتوافق مع الإسلام؛ نظراً لأنَّ الحُكم في الإسلام يعود إلى الخالق، كما تفهمه النُّخبة الدِّينيَّة المتعلِّمة بشكل صحيح، في حين أنَّ الدِّيموقراطيَّة، هذا المصطلح غير العربيِّ، تعني بالضَّرورة أنَّ الحُكم يعود للمخلوق، وهو الحُكم الَّذي يتساوى فيه كلام الكافرين والجاهلين ويغتصبون حُكم الله[69]. ينظر الكثيرون بكثير من التَّسلية إلى هذا النَّوع من الاستدلال في العديد من بقاع العالم الإسلاميِّ، بما فيها شمال إفريقيا؛ لكنَّه يوفِّر أيضاً نمطاً من الاستدلال الَّذي يمكن أن يفهمه العديد مِمَّن استفادوا من التَّعليم الجماهيريِّ.

شهدت مدينة إيلورن في نيجيريا انتشاراً متزايداً للمؤسَّسات التَّعليميَّة الإسلاميَّة؛ ما ساعد على تنشيط سوق للمنشورات العربيَّة. يتألَّف قطاع التَّعليم الرَّسميِّ من مدارس على الطِّراز الغربيِّ الَّتي شجَّعها المستعمرون البريطانيُّون، ومدارس اللُّغة العربيَّة الحديثة الَّتي تُدرِّس الموادَّ الإسلاميَّة والحديثة، والمدارس «التَّقليديَّة» المكرَّسة للتَّعليم الإسلاميِّ. ليست هذه المدارس أشكالاً من التَّعليم الَّتي تقصي بعضها بعضاً، حيث كان الطُّلَّاب عادةً يستفيدون من أكثر من نوع واحد من المدارس. وفي نهاية سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين؛ كان حوالي 75 في المائة من الطُّلَّاب في القطاع التَّعليميِّ الرَّسميِّ- الَّذي يستقبل أعداداً متزايدةً من الفتيات- يرتادون المدارس الإسلاميَّة. وبرزت بذلك اللُّغة العربيَّة باعتبارها وسيلةً تعليميَّة وأدبيَّة شعبيَّة. وكان لتأثير الشُّيوخ أهمِّيَّة بالغة، أمثال الشَّيخ آدم الإلوري (1916-1992) الَّذي ساهمت مدرسته النَّافذة بالقرب من لاغوس وكتاباته العربيَّة في تعريف الجمهور بالكتابات العربيَّة، وحفَّزَتهم على مناقشتها[70].

الشَّكل2. يتضَّمن كتاب حقيقة الدِّيموقراطيَّة (1992) لمحمَّد شاكر الشَّريف استدلالاً غير أصيل. لكنَّه يتناول موضوعاً يشغل بال العديد من المسلمين المتديِّنين. وقد ضمن له سعره البخس وانتشاره الواسع جمهوراً كبيراً من القُرَّاء.

يساهم التَّعليم العالي الجماهيريُّ والنَّشر، مثل وسائل الاتِّصال الجماهيريِّ، في الموضعة من خلال غرس «عادات فكريَّة»[71]. ويقوم التَّعليم والنَّشر بهذه المهمَّة من خلال تحويل المعتقدات الدِّينيَّة إلى نسقٍ واعٍ، وتوسيع نطاق السُّلطة الدِّينيَّة، وإعادة رسم حدود المجتمع السِّياسيِّ. تعني موضعةُ الإسلام أنَّ المعتقدات والممارسات الدِّينيَّة أصبحت تعتبر أكثر فأكثر منهاجاً يجب تمييزه عن المناهج غير الإسلاميَّة. عندما كتب المفكِّرون الحركيُّون أمثال سيِّد قطب (1906-1966) عن الإسلام بوصفه منهاجاً؛ فإنَّهم قد عنوا به أكثر من «نظام» أو «برنامج»، وهي التَّرجمات الَّتي تُقدَّم عادة لكلمة «منهاج». كما يمكن لهذا اللَّفظ أن يعني أنَّ شيئاً ما قد تمَّ فتحه وإظهاره وتوضيحه. فبالنِّسبة لقطب، مثلما لدعاة آخرين، لا يكفي المسلم «أن يكون» مسلماً ويتَّبع الممارسات الإسلاميَّة؛ بل يجب عليه أن يفكِّر في الإسلام ويعبِّر عنه. عندما يُصرِّح الدُّعاة بأنَّهم مُنخرطون في «أسلمة» مجتمعهم؛ فإنَّ معنى التَّفكير في المعتقدات الدِّينيَّة كنظامٍ موضوعيٍّ يصبح ظاهراً. هكذا، يستعمل المغاربة كلمة «المسلمون» منذ ثمانينيات القرن العشرين للإشارة إلى الدُّعاة الَّذين يُعبِّرون عن رغبتهم في أن يعيش المجتمع وفقاً للقواعد الإسلاميَّة وحدها. ومن باب سخرية هذا اللَّفظ؛ أنَّ حوالي 20000 مواطن من المغاربة البالغ عددهم 26 مليوناً مسلمون.

هناك مؤشِّر آخَر على التَّفكير المنهجيِّ الإسلاميِّ؛ وهو الشَّعبيَّة المتنامية للكتب الدِّينيَّة بين المسلمين. مثلاً: ألَّف الدَّاعية المصريُّ النَّافذ محمَّد الشَّعراويُّ[72] كتاباً دينيَّاً تمهيديَّاً من ثلاثين صفحة حول قضايا تتعلَّق بإيمان المرأة والعلاقات الاجتماعيَّة والشَّرائع الإسلاميَّة الَّتي تنظِّمها. وبالمثل؛ زوَّد بكير بن سعيد أعوشت[73] الإباضيِّين في الجزائر وزنجبار وعُمَان بوصفٍ للعقائد «الأساسيَّة» للمذهب الإباضيِّ وتاريخه ومبادئه. وتستعمل هذه الكتب الدِّينيَّة، من بين أشياء أُخرى، في شرح العقائد المذهبيَّة للمسلمين الآخرين؛ إذ يزوَّدُ الطَّلبة العمانيُّون في الولايات المتَّحدة بكتيِّبات باللُّغة الإنجليزيَّة (مثل: «مَن هُم الإباضيُّون؟») لهذا الغرض[74]. وتفترض هذه الكتب الدِّينيَّة أنَّ مُستعمليها على دراية بعناوين الموضوعات والمؤشِّرات الَّتي تنظِّم المعلومات.

