الأصنام الذّهنية أو التديّن حينما يغدو جنوناً


فئة :  مقالات

الأصنام الذّهنية أو التديّن حينما يغدو جنوناً

تمهيد:

ما معنى أنْ يكون لك صنمٌ؟؟؟

ستعوزك كلّ القواميس عندما ترغب في إيجاد تعريف للإنسان، ولنْ تجد عبارة أعمق من التي عنون بها أليكسس كاريل كتابه "الإنسان ذلك المجهول". نعم، إنّه ذلك المجهول في تركيبته وأصوله وأنماط تفكيره، وتشكّل وجدانه وعواطفه، وربّما في وجوده. هذا لا يعني أنّه الوحيد والمميّز والفريد بين الكائنات والموجودات. فلكلٍّ دوره، ولكلٍّ ضرورته، وإنْ كان هذا الإحساس والشّعور بتفوّق الكائن الإنساني على باقي الكائنات هو غرور ملازم لأوهام صنعها الإنسان، وبدل أنْ يتحكّم فيها تحكّمت فيه. كثيرة هي الأوهام الّتي تمنحنا القدرة على مواصلة الحياة. هنا تنبَّه ماركس إلى أنّه: "عندما تطلب من شعب التخلّي عن الوهم حول وضعه (الاقتصادي/الاجتماعي/السياسي/الديني)، فإنّك تطلب منه التخلي عن وضع بحاجة لوهم"[1]. لذا، فالكائن الإنساني لا يملك واقعا حقيقيا، لأنّ واقعه هو شمس وهمية تدور حوله، ما دام لا يدور حول نفسه. إنّها باختصار الحاجة إلى الوهم في سبر تحدّيات الواقع، وغموض المستقبل. لهذا، كان لزاماُ على الجهاز العقائدي للإنسان، والمتمثل في آليات تفكيره، وأنماط سلوكياته أنْ يختار دوماُ تغذية جانبه النّفسي بصناعة الأصنام الذّهنية، والعكوف عليها، والتمسّك بها إلى الحدّ الذي يصعب فيه الانفصال، وهي دائمة التّجديد في مسيرة متواصلة، ومستمرة على امتداد آفاق العقل الإنساني، كلّما حطّم الإنسان صنماً إلا وأقام آخر مكانه، ودافع عنه، أو مات من أجله، أو كانت ضحية لنزعات تعصّبه اتجاهه. وهنا نفهم كيف يمكن أنْ ينتقل الإنسان من الفكرة، أو الأدلوجة، أو العقيدة إلى ممارسة الفعل التّدميري على نفسه، أو على غيره في حرب وهمية تأخذ طابع المقدّس شكلاً، وتصطبغ بالمدنّس مضمونا حين تكون نتائجها مأساوية، وغير قابلة للتّبرير.

هو جنون الإيمان كما يسمّيه برنار شوفييه أو لنقل بتعبير أدق، هو جنون المؤمن أو الجماعة المؤمنة حينما تصنع لنفسها أوهاماً تدور حولها، أو أصناما ذهنية تتعصّب من أجلها، إلى درجة تحويل الآخر إلى عدم في وجوده عن طريق الإقصاء، أو التّهميش، أو الاستئصال المباشر من الوجود، إذ كلّما تجدّد الفعل الإرهابي، أو بالغ البعض في استعمال الشّطط والعنف والتسلّط إلا وأرهقتْنا الحيرة، ونحن نبحث عن هذا الإنسان المفقود، لندرك من جديد كما أشار الجبران: "أنّنا لسنا فقط كاذبون في وجودنا، ولكن نحن خطأ الوجود"[2] (جمهورية النبي 73) وأضيف ربما خطؤه الوحيد. وحدها العقائد والدّوغمائيات والسّرديات الكبرى من بمقدورها أنْ تعرّي حقيقتنا، وتصدمنا في كلّ حين لا نستشعر فيه أنّنا الكائن الوحيد الذي تتجاوز فيه السّيطرة الحاجة إلى التحكّم لتتحول إلى نزوة سطوة pulsion d'emprise. إنّها نزعة لا تهدف إلى إيلام الآخر، وإنّما لا تدخله في الحسبان أصلا حسب لابلانش وبونتاليس.[3]

