الأدب ونزيف اللّغة : تأمّلات جمالية في كتابة هلين سكسو


فئة :  مقالات

الأدب ونزيف اللّغة :  تأمّلات جمالية في كتابة هلين سكسو

الأدب ونزيف اللّغة[1]:

تأمّلات جمالية في كتابة هلين سكسو

د. محمد بكاي

من هي هلين سكسو؟

هلين سكسو (Hélène Cixous) فيلسوفة وناقدة ونسوية فرنسية شهيرة، وُلدت في وهران بالجزائر يوم 5 يونيو (حزيران) 1937، والدها طبيب وُلد وعاش ومات في الجزائر، وأمّها ألمانية من أوزنابروك، أقامت في الجزائر إلى غاية سنة 1971. اشتهرت سكسو بكتاباتها الكثيفة، ونصوصها المعقدة والمهمة، سواء في الفلسفة أو المسرح أو التحليل النفسي، تعدّت مصنّفاتها الستين؛ وقد استقطبتها دور نشر فرنسية مهمة مثل غراسيه وسوي ودونويل وغاليمار وغاليلي. من أبرز أعمالها "اسم الله"، "ضحكة ميدوزا"، "حجب"، "صرخة الأدب"... شغلت التدريس؛ أستاذة خبيرة بجامعة باريس 8 فانسان منذ 1968 إلى غاية 2005، وتعدّ أول امرأة تحصّلت على دكتوراه في الدراسات النسوية سنة 1974. وتحمل شهادات دكتوراه فخرية من كندا (كنغستون، وإدمونتون) وأمريكا (جورج تاون بواشنطن، ماديسون ويسكنسون)، وإنجلترا (يورك، سانت أندروز، جامعة لندن)، كما نالت جوائز أدبية رفيعة، مثل جائرة "مارغريت دورا" سنة 2014 وجائزة "مارغريت يورسنار" سنة 2016.

النص واللغة: تحدّيات الاختلاف

ظلّت الكتابة في تصوّرات الفيلسوفة والنّاقدة الفرنسية هلين سكسو (Hélène Cixous) افتتان العودة إلى الأصل الضّائع، أو الشّوق إلى اللّبنات التعريفية غير قابلة للدّعم التي تشكّل التّيه الذي يسبق كلّ عمل إبداعي متجسّدا في شظاياه الـمتناثرة ووجوهه الـمتعدّدة (فكرة، صورة، تخييل، خلق لغوي). إنّ الكتابة بالنسبة إليها هي "لا شيء"، وليست الكتابة عن أيّ شيء كما تقول! تصبح الكتابة فعلا متوتّرا هدّاما أو تقويضيا، عدميّ النزعة، مـمزوجاً بالتّناقضات والاهتزازات والإزعاجات التي تضايق النّسق وتثبط إرادات السّلطة ونظاميتها. إنّ فعل الكتابة يشتغل بطريقة مضادّة تنفلت من قيود النسق اللغوي والثقافي والاجتماعي والفني المعياري؛ فهو طريقة نزقة الهوى وغير محكمة الـمسار، متذبذبة الخطى بين الرّواح ذهابا وإيابا، إلى الأمام وإلى الخلف كيفما اتفق، عبارة عن خوض لسيرورة المعنى بشكل عكسيّ ضمن عالم مُقولب ومقلوب، عالم شبيه بالحلم، رمزيّ وتنكري، معناه منشقّ وثوريّ عن الغرز الـمضبوطة لخيط طرائق السرد المستقيمة، الكتابة عند سكسو شبيهة بالكتابة الشّذرية في نصيات إميل سيوران (E.Cioran) وموريس بلانشو (M.Blanchot) الوجودية أو متاهات جاك دريدا (j.Derrida) الأكثر تعقيدا في طروحاتها الحرفية والأنطولوجية. كتابة الـمختلف لديها تـمتثل لـمنطق الـمنعرج والالتفات والالتواء، حيث يبتعد موضوعها التعبيري والغراماتولوجي عن منطق السّلاسة والتسلسل كما هو مألوف في الميتافيزيقيات والتقاليد الفلسفية المركزية. فما يعجّ داخل الطبقات والصّفائح النصية هو مجموعة من الظلال الـماورائية والكشوفات اللامرئية، من الصّور والأخيلة التي تعارض الكلية والاختياري، التي تقهر السّلطوي والـممكن، فرهانها الأوّل والأخير هو "غير الـمتوقّع"، ذلك الحدث الطّارئ، أو الاحتمال الذي يتفجّر من كوة تشقّها الذّات كي تعزّز قواها الضّعيفة، فلا تُـمارَس الكتابة، باعتبارها كلاًّ دلاليا وإتقانا بنيويا، فذلك يجعل الذات متصلّبة ومثقلة بهموم النّسق والانتظام والزيف، بل يقحمها تدريجيا ضمن مشاريع أخرى لـممارسة تأويلات القوى الواهية للذّات الكاتبة، مواجهة مباشرة للفاجعة، للخطر، للعبث الوجودي، للتعثر مرارا وتكرارا أمام فكرة الفشل التي يتخبط فيها مسار النص.