في حالة جماعة النَّور، الَّتي بدأت في تركيا في وقت مبكر من القرن العشرين والَّتي لديها اليوم أتباع في ألمانيا وكاليفورنيا وغيرها من الأماكن، تمَّ جمعُ تعاليم مؤسِّسها سعيد النَّورسيِّ (1873-1960)- الَّتي كُتِبَت في الأصل بخطِّ اليد وتمَّ تداولها سرَّاً بسبب عداء الحكومة التُّركيَّة للحركة- في كتيِّبات تحت عناوين من قبيل: معجزات محمَّد، الاعتقاد والإنسان، والقيامة والآخرة. وتتمثَّل وظيفة هذه الكتيِّبات في «تفسير حقائق القرآن على ضوء روح العصر»[75]. ويشدِّد النَّورسيُّ على أنَّ الكتب، وليس البشر، هي الَّتي «شنَّت معركة ضدَّ الكفر»[76]. وكما تبيَّن هذه الكتيِّبات؛ يتمُّ تثمين نقل الأفكار بواسطة النُّصوص باعتباره طريقة للارتقاء بتصوُّرات الإسلام المعتمدة. وتشمل أمثلةٌ أخرى على هذا الجنس من الكتابة: كتابَ (مدخل إلى الإسلام) لمحمَّد حميد الله[77] الَّذي يعتبر «درساً بالمراسلة حول الإسلام» ومتوفِّر بعدَّة لغات، وكتاب (الموجز في التَّعاليم الإسلاميَّة) لمحمَّد صويمان[78]؛ متوفِّر باللُّغتين التُّركيَّة والإنجليزيَّة بوصفه «دليلاً» للمسلمين. كما أنَّ دلائل الحجِّ؛ وهي شكلٌ أدبيٌّ شعبيٌّ آخَر في جميع أنحاء العالم الإسلاميِّ؛ تُشير بالمثل إلى تنظيم مُتزايد للطُّرق الَّتي يتمُّ بها التَّعبير عن العقيدة[79].

الوجه الآخَر للموضعة؛ هو أنَّ هذا الخطاب الدِّينيَّ الرَّسميَّ الَّذي كان يحتكره سابقاً علماء الدِّين الَّذين أتقنوا النُّصوص الدِّينيَّة المعترف بها؛ حلَّ محلَّه الوصول المباشر والواسع إلى الكلمة المطبوعة؛ إذ أصبح عدد متزايد من المسلمين يتعهَّدون بأنفسهم تأويلَ المصادر النَّصِّيَّة للإسلام؛ سواءٌ الكلاسيكيَّة أو الحديثة. فقد اعترف الملك فهد ضمنيَّاً بهذا التَّحوُّل في الاستشهاد الَّذي ذكرناه آنفاً، والَّذي يشير إلى الطَّيف الواسع من النَّاس الَّذين يحقُّ لهم تأويل الشَّريعة الإسلاميَّة في العصر الحديث. وقد أسند حسن التُّرابيُّ (ولد عام 1939)، خرِّيج السُّوربون وزعيم الإخوان المسلمين في السُّودان والنَّائب العامُّ السَّابق، إلى هذه النُّقطة قوَّةً أكبر عندما قال: «لمَّا كانت المعرفةُ كلُّها إلهيَّةً ودينيَّةً؛ فإنَّ عالِم الكيمياء والمهندس وعالِم الاقتصاد ورجل القانون كلُّهم 'علماء'»[80]. ويستند التُّرابيُّ بشكل ضمنيٍّ إلى تقليدٍ إسلاميٍّ يؤكِّد فضل السُّلطة على إيمان أولئك الَّذين يمتلكون المعرفة الدِّينيَّة («العِلم»). يقول النَّبيُّ في أحد الأحاديث الَّذي يتضمَّنه جامع التِّرمذيِّ: «وَإِنَّ فَضْلَ العالمِ على العَابِدِ كَفضل القمر ليلة البدرِ على سائرِ الكَوَاكِب»، أو مثل سُلطة النَّبيِّ على أقلِّ عباده قيمة[81].

على الرَّغم من أنَّ امتلاك المعرفة الدِّينيَّة ما زال يؤدِّي إلى نفس النَّتائج السِّياسيَّة؛ فَمِنَ المرجَّح أنَّ الدُّعاة الدِّينيِّين في مصر والضَّفَّة الغربيَّة وآسيا الوسطى وأماكن أخرى؛ هم نتاج للتَّعليم العالي الجماهيريِّ أكثر ممَّا هم نتاج للمؤسَّسات التَّعليميَّة التَّقليديَّة كالمدارس العتيقة أو المدارس القرآنيَّة. وبالفعل؛ إنَّ الخطاب الدَّعويَّ الإسلاميَّ، كخطاب المغربيِّ عبد السَّلام ياسين (1928-2012)، يبين عن أُلفة مع لغة الخطاب الماركسيِّ والخطابات «الغربيَّة» الأُخرى الَّتي يردُّ عليها بثقة ودون تردُّد[82]. كما أنَّ كتاب السَّيِّد قطب (معالم في الطَّريق)[83]؛ الَّذي كتبه مفكِّر غير تقليديٍّ، والَّذي يعتبر أكثر الكتب مقروئيَّةً من طرف الشَّباب المسلم في جميع أرجاء المعمورة؛ لم يكن ليمارس تأثيره الواسع لولا انتشار التَّعليم الجماهيريِّ وما يوفِّره من فهم للنُّصوص التَّحليليَّة والتَّفسيريَّة.

