الأقليات في ظل التشريع الإسلامي تعريف أبو السعود لوقف الكنيسة النظرية والتطبيق في فقه التشريع العثماني


فئة :  ترجمات

الأقليات في ظل التشريع الإسلامي تعريف أبو السعود لوقف الكنيسة النظرية والتطبيق في فقه التشريع العثماني

الأقليات في ظل التشريع الإسلامي

تعريف أبو السعود لوقف الكنيسة

النظرية والتطبيق في فقه التشريع العثماني

تأليف: يوجينيا كيرميلي

ترجمة: جواد رضواني

على الرغم من الدور المهمّ الذي أدّته مؤسسة الوقف في المجتمعات الإسلامية، لم يستطع الباحثون أن يفسروا طبيعتها المعقدة إلى الآن؛ فمعظم الدراسات إمّا تركز على الشروط النظرية/العدلية التي تحكم الوقف كمؤسسة ووظيفة، وإما أنها تفحص دورها في البنيات السياسية والسوسيو-اقتصادية بعيداً عن النقاشات النظرية المعاصرة. بالإضافة إلى ذلك، كما أوضح ريتشارد فان ليوفن، استعمل المؤرخون، الذين يتبعون مقاربة فيبر، مؤسسة الوقف لكي يشخصوا المجتمع الإسلامي على أنه «ثابت» و«غير معقلن»[1].

ويستطيع المرء أن يدرك فقدان التوافق فيما يخصّ الرؤى حول الوقف، إذا ما أضاف إليها اختلاف أشكال تطبيق الشريعة في الدولة العثمانية. عندما نفحص المؤسسات في الإمبراطورية العثمانية، علينا أن نتذكر أن العرف، وهو، في غالب الأحيان، حفاظ على ممارسة ما قبل عثمانية، كان بمنزلة العامل المهيمن في عملية تطبيق الشريعة على طول حدود الإمبراطورية[2] وعليه، سوف يكون أمراً مضللاً أن نتبنى مقاربة عامة يمكنها أن تنطبق على جميع الجهات التابعة للإمبراطورية، وعبر القرون التي وُجد فيها العثمانيون، فيما يخص مؤسسة الوقف، سوف يكون أمراً مضللاً.

خلال الفترة العثمانية، قدم الناس هبات من ممتلكاتهم الشخصية لكي يوجدوا الوسائل التي يمكنهم من خلالها خدمة المجتمع؛ وذلك من خلال أداء أو دعم رواتب الموظفين الدينيين مثل الأئمة، المؤذنين، أو المعلمين. وقد قاموا بذلك أيضاً من أجل بناء وصيانة البنايات الدينية، والمدارس، والفنادق، والمستشفيات، أو مطاعم الفقراء، أو لدعم الذين يشتغلون بها. هبات أخرى تدل على التقوى والورع شملت بناء نوافير وآبار جانب المساجد أو في أحياء تجارية أو سكنية في المدن[3]. وكل ما ذكرناه من هبات كانت مهمّة جداً بالنسبة إلى مصلحة المجتمع العثماني لما كانت تشتمل على جميع مناحي الحياة الاجتماعية، بما في ذلك الجوانب الدينية؛ أي من خلال بناء المساجد والمدارس الدينية والعامة. إن هدف جميع أنواع الهبات هو التقرب من الله. أما الهدايا ذات الطبيعة الدينية أو العمومية بوجه خاص، فكانت تعدّ وقفاً خيرياً. وغير ذلك النوع، كانت هناك هبات أخرى، حيث لم يكن التقرب واضحاً من خلالها. وكانت تلك تسمّى الوقف الحر، مثل مؤسسات عائلية من أجل مصلحة الأطفال، والحفدة، وأقارب آخرين[4]. بإمكان المؤسس أن يشترط أن تكون المداخيل المادية تعود إليه وإلى حفدته إلى الأبد[5]. ولما كان على الأحفاد الأغنياء أن يستفيدوا من المصدر، مثلهم مثل الفقراء، فإنّ التعريف الأساسي للوقف على أساس أنه نوع من الصدقة، فقد كان يتم انتهاكه[6]. فقد تمكّن فقهاء الحنفية من التحايل على مشكل عدم مشروعيّة انتهاك الوقف من خلال ذكرهم رأياً منسوباً، في الغالب، إلى أبي يوسف، بأن الأوقاف أو الأخويات العائلية كانت ممكنة بناء على أنّها كان يستفيد منها المعوزون، فقالوا إن هذه الهدايا تبقى مشروعة ما دام المستفيد الأول، بعد زوال المنتسبين إلى عائلة المؤسس، هم المعوزون[7].

أما أخويات الوقف الرهبانية، فقد كانت عملاً عادياً في البلقان حتى قبل الغزو العثماني. كان هناك موضوع عام ومشترك، منذ ظهور الرهبنة في الحوض المتوسط، شغل الدير والسلطات الجهوية والمركزية بالنقاش، هو وضع الملكيات الخاصة بالمجتمعات الرهبانية وامتيازاتها[8]. على مر السنين، وبشكل خاص، قبل سقوط القسطنطينية عام (1453)، كانت التجمّعات الرهبانية القوية في البلقان تعدّ من بين أهم مالكي الأراضي في المنطقة[9]. بعد فترة من عدم الاستقرار تلت الاحتلال العثماني، تمكّنت جلّ الأديرة من استعادة امتيازاتها. في بعض الحالات، كان للدير دور مهم، وهو تمثيل التجمعات الذمية في إطار سلطة قضائهم[10]. لقد كان حلاً مناسباً لكلا الجانبين. قامت الإدارة العثمانية بجمع الضرائب بشكل خالٍ من أيّة مشاكل، عن طريق ضريبة الباب العالي، فحافظت أديرة الرهبان على امتيازاتها لقرون، بالإضافة إلى الدور الروحي والسياسي في مجتمعاتها.

وبذلك، مادام الوقف الرهباني/الكنسي قد استمر في الوجود خلال المرحلة العثمانية، وبعضها قد ازدهر، فإنّ السؤال الأساسي الذي يجب طرحه يخصّ وضعها القانوني. من خلال تعريف العديد من أنواع الوقف، من المؤكد أنّ وقف الكنسية لا يمكن تصنيفه ضمن الوقف الخيري ما دام ذلك ليس نوعاً من وقف القرابة. العديد من العلماء الذين تناولوا موضوع «الوقف الكنسي» توصلوا إلى نتائج مختلفة. أكد ويتيك ولوميرل، من خلال الإحالة على فرمان (شركة) أنها تعود إلى دير كوتلومونسيو، بتاريخ (1491)، أنّ كلمة وقف استعملت للدلالة على «المالك»، حيث إنهم ترجموا الكلمة بنوع من التحفظ[11]. مع ذلك، كانوا متردّدين في تشبيهها، بشكل تام، بالوقف الديني الإسلامي الذي كان ملكاً لله، وتميّز بصفات دينية واجتماعية. وكان تفسيرهم لهذه الكلمة غير الملائمة مبنياً على الوضعية المميزة للأديرة الأثونية. صرح ويتيك ولوميرل أنّ الدولة العثمانية كانت تحترم الممارسات، وقدمت تسهيلات وامتيازات للأديرة كانت قد تمتّعت بها تحت حكم الإمبراطور البيزنطي[12]. وبذلك، «إنّ الأديرة قد حافظت على وضعية صاحب أرض فوق ملكياتها»[13].