الكتابة وأشباح الأنثى

انعدمت فكرة الكتاب مع دريدا، مثلما أعدمت فكرة الكاتب مع بارت وفوكو. اشتغلت سكسو على هذا الفتك لقضيتي "الكتاب والكاتب" في حبكها لنظرية أدبيّة معقّدة، سمعتها مسكونة بالهاجس الأنثوي كما نعرف، لأن فعل الكتابة يعكس تدهور الـمعاني وتدنّيها واختفاءها من الهيكل الخارجي للكتاب، للشكل المؤسّس، للسطح الظاهر والمرئي؛ فالمعاني تجثم داخل الكتاب، وتبتلعها بطونه المظلمة، يعصف بها القارئ والمؤول من خلال تلك التجربة الباطنية (كما يسمّيها جورج باطاي) بما تحمله فكرة العصف من تناثر وتشظٍّ (دريدا) لذراتها، ذرات المكتوب والكتابة، لأن أصلها هو التراب أو الرّماد، وهي الحقيقة الهائلة المفقودة لأصل كل آدمي، لأصل كل مادة مكتوبة. أطلقت لها العنان للتفكير في مضايقة المعنى والأصل والـمؤسّس للخروج من دائرة المؤتلف إلى آفاق الـمختلف.

وبذلك، تصبح الكتابة قلقا أنطولوجيا، بعدما كان يُنظَر إليها كزخرف استيطيقي يتباهى به المبدع، ليقترب من رسم الصور الشعرية والقوالب السّردية. فعل الكتابة انخراطٌ في فهم الوجود والـموجود، بحثا عن الأثر الـممحوّ والزمن الـمفقود، ستولد الكتابات والنصوص في شكل مسرح وجوديّ معقّد يتلاعب بالقول والواقع، باللغة ومضاعفاتها، بالواحد والآخر، في آلية تمثيلية مبعثرة ذات مساحات قابلة للسّحب والانسحاب، مصيرها الذهاب والإياب من خلال إقحام الهوامش في الأقطاب والخطأ في الصواب واللاحقيقة في الحقيقة. الولادة عبر الكتابة عند سكسو تمثيل لتضاربات الذات وكتابة ما تفعله، برسم أثرها، بتحقيق وجودها، قولها الـمختلف وهو يتحقّق رسـماً، ذلك الرّسم غير القابل للتلاشي، الأبديّ، الـمنسيّ الذي يقيم وطنه فوق تلك النقطة الـمبتعدة والـمتباعدة عن السّائد والـمكرور. الكتابة باعتبارها بحثا عن أثر أصلي مفقود كما تصوّرها جاك دريدا، أو فانتازيا أنطولوجية تتدرج منازلها بين الشدّ واللين، تتلاشى قطعها وأركانها لإعادة بنائها ورصّها من جديد؛ لأنها كومة من الرّماد، تتطاير في كل مكان ليس لها أسس أو دعامات، هي ما تبقّى من الأثر والأطلال.

بعبارات أخرى، الكتابة عند سكسو هي عزلة اللسان، حياد اللغة، موت الوعي والحضور، كثافة اللايقين وتيه الـمعنى، هجران أزلي للذات وعودة غير مسبوقة نحو فضيلة اللانهائي وأصلنا المفقود، الكتابة لديها هي تأريخ للقدر الهائم، ذلك الآرخي اللاّمفكر فيه، فهمها هو ضرب من فهم مختلف لكل شيء في الحياة والموت والذات والكون، فكل تمثلاتنا ستظل خاطئة ما لم نتمعّن ونروّض تـمثلاتنا الخائنة على فهمٍ مختلف ولعوب لتلك الأقدار واللّطائف الوجودية. من أنا؟ ومن أنت؟ من كنت؟ وكيف سأكون؟ أين كنت وأين مآلي؟ لا يتوقّف دولاب الأسئلة عن الدينامية والدّوران، وهو ما يجعل حركة الكتابة برية ومتوحّشة شبيهة بجريـمة لغوية في كشف المستور المطلق الذي لا ينتهي.