ثالثاً وأخيراً، وارتباطاً بوجهة نظرنا المتعلِّقة بالآثار المترتِّبة عن الوصول المباشر للكلمة المطبوعة، تُعيد الموضعةُ تشكيلَ الإنتاج الرَّمزيِّ للسِّياسة الإسلاميَّة. فقد أصبح الإسلام المموضَع أمراً طبيعيَّاً جدَّاً، وأصبح تأثير الإسلام على السِّياسة الجماهيريَّة واضحاً جدَّاً، ما حوَّل مسألةَ مَن يتحدَّث باسم إسلامٍ مموضَعٍ إلى قضيَّةٍ مركزيَّةٍ في السِّياسة الإسلاميَّة. فبينما كان العلماء والدَّولة غالباً ما يقيمون فيما بينهم توافقات من أجل المصالح المتبادلة؛ فقد أضحى من الصَّعب التَّنبُّؤ بالعلاقات القائمة بينهم وبين الزُّعماء المسلمين الجُدد؛ فمَن ذا الَّذي كان يتنبَّأ في سنة 1990 بأنَّ محمَّد شريف حكمت زاد، هذا العاملَ الميكانيكيَّ ذا الأربعين عاماً، سيصبح في طاجكستان بعد سنتين زعيم حركة سياسيَّة عابرة للحدود في آسيا الوسطى وروسيا، هي حزب النَّهضة الإسلاميُّ؟

في الواقع؛ يتنافس كلٌّ من الدَّولة والعلماء والمفكِّرون الدِّينيُّون «الجُدد» للارتقاء إلى مرتبة مُحكِّمي الممارسة الإسلاميَّة. وكانت الآثار السِّياسية لهذه العمليَّة واضحة في الهند خلالَ القرن التَّاسع عشر؛ حيث إنَّ تزايُدَ النُّصوصِ المطبوعة، الَّتي كان يتحكَّم فيها العلماء في البداية، «ضرب مباشرة في نقل المعرفة بطريقة شخصيَّة؛ وضرب مباشرة في السُّلطة الدِّينيَّة»[84]. فقد سمحت الطِّباعة في البداية للعلماء بتوسيع نطاق تأثيرهم في الشُّؤون العامَّة بسبب رعايتهم للمنشورات الدِّينيَّة ومراقبتها. لكن من سخرية القدر؛ أن أدَّت الطِّباعة إلى تقليص سلطة العلماء على المدى الطَّويل؛ بسبب التَّنامي المتزايد لأعداد الأشخاص المتعلِّمين، والانتقال إلى لغات عامِّيَّة أسهل[85]. كما أدَّت الإصلاحات التَّعليميَّة الَّتي تمَّ الشُّروع فيها في فترة «التَّنظيمات» في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة إلى تغييرات عميقة في مضمون المعرفة ومناهج تلقينها؛ إذ كان التَّعليم قبل ذلك مرتبطاً بالعلوم الإسلاميَّة، وكان يُلَقَّنُ بطريقة شخصيَّة. وجاءت الكتب المدرسيَّة والمعاجم والكتيِّبات والموسوعات لتكمِّلَ؛ إنْ لم نقلْ: لتحلَّ محلَّ السُّلطة المباشرة للمعلِّم. وظهرت نتائج هذه العمليَّة في تسعينيات القرن التَّاسع عشر؛ مع ظهور الجيل الأوَّل الَّذي تخرَّج من المدارس الَّتي تمَّ إصلاحها في فترة التَّنظيمات:

إنَّ تدبُّرَ وتدبير المعلومات المُستخرجة من الكتب؛ فَتَحَا صندوق باندورا الَّذي يشبه إلى حدٍّ بعيد الصُّندوق الَّذي غذَّى النَّقد الحديث المبكر لنصِّ الكتاب المقدَّس في أوربا. لكنَّ هذه العمليَّة كانت أكثر تقدُّماً: فقد اتَّجه المسؤولون الشَّباب الَّذين كانوا يعدُّون الخطط للمؤسَّسات الجديدة آنذاك إلى عالم الإمكانات المُجرَّدة الَّتي بدأت تبدو أكثر واقعيَّة بكثير من تجمُّع هياكل المنازل الآيلة للسُّقوط، والبنايات العموميَّة المتداعية، والوظائف القائمة على الرَّشوة الَّتي انطلقوا منها[86].

في الثُّلث الأخير من القرن العشرين؛ تعزَّزت عمليَّة التَّغيير التَّعليميِّ والاجتماعيِّ من خلال التَّعليم العالي الجماهيريِّ ووسائل الاتِّصال الجماهيريِّ، وأدَّت إلى ظهور «الإسلاميِّين»؛ أي: المسلمين الَّذين تمَّت موضعة وعيِهم على النَّحو الَّذي وصفناه سابقاً، والَّذين التزموا بتطبيق رؤيتهم للإسلام باعتبارها تصحيحاً للممارسات «غير الإسلاميَّة» الحاليَّة. وينطوي هذا الالتزام على قدر من الاحتجاج؛ الَّذي تمظهر في أشكال عديدة ضدَّ الوضع السِّياسيِّ والاجتماعيِّ السَّائد والمؤسَّسات القائمة. ويُستعمل لفظ «الإسلاميِّين» من طرف الدُّعاة المسلمين، أمثال اللُّبنانيِّ محمَّد حسين فضل الله (1935-2010)، للإشارة إلى أتباع «الحركة الإسلاميَّة»[87]، والتُّونسيِّ راشد الغنُّوشيِّ (ولد عام 1941) الَّذي يرى أنَّ اللَّفظ يشمل سياقيَّاً المسلمين الَّذين تُحرِّكهم الإيديولوجيا[88]. وتصدر السُّلطة الإسلاميَّة الهادفة إلى إعادة تشكيل العالَم من خلال الامتلاك الواثق من نفسه لما يعتقدون أنَّه «تقليد». وبالتَّالي؛ فإنَّ قواعد اللُّعبة -سواءٌ كانت غامضة أو واضحة- لا شكَّ أنَّها الآن مُعقَّدة وغير يقينيَّة. إنَّ سقف الرِّهانات عالٍ، وإنَّ المنافسة الإسلاميَّة حول ما نُسمِّيه السُّلطة المقدَّسة؛ هي ما نعود إليه الآن [يقصد المؤلِّفان بالجملة الأخيرة: الفصلَ اللَّاحق من الكتاب الَّذي استُلَّ منه هذا الفصل].

 

لائحة المراجع

- abduh, muhammad. [1925] 1978. rissalat al-tawhid: exposé de la religion musulman. translated by b. michel and moustapha abdel razik. paris: librairie orientaliste paul geuthner.