لا بد من الاعتراف أنّنا أمام صنمية ذهنية تتجاوز المألوف، وتتحدّى مستحيلات العقل الإنساني، حينما يلجأ إلى التعصّب تجاه ما صنعته أوهامه، وآليات تفكيره، ومنتوجات ثقافته. صحيح، أنّ المتعصب إنسان المقدّس بامتياز. كما يرى برنار شوفييه[4]، لكنّه ليس أيّ إنسان ولا المقدّس أيّ مقدّس. فالإنسان هنا يهب نفسه وروحه في سبيل قضيته، كما أنّ المقدّس هنا يتقمّص المثال والمطلق، لدرجة أنّه يغطّي حتى ذلك المجال الذي يفترض أنْ يكون بعيدا عنه أي مجال المدنّس.

لكن ماذا يعني أنْ يكون لك صنمٌ ترعاه وتنشئه، ويتحكّم فيك دون أنْ تدرك خضوعك التامّ له؟

غالبا ما يتم حصر الأصنام في تلك المنحوتات والمعبودات والتّماثيل التي كانت ولا تزال تمثّل رموزا للآلهة، أو الشّخصيات الكاريزماتية والمؤثّرة في التّاريخ، أو ما يمثّل رمزاً جامعاً لبعض القبائل أو الثّقافات. كما أنّها ليست ظاهرة مقتصرة على فترة زمنية معينة مضتْ، بل هي جوهر معين يأخذ أبعادا ووجوها متعدّدة قد تختلف في الصّورة والشّكل، ولا تختلف في المعنى والحقيقة. إنّها جرثومة تربو وتنمو في أيّ مكان أو زمان، وتظهر في أيّ مستوى من مستويات الحياة الإنسانية في الفكر والقيم، والسّياسة والاجتماع، إذا كانت كلّ هذه المستويات ثابتة في تفكيرها، خاضعة لأوهامها، متمسّكة بمواقفها دون أنْ تكون لها القدرة على اجتراح حلول واقعية لمشاكلها بعيدا عن التّبعية المطلقة لصنمية التّفكير، وإفرازات العقل الشّمولي. إنّها الطّبيعة التي من شأنها أنْ تقتل في النّفس الإنسانية كلّ أمل بالتواصل الحضاري النّاتج عن تحطيم الأصنام عبر إعمال العقل والاستفادة من طرائق النّظر، وأنماط تفكّر العقل المنفتح اتّجاه الكون والحياة والطبيعة.

إن ما يدعوه فرانسيس بيكون بأصنام الذّهن كما أكّد الطّاهر عبد الجليل يتجاوز ما أشار إليه الكلبي وكتب عنه في كتابه "الأصنام"، الذي لم تتجاوز فكرته ما أشرنا إليه سابقا من جعل الأصنام أشياء محسوسة. في حين أنّ الأصنام المقصودة في هذا السّياق هي: "شيوع بعض الأوهام والأساطير والفِكَر المغلوطة التي لا تخضع للبحث العلمي والمنطق، يتعصّب لها الإنسان ويتحيّز، فتؤثّر في كلّ وجوه حياته الفكرية، فتقيّد عقله وتحدّده، وتقرّر علائقه وصلاته مع النّاس كمّاً وكيفاً، وتعمل على تقويتها واستمرارها حيناً، وعلى تقليصها وقطعها وبترها ورتقها حينا آخر"[5]. ويمكن حصرها كما أشار إلى ذلك داريوش شايغان في ثلاثة أنماط ذكرها فرانسيس بيكون[6]:

- أصنام القبيلة: هي المعتقدات في ذهن الإنسان والكامنة في قوميته؛ ذلك أنّ أيّ إدراك نابع من الحواس والذّهن، هو إدراك منفصل عن قوالب الذّهن المسبقة، ولا يتطابق أكيدا مع واقع الأشياء. وبالتّالي سيكون ذهن الإنسان أشبه بالمرايا غير المستوية التي تخلع خصائصها على الأشياء.