ومن ناحية أخرى، يذهب فوتيك إلى أن تفسير الكلمة العربية «وقف» على أساس أنّها كان يتم استعمالها في الإمبراطورية العثمانية بمعناها العام جدّاً من أجل أهداف دينية لإرضاء الله دون مراعاة من قام بالوقف أهو مسلم أم غير مسلم (مسيحي، يهودي)[14]. ويدافع عن رأيه من خلال القول إنّ الوقف الديني كان مشروعاً في التفسير الحنفي للشريعة من خلال إحالته على مؤلف آخر هو أكجوندوز. بالنسبة إلى أكجوندوز، كان بإمكان مسيحي أن يسلم ممتلكاته لكنيسة أو دير، وبإمكانه كذلك أن يسلّم شيئاً للمصلحة العامة وأهدافا أخرى يتمّ اعتبارها ترضي الله بالنسبة إلى الإسلام: مثل السواقي، والمستشفيات، وغير ذلك[15]. ويقتبس فوتيك وثائق بوسكوف من أرشيفات دير شيلانداري، حيث تمّ استعمال كلمة وقف في حالة نزاع بين الأديرة في محكمة القاضي من أجل استنتاج كون الكلمة كانت تستعمل «للدلالة حتى على الهدايا والوصايا قبل تأسيس الحكم العثماني في البلقان، في زمن الحكام الصربيين والبيزنطيين»؛ وذلك من أجل التوصل إلى استنتاج مفاده: «إذا كنا، بالطريقة نفسها، نفهم معنى الوقف فقط كملكية مسلمة، فإنّه من الواضح جدّاً كيف يمكن لدير وممتلكاته أن تكون وقفَ ديرٍ، وتكون تابعة للتيمار، أو كيف يمكن لوقف دير أن يكون في أرض إسلامية عبارة عن وقف»[16]. إن رأي أكجوندوز (تبناه فوتيك) أنّ بإمكان مسيحي تقديم ممتلكاته لدير أو كنيسة ما دام المستفيد الأخير هو المعوز، كما سوف نرى أسفله، فيما يتعلق بالفرمان من جبل أتوس ودير سانت دجون الثيولوجي في باتمو[17]. مع ذلك، إنّ حجة فوتيك حول كون الوقف يعني الملكية المسلمة، على أساس أن الكلمة قد تمّ استعمالها «قبل تأسيس الحكم العثماني في البلقان»، تفشل في أن تأخذ في الاعتبار واقع كون الكلمات كانت تُستعمل من طرف قسّ كان يستعرض حالته أمام قاضي محكمة. وعليه، إنَّ من المفهوم أنّ استعمال مصطلحات مثل: وقف، أو وقف نامي، معتاد لدى القاضي. بالإضافة إلى تصريح فوتيك بأننا إذا ما نظرنا إلى الوقف «فقط بوصفه ملكية مسلمة، فإنّه من الواضح كيف أن وقف دير سيصبح على أرض مسلمة، فالوقف يمكن أن يساعد أفضل بوصفه مثالاً للملكية المزدوجة التي جرى بها العمل في الإمبراطورية العثمانية، تلك التي تخص الرقابة الخاصة بملكية وحق التصرف والانتفاع منها»[18]. ومن ناحية أخرى، يؤكّد فان لييفن أنّ «أحكام الوقف المؤسسة من طرف المسيحيين، في الفقه الحنفي، لا تختلف بشكل أساسي عن تلك التي تخص الإسلام»[19]. أحد أهم حدود هذا الوقف أن عائداته عليها أن تشكّل قرباناً. من خلال تحديد الفقراء بوصفهم مستفيدين من الوقف، كان مسموحاً بها. مع ذلك، لا يمكن أبداً تأسيس وقف مسيحي من أجل مصلحة مساجد أو إصلاح، وصيانة، وتوسيع البنايات الدينية، أو حتى من أجل إعالة الرهبان أو الراهبات «مادامت هذه المحددات كانت تختلف بشكل واضح مع مفهوم التقوى في الإسلام»[20]. الأكثر من ذلك، بالنسبة إلى فان لييفن، «أنّ الحدود المفروضة على تأسيس الوقف المسيحي في الإمبراطورية العثمانية كان الهدف منها هو منع الرهبان والكنيسة، بوصفها مؤسسة، من الحصول على مورد اقتصادي قوي ومستقل»[21]. دون شك، تبقى دراسة فان لييفن معقدة، ما دام يتعامل مع مسيحيين عاديين يبنون أديرة ويسجّلونها وقفاً. في مقاربته النظرية تجاه هذا الوقف يحاول جاهداً تفسير السبب في أن الوقف كان مشروعاً وغير قابل للإلغاء، على الرغم من أنه كان يتبع، تشريعياً، الفقه الحنفي. إنّ دليله من أجل تفاهم عام، حيث يُقبل هذا النوع من الوقف تحت صنفٍ «هدفه التقوى»، مع ما يرافق ذلك من حدود في استعمال الموارد المالية، يمكن أن يكون معقولاً. مع ذلك، يُضمن في الحدود المقترحة، فيما يخص الوقف المؤسس من أجل مصلحة الرهبان/الرهبان، نقطة مناقضة للمعلومات المذكورة في الفرمان لدى المجتمعات الديرية في صربيا، جبل إيثوس، وبحر إيجا[22]. بالإضافة إلى ذلك، إنّ نظرة فان لييفن، فيما يخص الحدود المفروضة على تأسيس هذا الوقف، تفسر رغبة السلطات العثمانية في منع الكنيسة والرهبان من امتلاك أساس اقتصادي قوي ومستقل تتعارض ومفهوم شيخ الإسلام التي ذكرها أبو السعود الذي، سنة 1569، واجه قضية التهديد بأن الأديرة في جبل إيثوس سوف يتم إفراغها من طرف رجال دينها حتى تتحقق مطالبهم، وقد وجد حلاً توافقياً كان مقبولاً بالنسبة إلى الجانبين[23]. إنّ الطريقة الوحيدة التي نستطيع من خلالها تحديد أيّ صنفٍ من الوقف تمّت دراسته من طرف فان لييفن وكان مقبولاً قانونياً، ستكون من خلال المقترح المستعمل في مؤسسة الوقف. بما أنه، مع ذلك، يبقى اهتمامه السابق كان هو الصراع السياسي حول التحكم في الوقف، لا يتطرق أبداً إلى مثل هذه المعلومات. إنه فقط يخبرنا أن الوثائق المؤسسة «لا تختلف بشكل أساسي عن الوثائق الموجودة في كتابه، والتي وضعها رجال سنة وغيرهم»[24].