- el-affendi, abdelwahab. 1991. who needs an islamic state? london: grey seal.

- ajami, fouad. 1986. the vanished imam: musa al-sadr and the shia of lebanon. ithaca: cornell university press.

- albin, michael w. "moroccan-american bibliography." in the atlantic connection: 200 years of moroccan-american relations, 1786-1986 , edited by j. bookin-weiner and m. el-mansour, pp. 5-18. rabat: edino.

- almond, g. a., and g. b. powell. 1966. comparative politics: a development approach. boston: little, brown.

- anderson, j. n. d. 1976. law reform in the muslim world. london: athlone press.

- anwar, zainah. 1987. islamic revivalism in malaysia: dakwah among the students. petalingjaya, malaysia: pelanduk publications.

- asad, muhammad. [1961] 1980. the principles of state and government in islam. gibraltar: dar al-andalus.

- ayalon, ami. 1987. language and change in the arab middle east: the evolution of modern political discourse. new york: oxford university press.

- al-'azm, sadiq j. 1993a. "islamic fundamentalism reconsidered: a critical outline of problems, ideas, and approaches, part ii". south asian bulletin 13, no. 1: 93-121.

- barthes, roland. 1957. mythologies. paris: editions du seuil.

- bazargan, mehdi. 1979. the inevitable victory. 2d ed. translated by mohammad yusefi. houston: free islamic literatures.

- berger, morroe. 1964. the arab world today. garden city: doubleday.

- berger, morroe. 1970."economic and social change".in the cambridge history of islam, edited by p. m. holt, ann k. s. lambton, and bernard lewis, 1: 698-730. cambridge: cambridge university press.

- bill, james a. 1979. politics in the middle east. boston: little, brown.

- bill, james a. 1984. politics in the middle east. 2d ed. boston: little, brown.

- binder, leonard. 1986. "the natural history of development theory." comparative studies in society and history 28, no. 1 (january): 3-33.

- binder, leonard. 1988. islamic liberalism: a critique of development ideologies. chicago: university of chicago press.

- black, c.e. 1966. the dynamics of modernization: a study in comparative history. new york: harper and row.

- bourdieu, pierre. 1988. homo academicus. translated by peter collier. stanford: stanford university press.

- bourdieu, pierre. 1989. la noblesse d'état. paris: les editions de minuit.

- canard, m. 1965. "da'wa." in encyclopaedia of islam, new ed., 2: 168-70. leiden: e. j. brill.

- chipaux, françoise. 1998. "l'image obsédante de l'iran." le monde, may 24, pp. 1-3.

- coulson, noel james. 1964. a history of islamic law. edinburgh: university press.

- eickelman, dale f. 1989b. "national identity and religious discourse in contemporary oman." international journal of islamic and arabic studies 6: 1-20.

- eickelman, dale f., and kamran pasha. 1991. "muslim societies and politics: soviet and u.s. approaches- a conference report." middle east journal 45, no. 4 (autumn): 630-47.

- enayat, hamid. 1982. modern islamic political thought. austin: university of texas press.

- faldlallah, muhammad husayn. 1990. al-haraka al-islamiyya: humum wa-qadiyya [the islamic movement: concerns and issues]. beirut: dar al-malak.

- fahd ibn'abd al-'aziz. 1983. "inaugural address at the constituent conference of the islamic jurisprudence academy, 7-9 june 1983." jidda: organization of the islamic conference.

- al-faruqi, isma'il r. 1986/ a. h. 1406. islamic da'wah: its nature and demands. indianapolis: american trust publications.

- findley, carter vaughn. 1992. "knowledge and education." in modernization in the middle east: the ottoman empire and its afro-asian successors, edited by cyril e. black and l. carl brown, pp. 121-49. princeton: darwin press.

- fischer. michael m, j,, and mehdi abedi. 1990. debating muslims: cultural dialogues in postmodernity and tradition. madison: university of wisconsin press.

- gambari, ibrahim. 1990. "islamic revivalism in nigeria: homegrown or externally induced?" in the iranian revolution: its global impact, edited by john l. esposito, pp. 302-16. miami: florida international university press.

- al-ghannouchi [al-ghannushi], rashid. 1992. hiwarat [dialogues], with qusayy sllah al-darwish. london: khalil media service.

- halpern, manfred. 1963. the politics of social change in the middle east and north africa. princeton: princeton university press.

- hefner, robert w. 1985. hindu javanese: tengger tradition and islam. princeton: princeton university press.

- hefner, robert w. 1987. "the political economy of islamic conversion in modern east java". in islam and the political economy of meaning, edited by william r. roff, pp. 53-78. london: croom helm.

- higgot, richard a. 1983. political development theory: the contemporary debate. london: croom helm.

- hobsbawm, eric. 1983. "introduction: inventing tradition." in the invention of tradition, edited by eric hobsbawm and terence ranger, pp. 1-14. cambridge: cambridge university press.

- horikoshi, hioko. 1975. "the dar-ul islam movement in west java (1948-62): an experience in historical process." indonesia 20 (october): 59-86.

- hudson, michael c. 1980."islam and political development." in islam and development: religion and socio-political change, edited by john l. esposito, pp. 1-24. syracuse: syracuse university press.

- huntington, samuel. 1968. political order in changing societies. new haven: yale university press.

- inalcik, halil. 1970. "the rise of the ottoman empire". in cambridge history of islam, edited by p. m. holt, ann k.s. lambton, and bernard lewis, 1: 295-323. cambridge: cambridge university press.

- iran, islamic republic of. 1980. "constitution of the islamic republic of iran" (ratified december 2-3, 1979). middle east journal 34, no. 2 (spring): 181-204.

- al-khalil, ahmad bin hamad. 1988. who are the ibadhis? translated by a. h. al-maamiry. zanzibar: al-khaiyirah press.

- khomeini, ayatullah ruhollah. [1983] n. d. "imam khomeini's last will and testament." washington: embassy of the democratic and popular republic of algeria, interests section of the islamic republic of iran.

- korgun, victor g. 1993. "the afghan revolution: a failed experiment." in russia's muslim frontiers: new directions in cross-cultural analysis, edited by dale f. eickelman, pp. 101-13. bloomington and indianapolis: indiana university press.

