الأنتولوجيا والزمانية - خطخطة تأويل جامع للـوجود والزمان


فئة :  ترجمات

الأنتولوجيا والزمانية - خطخطة تأويل جامع للـوجود والزمان

الأنتولوجيا والزمانية

خطخطة تأويل جامع للـوجود والزمان 

جان غرايش

ترجمة:

محمد أبو هاشم محجوب

 تصدير

يمثّل الكتاب الذي بين أيدينا الاستئناف المبلوَر لدرس في الأنتولوجيا قُدِّم خلال السنة الجامعية (1991-1992) في كلية الفلسفة التابعة للمعهد الكاثوليكي في باريس، وهو يندرج في إطار بحث أنتولوجي أقدم من ذلك، نُشر مجلدٌ أول منه في شكل درس مستنسخ من قِبل جمعية أندري-روبار [André - Robert][1]. ولأني تركتُ التحقيقَ التاريخيَّ المتعلّقَ بالمحطات الكبرى لصياغة مشكل الزمان في تاريخ الفلسفة الغربية، إلى عمل يُنشر لاحقاً، فإني أحاول هنا عقد حوار مع الفيلسوف الذي أعطى هذا المشكل في الزمن المعاصر عبارته الأشدَّ كثافة، حتى جعل منه مركز ثقل كلّ بحث أنتولوجي، وأعني مارتن هايدغر [Martin Heidegger].

ولقد حدّدتُ، عن قصد، حقل استقصائي بمرحلة معينة جداً من الفلسفة الهايدغرية؛ أي الفترة التي تمتدّ من (1919) إلى (1928)، التي توافق البلورة البعيدة أولاً، ثم القريبة، من (الوجود والزّمان)[2]. ولا يتعلق التأويل، الذي نقترحه هنا، فقط، بالكتاب الإمام الصادر سنة (1927) تحت هذا العنوان، وإنما هو يريد تفهيم ما يمكن تسميته «حضيرة الوجود والزمان»؛ أي جملة المشاكل الفلسفية التي وجدت عبارتها المثلى في هذا الكتاب. ولقد بدا لي من المفيد، لأسباب أترك حرية الحكم عليها لقرائي، أن أفتتح عرض هذه الحضيرة باستعادة للدروس التي باتت اليوم متاحةً من فترة فرايبورغ، حيث يضع هايدغر على الطريق برنامج «تأويليات للحدثية»[3] حوّلها منذ (1923) إلى أنتولوجيا. ومن جهة أخرى، بدا لي ضرورياً أن يمتدّ التحقيق إلى ما بعد نشر (الوجود والزمان)، وأن يُضبَط له، كحدّ «منطقي»، التأويلُ الذاتيُّ الكبيرُ الأولُ لسنة (1928). وهكذا، إن كامل عشرية هايدغر الفينومينولوجية هي التي تمثل الإطار الزمني لهذا التأويل.

لم أشأ، ضمن عرضي هذا، أن أحجب القصد والأسلوب التعليميين لتحليل كان في الأصل درساً بسيطاً لطلبة المرحلة الثانية من الجامعة؛ ذلك ما يفسر العدد المرتفعَ بعض الارتفاع للرسوم، التي لا يرشح منها مع ذلك [VI] أيّ ادّعاء لبلورة رواية أخرى للتّحليلية الكيانية[4]، على جهة الـبرهنة الهندسية [more geometrico demonstata]. وكذلك يجري الأمر على النصوص الفلسفية، أو التي من خارج الفلسفة، والتي أدرجت ضمن «النوافذ». فهي ليست معدّة فقط «للتمثيل» لهذا الإقرار الهايدغري أو ذاك. وإنما هي تطمح كذلك إلى أن تذكّر بأنّه من الضروري دائماً أن نذهب إلى «الأشياء عينها». فأوّل أهداف الأسلوب المعتمد في الشرح إنّما هو، في واقع الأمر، أن نوفّر من جهةٍ مفاتيحَ التأويل التي لا غنى عنها في قراءةٍ مفكرةٍ للنص، ومن جهة ثانية، أن نطلق، حول عدد من المشاكل، نقاشاً حول ما يتعلق به الأمر من «الأشياء عينها».