هناك نقطة واحدة أخيرة يجب توضيحها قبل التعرّف إلى الطريقة التي تناولت من خلالها شخصية إسلامية، هي شيخ الإسلام أبو السعود، وهي تتمثل في مشكل وقف الكنائس والأديرة. على الرغم من أن مثل هذه الأوقاف كانت تتمتع بتسامح واسع من الإمبراطورية، وقد قامت جهود من أجل استيعابها، كما أنه لم يتم أبداً تصنيفها ضمن خانة الذميين المستفيدين من امتيازات خاصة من طرف الإدارة العثمانية.

تولى أبو السعود منصب شيخ الإسلام في تشرين الأول/أكتوبر عام (1545) في سن (55). لقد كان صديقاً لسليمان الأوّل، وكان تحت رعايته حتى وفاة هذا الأخير. واصل أبو السعود تقديم خدماته لسليم الثاني (1566-74) الذي تولّى الحكم بعد أبيه عام (1566). عندما جاء سليم إلى الحكم، كان أبو السعود عمره (75)، وكان من بين أقوى الشخصيات في الإمبراطورية. كان يتحكّم في التعيينات القضائية العليا، وضَمِنَ مراكز إدارية لأفراد عائلته وتلامذته. مات بعد ذلك يوم (23) آب/أغسطس (1574)[25]. أهم جزء من كتابات أبو السعود الفقهيّة خلال فترة إدارته التي تقدّر بــــ (28) سنة، كانت فتواه، متبعاً تقليد الفقهاء الحنفيين مثل القاضي خان ابن بزاز، وخصوصاً كمال باشا زادة، وحاول إعادة تعريف قوانين امتلاك الأرض والضريبة بشكل اعتمد فيه على الفقه الشرعي الحنفي[26]. كان هذا الأمر مهماً جداً لمّا كان في الإمبراطورية العثمانية نظامان قانونيان يتم التعامل بهما، وقد تم ظهور كلّ واحد منهما مستقلاً عن الآخر، وهما: الشريعة (القانون المقدس) والقانون (القانون الوضعي) الذي كان في جميع الحالات عبارة عن تنظيم للقانون العرفي الذي كان موجوداً. وقد صارت أحكام أبو السعود، فيما يخص امتلاك الأراضي والضريبة، المفاهيم المسيطرة في النظرية الحنفية حول الأرض، وقد تم جمعها في نظام قانون أراضٍ جديد سنة (1673)، وهو «القانون الجديد»، الذي بقي القانون الرسمي حتى ظهور قانون الأراضي العثماني سنة (1858).

كان اهتمام أبي السعود الأساسي هو اختلاس الأراضي وعائداتها، وكانت محاولته الأولى لتناول المشكل قد تمحورت حول القوانين التركيّة لهنغاريا سنة (1541)[27]. مع ذلك، أثبتت القوانين العرفية أنّها عنيدة. جاءت فرصته لكي يعزّز أحكامه التي وضعها بالنسبة إلى القانون التركي الخاص بهنغاريا، ويتأكد من تطبيقها عام (1568)، عامين بعد وصول سليم الثاني إلى الحكم. أشرف أبو السعود على تطوير نظام قانوني تركي من أجل تيسالونيكي وسكوبيا (1568-69)، وأمر بمصادرة وقف الكنيسة، على الأقل، بحسب علمنا، في البلقان. كان من عادة السلطان الجديد المصادقة على القوانين الجديدة التي وضعها سابقوه وكان أحد أوّل تعليماته إعادة تسجيل الممتلكات والضرائب في دفاتر جديدة. ونتيجةً لهذا الإجراء الجديد، فإنَّ كلّ الفرمانات والقرارات الملحقة بها، التي تعطي صفة القانونية للملكية، بما في ذلك تلك التي تعطي مشروعيّة للملكية الكنسية، كان يجب تجديدها. وقد وفر هذا مناسبة لأبي السعود لكي يؤكّد وضعية السلطان مالكاً وحيداً لمداخيل أراضي الدولة في الإمبراطورية.

في الفقرة الأولى من القانون التركي لأبي السعود يقوم بتوجيهٍ شديد اللهجة ضدّ «الافتراض الخاطئ» لمفهوم الرعاية والقضاة فيما يخصّ تملّك الأراضي:

لكن في السجلات العظيمة السابقة، لم يتمّ إعارة أوضاع الأرض أي اهتمام ضمن جهات المحمية. لم يكن هناك أي بحث أو توضيح لأصل وحقيقة المشكل: إذا ما كانت هذه الأراضي أسرية أو حراشية، وإذا ما كانت تابعة للتملّك الحرّ للمحتلين. لأجل هذا السبب، ظنّت الرعاية أن هذه الأراضي، في ملكيتها، كانت أراضي أسرية، وجادلت حول أداء الثمن من المحاصيل كضريبة. لقد ظنّوا أنّ تلك الأراضي ملكٌ لهم، وقاموا ببيعها وشرائها فيما بينهم تبعاً لافتراضاتهم الخاطئة. لم يكن الحكام ولا القضاة على علم بالحقيقة الخاصة بالوضع، وقد لحق ضرر يسير بتنظيم الأشياء، وبالناس، من خلال تقديمهم، في تناقض تام مع الشريعة، شهادات بيع وشراء ووقفيات[28].

في هذا القانون، يعيد أبو السعود النظرية القانونية للأرض والضريبة التي شكّلها في قانون هنغاريا. لقد جعل أراضي الميري التركيّة في مقابل المصطلح الحنفي «أراضي الملكية»، وفرّق بين الملكية الحقيقية وحق الانتفاع. في نظريته، عُدَّت الأرض ذاتها، بحكم القانون، في ملكيّة الخزينة. وبذلك، فهي في الواقع في ملكية السلطان بالنيابة عن الخزينة[29]. حصل الفلاحون على حق الانتفاع بها كأرض عارية[30]. أمّا التابو، التي هي قيمة مالية يدفعها المنتفع من الأرض مقابل الأرض للسباهي، فقد صُنّفت على أنّها إيجار مسبق.