- أصنام الكهف: هي تلك المعتقدات الخاصّة بالفرد؛ فالإنسان بصرف النّظر عن عصبياته وأخطائه الجماعية التي تتسرّب إليه عبر انشداده إلى قبيلة أو فئة معيّنة له عصبياته الفردية أيضا. إنّها عصبيات تُفسد النّور الطبيعي للعقل البشري عن طريق توظيف الميول الشّخصية والسّنن التّعليمية والمراجع التقليدية التي تلهم الإنسان.

- أصنام السّوق: تنحتها معاشرة النّاس لبعضهم البعض، وعلاقاتهم في ما بينهم، لا سيما العلاقات الشّفوية المباشرة.

- أصنام المسرح: عبارة عن النّظم الفلسفية الكبرى الموروثة عن الماضي، سواء كانت يونانية أو مدرسية، إنما هي ألعاب متنوّعة تتحرّك على مسرح التّاريخ.

مشكلة هذه الأصنام الاجتماعية والثّقافية والدّينية هي أنّها تتأسّس على مسلَّمات قبلية نابعة من أعراف الجماعة وثقافات الشّعوب والقوميات والقبائل، وليست خاضعة لمنطق العلم والمعرفة. أو بمعنى أدق، إنّه تغليب الجانب الاعتقادي على الجانب المعرفي في تشكيل وعي الإنسان بذاته ومحيطه. ولعلّ أكبر مأزق تضعك فيه الأصنام الذّهنية هي أنّها تجعلك تعيش الحاضر بعيون الماضي؛ أيْ أنّ لديها سلطة إرجاعك إلى القوالب الجاهزة التي تمّ إنشاؤها سلفاً في محطّات تاريخية استجمعت بالنّسبة إلى هذا العقل كلّ شروط النّقاء والصّفاء والعدالة، حيث يستحيل الانفكاك عن نماذجها الجاهزة. وهذا هو نفسه الإشكال المطروح على العقل السّلفي اليوم بتعبيراته ونماذجه المتنوّعة.

لعلّ أكبر مأزق تضعك فيه الأصنام الذّهنية هي أنّها تجعلك تعيش الحاضر بعيون الماضي

تتغذّى فكرة السّلفية من فكرة العود الأبدي، حين تستحضر الماضي وإمكانية استنساخه في الحاضر، فحسب نيتشه، [7] فالأحداث والوقائع يمكن إعادتها كلّها بعد موتها وفنائها في الزمن اللامتناهي. إنّها الفكرة نفسها التي تحرّك عشاق الماضي، واعتباره مرحلة من مراحل التّمجيد والتّقديس والتبجيل بشكل انتقائي، وكأنّ هذا العالم، أو ذاك العصر، أو ذلك المنزع الطّهراني في التّفكير يصعب معه إيجاد الثغرات أو يستحيل. إنّ اللجوء إلى الماضي للاحتماء به من قهر الحاضر وضبابية المستقبل، تعبّر عن عجز واضح في الرؤية، كثيرا ما نقرأه بوضوح في مقولات وشعارات من قبيل: "لا يصلح حال الأمة إلا بما صلح به الأوائل"، وهي مقولة قديمة معاصرة تأخذ أشكالا مختلفة حسب الزمان والمكان. كما أنّ انحصار العقل السّلفي في الزمان والمكان كان له الأثر الكبير على تجميد القوة الإدراكية فيه، وتحويلها إلى مجرد استرداد لمقولات عبّرت عن زمانها، وساهمت في بلورة مشروع مجتمعها. فمن الخطأ أنْ نفكّر بعقول غيرنا، وما ذلك الغير إلا نحن في أحد تجلياته. ولعلّ أهم السّمات التي يمكن أن يكون الشّخص المتأثر بصنمية التفكير السّلفي، أو الخضوع المباشر لقدسية الماضي هدفاً لها ما يلي:

- تعطيل ملكة العقل والفكر: لا يمكن أنْ يوجد فكرٌ أو عقلٌ منتج رهين بالماضي، إذ إنّ الالتفاتة الكلّية إلى الماضي دون وضع مسافات بين الإنسان وعصر لم يعشه أو لم يعاين إشكالاته، أو يكن شريكاً في تركيبة إنسانه الثّقافية والاجتماعية والذهنية من أكبر المغالطات التي يمكن أنْ يحتكم إليها عقل إنسان. ويمكن أنْ تكون هذه المغالطة المنطقية من نوع ما سمّاه مصطفى عادل بمغالطة الاحتكام إلى سلطة، حيث يعتبر الإنسان الاحتكام إلى سلطة معيّنة هو المصدر النّهائي للمعرفة. "ويكمن خطأ هذه المغالطة في أنّ الإنسان يعتقد أنّ صدق فكرة أو قضية لا يجد سنده إلا في قائله. قد تكون الفكرة صائبة بطبيعة الحال، وإنّما تكمن المغالطة في السّلطة بديلا عن البيّنة واتخاذها بيّنة من دون البينة"[8].

وهنا يمكن أنْ نتحّدث عن مغالطة العقل الدّيني عموما، والعقل السّلفي تحديدا، حينما يجعل من سلطة السّلف، سلطة فوق البيّنة والدّليل، فيكفي أنْ يوجد المرء في العصور الأولى، وتحديدا عصر التّأسيس ليحظى بالعدالة المطلقة، والبُعد عن نوازع ودوافع البشرية. كما أنّ العقل السّلفي ينهل، ويمتح من مغالطة أخرى سمّاها عادل مصطفى البروكرستية أو سرير بروكرست، وهي عبارة عن أسطورة يونانية: "تشير إلى أيّة نزعة "إلى فرض القوالب" على الأشياء أو الأشخاص أو النّصوص، أو ليّ الحقائق وتشويه المعطيات وتلفيق البيانات لكي تنسجم قسراً مع مخطّط ذهنيّ مسبق[9]".

- قصور الإنتاجية المعرفية: حينما نتحدّث عن النّزعة السّلفية هنا يجب التّفريق بين مستويين اثنين: الأوّل النّزعة السلفية، والثّاني السّلف؛ فالأوّل المقصود به اشتقاق الحلول والمواقف المطلوبة من الماضي الذي كان العصر الذهبي للسّلف. أما الثاّني: فالمقصود بهم من عاشوا في الماضي دون أن يكونوا كلّهم ذوي نزعة سلفية، بل كان أكثرهم ذوي أفق مبدع[10]. فالتّفريق بين هذين المستويين يعدّ ضروريا من الناحية المنهجية، خاصّة لمن يحاول أن يعتمد على التراث في تسويغ وتبرير إيديولوجيته السّلفية.

لم يعد انخراطنا في روح العصر أمرا اختياريا، بل صار حتمية يجب على الإنسان إدراكها قبل أنْ يتجاوزه الزّمان. فأوّل الخطوات نحو هذا المبتغى يكمن في إصلاح المنظومة السّلفية التقليدية وعلاقتها بالنصّ الديني. هذه الأخيرة التي ترى في كلّ قديم الملجأ والمأوى، الذي يتمّ الاحتماء به عندما تعجز الإيديولوجية الدينية، عن تحقيق رغبات ومطالب فئات اجتماعية نمت وتطوّرت، في قلب التحوّلات التي شهدها العالم المعاصر.

