معركة تحرير الوعي الإسلامي تبدأ من التحرّر من سلطة النصّ الدّيني


فئة :  حوارات

معركة تحرير الوعي الإسلامي تبدأ من التحرّر من سلطة النصّ الدّيني

يوسف هريمة: المتتبع لكتاباتكم الأستاذ ناشيد تصادفه الجرأة في الطّرح الفكري في واقع مهترئ يعيشه العالم العربي الإسلامي حاليًّا. بداية اسمح لنا بمعرفة شذرات من مسارات التشكُّل الفكري للكاتب والباحث سعيد ناشيد حتى يتسنّى لقرّاء مؤسّسة مؤمنون بلا حدود ومتتبّعيها معرفته أكثر؟ وما هو السرّ وراء هذه الرّغبة الجامحة التي تدفعكم إلى نقد الموروث الديني؟

سعيد ناشيد: نشأتُ في بيت نصف محتوياته كتب ومجلات ومراجع. وفي لحظة فارقة من حياتي - بين 12 و14 سنة - انتقلتُ على حين غرّة من قصص سندرلا والأميرة والوحش والأقزام السبعة إلى مؤلفات التحليل النفسي مع فرويد، والماركسية مع جورج بولتزر، والوجودية مع سارتر، ثم شدني الكتّاب الذين نجحوا في مزج الماركسية بالتحليل النفسي، من بينهم أذكر إريك فروم ووليام رايخ. كنت مسكونًا بهواجس أسئلة الموت والفناء والعدم، التي كانت تقض مضجعي فأكتب عنها في مذكراتي الخاصة ولا أقرأها على أحد، وبالتأكيد لا أعتبر هذه البداية فخراً بالنسبة إلى مراهق كان يجب أن يتمرس في الكتابة عن الحب والجنس والمرأة والحياة. حصلتُ على شهادة الباكلوريا بتفوق وكانت درجتي من الدرجات الأعلى على مستوى المغرب. ولأنّي أنتمي إلى المدينة التي كان ينحدر منها وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، فقد تسلمت منه الجائزة الأولى. وكم شعرتُ بالخجل وندمت على حضور حفل توزيع الجوائز عندما اكتشفت محتويات الجائزة، فهي مجرّد مؤلفات هزيلة. التحقتُ بالجامعة، وحصلت على الإجازة في الفلسفة عام 1992. ثم تفوقت في الاختبارات الكتابية لسلك الدراسات العليا، كنا ثلاثة طلبة على المستوى الوطني ممن نجحوا في اجتياز الاختبارات الكتابية لمادة المنطق وتاريخ العلوم، لكن بسبب "تقدير" أحد الأساتذة لم أفلح في تخطّي عتبة الامتحان الشفهي. وكان ذلك يعني بالنسبة إلى الدراسات العليا أنّي شخص غير مرحّب به. وهي التجربة التي ستتكرر سنوات بعد ذلك عندما تقدمت لاستكمال دراسة