في هذا التأويل، كان من الواضح أن يكون هناك مصادرة للوقف الكنسي الذي كان رأسماله مبنياً على أراضٍ في ملكية الدولة، ولمّا لم يكن للرهبان الحقّ سوى في الانتفاع من تلك الأراضي عن طريق الإعارة. وبذلك، لم يكن بمقدورهم تحويل الأراضي إلى وقف لما كانت لم تكن في ملكيتهم. مع ذلك، كان بمقدورهم الإبقاء على حقّ الانتفاع من خلال أداء ضريبة التابو على ما كان، في السابق، يُعدّ ملكاً حراً. بهذه الطريقة، كان بإمكانهم، من خلال أداء التابو للسباهي، الذي في هذه الحال هو السلطان، الحصول على حق الانتفاع. ولهذا السبب كان يجب على الأديرة أن تؤدي التابو قبل أن يكون بمقدورهم استعادة أخوياتهم السابقة.

في القانون التركي، نجد أبو السعود قد وضع فقرة تنطبق حتى على الأديرة:

... لا أحد من أولئك الأشخاص له القدرة على تملّك أراضيه بأي طريقة مخالفة لما تمّ إقراره. إنّ تملكهم الحر، أو تخليهم عن الملكية، أو تحويلها إلى وقف، من خلال شراء، وبيع، وهدايا، أو أي وسيلة أخرى، تُعدُّ كلّها غير قانونية، والوثائق (الحوشيت) التي تثبت ذلك والوقفيات التي أعطاها القضاة من أجل هذا الغرض، كلها غير صالحة...

إنّ الهدف الأساس هنا هو الحدّ من اعتبار المنتفعين من الأرض أنّها ملك لهم التي يمكنهم التخلي عنها برغبة منهم. لهذا السبب، تم منع أيّ بيع، أو تعهّد، أو إيداع[31]. إنّ عادة حصول الأديرة على شواهد تسمح بتحويل ملكيات الأراضي إلى وقف، أصبحت، حينها، غير قانونية.

إنّ المرحلتين الخاصتين بمصادرة الوقف الكنسي مسجّلتان في فرمانين: الأول موجود لدى دير سانت دجون الثيولوجية في باثموس تحت الرقم (أأ40)، 6 ظهير شيمازي 17/977 تشرين الثاني/نوفمبر (1569) الذي يشرع المصادرة، والثاني من أديرة جبل إيثوس، 13 شعبان 25/976 كانون الثاني/يناير (1569)، الذي يتعلّق بالمفاوضات بين الباب العالي والرهبان حول موضوعات عملية تنتج عن نظام المصادرة. إنّ واقع كون الفرمان الخاص بإيثوس، على الرغم من أنه سابق للذي يتعلّق بــــ باثموس، يتناول المرحلة الثانية من الحالة، يبين أن العملية كانت بطيئة ولم يتمّ انطلاقها في الوقت نفسه بالنسبة إلى جميع المجمعات الكنسية في البلقان.

في الفتوى الموجودة في الفرمان أأ40 المتعلقة بــــ باثموس، يحدّد أبو السعود بوضوح أيّ نوع من الوقف قانوني، وأيّهم ليس كذلك:

عندما كان يتمّ سؤال المفتي حول رأي شرعي في محميّة بلاد المتكلم، كان يقدم هذه الفتوى: «لا يمكن أبداً للذمّيين أن يجعلوا من الحقول والمراعي التي يستعملونها، أو حقول العنب، والبساتين، والمطاحن، والبيوت، والمحلات التي يملكونها، أن يجعلوها وقفاً لكنائسهم؛ إنّها جنحة كبيرة، ويجب مصادرتها. إذا أعطى القضاء وقفية، فإن ذلك كذلك يُعدّ غير شرعي أبداً. إذا كان أصحابها أو ورثتهم أحياء فإنها في ملكهم؛ وعليهم أن يأخذوها ويستعملوها، ويؤدوا ضرائب السيري والعرفي للميري. إذا كان أصحابها غير أحياء، فإنّها تعود كلها إلى الخزينة؛ يجب مصادرتها وبيعها بثمنها الحقيقي لأي شخص يطلبها. إذا لم يقم الأشخاص المذكورون بإجراءات التملّك الحرّ المذكورة للوقف الخاص بكنائسهم، لكنّهم إذا قاموا بالوقف، بالنسبة إلى الرهبان، والمعوزين، أو من أجل قناطر وينابيع ماء؛ وإذا حكم القضاة بأنّ وقفياتهم مشروعة، وقد تمّ تسجيلها بشكل صحيح في السيسيل، وكانت مشروعة وسيرية، يمكنهم استعمالها وفق الشروط المنصوص عليها، وأداء ثمن ضريبة السيري كاملة والعرفي لكلّ منهم[32].

بناء على ذلك، هناك سيناريوهان ممكنان: 1) كان يتمّ وقف الملكيات من أجل الرهبان، والمعوزين، والقناطر، والينابيع، 2) كان يتمّ وقف الملكيات من أجل الكنائس. في الحالة الأولى، الهبة صالحة ومشروعة، بشرط أن يتمّ تسجيل الملكية في السيسيل. في الحالة الثانية، كلّ ما تمّ وقفه من أجل الكنائس تتم مصادرته. إذا كان القضاة قد قدّموا وقفيات (شواهد وقف) فهي غير صالحة تماماً. في الحالة الأخيرة، اختلف مصير الملكيات بناء على ما إذا كان المؤسس أو الورثة أحياء أم لا: 1) إذا كان المؤسس أو الورثة أحياء كان باستطاعتهم إرجاع الملكية وأداء واجباتهم الضريبية؛ 2) إذا كان المؤسس أو ورثته ليسوا بأحياء فإن جميع الملكيات تصبح تابعة للخزينة ويجب مصادرتها وبيعها بثمن السوق[33]. الحجج القانونية المستعملة من أجل المصادرة واضحة. الوقف الكنسي قد خرق القانون بطريقتين: أولاً: تتكون بشكل عام من أراضٍ قروية، وهي، بحسب تعريف أبي السعود، كانت أراضي ميري. ثانياً: مثل هذه الملكيات تمّ تأسيسها من أجل انتفاع الكنائس والأديرة.

إن شرعنة أبي السعود لمنع وقف الكنائس لم يكن اعتباطياً: إنّ إنشاء وقف من أجل مصلحة الكنيسة يعارض المذهب الحنفي الأساسي. كما أوضحنا من قبل، هناك نوعان من الوقف: وقف خيري، وهو هبات ذات طبيعة دينية أو عمومية محددة (المساجد، المدارس، المستشفيات، القناطر، الينابيع)، ووقفٌ أهلي أو حر، وهو هبات عائلية من أجل الأطفال والحفدة أو قرابات أخرى.