يتأرجح الفكر منذ نشأته، وتحديدا الشِّقّ الديني منه، بين ثنائية الإبداع والاتباع، أو التّجديد والتّقليد، أو بين التّحديث والمحافظة. ولا أقصد بالإبداع هنا إلاّ جانب التّراكم المعرفي الذي يحدُث للإنسان في مراحل مختلفة من حياته، حين يكون هدف هذا الأخير هو صقل معارفه، عبْر إيمانه العميق بتكامل المعرفة وحاجتها إلى بعضها دون انفصام أو تضادّ. فمن خلال رحلة الإنسان في عوالم هذا الكون الفسيح، ومن خلال أيضا تدافعه، وتفاعله الجدليِّ معه، لا بدّ أنّ تَراكُم معرفته ينشئ له خطاًّ جديدا، أو تصوّرا يضيف فيه إلى سابقه ويبني عليه. إذ الفكر سلسلة متواصلة غير منفصلة، تمتدّ عبر حلقات هذا التاريخ الطويل من حياة البشرية على هذه الأرض. لكنْ إلى جانب هذا المعطى يظلّ جانب الاتِّباع هواية من هوايات الإنسان على مرّ التاريخ، وفي حلقات متعدّدة منه. فالبحث في الأسباب الكامنة وراء هذه النّفسية التي تنقاد إلى التّقليد، والاتباع، والارتكان إلى ما هو موجود، يعطينا انطباعا بأنّ هناك عوامل ذاتية وموضوعية تتحكّم في هذا الاختيار الإنساني. لعلّ أبرزها المعطيات النّفسية التي تحوّل الكائن الإنساني، وتجعل منه كائنا سُكونيا، غير واثق من إمكانياته بسبب ظروف محيطة قد يعلمها أو لا يعلمها. كما أنّ هناك أبعادا أخرى تمثّلها معطيات اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، يكون المجتمع عبر منظومة وعيه حاضرا في نشأة هذا الخيار، بالرّغم من خطورة مآلاته.

يصرّ هذا الواقع الفكري أنْ يمنحنا جرعات من التّنويم والتخدير الفكري، حين يستبطن خبثا إيديولوجيا بالمعنى السّلبي لهذا المصطلح والمتجلّي في أحد أخطر وظائف الإيديولوجيا ألا وهي تزييف الواقع. فما يقوم به الفكر الديني في شقّه السّلفي تحديدا هو نوع من الأدلجة المقصودة، والتّبرير لاجتهادات سابقة، وتصوير مخالفتها على أنّها نوع من المحاذاة لله ورسوله، وخروج عن الفهم الصحيح للدِّين كما تجلّى في هذه المنظومة النّصية.

- الترفّع على النّقد والمساءلة: لا يمكن أنْ يحكُمك الجهل إلا إذا وجد في عقلك الفراغ، وملء الفراغ لا يتأتى إلا حين يتحرّك العقل نحو المطلق وحينها تربو معرفته وإدراكه. إنّ العقل المسيّج بقيود اللّغو والنصّ والظّاهر لا يمكن أنْ يتحرّر من هذه السّلطات إلا في حدود ضيّقة، لهذا كانت سلطة النصّ في الكثير من مراحلنا تتجاوز سلطة العقل، حين شاءت بعض الأقلام أنْ تدرأ التّعارض بين العقل والنّقل، مخترعة سلطات وهمية. لقد أحيطت هذه المعرفة بهالة قدسية جعلتها تتجاوز حدود المسموح به مع أنّها نتاجٌ فكر بشري له ظروف نشأته، وملابسات تطوّره؛ لأنّه ببساطة ثمرة تفاعل الإنسان مع الظّاهرة الدينية، وجدليته المستمرة مع الذّات والكون والمحيط القريب والبعيد، وتأثيرات الاجتماع والسّياسة والاقتصاد. ومن كان هذا منشؤه، فهو قابل للصّواب والخطأ، خاضعٌ للمنطق البشري ولغة المصالح. وعندما يغيب هذا الجانب عن القراءة أو الاستحضار، فيعني هذا حضور الجانب الآخر، ذلك الجانب المظلم من ثقافاتنا، والذي يستدعي كلّ قيم العنف والتقاتل والحروب الطّائفية، وانعدام التّسامح والتّواصل. وهنا نستحضر ما قاله الغدامي، [11] حيث إن أوّل ما تتوسّل به الثّقافة لتعزيز قِيمها الدّلالية، هو تغييبُ العقل وتغليبُ الوجدان. لذلك، نجد مكانة العقل في خطابنا نادرة بالمقارنة مع الحضور القوي للنصّ في امتداداته الاجتماعية والسياسية والديني؛ وتلك آفتنا.