الفلسفة في جامعة مغربية أخرى، تفوقت في امتحانات الكتابي، وأثناء اختبار الشفهي - والذي لم يكن اختبارًا كما الأمر بالنسبة إلى سائر الطلبة بل كان دردشةً حول القضايا "القومية" - لم يتم قبولي بدعوى أنّ مكاني الطبيعي في الندوات لا في مقاعد الجامعات ! (أو هذا هو التبرير الذي سمعته). ولأنّ إمكاناتي وكذا إمكانيات الوالد لم تكن تسمح لي بمتابعة الدراسة بأي بلد أجنبي كما نصحني بعض أصدقائي، فقد أصبحت أمام خيارين: إمّا أن أنهي الحكاية عند هذا الحد فأصبح مواطنًا كأيّها الناس، أو أن أرسم لنفسي مساراً لا يمكن أن يتحكم فيه أحد غيري. في أثناء ذلك طرحتُ على نفسي السؤال التالي: ما هو أكبر تحدّ سيواجهه المثقفون والمفكرون والباحثون بعد عشر سنوات من الآن؟ فكّرت في البيئة واشتغلت عليها بعض الوقت، ثم فكرت في العولمة واشتغلت عليها بعض الوقت، لكني أدركت بأنّ المعضلة الكبرى ستكون هي التطرف الديني؛ كل المعطيات تؤكد ذلك. ما لم أتوقعه حينها هو أنّ المشكلة التي بدت في سنوات التسعين كأنّها آفة كافة الأديان بلا استثناء تكاد تنحصر اليوم في الإسلام. قلت يجب أن أعدّ نفسي لمعركة التطرّف الديني. وهكذا اعتكفت لمدّة عشر سنوات قرأت فيها كل أجزاء تاريخ الطبري وتاريخ ابن خلدون وتاريخ ابن الأثير سطرًا سطرًا، وقرأت تفاسير الطبري وابن كثير والزمخشري آيةً آيةً، وقرأت فتاوى ابن تيمية فتوى فتوى، إضافة إلى كتب السيرة والصّحاح وعلوم القرآن. كنت أقرأ بعقل متسائل وقلب يعاني من أزمة اليقين. في نهاية عشرية الاعتكاف خرجتُ من العزلة لأجد أمامي تلك المرآة السحرية المسمّاة بالأنترنيت والتي بفضلها استطعتُ متابعة تجربة الإصلاحيين الإيرانيين في زمن محمد خاتمي، ونجحت في مواكبة تجربة أنصار العولمة البديلة منذ ولادتها الأولى في فرنسا مروراً بسياتل والبندقية ووصولاً إلى تجارب المنتدى الاجتماعي العالمي بريو دي جانيرو. لكن المحصلة كانت فشل التجربة الإصلاحية الإيرانية، وبعد ذلك تدهورت روح العولمة البديلة، ومرّة أخرى شاهدتُ الكثير من الآمال وهي تفقد زمام المبادرة. لكنّي لم أخرج من هذه الخيبة خاوي الوفاض؛ فقد بات بوسعي أن أدلي بدلوي، أو هكذا اعتقدت.

