اعترافات القديس أوغستينيوس إنجيل خامس ومسيح جديد


فئة :  مقالات

اعترافات القديس أوغستينيوس إنجيل خامس ومسيح جديد

لطخة من دمٍ قانٍ على الثوب الأبيض لاعترافات أوغستينيوس[1]؛ فالذبيحة القُربانية التي يذبحها تزلفاً إلى القدير في اعترافاته، تُرشرش ثيابه ساعة ينسفح دمها، ويفور مهراقاً من ترقوتها، بعد أن يُمرّر عليها الشفرة الحادة، المتمثلة بكلماته الرمزية. ممّا يؤهلّه لأن يتقدّس لاحقاً في أذهان الناس، إلى حدّ أنّ اسم أوغستينيوس لم يرد ذكره في الأدبيات اللاهوتية إلا واقترن بصفة قديّس.

ثمة استعادة لِذّية من قبل أوغستينيوس، لمشهدية صلب المسيح، في متنه الموسوم بـ (الاعترافات)، فهو يريد أن يكون المسيح الثاني في الثقافة المسيحية، لذا يستعيد مشهد الصلب في اعترافاته استعادة ذاتية، تجعله على تماسّ شهواني مع ما هو لاهوتي في شخص المسيح. فهو يسعى إلى ترميز رحلته الدنيوية ومنحها طابعاً استثنائياً، من خلال الاشتغال على فكرة تضخيم الصُغريات الدنيوية وتكبيرها بمرآةِ لغةٍ لاهوتية راسخة في وثوقيتها في الذهن الجمعي، بحيث تتحوّل حادثاته اليومية إلى رموز دينية أساسية.

وإذا كان لبيلاطس البنطي أن يغسل يديه ويتبرَّأ من دمّ المسيح، بعد أن يكون قد بعثه في جلجلة هائلة، لكي يلقى مصرعه الأخير، فليس لأوغستينيوس إلا أن يغسل يديه هو الآخر من أرجاسه وآثامه السابقة، ويبعث بنفسه ليلقى مصرعه الأخير في اعترافاته، فهي صليبه الذي يحمله على ظهره بانتظار وصوله إلى جبل الروح، فهناك سيدقّ مسامير كلماته في جسد خطاياه، ويجعلها تنزف وتقطر دماً، ليتحوّل بالتالي إلى مسيح ثانٍ؛ المسيح الجديد، الذي لا همَّ له بعدَ هذا الصَلْب اللغوي إلا التبشير بكلمة الله، فهو إذ يشرع بالاعتراف فإنه يبتهل إلى العلي القدير:

"أنتَ عظيم يا مولاي، لك الحمد كلّ الحمد، عظيمة هي قوتُك ولا حصر لحكمتك".[2] وهو إذ يُقفْل على (نصّه/ الصليب)، فإنه يكون قد حَلَّ في كلمة الله ودخل في ملَكَوته:

"نحن الآن مستعدّون لفعل الخير، بعد أن تصوّر قلبنا عن روحك صورة الخير، أمّا في السابق فقد كنّا نتخلى عنك منساقين إلى فعل الشرّ: أمّا أنت، أيّها الإله الأحد الحسن، فما توقّفت عن فعل الخير. بعض أعمالنا حسنة، لعمري، بفضل نعمتك، لكنها لا أبدية، نتمنّى من بعدها أن نستريح نحن في قدسيتك اللامتناهية. أمّا أنت، وأنت الخير الذي ليس في حاجة إلى أيّ خير، فإنك في راحة دائمة، لأنّ راحتك هي أنت بالذات.

فهمُ هذه الحقيقة، مَنْ مِنَ البشر سيعطيه للإنسان؟ ومن هو الملاك الذي سيعطيها لملاك؟ ومن هو الملاك الذي سيعطيها للإنسان؟ فليطلب هذا الفهم منك طالبوه، وليبحثوا عنه فيك، وليطرقوا له بابك: عندئذ، عندئذ فقط سنتلقاها، وسنظفر بها، وسيُفتح لنا مصراعاها".[3]