أسرار النصوص ولا نهائية المعنى

سرّ الـمكتوب هو ممارسة تأويلية لفهم تضاعيف تلك العتمة التي تقتحم كون المبدع وتداعب خياله وتؤرّق ذاكرته، فيكتب عبر سواد الحبر سواد الكآبة، لتكون الكتابة والكآبة حالتين نفسيتين لا تطيقان الاستسلام للمألوف والـمعروف، بل تحملان شطط الشّدو داخل عوالم الأقاصي واللاّمـمكن، من خلال لعبة التشتت والـمخفي والفراغ الـمطلق، بحثا -في الكتابة- عن زمن الخطفة والفجأة، تلك البغتة التي تُبتكر فيها الومضات والشّطحات، التي ترسم فيها الحروف والخربشات من خلال الطيّات والثنيات، عبر حياة جديدة للحروف أو كينونة مختلفة وأصلانية للكتابة المتناسلة من لدن الإلهام والوحي والخيال، تلك العودة شبيهة بالرّجوع إلى واحة مفقودة في صحراء فسيحة، حيث يتلاشى كلّ شيء بحثاً عن أقاصيها وامتداداتها، لأنّ تاريخ كلّ قصة أو سرد أو رواية ينبعث من ذلك الحس الرباني الإنساني الـمشترك، من ذلك التطرف الجليل، وهو يضرب بالـمسلّمات والتسليم بالـمرئي والـممكن، لتظلّ الكتابة لعبة متواصلة وأبدية للتشويق والـمفاجآت وفضاء تجريبيا لابتكار الغرابات اللفظية واللّطائف الـمعنوية.

تتساءل هلين سكسو، وهي غارقة في اقتحام كون مجهول، عبر حميمية الحرف وحالات الخوف وحداد اللغة، هل سبق أن كَتَبَت الكتاب الذي أرادت كتابته؟ ومن هو الـمؤلف أو الكاتب؟ أهو إله مشوّه ومـمسوخ؟ أهو النّاجي الوحيد الـمهزوم، الرّائي الكفيف الذي يخترق غشاء اللاّمرئي والأصل الـمفقود، ليعود الرّاوي إلينا ويسرد خرافات مشاهد الخراب والطّوفان الذي أتى على الأخضر واليابس، على تلك الـموجة من الأسئلة والاستحالات، على ذلك المحيط الـمسجور من الدموع، دموع إيروس وثاناطوس، حيث تتقاذف الحياة أمواج الأمل واليأس والضعف والقوة. هي استحالة كيف نشرع وننطلق من نقطة، هي نقطة البدء، حيث العدم والأزل والاستحالة، لنواصل المسير داخل التواءات هذا العالم ومتاهاته الممتدّة صوب الأقاصي التي تعجز اللغة التعبير عنها.

هكذا هي مشيئة الكتابة، وهي تثقل كاهلها بحمل أعباء الإنسان والزمن والتاريخ والهوية، فهل يستطيع المؤلف كتابة تلك الانجرافات والأرشيفات والآثار التي تفيض بها طاقات الإنسان وهالات الـمعنى؟ هل يملك إمكانية بعث ذلك الحِداد من جيل إلى آخر؟ فكيف ستكون نقطة البدء والعودة إذن؟ تمنح كتابة الكتاب عند الهجر والانهزام، بغياب المؤلف وإعطاء النص بالتبني لاستدراك مكانه المختلط بين الشرعية واللّقاطة، العمل المدبوغ بأشياء غير محسوسة تندفع بشكل ساخر وساحر لتحدث الـمفاجأة، للحديث عن المفقودات والمعجزات والعثور عليها. تبحث الكتابة عن كائن غير متوقّع لا يستجيب للغة بسلاسة، لا يمنحها أسراره بتلك الليونة والانسيابية، تظهر معانيها الهائمة عبر الهبة والحداد والاستثناءات التي تهديها داخل أعمالها. معايشة الكتابة عبر الغبن والقلق واستقبال اللاّشيء الذي تحوم حوله روح الكاتب الثّكلى بالحداد، الموجوعة بالرحيل والغيابات، تجربة النص هي تجربة الأفول صوب محن المعنى - في لا انقطاعه- التي تطلب من الكتابة خلاصها. الكتابة لأجل روح بدون وجه، مجهولة النّسب ينبغي تسميتها، هو الجنون الذي يعصف باللغة، فيفكّك أواصرها ويخلخل رغباتها، فتحلّ على الكتابة لعنة كتابة ما لم يُكتب، لذلك ينخر اللاّمفكر فيه أو اللاشيء النهم ذات المبدع والشاعر والفيلسوف والطفل بطريقة لا مهادنة فيها.