قبل خمس سنوات قرّرت أن أرسم خطة عمل صارمة لغاية تحقيق الهدف الذي كنت دائماً أصبو إليه: أن يقرأ لي آخرون بعد أن كنت قارئًا لآخرين. فقط يجب أن أعترف بهذا، لقد كنت محظوظاً لأنّ عصر الأنترنيت قد فتح أمامي قنوات لا يتحكم فيها أيّ أحد. كانت تلك فرصتي التي لم أشأ أن أضيعها. وهكذا كان.

يوسف هريمة: عندما يقارب المشتغلون في الحقل الدّيني مسألة ظاهرة الإرهاب، والتي سبق وأنْ أفردتم لها كتاباً خاصاً، يبرّرون هذه الأعمال بأنّها تأويلٌ وفهمٌ منحرف للنّصوص الدينية؟ برأيكم ما هو الإشكال الحقيقي في هذه المأساة المعرفية؟ هل هو النصّ أم التأويل والفهم؟

سعيد ناشيد: هناك مشكلة حقيقية تتعلق بعلاقة الشخص المسلم بالنص الديني. وهي علاقة غير متوازنة يخضع فيها الشّخص لسلطة النص المطلقة، ويبقى للعقل هامش من المناورة قد يتسع أو يضيق وفق الظروف والسياق، وفي كل الأحوال يبقى النص كما لو أنّه هو موضوع العبادة بدل الله أو إضافة إليه، يبدو النص أقنومًا ثانيًا من أقانيم الألوهية. وليس هذا هو جوهر العقيدة الإسلامية. طبعًا فإنّ تأويل النص يفتح باب الاجتهاد ومن ثم إعمال العقل، لكن أيّا كان هامش التأويل ومساحة الاجتهاد فالمشكل أنّ السلطة المرجعية تبقى محصورة داخل حدود النص، وهو نص مقيد بدلالات اللغة الطبيعية البشرية نفسها. مؤكد أنّ النص لا ينطق بذاته بل نحن الذين نستنطقه، لكن استنطاق النص يبقى مقيدًا بقيود لغة النص والتي هي لغة بشر محصورين في حدود الزمان والمكان والسياق التداولي والثقافي والاجتماعي والسياسي. فبقدر ما يفتح النص إمكانات تأويلية يبقى سقفه التأويلي محدودًا بحدود مفاهيم البشر الذين عاصروا ميلاد النص وساهموا في تكوينه وتشكله. صحيح أنّ بعض آيات القرآن تفتح إمكانيات واسعة لبناء تصورات حداثية وحتى ما بعد حداثية، لكن ثمة آيات في المقابل لا تمنحنا أي تأويل يخرج عن دائرة القدامة. لذلك نلاحظ كيف أنّ معركة تأويل النص تمنح السبق للتيارات الأكثر محافظة داخل المجتمع. والسبب، مفاهيم القدامة التي استعملها النص ضمن المتاح اللغوي وقتها من قبيل البيعة والجماعة والطاعة وأولي الأمر إلخ. المخرج الذي اقترحه هو استعادة السؤال الجذري: ما المقصود بالنص؟ هل نقصد به القرآن حصراً أم السنة أيضًا؟ وبالنسبة إلى القرآن هل نقصد مصحف عثمان أم كل ما نزل من القرآن ويندرج ضمن ما نسخ لفظه - وربما بقي حكمه كما يقال -؟ وهل نقصد المصحف العثماني زائد الصحيحين؟ وهل نقصد "كلام الله" زائد كلام الرسول زائد كلام الصحابة والتابعين؟ وبالنسبة إلى كلام الرسول هل نقصد كل كلام الرسول أو بعضه وبأي المعايير سيتم الانتقاء؟ وبالنسبة إلى كلام الصحابة هل نقصد كل الصحابة وكل كلامهم وبأي المعايير سيتم التحديد؟ ودعنا نحصر المشكلة في جوهرها، النص القرآني بنحو خاص. لكن هل القرآن خطاب أم نص؟ أم أنّه خطاب تحوّل إلى نص؟ وهل الخطاب القرآني أوامر ونواهٍ للمسلمين كافة في كل زمان ومكان؟ ومثلاً، هل الآيات التي تخاطب الرسول حصرًا، أو التي تخاطب نساء الرسول حصرًا، أو التي تخاطب بعض الصحابة حصرًا، هي أيضًا آيات تخاطب كافة المسلمين في كل زمان ومكان، أم أنّ أحكام الآيات محدودة بحدود المخاطَب في كل آية على حدة؟ ومثلاً، هل يبقى حكم الآيات التي تأمر المسلمين بالهجرة قائمًا حتى بعد فتح مكة، طالما أنّها أوامر إلهية مطلقة بصرف النظر عن ظرفي الزمان والمكان؟ إذاً لابد من إعادة بناء مفهوم النص. وهي عملية لن تكون سهلة.

رأيي الذي دافعت وأدافع عنه دائماً هو أنّ مفهوم القرآن يحيل إلى ثلاثة مستويات:

أولاً، الصور الوحيانية، وتحيل إلى تلك الإشارات الإشراقية التي تلقاها الرسول قبل أن يترجمها بمجهوده الشخصي إلى لغة بشرية وطبيعية، العربية.

ثانياً، القرآن المحمدي، ويحيل على كل الآيات التي أملاها الرّسول على الصحابة وكتبة الوحي أثناء محاولته ترجمة الصور الوحيانية إلى كلمات وعبارات.

ثالثاً، المصحف العثماني، ويحيل على ما نسميه بالنص القرآني، هذا النص الذي بين أيدينا اليوم كما جمعه ورتبه المسلمون بعد وفاة الرسول بسنوات طويلة، وبعد جهد جهيد.