إنّ وعد المسيح الثاني الذي يعد أوغستينيوس نفسه بأن يكونه، هو وعد مستقبلي في أذهان القُرَّاء، لكنه مُتوارٍ في النص لحظة الكتابة. فأوغستينيوس إذ يضمر لحظة الكتابة بأن يكون المسيح الجديد، أو على الأقل الوريث الأكبر لتَرِكته اللاهوتية، فإنه يُرجئ هذه اللحظة الاستعادية إلى زمن القراءة، وبالفعل فقد تحقّق له ذلك لاحقاً، فهو قدّيس الآن، أعني مرحلة ما بعد موته، ولا يُؤتى على ذِكر اسمه إلا مقترناً بصفة القديس، على اعتبار أنّ هذه القداسة ما هي إلا العلامة الأبرز لمسلكياته الدنيوية، بما يمنحه حصانة لاهوتية كبيرة، تماماً مثل تلك التي للمسيح. فاعترافاته ليست خُلاصةً ذاتية فحسب، بل هي بمثابة خشب خلاص للآخرين، تُصلب عليه حيواتهم، لغاية الخروج من الأرض وثقالتها، إلى السماء وخِفَّتها.

وقد كان لأوغستينيوس أن يشتغل على محورين اثنين، لكي يصل إلى مرحلة القداسة، ويتحقّق في العالم بصفته مسيحاً جديداً، وكتابه الموسوم بالاعترافات بصفته إنجيلاً خامساً، بعد الأناجيل الأربعة الرسمية: متّى، يوحنا، مرقس، لوقا.

المحور الأول: اللغة

إنّ اللغة التي يستخدمها أوغستينيوس في اعترافاته تجعل من كتابه كتاب ابتهالات دينية، قارّة في كينونة ثابتة، أكثر منه كتاب اعترافات دنيوية، قارّة في صيرورة متحرّكة تُحقّق الشرط الإنساني في وجوده الزمكاني. فهو يستعيد لغة الأناجيل في التعبير عن اختلاجاته السيكولوجية وضياعه الأنطولوجي، لذا لا تعود لغته محض بوح أدبي عارض، بل تأخذ بُعداً لاهوتياً، لا يمكن توافره إلا في الكتب المقدّسة أو في بعض الكتب الحافّة بها. فتلك المأثرة اللسانية للتعبير عن خلجات الذات الإنسانية، ومقاربة علاقته بالوجود مقاربة عقلية عبر ترميزات لغوية، هي ذاتها التي تحوّلت بالتقادم إلى رَحِم حاوٍ لمواضعات الكلام الإلهي، والتعبير عن إرادة الإله. وأوغستينيوس إذ يستعيد هذه المأثرة، فإنه يستعيدها بصفتها رَحماً لاهوتياً قابلاً لتحويل الكلام الدنيوي إلى رموز دينية عميقة. وما تلك الحوادث والحادثات التي يشتبك معها معرفياً إلا بمثابة النُطَف اللغوية، التي يحقن بها هذا الرَحِم لكي يُنتج نصاً مشابهاً بالأناجيل، التي تستخدم اللغة ذاتها في التعبير عن المسيح الأول بصفته ناطقية لغوية قصوى عن إرادة العلي القدير، فالحوادث التي تحدث للمسيح الأول، ليست كالحوادث التي تجري للناس العاديين، بل هي حوادث مُحمّلة بإرث ديني عميق، يتسامى إلى حدّ الوصول إلى أعالي المَلكوت.

باللغة الإنجيلية ينفصل أوغستينيوس عن المجموع وصخبه الدنيوي، لكي يُعيد تشكيل هذا المجموع دينياً، فاللغة هَهُنا قنطرة بين الحدث الأوغستينيوسي المُعبَّأ لاهوتياً، وبين القارئ الذي يبحث عن خلاص ديني ما، فالخلاصة الأوغستينيوسية ستنتشله من ضياعه الدنيوي، وتنقله إلى رضا الإله وملَكوته الخالص، تماماً كما نقلت الخُلاصة الخاصة بشخص المسيح كثيراً من الضائعين إلى برّ الأمان الديني، بعد أن تمثّلوا تلك الخلاصة واسترشدوا بمحمولاتها الدينية العميقة. وكما اقتبست آنفاً، فأوغستينيوس يفتتح اعترافاته بعبارة ذات دلالة عميقة ليس فيما يتعلّق بلحظة الكتابة فحسب، إنما بلحظة القراءة أيضاً، لناحية حسم مسألة انتماءاته العقدية: "أنتَ عظيم، يا مولاي، لك الحمد"[4].