الذاكرة، النسيان، أطلال الكتابة

تقول سكسو، إنها سعت طيلة ثلاثين سنة من الكتابة، إلى حمل ذلك العبء من خلال الكتابة، للوقوف بهمة وهي تكتب أثقاله، لتكتشف فجأة أن من بين كل هذه الكتب ومنذ العمل الأول لم تصل بعد إلى الكتاب الـمراد كتابته، الكتاب الذي يفوتها كل مرة، وهي تعمل على اصطياده، فهل طيلة تلك الحقبة من التطريز والكتابة تحوم حول شيء يستحيل إدراكه وتحقّقه؟

العودة إلى منطق "السّلب" أو "الـمحو" كما وظّفه بلانشو أو دريدا وجون لوك نانسي في أعمالهم، تؤكّد ذاتها مرة أخرى عبر نصيات سكسو للحثّ على البناءات السّلبية التي تأتي إلى الوجود من خلال جعل "غير الـمسموع" مسموعا، و"الذي لا يمكن تصوّره" مفكَّرا فيه. الكتابة تفجيرٌ لتلك الطاقة السّالبة والعدمية وإفراغها إلى حيّز النور والوجود والحياة، من خلال ارتعاشات الكتابة وهمسات الذاكرة وإعادة وضع حدود جديدة للمعاني عبر خلق بعضها وتعطيل بعضها الآخر، وهو النّشاط الجديد للأدب من خلال تصوّرات سكسو حول النصية والـمؤلف والقارئ والتجربة الداخلية للنصوص. هذه الحركية الأدبية تظل مفتوحة النسب مختلطة النوع، يتقاذفها الرجال والنساء أو الكُتاب والقراء معاً؛ فهي أثر أصلي لكتابة مصابة بفكرة اللانهاية واللاأصل، الـهناك والـماوراء، حيث لا توجد خاصية ثابتة ومحددة لمن له الأهلية داخل النص. فاستثمار سكسو لهذه الفكرة الـمتشظية يهب الكتابة حرية أكثر من خلال إعادة الترميم وإحياء الرّكام واستضافة الأطياف من جيل إلى جيل في إعادية لا تنتهي كما أشار إليها صديقها جاك دريدا. فالنصوص تبقى مجرد أشكال لكينونة ملتبسة؛ ما يعني أن تجربة الكتابة هي حدث، أو كينونة غير قابلة للتّحديد، ليس لها منتج محدّد معلوم أو فضاء قارّ، أو زمن خالص، مكامنها تظل مرورا طيفيا يتنقل بصمت وهدوء بين الدهاليز والأرشيفات والأجيال بطريقة لا يمكن تبريرها أو التيقن منها. مآلها اللانهاية والأزل، لأنها خلق يعاد صياغته ونفثه في شكل تأثيرات وتهديدات، إزاحة وخلخلة وفتح للزمن والفضاء عبر كل قراءة؛ فالكتابة حدث أسطوري وتقنية شبحية تحيا وتُبعث وتظهر نفسها في كلّ مناسبة قراءة.

 

 

مصادر الـمقال:

- Jacques Derrida, La dissémination, Seuil, Paris, 1972

- Hélène Cixous, L’Exil de James Joyce ou l'art du remplacement (Grasset, 1968)

-Hélène Cixous, Le Rire de la Méduse (L'Arc, 1975 - rééd. Galilée, 2010)

- Hélène Cixous, Entre l’écriture (Des femmes, 1986)

- Rolland Barthes, Le plaisir du texte, Seuil, Paris, 1973

[1]- مجلة ذوات العدد62