وهكذا، قبل أن نتكلم على الإمكانات التأويلية التي يفتحها النص القرآني يجب أن ندرك بأنّ هذا النص هو ثمرة ترجمة الرّسول للصور الوحيانية. وهي ترجمة خاضعة لمفاهيم (وتصوّرات) عصر ما قبل دولة المؤسسات، وما قبل قيم المواطنة، وما قبل مناهج العلم الحديث.

لذلك أقول، ليس القرآن بدستور؛ فإنّ القرآن الذي وصف نفسه بعشرات الأوصاف لم يصف نفسه بكلمة الدستور. ثم إنّ القرآن يتضمن آيات ناسخة وأخرى منسوخة، يتضمن آيات محكمات وأخرى متشابهات، بل جميع آياته حمّالة أوجه كما في الحديث المأثور، وليست هذه من سمات الدستور.

إذا، يحق لنا أن نجيب عن السؤال ما وظيفة القرآن الكريم اليوم، بالجواب التالي: وظيفة القرآن الكريم هي وظيفة تعبدية، نصلي به، نبتهل به، ندعو به، نرتله ترتيلاً، وهل هناك من وظيفة أجلّ وأنبل من هذه؟

يوسف هريمة: في كتابه "أوهام الهوية" يصف داريوش شايغان المجتمعات التقليدية والشرقية بِداءِ الانفصام (السكيزوفرينيا) حين لا تأخذ بمبدأ حتمية الحداثة. هل يمكننا أنْ نواجه الآن خطر الأصوليات الدّينية بالانخراط التامّ في المسلسل الحداثي بما في ذلك تحرير السّؤال الديني؟ وكيف يمكننا أنْ نكيِّف ونلائم ما حدث في الغرب من إصلاح ديني مع ما تشهده بلداننا من عمليات انغلاق؟

سعيد ناشيد: يُعدّ الاصلاح الديني في الغرب لحظة فارقة فتحت الباب أمام انتقال الفكر الديني من عصر القدامة إلى عصر الحداثة. ولابدّ من التنويه إلى أنّ هذا الانتقال يظل عملية متواصلة لم تكتمل بعد، نعم نتكلم عن الغرب المسيحي نفسه، حيث لا تزال مشاكل "العهد القديم"، ومسألة "عصمة" البابا، وانخراط النساء في سلك الكهنوت، وعقيدة الخلاص الأخروي، من الملفات الإصلاحية التي لم تطو بعد، لكن العملية لا تزال متواصلة، ولعل الإصلاح الديني الغربي تنطبق عليه هو الآخر مقولة هابرماس، الحداثة مشروع لم يكتمل بعد. لكن عندنا نحن المسلمين فإنّ ورشات الإصلاح الديني لم تُفتح بعد، وذلك بدعوى أنّ ديننا كامل مكتمل لم يتعرض لأي تحريف، ومن ثم فإنّه لا يحتاج إلى أيّ دعوة للإصلاح ! وهذا الكلام يناقض حتى ما يصرّح به علماء الدين أنفسهم من الحاجة إلى الاجتهاد والتجديد. دعنا نقول بوضوح: الإسلام يحتاج إلى أكثر من إصلاح تدريجي، يحتاج إلى إصلاح جدّي وجذري، ولا أدلّ على ذلك من أن تصل التفجيرات باسم الله إلى الأضرحة والمزارات والجنائز والمدارس والمستشفيات بل وإلى داخل بيوت الله نفسها، وأن يُستهدف البشر والشجر والحجر، وأن تُستهدف الفتيات الذاهبات إلى المدارس، والأمهات العائدات من الحقول، ويستهدف عمّال الإغاثة والأطباء والممرضون وسائقو سيارات الإسعاف. إنّه الدرك الأسفل من الانحدار في سلّم الحضارة الإنسانية. بالجملة، نحتاج إلى ما يلي:

أولاً، تحرير الإسلام من الرؤية السحرية والنظرة الأسطورية إلى العالم، وهذا يتفق مع ما يدعو إليه داريوش شايغان نفسه.