لا يمكن للوقف الكنسي أن يندرج ضمن الصنف الأول مادام هدفها لا يتوافق مع الإسلام، يمكن أن يتم جعلها وقفاً عائلياً فقط، وفي تلك الحالة، «الورثة»، إلى جانب الفقراء والمسافرين المستفيدين من الهبات، سيكونون هم الرهبان المقيمين في الكنسية. وبشكل واضح، إنّ تعريف الهدايا الدينية المسيحية في التشريع الإسلامي، بوصفها وقفاً عائلياً، يفرض عدداً من المشكلات، ولم يكن أبو السعود بشكل عام موافقاً على هذا النوع من التعريف. وهذا واضح في فتوى تلي سؤالاً حول ما إذا كان الرهبان في إمكانهم توريث الملكيات لرجال دين آخرين يقيمون في الكنيسة نفسها:

السؤال: هل في إمكان الرهبان في كنيسة أن يورثوا الرهبان، الذين سيعيشون في الدير بعدهم، حقول العنب، والبيوت، والأراضي التي اشتروها من خزانة الدولة؟

الجواب: إذا لم يكن هناك ورثة، وإذا ما أوصوا بجميع ممتلكاتهم، للرهبان الذين يقيمون في الدير نفسه؛ وافتراضاً؛ لأن الرهبان (المتحدّث عنهم) محدودون في مجموعة معينة بشكل تام، سواء كانوا أغنياء أم فقراء، فإنّ ما يوصون به مشروع. لكن، إذا كانوا متعدّدين ويتكونون من مجموعة واسعة، فمن الممكن تخصيص وصيّة لهم جميعهم. إنه يجب، لكيلا يتدخل أحد، أن يتمّ ترك وصية للفقراء من بينهم. إذا كان لهم ورثة، فإن في إمكانهم رفض أي وصية لطرف ثالث. ليس في إمكانهم التدخل في الثالث. بهذا الشكل، لا يمكن لأحد أن يعارض. إذا قبل ورثتهم بهذا الإجراء، فإنّه يكون صالحاً ومشروعاً بكامله ولن يتدخل أحد. مع ذلك، يجب أن يكون هناك مرسوم سلطاني يمنع تدخل أي أحد في أراضيهم[34].

إن العقبة الأولى التي يجب تجاوزها، آنذاك، هو مصير الملكيات في حالة وصية. في هذه الفتوى، يتم الإصرار على تطبيق التشريع الحنبلي في مجال الإرث على التجمع الكنسي. وبالنظر إلى هذه الفتوى، لا يستطيع الرهبان في الكنيسة أن يرثوا، إلا إذا تخلّى كلّ الورثة عن حقّهم في ميراث المتوفّى. وسيكون هذا مستحيلاً ما دام الميراث، في التشريع الحنفي، لا يتمّ تقديمه إلى الأقرباء المباشرين، وكل وارث له الحق في نصيب محدد من ملكية الميت. لكن يقرّر أبو السعود، بعد ذلك، أنّه في حال عدم وجود ورثة أحياء، يمكن توريث الملكية كلّها للرهبان المقيمين في الكنيسة، سواء كانوا أغنياء أم فقراء، لكن بشرط أن يكونوا مجموعة محدودة ومحدّدة بشكل تام. إذا كانوا جماعة كبيرة -يواصل- يجب ترك وصية للفقراء من بينهم. للأسف، الفتوى غير مؤرخة، وبذلك نحن لا نستطيع تحديد ما إذا كانت قد ظهرت في بداية عملية المصادرة، أو أنها ظهرت ردَّ فعلٍ تجاه التعقيدات الناتجة عن ذلك. في الحالتين، يقترب أبو السعود من الاعتراف بالرهبان تجمعاً، في إطار حدود تقليد شرعي لا يعترف بالمؤسسات بوصفها كيانات قانونية.

أما في الفتوى التي تمّ ضمها إلى فرمان سليم الثاني بتاريخ (31) كانون الثاني/يناير (1569)، فقد كان أبو السعود أكثر جرأة تجاه رهبان دير جبل إيثوس؛ إذ طالب الرهبان بالاعتراف بحقّهم البيزنطي في الإرث فرادى وجماعات لميراث الموتى والراحلين من الرهبان، مهدّدين بإخلاء أديرتهم وحرمان الخزينة من ضرائبهم إذا لم يتم تحقيق مطلبهم. لقد طالبوا بهذا من أجل حماية ممتلكاتهم وشركاتهم من التدخل غير القانوني للسلطات المحلية التي تهدف إلى نزع أموالٍ أكثر منهم:

في الوقت الحالي، تقدّم الرهبان الموجودون في الأديرة على مستوى الساحل في إيونوروز التابعون لقضائكم، تقدّموا بعارضة للمقام العالي: إنّ مزارعنا، وحقول عنبنا، وبساتيننا، وحقولنا، ومطاحننا، ومحلاتنا، ومنازلنا، وخماراتنا، وحيواناتنا، ومراعي ماعزنا في سهل لونجوس، وكلّ ما تملّكناه منذ زمن بعيد، بشكل خاص وعام، حتى يومنا هذا في القضاءات المذكورة سابقاً، فان أملاك وبهائم أديرتنا قد تمّ بيعها كلّها من طرف الميري. من خلال تعاون متبادل، حصلنا على قرض قدره (14.000) قطعة ذهبية. نحن -رهبان تلك الأديرة- قد حصلنا على الأراضي والحيوانات المذكورة التي اشتريناها من أجل تملكها، ومن أجل هذا الهدف. بناء على القرار السابق لا راهب واحداً في أديرتنا له الحقّ الشخصي والحرّ في امتلاك حقول ومزارع العنب، والمطاحن الهوائية، والبساتين، والمزارع، والحيوانات، وهي كلّها لا تتبع الأديرة إلا بهدف إطعام المسافرين. الأمين، أمين الخزينة العامة، والمفتش، والناظر، والرقيب، عليهم أن لا يتدخّلوا، بأي شكل من الأشكال، في الممتلكات والحيوانات المذكورة. عندما يموت أحد الرهبان في أحد الأديرة أو ينتقل إلى جهة أخرى، على الأمين والمفتش وباقي الموظفين أن لا يأتوا لإزعاج الرهبان الآخرين تحت ذريعة «أنه مات أو رحل إلى منطقة أخرى». أين ملكيته، وما الذي حلّ بممتلكاته ولباسه وحيواناته؟ إذا ما تم تأكيد القرار الأخير، بشكل يوازي التعليمات العليا التي تخص ممتلكاتنا التي حصلنا عليها منذ زمن السلطان الأخير، السلطان مراد خان، وإذا ما تمّ تقديم تأكيد إمبراطوري لنا، فسوف يخرج كلّ واحد منا إلى الشارع لجمع الزكاة، لكي يؤدّي كلّ منا (14.000) قطعة نقدية هي في ذمتنا قرضاً. وسوف يكون علينا كلّ عام، وفق القانون الضريبي، أداء (70.000) اكسيس (عملة)؛ علينا أداؤها كلّ عام خلال أول يوم من بداية السنة الجديدة (22 آذار/مارس) لخزينة الدولة. لقد اشترينا كلّ ممتلكاتنا في ليمنوس وأماكن أخرى هي خارج الأديرة المذكورة بــــ (130.000) اكسيس من الأمين، بالطريقة المنصوص عليها في المرسوم العالي. في زمن درس الحنطة، ندفع عشر المحصول عن عشر أراضينا بعلم القاضي، بشكل يلائم دفتر الولاية. ونأخذ الباقي إلى شبه الجزيرة تلك بشكل يلائم القرار العالي، ونوفر وسائل عيش وبقاء لساكني الجزيرة والمسافرين. وإذا ما لم تصدروا مرسوماً ملكياً تأكيدياً لكي ينعم علينا في علاقة بالقرار السابق، وإذا ما بعنا الممتلكات وأدينا ثمن القرض الذي نتحمّل مسؤوليته، فسوف نتشتّت كلّنا حول العالم، ومن المؤكد أنّ أديرتنا سوف يتمّ إخلاؤها، وضرائبنا، التي كنّا نؤديها بشكل معتاد كلّ عام، سوف يتم إيقافها.