وما افتتاحيته هذه في باكورة اعترافاته، إلا خيط ماء رفيع سيتجّمع مع خيوط كثيرة أخرى، ليشكّل الماء الذي سيتعمّد به بصفته مسيحاً جديداً، وكتابه إنجيل خامس يُسترشد بوصاياه، لغاية التحقّق في الخلاص الكبير. فقد عمل أوغستينيوس على ربط كلّ حادثاته الدنيوية بلغة لاهوتية دالّة حتى لا يعود ثمة مجال للشك بنبوءته الاستشرافية بصفته مسيحاً ثانياً، سيحمل الصليب على ظهره ويصعد من جديد إلى أعلى الجبل المُبارك، ليصلب هناك، ويفتدي الناس من جديد. وقد كان لحدث ولادته الطبيعية أن يقترن بصعود مباشر إلى أعالي الملكوت ومخاطبة العلي القدير مباشرة، إذ يقول:

"لقد استقبلني عزاء رأفتك، كما سمعته من منجبَيْ جسدي، وقد بعثتني من أحدهما وسوَّيتني من الآخر، كل شيء في إبّانه، لأني لا أتذكره. استقبلني إذن عزاء اللبن الإنسانيّ، لا أمي ولا مرضعاتي كنّ يملأن به من أجل ذلك أثداءهن، بل أنت كنت بواسطتهن تعطيني غذاء الطفولة وفق مشروعك الذي يوزّع الثروات حتى على أضعف المخلوقات".[5]

فاللغة اللاهوتية هنا حافّة بالحدث الناسوتي، وناقلة إياه من حدث يمكن أن يحدث لأيّ كان، إلى حدث استثنائي لا يمكن أن يحدث إلا لشخص بعينه، هو أوغستينيوس تحديداً، بصفته يحمل بشارةً إلهية منذ شقِّه لصدفة رَحم أمه، وخروج يراعته إلى الحياة، والرفرفة بخفّة ملاك مُنتظَر. وكما ستكون ولادته حدثاً غير عادي، كذلك طفولته، فهي طفولة ما زالت مربوطة بالمشيمة الإلهية الطاهرة، وما زالت سُرّته تتغذى على لبنٍ علوي لا يفتأ يتذكّره، حتى وإن وقعَ في النسيان فيما يتعلق بحدثه الدنيوي:

"أمجّدك، يا مولى السماء والأرض، شاكراً لك بدايات حياتي وطفولتي. أنا لا أتذكّرهما: لكنك مكّنت الإنسان أن يحدس فيهما من غيره لنفسه، وأن يثق أيضاً في شأن الكثير مما يخصه في شهادات نسوة ساذجات. إذن كنت موجوداً، وكنتُ أحيا أيضاً آنذاك، وأبحث بعد في نهاية طفولتي عن إشارات أستطيع بها أن أجعل إحساساتي بيّنة للآخرين، ممّن سواك يا مولاي يأتي مثل هذا الكائن الحي؟ ومن يكون صانع نفسه أو خالقها؟ إذن، مولاي وإلهي، أنت الذي وهبت الطفل الحياة ووهبته معها الجسد الذي جهّزته ـ كما نرى - بحواسّ وركّبته بأعضاء، وزينته ببنيته وأدخلت فيه من أجل كماله وسلامته كلّ غرائز الحياة".[6]

وهو إذ يتنقّل خطوة إثر أخرى في تتبّع مسار حياته، فإنه يُعمل مبضع لغته اللاهوتية في عصب تلك الأحداث، لكي لا تعود بالمرّة أحداثاً عادية، إلى درجة أنه يقول بصريح العبارة:

"لمن أروي هذا الكلام؟ ليس لك، يا إلهي، بل أرويه لبني جنسي، لطائفة من الجنس البشري، مهما كانت ضئيلة نسبة الذين قد يطّلعون على مكاتيبي هذه. ولم هذا؟ طبعاً كي نفكّر، أنا ومن يقرأه، في عمق الهوّة التي يجب علينا أن نناديك منها".[7]