ثانيًا، تحرير الإسلام من التوظيف الإيديولوجي وتحييده عن مجال الصراع على السلطة، الذي هو مجال التعدد والتناوب والتداول والتنازلات والتسويات والتوازنات والتوافقات، وهذه الإمكانات لا يتيحها العقل الفقهي ولا تتيحها التيارات المنحدرة من العقل الفقهي.

ثالثًا، تحرير الإسلام من مفاهيم القدامة السياسية، التي تدور حول البيعة والخلافة والطاعة والجماعة وغير ذلك من المفاهيم المعيقة لبناء دولة المؤسسات والمواطنة.

يوسف هريمة: أنتم من المعجبين بالمفكّر السّوري جورج طرابيشي، والمتأثرين به، وتعلمون أنّه طرح مسألة علمانية الإسلام في كتابه "هرطقات". هل بنظركم الإسلام علماني؟ أم أنّ هذه الفكرة لا تعدو أنْ تكون مثل سابقاتها المتعلّقة بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم أو السُنّة؟

سعيد ناشيد: لم يقل جورج طرابيشي إنّ الإسلام دين علماني - وهو قول لا يستقيم - لكنّه قال إنّ في الإسلام "بذورًا" للعلمانية، وقد وضع بنفسه كلمة بذور بين هلالين، وهي على وجه العموم "بذور" لا تقل عن بذور العلمانية في الإنجيل. فعبارة "أعطوا لله ما لله وأعطوا لقيصر ما لقيصر" الواردة على لسان المسيح، لها مقابلات على لسان نبي الإسلام، من قبيل ما ورد على لسانه: "إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان شيئًا من أمر دينكم فإليّ" أو "أنتم أعلم بما يصلح في دنياكم وأما آخرتكم فإليّ". ما يعني وكما يؤكد ذلك الأستاذ جورج أن لا فارق كبير بين الإسلام والمسيحية بخصوص البذور العلمانية. غير أنّ المشكلة التي يسعى إلى توضيحها هي أنّ عدم الوعي بالحاجة السياسية إلى استثمار تلك البذور العلمانية لغاية التمييز بين مجال الدنيا/السلطة، ومجال الآخرة/ العقيدة، قد أوقع دار الإسلام في فتن لا أوّل لها ولا آخر. ولذلك فإنّ العلمانية في العالم الإسلامي لا تلبي فقط حاجات الأقليات المسيحية والدرزية والصابئية وغيرها، لكنها تلبّي بالأحرى وبالأولى حاجات المسلمين أنفسهم، إنّها تلبي حاجة المسلمين إلى الخروج من حالة الفتن، ما يعبر عنه في عبارة بليغة تقول إنّ العلمانية حاجة إسلامية-إسلامية. نعم، في أتون الفتن والحروب الدينية والطائفية تصبح العلمانية ضرورة أمنية لأجل سلامة المسلمين أنفسهم من أنفسهم.

إجمالاً، وهكذا أحاول أن "أكمّل" رؤية الأستاذ جورج بخصوص الإسلام بالقول، لقد عانى الإسلام لا فحسب من انقلاب واحد، وإنّما من ثلاثة مسارات انقلابية: بموجب الانقلاب الأول انتقل مركز الثقل من القرآن المكي إلى القرآن المدني، مع إلحاق "رسمي" بقرآن ما بعد فتح مكة بالمرحلة المدنية حتى تبقى هذه المرحلة (المدنية) هي المرحلة المركزية؛ وبموجب الانقلاب الثاني انتقل مركز الثقل من مستوى العقيدة حيث لا سلطة لغير الله إلى مستوى الشريعة حيث سلطة الفقهاء والشيوخ والوعاظ؛ وبموجب الانقلاب الثالث انتقل مركز الثقل ممّا يسميه جورج طرابيشي بإسلام القرآن إلى ما يسميه بإسلام الحديث.