أسس ومرتكزات صناعة الأصنام الذّهنية

يمكن الجزم ومن خلال التّاريخ الإنساني، ومسارات تشكّله، أنّ الأصنام الذّهنية، أو الوجه الآخر من الإنسان لهما التّأثير الكبير في تشكّل المجتمعات القديمة، والمعاصرة على حدّ سواء، إذ لا يمكن أنْ نتصّور مجتمعا له سمات ثقافية معينة، إلا في ضوء أدلوجة مقدّسة، تستوجب على الفرد التمسّك بها، والتعلّق فيها لضمان أكبر قدْر من التّلاحم الجماعي، والانضباط لمقرّرات الجماعة، والسّير وفق ضوابطها وكوابحها. وهنا يصير الصّنم بمثابة الجامع والمانع من التفكّك والانحلال، والمعبّر الوحيد عن وحدة الجماعة وصلابتها. ولكي نفهم الدّوافع النّفسية التي تنهل منها الجماعة في صناعة الأوهام والأصنام، لا بدّ من الإشارة أنّ الصّنم هو مشروع جماعي يتجاوز الفكرة إلى الوجود الفعلي؛ بمعنى أنّ الجماعة ترهن بشكل إرادي وجودها بوجود الصّنم، فهو ليس مسألة اختيارية، بقدْر ما هو قدَرٌ لا انفكاك عنه أو منه إلا بالمحافظة عليه. لهذا ترى أنّ الانتماء إلى المشروع الجماعي هو انتماءٌ وجودي في مقابل وجود جماعات أخرى، وهنا يمكننا أنْ ندرج مسألة الرِّدة والخروج عن دين الجماعة، فغالبا ما تتعامل معه الجماعات الأصولية المنغلقة بحسٍّ تهديدي، وليس مسألة شخصية، لأنّها تعتبره تحطيماً لثوابت الجماعة وتكسيرا لحصونها. لذا وجب قتله.

لكنْ كيف يستمر الصّنم ويضمن ديمومته في مخيّلة الجماعة؟: هنا لا بدّ من الإضاءة على مفهوم الإيديولوجيا الذي تعتمده حركات الإسلام السّياسي، والأصوليات الدّينية بمختلف تلاوينها وفروعها، وتصُوغ على ضوئها نظرَتها للوجود والمحيط والإنسان. ولعلّ وقوفنا باقتضاب على هذا المفهوم من شأنه أنْ ينير لنا الطّريق نحو فهمٍ أوضح لحقيقة مفاهيم، يتمُّ لوْكُها واستهلاكها على نطاق واسع، رغبة ممّن كُلِّفوا بالتّنظير في مجال السّياسة الشّرعية أنْ يؤطِّروا علاقة الإنسان بقيادته، ومفكّريه، عبْر هذه الشبكة من المفاهيم، التي تلعب نفس الدّور المنوط بالإيديولوجيا، إذا ما اعتمدنا تعريف مانهايم نفسُه لها، حيث قسّم معناها إلى جزأين: معنى جزئي: والمقصود به دلالة الكلمة على أنّنا نتخذ موقفا متشكّكا تجاه التصورات التي يتقدم بها خصمنا، إذ نعتبرها تمويهات واعية تخفي الطبيعة الحقيقية لوضع لن يكون الاعتراف بحقيقته متفقا مع مصالح هذا الخصم. أما المعنى الكلِّي، فهو أنْ نوضّح سمات وتركيب البناء الكلّي لعقلية ذلك العصر أو هذه الجماعة[12].