ولن يخلو كتاب من كتب الاعترافات البالغة ثلاثة عشر كتاباً من تلك اللغة الروحية، ففي الكتاب الثالث الذي يستفتحه برحلته إلى قرطاجة، التي كان فيها ما زال على كفره وعدم إيمانه بالمسيح ورسالته الدينية، فإنه يعمل على تطعيم هذا الحدث بصرخة ذاتٍ مؤمنة، حتى قبل أن يحفّ بها جناح الطير الإيماني، فهو يستبق إعلان توبته برموز لغوية تقطع الطريق على أيّ مُستقبل للنص الأوغستينيوسي في الزمن القادم، غير مستقبل القداسة. إنه أمام مسيح جديد يُسارع إلى تحويط خطاياه بكفّارة لغوية:

"أيها الحقّ، أيها الحقّ، كم كان آنذاك نخاعُ روحي أيضاً يتنهّد من الباطن نحوك، وهم يردّدون لي اسمك مراراً وتكراراً، اسمك الذي لم يكن سوى صوت مدوّ على شفاههم وفي كتبهم الضخمة الكثيرة! والمآكل التي كانوا يقدمونها لروحي الجوعى لك، كانت، عوضاً عنك، الشمسَ والقمرَ، مخلوقيْك الجميليْن، لم تكن أنتَ بل أعمالك، ولم تكن حتى أعمالك الأولى، لأنّ أعمالك الروحية مقدّمة على تلك المادية، وإن كانت نيّرة سماوية. أمّا أنا فلم أكن جائعاً ولا عطشان لتلك المخلوقات المتقدمة، بل لك أنت بالذات، يا حقّ، أنت الذي لا يعتريك تقلّب ولا ظلّ أي تغيّر".[8]

وفي الكتاب الرابع الذي يتحدث فيه عن سنوات تدريسه للخطابة، مستفظعاً ما كان يقوم به، استناداً إلى عقليته الإيمانية المستقبلية، لا إلى عقليته الدنيوية الآنية، في تحايل واضح من قبل الزمن السردي على زمن الحدث الأصلي، يبادر إلى إلباس فظاعته ـ كما يراها - لبوساً طهرانياً، لا ينقلها فوراً إلى حرز مكين في مواجهة النقودات فقط لا غير، بل يجعل منها قصةً رمزية يلتجئ إليها الناس في السرّاء والضرّاء.

"هاك قلبي، يا إلهي، هاك طويّته؛ انظر فيما أتذكّره، يا أملي، أنت الذي تطهّرني من دنس مثل هذه العواطف، محوّلاً عينيّ تجاهك، ومخلّصاً قدميّ من ربقتهما".[9]

وكتابه الخامس يفتتحه بـقوله: "تقبّل قربان اعترافاتي كما جرت على لساني، لساني الذي صوّرته وحثثْته على أن يعترف لاسْمِكَ".[10]

وبالتقادم ستتكّشف منمنمة اللغة اللاهوتية في اعترافات أوغستينيوس، إلى درجة تصبح معها واضحة تماماً، فأوغستينيوس لا يريد فقط تأريخاً لأحداثه الدنيوية كما حدثت ونقل سرديتها الآنية، وتأجيل المستقبل لحين حدوثه، لكنه - لغاية التحوّل إلى مسيح جديد ومعه إنجيله الخاص - عَمِلَ على إقحام حالته الإيمانية ولغتها اللاهوتية المستقبلية على أحداثه الدنيوية، ودائماً ما كانت تظهر هذه الحالة وتلك الحالة بصفتها جزءاً من لحم اعترافاته.

إنه ينتصر لحالته الإيمانية المستقبلية، على حساب حالته الإنسانية الآنية، مُقحِمَاً لغةً إنجيلية على سياقات النسق السردي، على اعتبار ما كانت عليه حالته الآنية من دناسة، لن تجعل منه إلا إنساناً عادياً، وما كانت عليه حالته المستقبلية من قداسة، يمكن أن تجعل منه مسيحاً جديداً، لذا نراه يصرخ بصمتٍ متوارٍ بين طيات اعترافاته: هَاكُم اقرؤوا كتابيه أيها المؤمنون، فأنا نبيكم الجديد.