يوسف هريمة: سأستعير عنوان أحد كتبكم وهو "قلق في العقيدة"، لأتساءل وإيّاكم بنفَسٍ وجودي؟ هل القلق هنا يعني ما أشار إليه مارتن هيدجر، بأنّ القلق هو الموجّه لهذا الوجود؟ أم أنّنا هنا إزاء خوفٍ وخطرٍ وجودي تمثّله العقيدة الدّينية المطلقة؟

سعيد ناشيد: شخصية الإنسان المسلم قلقة؛ أسئلته الكلامية حول الخلق والوحي والبعث عالقة، إلهه ليس "الأب" كما الحال في المسيحية، وليس "القائد" كما الحال في اليهودية، إنّه إله متعال منزّه ومجرّد. المسلم - بهذا المعنى - "يتيم ومهمل"، عندما يتألّم فإنّه لا يشعر بأنّ هناك في عالم الغيب من يتألم معه، بخلاف المسيحي الذي يشعر بأنّ المسيح يتألم معه. بل الغيب عند المسلم غائب بحكم الدلالة اللغوية. ومفهوم الخلود غير محوري في النصوص الدينية للإسلام، بخلاف سائر العقائد الأخرى، وهذا ما شجع الكثيرين على إنكار إمكانية أي خلود أخروي طالما البقاء والخلود والدوام لله وحده لا شريك له. ومثلاً فإنّ جهم بن صفوان يعتقد بأنّ الجنة بعد أن يدخلها المنعمون، والنار بعد أن يدخلها الأشقياء ستفنيان معًا بمن فيهما. وآخرون اعتبروا أنّ الخلود ليس واقعيًّا لكنّه يشبه الحلم أو الخيال أو التوهم الذي تغرق فيه "الأرواح الميتة" سلبًا أو إيجابًا دون أن يكون الخلود واقعًا ماديًّا طالما البقاء لله وحده، وهي رؤية يتبناها العلاف وصدر المتألهين الشيرازي، وليس يخفى أنّ كثيرًا من الصوفية كانوا ميّالين إلى إنكار الخلود على غير الذات الإلهية. وعمومًا لا يجوز أن ننسى محورية مفهوم الفناء في الفكر الصوفي الإسلامي. فضلاً عن ذلك فإنّ البناء النحوي للقرآن يكثر من أساليب الشك والريب وأدوات الترجي والاحتمال (لعلكم.. عسى أن.. قد..)، والكثير من السرديات القرآنية هي من باب المجاز والتشبيه وضرب المثل (ويضرب الله لكم الأمثال..)، وهناك أيضا اتساع في مناطق الفراغ التشريعي (أنتم أعلم بأمور دنياكم). إن كانت العقيدة الإسلامية مبنية على هذا الأساس من "اللاّ حسم" فما هي مصادر التطرف إذاً؟ إنّ التعصب الذي يطبع الكثير من المسلمين في علاقتهم بالإسلام وخوفهم الوسواسي من ضياع الدين هو نتيجة شعور أصلي بنوع من "الهشاشة" جراء غياب أي جدار فصل واضح بين الدخول إلى الدين والخروج عنه. فاعتبار الإسلام دين فطرة جعله في غنى عن أي قواعد "للدخول" إليه، لا وجود لتعميد ولا أي شيء من هذا القبيل. حتى الختان ليس شرطًا للدخول إلى الإسلام. المدخل الوحيد أن يردد المرء عبارة "لا إله إلا الله..."، والتي يرى البعض أن ليس من المهم قولها إذ يكفي أن يشعر بها الإنسان بقلبه لا أقل ولا أكثر. لكن بعد ذلك كيف يجب على المسلم أن يبني علاقته بالله؟ كيف يجب أن يشعر به؟ كيف يجب أن يخاطبه؟ هل الله يرعى الناس فرادى أم جماعات، وبأي معنى؟ وإذا كانت العقيدة فطرية فمتى يصبح المسلم خارجًا عن العقيدة؟ ثم إنّ النص القرآني لا يؤلف أي سردية كبرى تمتد من بدء الخليقة إلى يوم القيامة كما هو حال الكثير من الديانات الأخرى، والتي تمنح الوعي الديني إمكانية التموقع في الزمان والمكان؛ ذلك أنّ قصص القرآن متشظية والآيات جاءت منجّمة، وباستثناء سورة يوسف لا توجد أي سورة تقدم حكاية كاملة ومتسلسلة في الزمان، وبالجملة فالنص القرآني نفسه لا يقدم أي سردية كبرى تمنح المعنى للتاريخ الإنساني، للزمان الكوني، ولصيرورة الوجود.