لم تعد الإيديولوجيا ذلك العلم الذي يهتمّ بالأفكار كما أسّس لها دو تراسي، حين اعتبرها علماً شارحاً أو ما بعد علم meta science أيْ علم العلم، وقد ذهبَتْ إلى أنّها قادرة على تفسير من أين جاءت العلوم الأخرى، وعلى تقديم تسلسل أنساب علميّ للفكر[13]، بل تنوّعت وظائفها ليحصرها البعض في خمس وظائف، ليست ببعيدة عن مجال الحركة الإسلامية وإطارها النّظري الإيديولوجي. ولعلّ أوّل وظيفة أكّد عليها بخلر، هي: وظيفة التجمّع ralliment. ثانيا: التبرير justification، ثالثا: الإخفاء. رابعا: التعيين désignation. خامسا: تجويز الإدراك autoriser la perception[14]. فمن خلال هذه الوظائف التي تمثل لبّ الجماعات، ومصدر التّأسيس للأوهام والأساطير، يمكننا أنْ نرى الأهمية الكبرى للإيديولوجيا في حياة الأفراد والجماعات على حدّ سواء، مهما اختلفت الرؤى والتيارات والتوجهات. كما أنّه يستحيل ضمان استمرارية الجماعة في الحفاظ على صنمها الاجتماعي بعيدا عن هذا المفهوم؛ أيْ تزييف الوعي كما مرّ معنا في وظائف الإيديولوجيا. ولعلّ مكمن الخلل في هذا البناء النظري هو ما أوضحه ديفيد هوكس، حين أكّد أنّ مكمن الخلل في الوعي الزّائف ناشئٌ من خللٍ في التوازن في علاقة ثلاثية الأطراف: الذات (وهي مجال الأفكار). والموضوع (عالم الأشياء المادية الواقعية الجوهرية)، ووسائط التمثيل التي تتوسّط بين هذين القطبين، وتشكّل هذه العناصر الثلاثة كُلاًّ. وحينما يقصد خطاب (أو مجموعة أفكار) أنْ يصنف آخر بأنّه زائف فإنّه يعلن دائما أنّ خصمَه أساء فهْم العلاقات بين الأجزاء الثلاثة لهذا الكلّ[15].

إنّ صناعة الأوهام هي صناعة تنتقل عبر استراتيجية مهمّة تنهجها الجماعات، وهي التّربية والتّعليم، لكن ليس على أساسٍ نفعي، فالأمر أكبر من ذلك. فالتّعليم لدى الجماعات المتخلّفة تحديدا يتجاوز حدود المعرفة، والخروج من وضعيات الارتكاس والنّكوص للوراء، ليصير أداة للتّدجين وهدر الطّاقة الإنسانية. لهذا تحاول الجماعات نشر الخرافات واستمرارية النّظرة المتخلفة للوجود، لأنّ الهدف من ذلك كما يرى مصطفى حجازي هو تكوين رأي عام مقاوم لدعاة التطوير كما أنّ هذا الواقع المتردّي يمتح من مساحات التخلّف والجهل المقدّس لمجموعة من العوامل يمكن حصرها في[16]:

إنّ صناعة الأوهام هي صناعة تنتقل عبر استراتيجية مهمّة تنهجها الجماعات، وهي التّربية والتّعليم

- غرس الفكر الخرافي في ذهنية الطّفل

- سطحية التعليم وعدم مكاملته في الشّخصية

- الانفصال بين العلم النّظري والتّجربة المعيشة

هذه الحالة الثقافية التي يعيشها المرء طوعاً أو كرهاً تدفعه إلى ما يسمّى بالعجز المتعلّم helplessness learned، وهي وضعية استسلام للوضع القائم، وتسليم به نهجها الأصوليات والديكتاتوريات والعصبيات بغية طمر طاقات الحياة تحت ركام قيود المنع والتجريم والتحريم[17].

ترتكز أيضا صناعة الأوهام على بعدٍ آخر من أبعاد الإنسان وحيرة وجوده ألا وهو القداسة، فلا أصنام دون قداسة، ولا مجتمع أو جماعة دون هذا البعد الروحاني من الاقتراب والإحساس بعوالم هي أقرب للخيال في العقل العلمي، وأقرب للحقيقة في العقل المترامي إلى أحضان الغيب؛ فبين الإنسان والمقدّس حكاية ومسار وتاريخ من الصّراع والوفاق، والحرب والسّلم، والتّسامح والتباغض. فالمقدّس هو الأساس الوحيد للفكر الديني، عليه تتأسّس المقولة الدينية، وبواسطته يتم الشّعور والإحساس بحصانة المؤمن من روح النّقد. أو بتعبير أدقّ: "إنّه الفكرة التي يتمحور حولها الدّين على حدّ قول هنري كوربان، فالأساطير والمعتقدات تحلّل مضمونه على طريقتها، والطّقوس تستخدم خصائصه، والكهنة يجسّدونه والمعابد والأماكن المقدّسة والصّروح الدّينية توطّده وتجذّره في الأرض ومنه تنشأ الأخلاق الدّينية. الدّين هو تدبير المقدس"[18].

