الأدب على سرير بروكست!


فئة :  مقالات

الأدب على سرير بروكست!

تحكي الأسطورة الإغريقية عن شخصية قاطع طريق يدعى بروكست، كان يسكن في مدينة كوريدال، وكان يخرج إلى الطريق الرابطة بين أثينا و إيلوسيس، فيقبض على المسافرين ليمارس عليهم تعذيبا بالغ الغرابة. وقد كانت أداته في التعذيب هي مقاس السرير، حيث كان يخدع المسافر بدعوى ضيافته، لكن بمجرد ما يدخله إلى بيته يبدأ في ممارسة عنفه السادي عليه، حيث كان لديه سريران واحد صغير الحجم جدا، والثاني كبير جدا؛ فإذا كان المسافر من طوال القامة يمدده على السرير الصغير، ثم يقطع رجليه حتى لا يبقى من الجسد إلا ما يماثل مقاس السرير. أما إذا كان من قصار القامة، فيمدده على السرير الكبير، ثم يمطط جسده حتى يطول ويستوي على مقاسه. وكلتا العمليتين مؤلمتين جدا.

لكن هذه الأسطورة نجدها مروية عند بلوتارك بصيغة أخرى، وهي أن بروكست لم يكن لديه سوى سرير واحد، غير أنه كان سريرا خاصا لا مثيل له في شكله ومقاسه؛ ولذا فحتى جسد بروكست ذاته لا يناسبه.

أما عملية التعذيب، فكانت هي ذاتها، حيث إذا وجد المسافرَ أقصر من السرير، فإنه يقوم بتمطيط جسده. أما إذا وجده أطول منه، فإنه في هذه الحالة يقوم بقطع رجليه، حتى يكون الجسد على مقاس السرير بالضبط!

تكاثرت جرائم بروكست، لكن حظه العثر أوقعه يوما في مسافر من نوع خاص؛ إنه البطل الأثيني تيسي، الذي قام بقتله بنفس طريقة التعذيب التي كان يمارسها على ضحاياه؛ أي التمدد على السرير والبدء في بتر ما لا يتناسب مع مقاسه، أو تمطيط الجسد حتى يتماشى مع مساحة السرير...

تلك هي حكاية هذه الأسطورة الشهيرة... وإني إذ أستحضرها هنا، فذلك للتمهيد لدراسة النقد. إذ أجد بين حالة بروكست وحالة النقد مشاكلة ومشابهة. وبين ساطوره وسريره، وبين طرائق النقد ومناهجه، قرابة ونسب. وبين الجسد المسكين الذي يوضع للقطع أو التمطيط على السرير، والنص الأدبي الذي يوضع على طاولة النقد مقاربة إن لم نقل مماثلة!

لذا كان استحضار هذا المحكي الأسطوري لتحليل وضعية النتاج الأدبي/الفني أمام النقد، آت من طبيعة الممارسة النقدية ذاتها.

ألا ترى أن الناقد يأتي النص بعدة منهجية جاهزة، فيقرأه ويحلله بناء على المنظور الذي تحدده تلك العُدَّةُ، فيخلص ولا بد إلى تقطيعه، وإعادة تركيب أجزائه والحكم عليه، على النحو الذي يسمح به منهجه المبني مسبقا؟

لا ريب أن الجهاز المنهجي يتم بناؤه خارج النص، حيث يتبلور ويستوي قبليا؛ ونادرا ما نجد ناقدا مذهبيا يطوع منهجه للنص، بل الغالب أنه يطوع النص للمنهج، وليس العكس. ومن ثم فالجهاز النقدي يكون كالأداة التي تصنع قبل الموضوع الذي تزعم القدرة على الاشتغال عليه. ولما تتوسل تلك الأداة لتحليل ذلك الموضوع، لا بد أن يحدث نشاز، وعدم تناغم بين الأداة النقدية الجاهزة والنتاج الفني المراد مقاربته.

لكن قد يقول المعترض على ما سبق : إن الأداة المنهجية النقدية ليست مادة ميكانيكية صلبة، حتى تناشز الموضوع الإبداعي على هذا النحو الذي تصفه هذه السطور، بل هي منطلق نظري يمكن للناقد أن يعيد صياغته ليتناسب مع موضوع اشتغاله النقدي، رغم أن تلك الأداة تم تشكيلها قبله، وهذا احتمال وارد؛ غير أن الثابت في الممارسة النقدية أن كثيرا من التطبيقات كانت بالفعل اعتسافا على موضوع اشتغالها. فتبدى المنهج فيها وكأنه سرير بروكست، بقالب مادي صلب لا يتغير ولا يتعدل، بل يتم استدخال الكينونة الإبداعية داخله، فتخرج بملمح خاص مراد لها ابتداء. إن هذه التطبيقات النقدية تأخذ النتاج الأدبي، وكأنه موضوع للتصرف والاستعمال، وتطبق أدواتها الإجرائية وكأنها منظورات مقدسة لا يجوز مراجعتها، بله إعادة بنائها حتى تتناسب مع طبيعة الموضوع /النتاج الأدبي الذي تتناوله بالنقد.