بالجملة فإنّ تعالي الله، وغياب الغيب، وحتمية الفناء، والفراغ التشريعي، وتشظي النص القرآني، كل هذا يجعل شخصية المسلم شخصية قلقة. لكن هذا القلق العقائدي - وهذه رؤيتي - قد نجعل منه عنصر قوة بدل أن يدفعنا إلى حافة اليأس، قد نجعله قوة دفع أساسية نحو الإبداع والحرية، لكن شريطة أن نحسن استثماره. بمعنى، يجب أن لا نقلق من القلق، بل يتوجب علينا أن نستثمره.

يوسف هريمة: إذا كان هناك من يقترح الحلّ الوجودي للدين كعبد الرّزاق الجبران في مواجهة ما يسمّيه بالعقل الكهنوتي الفقهي. فما هي مداخل الإصلاح الذي تنشدونه وتقترحونه بديلاً عن التخلّف الحاصل في بنية الفكر الديني المعاصر؟

سعيد ناشيد: يجب أن يتحرك الإصلاح الديني في الإسلام في ثلاثة مسارات أساسية:

أولاً، تحرير الوعي الإسلامي من سلطة النص الديني ومرجعيته، وذلك باعتبار 1- أنّ الخطاب القرآني ليس دستورًا للمسلمين وليس مرجعًا، وإنّما هو خطاب ابتهالي له وظيفة تعبّدية خالصة لا علاقة لها بالصراع على السلطة. 2- أنّ الشريعة ليست كلام الله ولا كلام الرّسول لكنّها كلام الفقهاء، بمعنى أنّها محصلة ذلك الجهد الاجتهادي الذي مارسه الفقهاء والأئمة على مدى ألف عام أو يزيد لأجل استنباط أحكام عامة من بعض عبارات القرآن والسنة وبعض أقوال الصحابة أو آل البيت.

ثانيًا، تحرير الخطاب الديني في المساجد والمدارس من مفاهيم القدامة السياسية من قبيل البيعة والجماعة والولاء والبراء ودار الحرب ودار الإسلام والغنيمة والجزية إلخ. وهذا ما يدخل في إطار المصالحة الضرورية بين الدين والحداثة.

ثالثًا، عدم التسامح مع أي شكل من أشكال التحريض على الكراهية والحقد على أساس الدين أو الجنس أو الطائفة أو المذهب. ما يعني المصالحة الضرورية بين الدين وحقوق الإنسان.

يوسف هريمة: آراء ومواقف جريئة من مواضيع مهمّة في التّفكير الديني. كيف تفهمون أنتم معنى الإسلام، خاصّة وأنّ لديكم مقالاً بعنوان "لماذا أقول أنا مسلم؟"، خالفكم فيه مجموعة من المتتبعين؟ وهل توافقون الرأي القائل بأنّ النص الديني - سواءً كان قرآنًا أو أحاديث - صالح لكل زمان ومكان؟