أودّ أن أُهدي هذا الشرح إلى طلبتي الفلاسفة واللاهوتيين في المعهد الكاثوليكي، وقد كانوا أول المتلقين له. ولا بد لي من إسداء الشكر بشكل أخصّ إلى زميلتي، جنفياف هيبرت [Geneviève Hébert]، على مساعدتها. ولولا تفانيها وخصالها البيداغوجية في تسيير الأشغال المسيرة، لما كان لي، على الأرجح، أن أتجاسر على الإلقاء بنفسي في هذه المغامرة[1]

مدخل تاريخي

من تأويليات الحدثية إلى الأنتولوجيا الأساسية

(1919-1928)

سيكون علي أن أدقق لاحقاً ملمح التمشي الذي أعتزم إعطاءه لـ «شرحي» للوجود والزمان. وسأدخل بداية فرضية أساسية أولى: إنّ هذا الكتاب لا يصبح مفهوماً بحقّ إلا متى تمّ ربطه بحضيرة الأسئلة التي يُعمِلها هايدغر في تدريسه وفي بعض منشوراته النادرة خلال العشرينيات. سيكون لنا، بطبيعة الحال، أن نتساءل عن معنى بقاء هذا الكتاب غير مكتمل. ومع مراعاة الفوارق، ينبغي مبادأتُه كمثل ما نبادئ ميتافيزيقا أرسطو، أعني كحضيرة هائلة.

كيف يمكن تخصيص هذا الكتاب؟ ثمّة تقليد تأويلي قوي جداً، يعضده ويقف وراءه هايدغر نفسه، لا يريد أن يقرأ فيه إلا سؤالاً واحداً أحداً، هو سؤال معنى الوجود. ومع ذلك، فرغم أن هايدغر أراد أن يكون تأويل مسار فكره على هذا النحو، ورغم أنّه -لا شك- كان يملك أسبابه الوجيهة لاقتراح شبكة القراءة تلك، فإنّ الحالة الراهنة للمدوّنة الهايدغرية تجبرنا على وضع هذا التأويل موضع السؤال، وعلى الإقرار بتفاوتٍ ما بين التأويل النسقي للفيلسوف وبين الفكر الهايدغري في تكوينه الفعلي، الأعقد بكثير ولا شك. أريد في هذه المقاربة التمهيدية للإشكالية الهايدغرية أن أعطِي الأولوية للتّحليل التّاريخي الحريص على أن يتتبّع خطوة خطوةً، وباعتبار النصوص المتوافرة حالياً، التكوُّن الحقيقي للفكر الهايدغري، إلى حين تحرير زاين أُنْدْ تْسايت. وإنما نحن في أثناء ذلك سنقوم بضرب من «الزيارة للحضيرة»، زيارةً ستؤهّلنا بعد ذلك إلى أن نُبادئ بأكثر يسراً، إذا جازت العبارة، عمل الشرح في معناه المخصوص.

وهاهنا ستكون مهمتنا أوّلاً أن نكوّن لأنفسنا فكرةً فيها ما يكفي من الدقة عن التكوّن الفعلي لفكر هايدغر الشاب. ويمكننا هنا أن نعوّل على عدد من الأعمال النافذة. فبالإضافة إلى الأعمال الكلاسيكية لــ أوتو بوغلر [Otto Pöggeler][5]، وتوماس شيهان [Thomas Sheehan][6]، و[2] كارل ليهمان [Karl Lehmann][7]، سأنصص بشكل خاص على التحقيق الهائل الذي خصصه مؤخراً ديتر توماي [Dieter Thomä] لتاريخ النصوص الهايدغرية من (1910) إلى (1976)، والمنشور تحت عنوان: (Die Zeit des Selbst und die Zeit danach. Zur Kritik der Textgeschichte Martin Heideggers 1910-1976)[8]. زيارتي للحضيرة السابقةُ على الشرح الفعلي، ستحيل كثيراً على هذا المرجع الذي يهاجم فيه الكاتب بشدة، بل ببعض المغالاة الجدالية أحياناً، فكرةً مكرورة كثيرة الانتشار في الأدبيات الهايدغرية: أن هايدغر قد اكتشف مسألة الوجود وهو لا يزال في المهد، أو بالأحرى، منذ قراءته المبكرة لأطروحة فرانز برنتانو [Franz Brentano] المخصّصة لمشكل المعاني المتعددة للوجود عند أرسطو. ولعلّ هايدغر قد كانت له مبرّرات جعلته أحياناً يعرض إهداءه هذا الكتاب من قبل كنراد غروبر [Conrad Gröber] كضرب من مشهد الطقس الـمُسارّي[9]؛ ولكننا لن نكون محقين في أن نستنتج من ذلك أنه من البداية إلى النهاية قد بذل نفسه لقضية الأنتولوجيا دون غيرها.