- lerner, daniel, [1958] 1964. the passing of traditional society: modernizing the middle east. new york: free press.

- lewis, bernard. 1988. the political language of islam. chicago: university of chicago press.

- madan, t. n. 1987. "secularism in its place." journal of asian studies 6: 747-59.

- al-mahdi, sadoq. 1990. tahaddiyat al-tis'iniyat [the challeng of 1990s]. cairo: sharikat al-nil li-l-sahafa wa-l-tiba`a wa-l-nashr.

- mardin, serif. 1989. religion and social change in modern turkey: the case of bediüzzaman said nursi. albany: state university of new york press.

- metcalf, barbara d. 1990. "the pilgrimage remembered ; south asian accouts of the hajj." in muslim travellers: pilgrimage, migration, and the religious imagination, edited by dale f. eickelman and james piscatori, pp. 85-107. london: routledge ; berkeley and los angeles: university of california press.

- moghadam, val. 1991. "the neopatriarchal state i the middle east: development, authoritariansm, and crisis." in the gulf war and the new world order, edited by haim bresheeth and nira uyval-davis, pp. 199-210. lodon: zed books.

- moussavi, ahmed kazemi. 1992. "a new interpretation of the theory of vilayat-i faqih." middle eastern studies 28, no. 1 (january): 101-7.

- mutalib, hussin. 1990. islam and ethnicity in malay politics. singapore: oxford university press.

- nurci, saïd. 1985a. the miracles of muhammad. translated from the turkish by Umit simek. istanbul: yeni asya yaninlari.

- nurci, saïd. 1985b. belief and man. translated from the turkish by Umit simsek. istanbul: yeni asya yaninlari.

- nurci, saïd. 1985c. resurrection and the hereafter. translated from the turkish by hamid algar. istanbul: yeni asya yaninlari.

- nuri, shaykh fadlullah. 1982. "refutation of the idea of constitutioalism." in islam in transition: muslim perspective, edited by john j. donohue and john l. esposito, pp. 292-96. new york: oxford university press.

- pakistan, islamic republic of. 1990. the constitution of the islamic republic of pakistan. islamabad: federal judiciary board.

- piscatori, james p. 1986. islam in the world of nation-states. cambridge: cambridge university press.

- piscatori, james p. 1989."the shia of lebanon and hizbullah, the party of god." in politics of the future: the role of social movements, edited by christine jennett and randal g. stewart, pp. 292-320. melbourne: macmillan.

- rashid, ahmad. 1991b, "backward tajikistan moves toward islamic future." independent (london), december 30, p.8.

- reichmuch, stefan. 1993. "islamic learning and its interaction with `western' education in ilorin, nigeria." in muslim identity and social change in sub-saharan africa, edited by louis brenner, pp. 179-97. bloomington and indianapolis: indiana university press.

- robinson, francis. 1993. "technology and religious change: islam and the impact of print." modern asian studies 27, no. 1: 229-51.

- samuel, raphael, and paul thompson. 1990. "introduction." in the myths we live by samuel, raphael, and paul thompson, pp. 1-22. london: routledge.

- scarritt, james r. 1972. political development and culture change theory. beverly hills: sage.

- sharabi, hisham. 1998. neopatriarchy: theory of distorted change in arab society. new york: oxford university press.

- al-sharif, muhamed shakir. 1992/ a. h. 1412. haqiqat al-dimuqratiyya [the truth about democracy]. riyadh: dar al-watan li-l-nashr.

- shils, edward. 1981. tradition. chicago and london: university of chicago press.

- so, alvin y. 1990. social change and development. newbury park, calif.: sage.

- watt, w. montgomery. [1968] 1980. islamic political thought: the basic concepts. islamic surveys, no. 6. edinburgh university press.

- weiner, myron, and samuel p. huntington. 1987. understanding political development: an analytic study. new york: harper collins.

- wong, siu-lun. 1988. emigrant entrepreneurs: shanghai industrialists in hong kong. hong kong: oxford university press.

[1]- daniel lerner, the passing of traditional society: modernizing the middle east (new york: free press, [1958] 1964), p. 405. morroe berger, the arab world today(garden city: doubleday, 1964). morroe berger, "economic and social change." in the cambridge hlstonj of islam, edited by p. m. holt, ann k. s. lambton, and bernard lewis (cambridge: cambridge university press, 1970), 1: 698-730, pp. 719-20, 724-27.

[2]- إرادة الخميني هذه، المؤرَّخة يوم 15 شباط/فبراير 1983، تمَّ الإعلان عنها بعد وفاته سنة 1989- khomeini, "imam khomeini's last will and testament" washington: embassy of the democratic and popular republic of algeria, interests section of the islamic republic of iran, [1983].

[3]- g. a. almond and g. b. powell. comparative politics: a developmental approach (boston: little, brown, 1966), p. 301.

[4]- إذا كان عمل شلومو أيزنشتات المبكر (مثلاً، s. eisenstadt, protest and change (englewood cliffs: prentice-hall, 1966)) يمثِّل المدرسة الفكريَّة الَّتي كانت تعتقد أنَّ التَّحديث سوف يتوقَّف عند الدِّيموقراطيَّات اللِّيبراليَّة ذات النَّمط الغربيِّ؛ فإن صامويل هنتنغتون كان يتزعَّم المدرسة الفكريَّة الَّتي كانت تفضِّل الحديث عن «النِّظام» وليس عن أكبر مشاركة سياسيَّة كنتيجة نهائيَّة (samuel huntington. political order in changing societies (new haven: yale university press, 1968)).

[5]- m. halpern,the politics of social change in the middle east and north africa (princeton: princeton university press, 1963), p. 129.

[6]- James A. Bill and Carl Leiden, Politics in the Middle East (Boston: Little, Brown, 1979), p. 69.