وإذا كان الدّين هو تدبير المقدّس كما تشير المقولة السابقة، فإنّ المقدّس هنا يصير قوّة فاعلة، وطاقة حيوية يرى فيها الإنسان استمراريته، وواجبه الأخلاقي اتّجاه المجهول بالنّسبة إليه. فالمقدّس يتجاوز فكرة الاختيار ليصير الضّرورة القصوى لحياة الجماعة، ويتحوّل إلى صنم حينما يشيّد لنفسه حصوناً من النّقد والمساءلة والشكّ والتّمحيص.

وانطلاقا مما سبق ذكره، يمكننا أنْ نخلص إلى ما أكّد عليه روجيه كايوا أنّ المقدّس في صورته الأولى البسيطة يشكّل طاقة خطيرة، خفيّة على الفهم، عصيّة على التّرويض شديدة الفاعلية، وهنا تكمن خطورة اللّجوء إليها واستدعاؤها، فبقدْر ما يكون الهدف الّذي يسعى إليه الطالب عظيما، تتضاعف ضرورة تدخلّها، ويصبح استخدامها محفوفا بالمخاطر.[19]

[1]- ماركس، كارل. نقد فلسفة الحق عند هيجل. ملف pdf. ص: 1

[2]- الجبران، عبد الرزاق. جمهورية النبي. عودة وجودية. دون تاريخ، أو دار نشر. ص: 73

[3]- حجازي، مصطفى، الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005، ط1. ص: 82

[4]- شوفييه، برنارد. المتعصبون. ترجمة. قاسم المقداد. دار نينوى. ط1. 2017. ص: 12

[5]- الطاهر، عبد الجليل. أصنام المجتمع بحث في التحيز والتعصب والنفاق الاجتماعي. بيروت. مكتبة التنوير، ط1، 2016. ص: 12

[6]- داريوش، شايغان. الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية. بيروت، دار الهادي، ط1، 2007. ص: 33

[7]- انظر ما كتبه حول موضوع العود الأبدي بدوي، عبد الرحمن. خلاصة الفكر الأوروبي: سلسلة الفلاسفة. نيتشه. الكويت: وكالة المطبوعات، 1975، ط5. ص: 252

[8]- عادل، مصطفى. (2007). المغالطات المنطقية. المجلس الأعلى للثقافة. ص: 85

[9]- المرجع نفسه. ص: 249

[10]- التيزيني، الطيب. (1978). من التراث إلى الثورة/ حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي. (ط2). بيروت. دار ابن خلدون. ص: 28

[11]- انظر ما كتبه الغدامي، محمد عبد الله. النقد الثقافي. قراءة في الأنساق الثقافية العربية. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط3، 2005. ص: 82

[12]- المرجع السابق. نفس الصفحة.

[13]- هوكس، ديفيد. (2000). الإيديولوجية. ترجمة إبراهيم فتحي. المجلس الأعلى للثقافة. ص: 45

[14]- الإيديولوجيا. إعداد وترجمة. محمد، سبيلا. وعبد السلام بنعبد العالي. دار توبقال للنشر. ص ص: 53/54

[15]- ديفيد، هوكس. المرجع السابق. ص: 14

[16]- حجازي، مصطفى. التخلف الاجتماعي. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط9، 2009. ص: 82

[17]- حجازي، مصطفى. إطلاق طاقات الحياة. قراءات في علم النفس الإيجابي. مكتبة التنوير، 2012. ص: 45

[18]- روجيه، كايوا. الإنسان والمقدس. ترجمة سميرة ريشا. مراجعة جورج سليمان. بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2010. ص: 36

[19]- المرجع نفسه. ص: 40