لمّا طالبوا بهذا تمّ إصدار فتوى خاصة بهذا الموضوع...عليكم تفحص الوقف الخاص ب...أبنائهم المعوزين في الأديرة والمسافرين الذين يجيئون ويذهبون ومن يسهر عليهم(؟). ما يحصلون عليه من مداخيل ومصاريف (منح)، بعد أن تمّ جعلها وقفاً، وتسليمه للقيم، وبعد أن تم تحديد الوقفية من طرف القاضي، بشكل يتلاءم مع الشريعة لا يحقّ لأحد أن يتدخل أبداً. يجب أن لا تغيروا الأوضاع، لكنّها ليست ممتلكاتهم الحرة. الحقول والمزارع، والمراعي الصيفية والشتوية، التي حصلوا عليها من الميري عن طريق التابو، أو التي حصلوا عليها من خلال «الشراء» من الرعاية، كلّها في يد السلطان. لا يمكن أن تصير ملكاً حراً لأيٍّ كان، مسلمين كانوا أو غير ذلك. للرعاية حقّ التصرف عن طريق الإيجار، وليس لديهم الحق في الشراء أو البيع أو الإفراغ أو فعل أي شيء. بهذا الشكل، يكون وقف الرهبان المذكورين وأوضاعهم غير شرعيّ أبداً. مع ذلك، لقد كان الميري رحيماً بالرهبان المذكورين. عليهم زراعة وحصاد الأراضي المذكورة، وتسديد العشر مثل باقي الرعية، ورعي حيواناتهم في المراعي الصيفية والشتوية. لا أحد يجب أن يتدخل بعد تأدية واجب مقاطعاتهم المسجلة في دفترنا. إذا مات أحدهم، لا يجب أن تقدم عن طريق التابو (العمل)، بناء على أنّ له حصته من الممتلكات في المكان نفسه، لكنّ الباقي منهم عليهم أن يتوافروا على حقّ «تصرف» في نصيب الميت. في إمكان الشريعة أن تصحح الأمور فيما يخص هذا الجانب، ومن أجل إصدار مرسوم عالٍ كما تمّ التنصيص عليه بشكل مفصل. لا أحد عليه أن يتدخل في حال خرق الفرمان الإمبراطوري. إنّ سبب التدخل الآن هو أنهم حصلوا على ممتلكات من خلال شراء وبيع مجالات ملكية تابعة لمجال الرعاية من خلال تحويلهم إلى ما يسمى وقفاً خاصاً بالأديرة، كما أنهم حاولوا الحصول على وثائق حوشيت ووقفيات. لم يكونوا يؤدّون العشر الواجب أداؤه من طرف الشرع، لكنّهم يؤدون اقتطاعات ضئيلة. لأنّه من الواضح جداً أنهم ألحقوا الضرر بخزينة المسلمين، وتصرفوا بشكل منافٍ لغاية الشريعة المقدسة وخانوا دون حياء مجد السلطنة[35].

إنّ مضامين هذا التصريح في غاية الأهمية. من خلال حرمان الورثة الطبيعيين الممكنين للميت من حقّهم، يتبين أن أبا السعود، من خلال نظرة أولى، يعارض الأحكام الحنفية المتعلّقة بالإرث. مع ذلك، لمّا كان الرهبان الباقون لديرٍ ما لا يؤدّون ضريبة دخول (تابو) لكي يحصلوا على حقّ الانتفاع من الأرض، عملياً، تتم معاملتهم مثل ابن فلاح ميّت يستطيع وراثة حقوق أبيه في الانتفاع دون أداء ضريبة دخول. لا تتم معاملة الرهبان بوصفهم غرباء، عليهم أداء ضريبتي التابو والسباهي. وهذا يعني أنّ الرهبان في ظلّ الكنيسة يُعاملون بوصفهم عائلة. ومثل أي أخوية عائلية، يمكنهم القيام بوقف من أجل مصلحة الأفراد الفقراء والمعوزين، والمسافرين، والمعتمدين على الدير وأبنائهم، ما يعني، عملياً، باقي الرهبان. وهذا مثال حي على براعة أبو السعود. فهو يطبّق أحكام المذهب الحنفي فيما يخصّ الإرث، لكنّه يعيد تعريف الرهبان في الكنيسة بوصفهم عائلة، وهو بذلك يعترف بتجمّعهم مكوناً أساسياً في التقليد الكنسي البيزنطي بينما، في الوقت نفسه، يأمر الرهبان بوضع وقف بأسمائهم الخاصة وليس باسم الدير.

لقد كان أبو السعود واعياً جداً بآثار تنازلاته تجاه الرهبان في جبل إيثوس. إنه يعترف بمزالق هذه «الأزمة التقنية»، وقام بإصدار فتوى بسرعة تحدّ من ادعاءات مشابهة من طرف أديرة أخرى. عندما سئل: هل يمكن للرهبان أن ينشئوا أخويات قطعان، ومزارع عنب، وبساتين، ومطاحن لمصلحة الفقراء وعابري السبيل، أجاب أبو السعود بأن ذلك ممكن بشرط ألا يكون أخوية لمصلحة الكنيسة أما الأراضي للزراعة فلا تمنح[36].

سؤال: يصبح بعض الرعايا المسيحيين الرهبان في كنائس. أمين السجلات الخاص بالمقاطعة يأخذ منهم قطعانهم، ومزارع عنبهم، وبساتينهم، ومطاحنهم التي هي في ملكهم، ويبيعها لهم مرة أخرى. إذا حولوا الملكية المذكورة إلى أخوية من أجل الفقراء وعابري السبيل، فهل في إمكان شخص خارجي أن يتدخل في الأخوية المذكورة؟

الجواب: إذا كان ما حولوه إلى أخوية أشياء مثل: حيوانات، ومزارع عنب، وبساتين، ومطاحن، وحوانيت، ولما كانوا لا يضعونهم في أخوية من أجل الكنيسة لكن من أجل الفقراء وعابري السبيل، فلا أحد يمكنه التدخل في هذا الشأن. أما الحقول والأراضي الصالحة للزراعة فلا يمكن أبدا تحويلها إلى أخويات، لكن يمكن الحصول عليها من الفسك (خزانة الدولة) بعد تأدية ضريبة التابو، ولا أحد يمكنه أن يتدخل، بناء على أنه هناك فقرة في السجل العقاري تقول: على الرهبان أن يتملكوا الأراضي، وبعد أن يكونوا قد أدوا جميع واجباتهم مثل باقي الناس، لا أحد يتدخل. عندما يموت الرهبان، على الذين يحلون محلهم أن تكون لهم ملكية، هذا مع شرط أن لا تكون الأراضي قد سُجّلت كأخوية.