كانت الثَّورة الإيرانيَّة الَّتي حدثت عامي 1978 و1979 دليلاً كافياً لإقناع مؤلِّفيْ هذا النَّصِّ بالتَّخلِّي عن ادِّعائهما. قدم بيل ولايدر James A. Bill, and Carl Leiden, The Middle East: Politics and Power, Boston: Allyn and Bacon), p. 53 اليمن وأفغانستان كأمثلة على المجتمعات «المتخلِّفة» الَّتي يظلُّ فيها التَّأثير والتَّحكُّم الإسلاميَّان قويَّاً؛ وقدم بيل ولايدر (Bill and Leiden, 1979, p. 69) اليمن وعمان كأمثلة، وأسقطا أفغانستان (عقب إلغاء الملكيَّة سنة 1973). وقد تمَّ التَّخلِّي نهائيَّاً عن هذا الاستدلال في الطَّبعة الثَّالثة لكتاب بيل وسبرينغبورغ (and Robert Springborg, Politics in the Middle East, 3d ed. (Glenview IL: Scott Foreman)). وقد مثل دونالد سميث (D. E. Smith, «Religion and Political Modernization: Comparative Perspectives.» In Religion and Political Development, edited by D. E. Smith, pp. 3-28 (New Haven: Yale University Press, 1974), p.7) استثناء ملحوظاً لوجهات النَّظر هذه. ونظراً لأنَّ الإسلام «نظام دينيٌّ تاريخيٌّ» يعيش في الزَّمن إلى أن يتجاوز الزَّمن، بخلاف الهندوسيَّة والبوذيَّة، فقد برهن على قدرته على التَّكيُّف عبر القرون. إنَّ المسلمين، مثل الكاثوليك، يتحمَّلون مسؤوليَّة الانتظار في زمنهم بأكبر قدر من العدل والرَّاحة دون الزِّيادة في بؤس الآخرين؛ هكذا، عندما ينتظر المسلمون الآخرة، فإنَّهم يقومون بواجبهم من خلال تعزيز العدالة الاجتماعيَّة والتَّعهد بتقلُّبات التَّاريخ.

Bill and Leiden, Politics in the Middle East,, p. 69.

[7]- r. a. higgott, political development theory: the contemporary debate (london: croom helm, 1983). l. binder, "the natural history of development theory," comparative studies in society and history 28, no. 1, (january 1986): 3-33.

[8]- l. binder, islamic liberalism: a critique of development ideologies(chicago: university of chicago press, 1988), pp. 76-84. m. c. hudson, "islam and political development," in islam and development: religion and socio-political change, edited by john l. esposito (syracuse: syracuse university press), pp. 5-10.

[9] - c. e. black, the dynamics of modernization: a study in comparative history (new york: harper and row, 1966), p. 27.

[10] -t. n. madan, "secularism in its place," journal of asian studies 6 (1987), 748.

[11]-black,the dynamics of modernization, pp. 27-28, 164-65.

[12]- myron weiner and samuel p. huntington, understanding political development: an analytic study (new york: harpercollins, 1987).

[13]- لإعادة تقييم النظريَّات الماركسيَّة اللِّينينيَّة للتَّنمية كما طبقت في أفغانستان، انظرْ: korgun (1993).

[14]- dale f. eickelmanand kamran pasha, "muslim societies and politics: soviet and u.s. approaches-a conference report,"middle east journal 45, no. 4 (autumn 1991): 632.

[15]- hisham sharabi, neopatriarchy: a theory of distorted change in arab society (new york: oxford university press, 1988), pp. 8-9.

[16]- v. moghadam, "the neopatriarchal state in the middle east: development, authoritarianism, and crisis." in the gulf war and the new worldorder, edited by haim bresheeth and nira uyval-davis (london: zed books, 1991), p. 206.

[17]- sharabi, neopatriarchy, pp. 6-7.

[18]- ibid., p. 10.

[19]- ibid., p. 155.

[20]- halpern, politics of social change, pp. 114-15.

[21]- a. y. so, social change and development (newbury park, california: sage, 1990), pp. 85-87.

[22]- c. v. findley, "knowledge and education." in modernization in the middle east: the ottoman empire and its afro-asian successors, edited by cyril e. black and l. carl brown (princeton: darwin pres, 1992), p. 149.

[23]- s. l. wong, emigrant entrepreneurs: shanghai industrialists in hong kong (hong kong: oxford university press, 1988), pp. 170-71.

[24]- b. a. james and c. leiden, politics in the middle east,2d ed. (boston: little, brown, 1984), p. 67.

[25]- للاطِّلاع على تقارير مفصَّلة حول إصلاح الشَّريعة في القرن العشرين؛ انظرْ j. n. d. anderson, law reform in the muslim world, london: athlone press). n. j. coulson, a history of islamic law (edinburgh: edinburgh university press).

[26] - james p. piscatori, islam in a world of nation-states (cambridge: cambridge university press, 1986), pp. 122-124.

[27] - fahd ibn `abd al-'aziz. "inaugural address at the constituent conferenceof the islamic jurisprudence academy, 7-9 june 1983," (jidda: organization of the islamic conference, 1983), p. 5.

[28]- shaykh fadlullah nuri, "refutation of the idea of constitutionalism," in islam in transition: muslim perspectives, edited by john j. donohue and john l. esposito (new york: oxford university press, 1982), pp. 292-96.

[29]- تطوِّر النَّظريَّةُ السِّياسيَّةُ الإسلاميَّةُ الحديثةُ فكرةَ أنَّ الشَّعبَ هو خليفة الله في الأرض. يقول إسماعيل الفاروقي مثلاً: إنَّ البشر «كاملون من حيث الشَّكل ولهم كلُّ ما هو ضروريٌّ لتحقيق الإرادة الإلهيَّة... ولو أنَّها محمَّلة بنعمة الوحي». وإذا لم يكن الفاروقيُّ يفعل ذلك؛ فإنَّ كتَّاباً آخرين يطوِّرون هذه الفكرة كأساس للمشاركة الشَّعبيَّة باعتبارها عنصراً جوهريَّاً في الحكم. m. bazargan, the inevitable victory. 2d ed., translated by mohammad yusefi (houston: free islamic literatures, 1979), p. 30.