المحور الثاني: تدنيس الحياة الواقعية

لاستكمال ما بدأه أوغستينيوس من مشروع مُتوارٍ، لكي يصبح نبياً جديداً ومع إنجيله الخاص، عبر ضخّ لغة لاهوتية في متن اعترافاته، فإنّه يدفع قدماً بمشروع حياته، من خلال تدنيس مسلكيات حوادثه الأرضية وتخطئتها، لكي يبقى في حالة تكفير دائم، بما يجعله - وفقاً للمدونة الدنية - أقرب إلى الإله. وهو إذ يُدنِّس أحداثه الدنيوية، فإنه يُعلي من شأن الحياة الإيمانية، بصفتها طهارة أبدية في ملكوت العلي القدير. والبداية مع حدث ولادته، فهو يذكره مثل أُسٍّ يُقام عليه معمار التحقّق الإنساني في خطأٍ مبدئي.

"من يذكّرني بخطيئة طفولتي"؟[11]

هَهُنا يصرخ أوغستينيوس صرخة طفل مكلوم، ولكن بلغةِ شيخ كبير، ليؤكد أنّ البدء سيصم الإنسان بوصمة العار، لذا عليه أن يُكابد مكابدات تكفيرية عن أخطائه وخطاياه التي لا تنتهي، ستظهر جلية واضحة في اعترافاته بصفتها لوحة كبيرة سينقش عليها مُنمنمته اللغوية، في سبيل الانسحاب من هذا العالَم الفاني وسياقاته المدنسة، والتموقع في طوبى الملكوت، والنزول ـ من ثمّ ـ من علٍّ، والتجلّي في عالم الشهادة كرؤيا نبوية.

"[يصرخ أوغستينيوس] هذا العمر يا مولاي لا أتذكر أني عشته، ولا أثق فيه إلا حسب شهادة الآخرين. حدَسْتُ كيف قضيته اعتماداً على ملاحظة غيري من الأطفال الصغار، ويشقّ عليّ أن أعدّه من حياتي هذه التي أحياها في هذا العهد. فهو في ظلمات نسياني شبيه بذلك العمر الذي عشته في رحم أمي".[12]

وفي هذه المقطوعة من اعترافاته، تأكيد على ما ذهبت إليه ساعة اختتمت المحور الأول من هذه المقالة، ألا وهو سحب لغة المستقبل اللاهوتية على حدثه الآني، فهو يعتبر حياته الآنية ـ التي يؤرّخ لها - حياة زائفة، إذا ما قورنت بحياته المستقبلية، التي ستقترن بتوبةٍ كبيرة، ستجعل منه متموضعاً في زمن الإله الطاهر، لا في زمن الإنسان الفاسد. فـ"محبة هذا العالم زنى وانصراف عنكَ وخيانة لك"[13]، لذا هو دائم الاستقذار لأعماله الدنيوية، مع ما كانت تحمله من متعة كبيرة لحظة حدوثها، فهو يمسح بكلماته المُباركة على جسد خطاياه، ويغفر لها لكي ينتقل من مرحلة الإناسة إلى مرحلة الألوهة، فتصيبه كلمة الإله دون سواه من بني البشر. فهو إذ يولد فإنه يتأكد في الخطيئة.[14] وهو إذ يتعلّم فإنه يستفظع ذلك ويعتبره نفاقاً:

"ما فائدة ما كان يُصفّق له المصفقون عند إنشادي أمام الكثيرين من أترابي وزملائي في الدراسة؟ ألم يكن ذلك كله دخاناً وريحاً يا تُرى؟ وهلّا كان عمل آخر يمكن لموهبتي ولساني أن يمارَسا فيه؟ مدائحك، يا مولاي، مدائحك في كتبك المقدسة كانت تساند سرْع قلبي، فلا يُخطف بترّهات تافهة كفريسة منجّسة للطيور".[15]

وهو إذ يتنقّل بين حيوات جسده من طور المراهقة إلى طور الشباب، فإنه يستقذر ما آل إليه: "كانت مراهقتي الإجرامية السيئة قد ماتت، وكنت أسير نحو الشباب، وبقدر ما كنت أتقدّم في السنّ كنت أكثرَ خجلاً من تفاهتي. لم أكن أستطيع أن أتصوّر مادّة أخرى غير التي أراها بعينيّ هاتين".[16]