في هذه الفتوى، يصرح أبو السعود أن الفقراء وعابري السبيل هم المستفيدون من الوقف، الذي لا يستطيع، مع ذلك، أن يكون خارج الأراضي الصالحة للزراعة. حتى الآن، يطبق أبو السعود الأحكام الحنفية على الأخويات وشروطه لمنع الأراضي الصالحة للزراعة من تحويلها إلى أخويات. مع ذلك، يسمح بعد ذلك الرهبان بأن يتم اعتبارهم جسداً واحداً، لهم الحقوق نفسها، أي مستفيدون من وقف عائلي؛ أي إن الرهبان يمكنهم تلقي ملكية تعود إلى رجال دين ميّتين دون تدخل السلطات المحلية، مع اعتبار وجود فقرة في السجل العقاري تشترط وجود هده الحالة. ما يقوم به، في الواقع، هو التغطية على فتواه كما لو أنها تنبع بشكل خاص من السجل العقاري، في حين أنه يمكن أن يكون هو الشخص الذي نصح السلطان بتضمين الفقرة في السجل من البداية. هذا هو الدليل الذي يمكن أن يكون قد استعمل لإبعاد التجمعات الكنسية الصغرى عن هذا الامتياز.

إنّ النتائج التي يمكن استخلاصها من مصادرة الوقف الكنسي سنة (1568-69) مهمة جداً؛ فمن الواضح، من خلال اتصالات الرهبان في جبل إيثوس والباب العالي، أنّ الحالة التي نتعامل معها كانت مجرد إعادة ترتيب وإعادة تعريف لشروط توافق بين الجانبين. إنّ الموضوع الأهم كان هو الوضعية القانونية للملكيات الكنسية قبيل نهاية القرن السادس عشر في البلقان. بطبيعة الحال، لم يكن جدالاً يتعلّق بالشروط القانونية التي تحدّد الملكية والانتفاع من الأراضي والملكيات، لكنّه عكس اهتمام الإدارة العثمانية بفقدان مصالح مادية من خلال قواعد امتلاك واستغلال الأراضي التابعة لخزينة الدولة.

يعترف أبو السعود أنّ الأديرة كانت تشتغل بشكل عام بوصفها جسداً واحداً. وعليه، عندما طالب الرهبان بأن يعاملوا كذلك، وبشكل خاص فيما يتعلق بما إذا كان عليهم أن يؤدوا ضريبة التابو من أجل الحصول على المنفعة الخاصة بالممتلكات التابعة لميت أو الرهبان المنتقلين، أصدر حكماً لصالح الأديرة. لقد كانت مهمته صعبة لما كان الوقف الكنسي، أولاً، لم يكن مسموحاً به في التشريع الإسلامي، وكان عليه حينها أن يصنّفهم بشكل مخالف، وثانياً، كان على هذا التصنيف الجديد أن يعترف بالميزة الاجتماعية للتجمع الديني. إنّ الحل الذي اقترحه كان عملياً ومشروعاً. لقد صنّف الوقف الكنسي وقفاً عائلياً، معاملاً رجال دين الدير بوصفهم عائلة رجل الدين المتوفى. من خلال هذا الخيال القانوني، يمكنهم الاستمتاع بامتيازات مثل الإعفاء من ضرورة أداء التابو، كما يرث الابن التابو الذي أداه أبوه على ممتلكاته. وبذلك حاول أبو السعود أن يتأكد من أن الأديرة لن تعود إلى «سوء فهمهم» القديم. لقد أكد أنّ الرهبان في إمكانهم تحويل ملكهم إلى وقف بشكل فردي، وأنّ الوقف الكنسي يبقى غير مشروع. إنّ خيال أبو السعود القانوني، الذي استعمله في مصادرة ملكيات الأديرة، هو دليل على رغبته في التعامل مع الحادث بوصفه موضوعاً إدارياً، ويفسّر شهرته على أنه الفقيه الذي صالح العرف مع النظرية القانونية الإسلامية.

مع ذلك، اتباعاً للحجج الخاصة بالجزء الأول من هذا المقال، سيكون من المغامرة ادعاء أنّ الوقف الكنسي/الديري كلّه كان يسمح له بالاشتغال بناء على الوسيلة القانونية نفسها. إنّ أبحاثاً أخرى عن الوقف من مناطق مختلفة من الإمبراطورية، كانت لتتيح لنا نظرة موسعة أكثر إلى مؤسسة الوقف، إذا تخلّينا، بطبيعة الحال، عن الفكرة القائلة بأنّ النظرية الشرعية الإسلامية في الإمبراطورية العثمانية كانت ثابتة ولا تتجاوب مع مطالب المجتمع بشكل عام.

[1]- Richard Van Leeuwen, Notables and Clergy in Mount Lebanon: The Khazin Sheikhs and the Maronite church, 1736-1840 (Leiden, 1994), 24

[2]- Uriel Heyd, studies in Old Criminal Law, V. L. Menage, ed., (Oxford, 1973); Joseph Schacht, An Introduction to Islamic Law (Oxford, 1966); Uriel Heyd, `Some Aspects of the Ottoman Fetva,' British School of Oriental and African studies, 32(London, 1969), 35-36 ; Haim Gerber, `Sharia,' Kanun and Custom in the Ottoman Law: The Court Records of 17th Century Bursa,' International Journal of Turkish studies 2 (1981), 131-47

[3]- Roland Jennings, `Kadi Court and Legal Procedure in 17th Century Ottoman Kayseri,' studies Islamica 48 (1978), 133-72 ; and ibid., `Limitations of Judicial Powers of the Kadi in 17th Century Ottoman Kayseri,' Studies Islamica 50(1979), 151-84

[4]- Heffening, `Waqf or Habs,' EI1, pp.1069b-1098a

[5]- لقد قبل أبو يوسف الهبة لنفسه. يوفر الشافعيون حلاً قانونياً يسمّى الحيلة لكي يتفادوا هذا الوضع: إنّ الشيء الذي يكون موضوع الهبة يجب تقديمه أو بيعه بثمن رخيص لشخص ثالث. وهذا الأخير في إمكانه أن يودعه لدى المالك الأصلي. يحيل ابن الحجار على طريقة أخرى مرفوضة من طرف الآخرين: يتمّ وقف شيء ما باسم الأطفال التابعين للأب المستفيد بينما يتم قصده هو. المرجع نفسه، ص1069ب.