[30]- يعرض الدُّستور الباكستانيُّ لسنة 1990 بطريقة مماثلة تعايش أفكار متناقضة للسِّيادة. فبينما يعيد التَّأكيد على أنَّ «السِّيادة على العالمين لله تبارك وتعالى وحده»، يتحدَّث أيضاً باسم شعب باكستان. إذ عملاً بوصيَّة محمَّد علي جناح مؤسِّس الأمَّة، فإنَّ إرادة الشَّعب هي الَّتي جعلت من باكستان «دولة ديمقراطيَّة تقوم على المبادئ الإسلاميَّة للعدالة الاجتماعيَّة». إنَّ مَن يحكم الشَّعب هم مُمثِّلوهم المنتخبون، لكن «وفقاً لتعاليم الإسلام وأحكامه المنصوص عليها في القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة». islamic republic of iran,"constitution of the islamic republic of iran" (ratified december 2-3, 1979), middle east journal 34, no. 2 (spring 1980): 181-204.

[31]- j. r. scarritt, political development and culture change theory (beverlyhills: sage, 1972), p. 29.

[32]- r. barthes, mythologies (paris: Editions du seuil, 1957), pp. 41-46. r. samuel and p. thompson, "introduction." in the myths welive by, edited by raphael samuel and paul thompson (london: routledge, 1990), p. 14.

[33]- m. m. j. fischer and m. abedi, debating muslims: cultural dialogues in postmodernity and tradition (madison: university of wisconsinpress, 1990).

[34]- e. shils, tradition (chicago and london: university of chicagopress, 1981), p. 185.

[35]- e. hobsbawm, "introduction: inventing traditions." in the inventionof tradition, edited by eric hobsbawm and terence ranger (cambridge: cambridge university press, 1983), pp. 4-5.

[36]- ibid., p. 5.

[37]- h. enayat, modern islamic political thought (austin: university of texas press, 1982), p. 69.

[38]- h. inalcik, "the rise of the ottoman empire." in cambridge history of islam, edited by p: m. holt, ann k. s. lambton, and bernard lewis (cambridge: cambridge university press,.1970), vol. 1, pp. 320-323

[39]- ibid., p. 320.

[40]- b. lewis, the political language of islam (chicago: university of chicago press, 1988), p. 36; a. ayalon, language and change in the arab middle east: the evolution of modern political discourse (new york: oxford university press, 1987), pp. 81-82.

[41]- w. m. watt, islamic political thought: the basic concepts (edinburgh: edinburgh university press, [1968] 1980), pp. 101-102.

[42]- رضا، محمَّد رشيد، الخلافة أو الإمامة العظمى، القاهرة، مطبعة المنار بمصر، 1934، ص57-65.

[43]- enayat, modern islamic, p. 77.

[44]- e. rosenthal, islam in the modem national state (cambridge: cambridge university press, 1965), pp. 83-85.

[45]- enayat, modern islamic, p. 77. يقدِّم عنايات (ن. م. 69-83) مناقشة رائعة لوجهات نظر رضا في الدَّولة الإسلاميَّة.

[46]- o. roy¬ l'èchec de l'islam politique (paris: èditions du seuil, 1992), p. 43.

[47]- a. rashid, "backward tajikistan moves toward islamic future,"independent (london), december 30, 1991 p. 8.

[48]- i. gambari, "islamic revivalism in nigeria: homegrown or externally induced?" in the iranian revolution: its global impact, edited by john l. esposito (miami: florida international university press, 1990), pp. 307-310.

[49]- h. horikoshi, "the dar-al islam movement in west java (1948-62): an experience in historical process," indonesia 20 (october1975): 59-86.

[50]- a. el-affendi, who needs an islamic state? (london: grey seal, 1991), p. 21.

[51]- ibid., pp. 22-26.

[52]- m. abduh, rissalat al-tawhid: expose de la religion musulman, translated by b. michel and moustapha abdel razik (paris: librairie orientaliste paul geuthner, [1925] 1978), pp. 104-23.

[53]- المهديُّ، الصَّادق، تحدِّيات التِّسعينيات، القاهرة، شركة النِّيل للصَّحافة والطِّباعة والنَّشر، 1990، ص197.

[54]- m. canard, "da'wa." in encyclopaedia of islam, new ed. (leiden: e. j. brill, 1965), vol. 2, p. 169.

[55]- f. ajami, the vanished imam: musa al-sadr and the shia of lebanon (ithaca: cornell university press, 1986), p. 111.

[56]- f. chipaux, "l'image obsedante de l'iran,"le monde, may 24, 1988, pp.1-3. j. p. piscatori, "the shia of lebanon and hizbullah, the party of god."in politicsof the future: the role of social movements, edited by christine jennett and randal g. stewart (melbourne: macmillan, 1989), p. 30.

[57]- z. anwar, islamic revivalism in malaysia: dakwah among the students (petalingj aya, malaysia: pelanduk publications, 1987), p. 37.

[58]- a. ahmad, "the muslim world seen from economic angle", islamicherald (kuala lumpur) 5, nos. 1 and 2, 1981: 27-29.

[59]- الغزاليُّ، محمَّد حامد، المنقذ من الضلال، القاهرة، مكتبة الجندي، بدون تاريخ، ص14.

[60]- h. mutalib, islam and ethnicity in malay politics (singapore: oxforduniversity press, 1990), p. 76.

[61]- r. w. hefner, hindu javanese: tengger tradition and islam (princeton: princeton university press, 1985), pp. 264-65.

[62]- madan, “secularism in its place.”

[63]- ومع ذلك؛ يحمل مادان (1987: 749) نظرة سلبيَّة للغاية بخصوص ظهور مذهب الفعاليَّة activism الهندوسيِّ والسِّيخيِّ والبوذيِّ والإسلاميِّ- يستعمل مصطلح «الأصوليِّين»- في المجال السِّياسيِّ. ويعمد مادان، من خلال الإشارة إلى مذهب الفعالية المعاصر بوصفه «تحريفاً للدِّين» نظراً لأنَّه لم يكن له سابقة في المجتمعات «التَّقليديَّة»، إلى الاعتراف بموضعة التَّقليد الدِّينيِّ، لكنَّه يذهب بعيداً جدَّاً عندما يفترض أنَّ التَّعبير والممارسة الدِّينيَّيْنِ «التَّقليديَّينِ» وحدهما الحقيقيَّان.

[64]- w. c. smith, the meaning and end of religion: a new approachto the religious traditions of mankind (new york: macmillan, 1963), p. 85.