وهو إذ يتصّل بالنساء ويمارس معهن حقّه الجسدي، فإنه يُقرِّع نفسه تقريعاً مؤلماً، ويعقّب على نصيحة أمّه التقية له بألا يزني: "كنت أقول: إنْ هي إلّا نصائح النساء. وكنتُ أخجل من العمل بها".[17]

وهو إذ يرتحل ويسافر فإنه يعتبر سفره هذا سفراً مشوباً بالدناءات والدناسات التي لا تليق بالمؤمن: "وصلتُ إلى قرطاجة. كانت تدوِّي حولي من كلّ جهة مراجل الغرام الشائن".[18]

وهو إذ يشرع في تحصيل المعارف المختلفة فإنه يدخل في حالة تأنيب ضمير، مستخدماً مشرط لغته المستقبلية، لتشريح حالته الآنية: "ما كان يفيدني، أن كنت قادراً، وأنا في العشرين من عمري تقريباً، على قراءة ذلك الكتاب الأرسطيّ [الذي] يسمونه "المقولات العشر" decem categories les dix categories عندما وقع بين يديّ وفهمته بمفردي لمجرد قراءته".[19]

ويستتبع ذلك في موضع آخر: "فِيمَ كان هذا يفيدني؟ لم أكن أجني منه إلّا الضرّ؛ لأنني كنت أعتقد أنّ كلّ ما يوجد يدرك بالتمام بتلك المقولات العشرة"[20]

وهكذا تنامت علاقة أوغستينيوس بالحياة الأرضية تنامياً سلبياً إلى حد الانسحاب الكامل منها:

"ولذا صعدت هكذا شيئاً فشيئاً من الأجسام إلى الروح التي تحسّ بواسطة الجسم، ومن هناك إلى قوّتها الداخليّة التي تبلّغها الحواسُّ الجسدية للأحاسيسّ الخارجيّة، (والتي تمثل حدود القدرات الحيوانية)، ومن هنا أيضاً إلى القوّة العقلانية التي يعود إلى حكمها ما يدرك بحواسّ الجسم. وتلك القوّة التي اكتشفتُ فيَّ أيضاً أنها متغيّرة في ذاتها، ارتفعتْ إلى عقلانيّتها الخاصّة، وأبعدتْ تفكيري عن طغيان العادة، مفلتة من حشود الأوهام المتناقضة، لتكتشف بأيّ نور كانت تُغمَر، وهي تصرخ دون أيّ تردّد أنّ اللامتغيّر ينبغي أن يكون أفضل من المتغيّر، ومن أين كانت تعرف اللامتغير ذاته؟ ـ إذ لو لم تكن تعرفه بصورة ما، لما كانت بأيّة صورة تفضّله بحقّ على المتغيّر - ووصلتُ أخيراً في لمح البصر المرتجف إلى ما هو موجود، إلى الكائن الأسمى، إلى الإله. عندئذ رأيت أنّ اللامرئيات فيك أصبحت معقولات بواسطة تلك المخلوقات، لكني لم أقدر أن أحدّق فيه، فعدت مدحوراً بضعفي إلى عادتي، لا أحمل معي سوى الذاكرة المُحبّة التي كانت كأني بها راغبة في المآكل الفائحة التي ما أزال غير قادر على أكلها. وكنت أبحث عن طريقة أحصل بها على القوة التي قد تمكنني من التمتّع بك، وما كنت لأجدها ما لم أعانق الوسيط بين الإله والناس، الإنسان المسيح اليسوع الذي هو فوق الكلّ، الإله المبارك إلى الأبد، وهو ينادينا قائلاً: "أنا هو الطريق، والحقّ والحياة وخالِط الطعام الذي كنتُ عاجزاً عن تناوله بلحم الجسد، بما أنّ "الكلمة المقدّسة أصبحت لحماً" لتُرضع طفولتنا بحكمتك التي خلقت الكلّ بها".[21]

وهو إذ يُوغل أكثر في انسحابيته من هذا العالم، لغاية الارتقاء إلى مصافّ الكائنات العلوية، يقول:

"ولي قوّة أخرى، وهي لا تحيي جسمي فقط، بل تبعث فيه الحسّ، جسمي الذي خلقه لي المولى، آمراً العين ألّا تسمع، والأذن ألّا ترى، ولكن آمراً الأولى أن أرى بها، والثانية أن أسمع بها، وهكذا دواليك في خصوص جميع الحواسّ الأخرى، حسب خصائص الأعضاء القائمة بها وأدوارها: وبواسطتها أقوم بتلك الوظائف المختلفة مع الحفاظ على وحدتي الروحية. وسأتجاوز أيضاً قوّتي هذه لأنني أشترك فيهما مع الحصان والبغل، فهما كذلك يحسّان بجسميهما بالذات. أريد إذن أن أتجاوز إذن [هكذا] هذه القوّة من طبيعتي أيضاً، صاعداً تدريجياً إليك أنت الذي خلقتني".[22]

إنه يروم، عقب تقذيره لهذه الحياة الفانية:

1-     أن يتخلّص من لحمه الأرضي، بصفته عقبة أمام صعوده إلى أعلى، الذي يتطلّب روحاً هفهافة لا جسداً ثقيلاً.

2-  التأشير على أنّ حوادثه الأرضية مختلفة تماماً عن حوادث الآخرين، وكأنّ المادة التي تُغذّي نسغه الوجودي دافقة من قبل الرحمن الرحيم، عكس مادة الآخرين المنبثقة من الشيطان الرجيم، لذا تستوجب ـ ساعتئذ - عمليات الإنقاذ الروحي، عبر وسيط لاهوتي، يتمثّل دور البطولة على أكمل وجه.

3-  أن يتموقع (أعلى) لغاية إعادة مَوضعَة (أسفل)، إذ لا بُدّ لأيّ نبي جديد من امتداد علوي، لغاية إحكام السيطرة على الكُتلة البشرية الكبيرة. فهو يدفق دفقاً عمودياً من أعالي السموات العلا، في حين أنّ الناس يتحركون في مسار أفقي، لذا هو متفوّق عليهم ـ ضرورةً - في البطولة اللاهوتية، التي تصنعها العِدّة الروحية لا القوة الجسمية.

وبموجب المحورين السابقين: 1- محور اللغة و2- محور تدنيس الحياة الواقعية، فإنّ أوغستينيوس يُؤسِّس في اعترافاته، لـ:

1-  مسيح جديد، سيعتلي على شرط إنسيته، ويتأكّد أكثر في مَلَكوت الربّ. فأحد الشروط التأسيسية للنبي الجديد أن ينفصل عن الناس عبر تصغير المشتركات بينهما، ومن ثمّ يعاود الاتصال بهم عبر تعظيم مأثرته اللاهوتية الذاتية، أعني مأثرة استئثاره بكلمة الله، وتخصيصه للتبشير بها.

2-    إنجيل خامس في الثقافة المسيحية، فهو المُبشّر بكلمة الله، واعترافاته هي التجلّي الأكبر لهذه الكلمة.


[1] أوغستينيوس، القديس، اعترافات القديس أوغستينيوس، ترجمة إبراهيم الغربي، دار التنوير للطباعة والنشر، تونس، بيروت، مصر، ط2، 2015. ويشار هنا إلى أنّ هذه هي المرّة الثانية التي يُترجم بها كتاب الاعترافات للقديس أوغستينيوس، بعد أن أنجز الترجمة الأولى الأسقف يوحنّا الحلو، وصدرت عن دار المشرق في بيروت في العام 1962

[2] المرجع السابق، ص 15

[3] السابق، ص 299

[4] السابق، ص 15

[5] السابق، ص 18

[6] السابق، ص ص 20-21

[7] السابق، ص 37

[8] السابق، ص 50

[9] السابق، ص 64

[10] السابق، ص 77

[11] السابق، ص 20

[12] السابق، ص 21

[13] السابق، ص 22

[14] انظر الهامش رقم 11

[15] المرجع السابق، ص 30

[16] السابق، ص 115

[17] السابق، ص 38

[18] السابق، ص 45

[19] السابق، ص 73

[20] السابق، ص 74

[21] السابق، ص 131

[22] السابق، ص 188