[6]-joseph Schacht, `Early Doctrines on Waqf,' 60. Dogun yili munasebetyle Fuad Koprulu Armagani; Melanges Fuad Koprulu (Istanbul, 1953), 443-52

[7]- Colin Imber, Ebussuud and the Islamic Legal Tradition (forthcoming), 2.

[8]- بشكل خاص، جميع الوثائق أو الأرشيف الموجود في جبل إيثوس وفي باتموس يحتوي على سلسلة من الوثائق تنظم العلاقة بين الإمبراطور البيزنطي والأديرة. طلبات استعطاف من أجل تقديم امتيازات بالنسبة إلى الأديرة أو تدخل الإمبراطورية من أجل حماية الأديرة موجودة بكثرة. انظر: era Vranousi, `Byzzantine eggrapha tes Mones Patmou' (Byzantine documents of Patmos Monastery), (athens, 1980), Vol. 1; Nkolaos Oikonomides, Actes de Dionysiou = Archives de l'Athos (Paris, 1968), Vol. IV; Jaceques Lefort, actes d'Esphegminou = archives de l'Athos, (Paris, 1973), Vol. VI.

[9]- توجد بيبليوغرافيا واسعة جداً تتعلق بدور المجتمعات الديرية ودورها في البرونواريوي (تلقي، نظرياً وبشكل غير توارثي، لعائدات مادية مقابل العمالة) بالإضافة إلى استغلال الأراضي الديرية خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. انظر: A. L. Thomadakis, Peasant society in the Late Byzantine Empire, a social and Demographic study (Princeton, 1977); P. Charanis, `The Monastic Properties and the state in the byzantine Empire,' Dumbarton Oaks Papers 4 (1948), 53-118; G. Ostrogorsky, Pour l'Histoire de la Feodalité Byzantine (Brussels, 1954), vol. 1; and Quelques Problemes d'Histoire de la Paysanerie Byzantine (Brussels, 1956).

[10]- بالنسبة إلى نظام الميليت المتعلّق بالحكومات ذات الحكم الذاتي تحت قيادة رجال دين، وجدت الكنيسة الأرثوذكسية نفسها في وضعية أكثر قوة من الماضي. انظر: E. Zachariadou, `Symbole Sten Historia tou Nationalikou Aigaiou' (Contribution to the history of southeast Aegean) in E. Zachariou, Romania and the Turks, c.1300-c.1500 (London, 1985), 197.

[11]- P. wittek and P. Lemerle, `Recherches sur l'histoire et les status des monsteries athonites sous la domination turque,' archives d'histoire du droit oriental 3 (1947), 428

[12]- المرجع نفسه، ص1-428

[13]- المرجع نفسه، ص430

[14] -A. Fotic, `the Official Explanation for the Confiscation and Sale of Monasteries (Churches) and their estates at the tile of Selim II,' Turcica 24 (1994), 43

[15]- ibid., p. 3. Ahmet Agunduz, Islam Hukukunda ve Osmanli Tatbikatinda Vokf Muessesessi (ankara, 1988), 173-4.

[16]-Fotic, `Confiscation and Sale of Monasteries,' p.43

[17] -See Eugenia Kermeli, `The Confiscation of Monastic Properties by Selim II 1568-1570' (unpublished PH.D thesis, Manchester, 1955).

[18]- موضوع الملكية المشتركة تمّ التعامل معه من طرف شيخي إسلام اثنين: أبو السعود في القانونامي فيما يخص هنغاريا عام 1541، وكمال باشازادي في الفتوى، وهما منشوران في «قانوني شديد»، فؤاد كوبرولو، تنسيق ميلي تيتيبورلر مكمواسي (اسطنبول، 1913)، 49-50 و54-55 تباعاً. من أجل ترجمة للوثائق الكاملة انظر كذلك، Imber, Abussuud, p. 5-23

[19]-Van Leeuwen, Notables and Clergy, p.30

[20]- المرجع نفسه، ص30

[21]- المرجع نفسه، ص21

[22]- من أجل الوضع في صربيا، انظر: Fotic, `Confiscation and Sale of Monasteries,' pp.63-7, من أجل الوضع بالنسبة إلى أديرة جبل إيثوس وباتموس. انظر: Kermeli, `Confiscation,' pp.278-314

[23]- انظر فتواه أسفله المتضمّنة في الفرمان فيما يخصّ أديرة جبل إيثوس.

[24] -Van Leeuwen, Notables and Clergy, p.32

[25]- بالنسبة إلى حياة أبو السعود انظر: Imber, Ebussuud, pp.6-19; Richard Cooper Repp, The Mufti of Istanbul: A study in the Development of the Ottoman Learned Hierarchy (Oxford, 1968), 272-96

[26]- Imber, Ebussuud, pp.20-44

[27]- «القنوني شديد»، تنسيق فؤاد كوبرولو، ميلي تيتبولر ميكمواست (اسطنبول، 1913)، 49-50. من أجل فكرة عن أسلمة القانون العثماني بما يخص الأرض ومكوس الأرض، فيستكابي يوسف معطوز: عثمانيستيك-توركولوجي-ديبلوماسي (برلين، 1992)، 101-18. H

[28]-Omar Lutfi, Barkan, Kanunlar, pp.298-9

[29]- Imber, Ebussuud, p.74

[30]- Barkan, Kanunlar, p.298.القانونامي الخاص بــــ ثيسالونيكي وسكوبي يتضمن إضافة إلى جانب هنغاريا.

[31]- من أجل الفتوى التي تتعامل مع المشكل نفسه. انظر: «قانوني شديد»، MTM, 57

[32]- Patmos, File. Aa40

[33]- كان هذا هو الحال نفسه لجميع الملكيات التي تنتمي إلى دير باتموس كما تمّ التوصل إليه من خلال الحوشيت الخاص بالبيع. انظر: Kermeli, `Confiscation,' Appendix

[34]- Ertugrul Dezdag, Sheyhulislam Ebussuud efendi Fetvalari Isigiuda 16. Asir Turk hayati (Istanbul, 1972), D.452, 103

[35]- من أجل النص الكامل للفرمان انظر: Kermeli, `Confiscation,' Appendux

[36]- Duzdag, `Fetwalan, D.453, p.103. مصادر من الأرشيف: Ben Zvi Institute, Jerusalem (Goitein collection) 136; 138; 184; 188; 301; 304; 319; 320; 362.9; 362.10; 362.11; 362.15; `Farz' (not numbered). مصادر المعلومات: السيدة شودهيا مظار (اليخين، 21.9.94© السيد أبراهام الصايغ (اليخين، 21.9.94©