[65]- هذه الإحصاءات المتعلِّقة بالتَّعليم في المغرب وعُمَان مُستمدَّة من البنك الدُّوليِّ (1981-1989)، وتلك المتعلِّقة بعُمَان من عمان (1979-1989). لكنَّ هذه الأرقام تبقى تقريبيَّة بالتَّأكيد؛ كما أنَّ البلدان تغيَّر ترتيبها وتقاريرها حول المؤسَّسات التَّعليميَّة.

[66]- khalid sabat, "le livre imprime en egypte." in le livre arabe et l'éditionen Egypte, edited by yves gonz?lez-quijano. bulletin du cedej, no. 25 (1stsemester 1989): 18.

[67]- m. w. albin, "moroccan-american bibliography." in the atlantic connection: 200 years of moroccan-american relations, 1786-1986, edited byj. bookin-weiner and m. el-mansour (rabat: edino, 1990), pp. 1-18.

[68]- y. gonz?lez-quijano, "les gens du livre: champ intellectuel et édition dans l'Egypterepublicaine (1952-1993)." ph.d diss., l'institut d'Etudes politiques de paris, mention sciences politiques, 1994.

[69]- الشَّريف، محمَّد شاكر، حقيقة الدِّيموقراطيَّة، الرِّياض، دار الوطن للنَّشر، 1412هــــ/ 1992م، ص16-18.

[70]- s. reichmuth, "islamic learning and its interaction with 'western'education in ilorin, nigeria."in muslim identity and social change in sub Saharan africa, edited by louis brenner (bloomington and indianapolis: indiana university press, 1993), pp. 179-97.

[71]- p. bourdieu, homo academicus, translated by peter collier (stanford: stanford university press, 1988); bourdieu, la noblesse d'Etat (paris: les Editions de minuit, 1989).

[72]- الشَّعراويُّ، محمَّد، ما يهمُّ المرأة المسلمة، القاهرة، دار الرِّسالة، بدون تاريخ.

[73]- أوعشت، بكير بن سعيد، دراسات إسلاميَّة في الأصول الإباضيَّة، الجزائر، 1982.

[74]- a. al-khalili, who are the ibadhis? translated by a. h.ai-maamiry (zanzibar: al-khaiyirah press, 1988). d. f. eickelman, "national identity and religious discourse in contemporary oman,", international journal of islamic and arabic studies 6 (1989): 4-5.

[75]- s. nourçi, nature: cause or effect? translated from the turkish by umit semsik (istanbul: yeni asya yanmlan, 1985).

[76]- نقلاً عن: s. mardin, religion and social change in modern turkey: the case of bediizzaman sa]d nursi (albany: state university of new york press, 1989), p. 4.

[77]- m. hamidullah, introduction to islam, new ed. (paris: centre culturel islamique, 1959).

[78]- m. soymen, concise islamic catechism, translated by ihsan ekmeleddin (ankara: directorate of religious affairs, 1979).

[79]- b. d. metcalf, "the pilgrimage remembered: south asian accountsof the hajj."in muslim travellers: pilgrimage, migration, and the religious imagination, edited by dale f. eickelman and james piscatori (london: routledge; berkeley and los angeles: university of california press, 1990), pp. 85-107.

[80]- h. al-turabi, "the islamic state,", in voices of resurgent islam, editedby john l. esposito (new york: oxford university press, 1983), p. 245.

[81]- مذكور في: m. asad, the principles of state and government in islam (gibraltar: dar al-andalus: [1961] 1980), pp. 86-87.

[82]- a. yassine, la revolution à l'heure de l'islam (gignac-la-nerthe: imprimerie borel et feraud, 1981).

[83]- قطب، سيِّد، معالم في الطَّريق، القاهرة، دار الشروق، 1981.

[84]- f. robinson, "technology and religious change: islam and the impact of print,"modern asian studies 27 (1993), no. 1: 239.

[85]- ibid., p. 245.

[86]- mardin, religion and social change, p. 120.

[87]- فضل الله، محمَّد حسين، الحركة الإسلاميَّة: هموم وقضية، بيروت، دار الملاك، 1990، ص238-240.

[88]- الغنُّوشيُّ، راشد، حوارات، مع قصي صالح الدَّرويش، لندن، دار خليل، 1992، ص47. على الرَّغم من أنَّ الغنُّوشيَّ يستعمل مصطلح «إسلاميُّون»؛ فإنَّه يستعمل أيضاً مصطلحات أخرى تبدو مرادفة لها تقريباً. وعلى الرَّغم من أنَّه غالباً ما يشير إلى أولئك المسلمين الملتزمين بتغيير العالم فقط بكلمة «المسلمون»؛ فمن الواضح أنَّ قصده أنَّه يمكن تمييزهم عن المجتمع العامِّ. وتظهر هذه النُّقطة عندما يتحدَّث عن «التَّيَّار الإسلاميِّ»- وهو تمييز ضمنيٌّ لهذا «التَّيَّار» عن المسلمين الآخرين ذوي العقليَّة الدِّينيَّة وعن العلمانيِّين أيضاً، بمن فيهم النُّخَب السِّياسيَّة الَّتي يعارضها (على سبيل المثال: ن. م.، 52، 164). لنتأمَّل أيضاً عبارته «نحن مسؤولون كحركة إسلاميَّة» (ن.م.، ص. 47). تشير كلُّ هذه التَّعيينات الذَّاتيَّة إلى وعي متزايد بالإسلام كنظام إيديولوجيٍّ. فالغنُّوشيُّ يشير بشكل صريح إلى «أصل الفكرة الإسلاميَّة أو الإيديولوجيا الإسلاميَّة». إنَّ للغته الخاصَّة أهمِّيَّة واضحة؛ نظراً لأنَّها تشير إلى «الموضعة» الضِّمنيَّة للإسلام. وعلى الرَّغم من أنَّ لفظ «إسلاميٍّ» لم يصبح متداولاً إلَّا في الفترة الممتدَّة بين منتصف وأواخر القرن العشرين؛ فقد ظهر أوَّلاً في العصر الوسيط في كتاب مقالات الإسلاميِّين لأبي الحسن الأشعريِّ (م. 935) الَّذي أثَّر على ابن تيمية.(م. 1328). انظر: al-azmeh, aziz. 1993. islams and modernities. new york: verso, 1993, p. 99.