سعيد ناشيد: الإسلام وفق تحديد الخطاب القرآني نفسه، لا يقتصر على ما جاء به النبي محمد، وإنّما يحيل على كل ما جاء به الأنبياء والرّسل منذ النبي إبراهيم على الأقل. وجوهر الإسلام هو كلمة "لا إله إلا الله". الله هو اللاّتعيين (ليس كمثله شيء)، هو الصيروة (كل يوم هو في شأن)، هو الوجود الكلي (الأول والآخر والظاهر والباطن)، هو اللامحدّد (الغيب)، هو المفارق (تعالى)... لذلك قلت وأقول دائمًا إنّ الإسلام في مستوى العقيدة يفتح الباب أمام الحرية الأنطولوجية للإنسان المسلم. نعم، هذا لا ينعكس على المستوى السياسي حتى الآن. أين المشكلة؟ الحرية الأنطولوجية مخيفة مرعبة مقلقة، ولذلك فضّل المسلمون تقييدها بقيود الجبرية السياسية. وسأعطيك مثالاً توضيحيًّا: الاعتقاد الشائع في المجتمعات الغربية اليوم هو أنّ المثلية نتاج نوع من الحتمية البيولوجية، وبما أنّ المثليين ليسوا أحرارًا في اختيارهم، فالمفروض أن تمنحهم القوانين حرية ممارسة اختياراتهم. وليس مستغربًا أنّ الحرية عند سبينوزا نابعة من الجبرية الطبيعية نفسها. عندنا العكس، لا نربط المثلية بأي حتمية بيولوجية بل نعتقد بأنّ المثليين أحرار في اختياراتهم، ولذلك نصرّ على منعهم. إنّنا إذاً نعوّض تلك الحرية الطبيعية بجبرية اجتماعية وأخلاقية تجرّم الممارسة المثلية. ما قصدت قوله هو أنّ الحرية الأنطولوجية التي يمنحها الإسلام للإنسان قادت إلى نتائج عكسية في المستوى السياسي، حيث التعصب والقمع والقهر والتسلط على الرقاب إلخ. ويمكننا أن نوضح المعادلة على النحو التالي: طالما أنّك حرّ في أن تفعل هذا فإنّنا سنمنعك من أن تفعله، وطالما أنّك مجبر على أن تفعل هذا فلا جدوى أن نمنعك. إنّها ببساطة ما أسميه بمفارقة الحرية بين المستوى الأنطولوجي والمستوى السياسي.

في تقديري يجب أن نستعيد جوهر العقيدة الإسلامية (الله المجرّد، المنزّه، المتعالي، الغيب، هو...)، وأن نفكّ الارتباط مع التراث الفقهي ومفاهيمه القدامية، ومع ما يسمّى الشريعة، والتي هي شريعة الفقهاء في آخر التحليل، وذلك لغاية إصلاح الإسلام وتحديث الخطاب الديني في المساجد والمدارس ووسائل الإعلام. وهذه هي الجبهة الحاسمة ضمن الحرب الجارية على التطرّف الديني.

يوسف هريمة: ما هو نداؤكم الأخير للمغاربة تحديداً، والعالم يُتخطًّف من حولنا، وشبكة الأمان تتقلّص في ظلّ عولمة الأصوليات والتطرّف، باعتبارك أحد أبناء هذا الوطن والغيورين عليه بلا شكٍّ؟

سعيد ناشيد: جعلتني أتذكر قول الشاعر، وهو قول لا أحفظه عن ظهر قلب:

بلدي وإن هانت عليّ عزيزة

وأهلي وإن جاروا عليّ كرام

أتفق معك...

في كل الأحوال ندائي للمغاربة أنّنا شعب طموح يستحق أن يعيش حياة أفضل بدرجات، يستحقّ أبناؤنا مستقبلاً أفضل مما يوعدون به. غير أنّ الحياة الأفضل لن تصبح ممكنة إلاّ حين نؤمن بأنّها ممكنة. أصل العمل في الأعيان أمل في الأذهان. لنؤمن بهذا ونأمل فيه. لنجعل أبناءنا يؤمنون بهذا ويأملون فيه. وهنا يكمن جوهر الإيمان.

يوسف هريمة: شكرًا الأستاذ العزيز سعيد ناشيد وحظًّا موفّقًا.