وتلك فعلا هي ممارسة بروكست!

إن الحرية خصيصة أساسية من خصائص الإبداع؛ وبناء على هذا التحديد نقول : لا بد من ضمان هذه الخصيصة للناقد والمبدع معا:

أما المبدع، فمن صميم حريته ألا نلزمه بأن يمتثل لنظام ومقياس نقدي جاهز، حتى يستحق الثناء النقدي. وأما الناقد، فلا تتحقق فيه صفة الإبداع إلا عندما يظهر اقتداره على التحرر من سلطة الجاهز المفاهيمي والمنهجي فيطوع جهازه النقدي ويتصرف فيه على نحو يتناسب مع موضوع اشتغاله؛ لأن الناقد الذي يطبق معياره المنهجي الجاهز ليس بناقد مبدع، إنما هو أشبه بجزار يضرب بساطوره. وذلك لأن النقد الأدبي والفني لا بد أن يأخذ من صميم موضوعه، كما يأخذ من ماهية الأنساق والمعايير الحكمية؛ فيمتزج فيه العلم والإبداع معا. وهكذا يكون النقد علما، من حيث هو جهاز من القواعد والمفاهيم، ويكون إبداعا من حيث هو ممارسة وإجرائية تطبيقية، تتحققان باقتدار حامله على تطويع العدة المنهجية وإعادة صياغتها، لتتناسب مع المادة الفنية التي يقاربها بالتحليل والحكم المعياري.

ومن أهم المشكلات التي أصابت القراءات النقدية للفن، وأعاقت قدرتها على إبصار الإبداع، أنها لم تطور أداوتها المنهجية، بل استمدتها جاهزة من مذاهب فلسفية أو علمية، وجعلت منها قوالب يراد من المنتج الإبداعي أن ينحشر داخلها. لكن ما بديل ذلك؟ هل يُمكن أن يوجد ناقد يأتي الإبداع بدون مسبقات مفاهيمية أو منهجية؟

من نافل القول، التأكيد على أنه لا وجود لناقد مفرغ من ذوقه الخاص ومنظوره الذاتي، ومقاييسه في المعايرة والحكم، لأنه إذا أفرغ من ذلك كله، فماذا يتبقى له من مقومات تمكنه من أن يكون، لا أقول ناقدا، بل مجرد قارئ قادر على قراءة الإبداع والتعامل معه؟

لكننا إذ نقول هذا وذاك، فإننا نكرر استهجاننا للنقد المذهبي، ومؤاخذتنا على من ينتهجه. ولكن ليست المؤاخذة على وجود المسبق المنهجي، بل على عدم التفكير النقدي المزدوج، ونقصد به أن الناقد ينبغي عند قراءته للإبداع أن يمارس في ذات الوقت قراءة نقدية على مقاييسه النقدية، ليطور فيها ويبدل بالقدر الذي يجعلها قادرة على إضاءة النتاج الإبداعي. وهذا ما يعوز النقد المذهبي .

ومن أشهر الأمثلة على هذا النمط من النقد، النقد الماركسي، حيث كان يدلف إلى محراب النص الأدبي برؤية نقدية جاهزة، تقوم على اعتبار النتاج الفكري بنية علوية مشروطة بالبناء التحتي للمجتمع( أي البنية الاقتصادية)، فتراه ينظر بناء على ذلك إلى الأديب ليحدد ابتداء انتمائِه الطبقي، ثم يحكم على نتاجه انطلاقا من هذا التحديد، جاهلا أو متجاهلا أن الإبداع هو أولا فرادة وتميز، والذي يصنف الأدباء والمبدعين ضمن طبقات اجتماعية، فلا يصلح لقراءة الفن، إنما يمكن أن يفيد في تصنيف وتصفيف قطيع البعير، أما أن يجمع الأدباء ويراكم بعضهم ضمن فئات اجتماعية، فلن يبصر ما في النتاج الإبداعي من تميز، ومن ثم ينفلت من إدراكه أهم ما في الفن؛ أي فرادته.

والناقد الماركسي في هذه الحالة لا يختلف فعله عن ممارسة بروكست، لأن لديه أَسِرَّةٌ طبقية جاهزة، فيأخذ الأدباء ويمددهم عليها. وما دام الأديب والفنان بشكل عام هو مبدع؛ أي متميز عن غيره، فإن إقامته في سرير طبقي لا تستقيم إلا بإجراء قطع وبتر في كيانه الإبداعي، حتى ينحشر ضمن مقاس السرير.

وهذه الممارسة النقدية القاصرة هي مصير كل نقد متمذهب، ولا تخص النقد الماركسي وحده؛ فالنقد الأدبي والفني الصادر عن التحليل النفسي مثلا، كان هو أيضا معاقا برؤيته المذهبية الجاهزة. ودليل ذلك أنه رغم كون فرويد وتلامذته أولوا المسألة الفنية اهتماما أكبر بكثير من مجرد اهتمام بموضوع على هامش التخصص السيكولوجي، فإنهم لم يفعلوا سوى استثمار الحقل الفني كمجال لتوكيد مقولاتهم وتصوراتهم ومفاهيمهم المذهبية الجاهزة.

يمكن أن نحيل هنا، على سبيل المثال، إلى مجلة "إيماجو" التي أصدرها فرويد صحبة أوتو رانك، حيث نلقى فيها حضورا ملحوظا للإشكال الفني؛ ففيها نشر كبار رواد التحليل النفساني الفرويدي، مثل إرنست جونز، وتيودور رايك، وماكس غراف، فضلا عن سيجموند فرويد و أتو رانك... وقد تنوعت دراسات هؤلاء الرواد المؤسسين لمدرسة التحليل النفساني والمتحلقين حول أستاذهم فرويد، ما بين دراسات لنصوص مسرحية وروائية، وبين تحليل لشخصيات رسامين وأدباء وموسيقيين. لكن على اختلاف هذه الموضوعات وتنوع هذه الدراسات، يجوز أن نختزل المنظور المنهجي التي عولجت به مسألة الفن في منظور واحد يقوم على نظرية أوديب وما يرتبط بها من فهم خاص لعملية الكبت في اللاشعور، حيث يؤكد فرويد في بحثه " الشاعر والخيال"(1908) أن الشاعر في إبداعه يجهل الدوافع التي تحركه؛ ولذا فالأعمال الفنية ينبغي أن تعالج كما يعالج المرض العصابي؛ أي بوصفه تعبيرا عن اللاشعور، لأن العمل الفني شكل من أشكال الباتولوجيا النفسانية التي ينبغي تفسيرها بالكبت، حيث إن الطاقة الأساسية المحركة للفعل الإنساني هي "الليبيدو"، وهي طاقة غريزية ذات طابع جنسي، ولما يعجز الفرد عن تحقيق الرغبة، فإنه يتم كبتها فترتد إلى اللاشعور، وباختزانها في اللاشعور، فإن هذه الرغبة لا تنعدم أو تفنى، بل تبقى في حالة انتظار للتمظهر في صيغ وأفعال متنوعة، من بينها صيغة الإعلاء؛ والإبداع الفني هو شكل من أشكال الإعلاء، وبوصفه كذلك، فهو يحقق الغريزة بصيغة غير مباشرة. ومن ثم، فتفسير العمل الفني يحتاج إلى تحليل نفسية المبدع، والبحث في كينونته وحياته عن تجاربه وأزماته النفسانية ورغباته المكبوتة.

بناء على هذه الرؤية النظرية، انتقى فرويد نماذج من الأعمال والشخصيات المبدعة، وفسرها وفق منظوره التحليلي المرتكز على عقدة أوديب. وفي هذا السياق، يمكن أن نستحضر هنا تحليله للفنان الإيطالي "ليوناردو دافنتشي" صاحب لوحة "الموناليزا"، حيث شكلت معطيات من حياة "دافنتشي" مادة مناسبة لتشغيل المنظور الذي ينطلق منه فرويد، إلا أنه أساء استثمار هذه المعطيات، حتى انتهى إلى الزعم بأن "دافنشي" كان ولدا غير شرعي، وأنه بسبب ذلك كان في طفولته شديد الارتباط بأمه. ولذلك فقد تشكلت له نفسية شاذة، وقد تمظهر هذا الشذوذ في إبداعاته الفنية، حيث لوحظ في لوحته الشهيرة "يوحنا المعمدان" يمزج بين الأنوثة والذكورة في تشكيل ورسم الملامح العضلية والجسمية!

والواقع أن هذه التركيبة من الاستنتاجات والمعطيات مزجت بين حقائق وأكاذيب، وأسقطت فرويد في موقف فاضح يؤكد أنه لا يأتي لتحليل العمل الفني، بل يأتي لكي يتعسف على النتاج ومبدعه على حد سواء، حتى يطابق النظرية الجاهزة. وبالمناسبة، فقد أكد مؤرخ الفن "مايير شابيرو" أن فرويد أخطأ في تحليل حياة "ليوناردو دافنشي" عندما زعم أنه ابن غير شرعي.

إن فرويد بزعمه هذا لم يكن مدفوعا بالمعطيات التي من المفروض أن يستقيها من التاريخ، بل من المسبقات التصورية والمنهجية الجاهزة التي يعتقدها، والتي يريد من تحليله للأعمال الفنية أن يبرز اقتدارها المنهجي على إضاءة تلك الأعمال، وإن اضطر في سبيل ذلك إلى التلفيق والتزييف.

إذن لابد من تحرير الأدب، والنتاج الفني عامة، من سرير بروكست!