ولا يمكنني في هذه النقطة إلا أن أنخرط في ملاحظة توماي الذي يقرّ بأنه ليس ثمة، منذ البداية، شيء من قبيل «وجود» يفرض نفسه على نحو لا ينفك يزداد خلوصاً، حتى يتحول لدى النهاية إلى العهد [Ereignis][10]. ولئن لم يكن كلّ شيء خاطئاً في هذه الفكرة المكرورة، فإنّها مع ذلك لا تصمد أمام تفحص التكوّن [genèse] الفعلي لفكر هايدغر مثلما تتيحُ لنا النصوصُ المتوافرة الآن أن نعيد ابتناءه. من هنا المهمةُ التي تنتظر اليوم المؤولين: إعادة البناء المجتهدة والمتأنية للظهور البطيء والمتدرج لمسألة الوجود في الفكر الهايدغري. لقد اقتنع توماي بأنّ «نصوص هايدغر ليست فكر هايدغر»[11]، فاقترح جنيالوجيا للنصوص ألحّ فيها على دأب عمل التأويل الذاتي الذي لم ينقطع. إن ما يبحث عن إقراره من «التطور الزمني الداخلي للنصوص»[12] الهايدغرية إنّما يقوم على تحقيب متأثر شديد التأثر بالخطخطة البيوغرافية التي أنجزها هوغو أُتْ [Hugo Ott][13].

لنقل أولاً بإيجاز في هذا التحقيب التي ستفترضه بانتظام القراءة التي أحاول تقديمها هنا. فهو تحقيب يمكن أولاً أن يحد بطرفين خارجيين. ولن يهمّنا منه إلا الفترة الممتدة من (1910)، وهي السنة التي بدأ فيها هايدغر ينشر مقالاته الأولى، إلى (1928)، وهي آخر سنوات تدريسه أستاذاً غير مترسم[14] في جامعة ماربورغ، قبل أن يصبح أستاذاً مترسماً[15] في جامعة فرايبورغ. سيكون علينا أن نبرر أهمية هذه الوقفة[16] التي ليست فقط بيوغرافية (فالانتقال من مكان عمل إلى آخر ومن سكن إلى آخر لا يكوّنان بالضرورة حدثاً ميتافيزيقياً)، بل هي كذلك وقفة فكرية. ومن هذه الناحية، لن أنص مؤقتاً إلا على مؤشّر واحد. فلفظة «ميتافيزيقا» لا تظهر في عناوين الدّروس إلا ابتداء من (1928) لتعويض العنوان «فينومينولوجيا» الذي ظلّ مهيمناً إلى ذلك الوقت. ولا يعني هذا بالضرورة أنّ الميتافيزيقا تعوّض ببساطة الفينومينولوجيا أو الأنتولوجيا. فالعلاقة بين الألفاظ الثلاثة أشد تعقيداً. ولكنّه لا جدال في أنّ هايدغر لا يجرؤ على مباشرة مشكلات الميتافيزيقا بحقّ، ولعلّه تحت تأثير كبير من ماكس شيلار [Max Scheler]، إلا بعد الفراغ من تحرير زاين أُنْدْ تْسايت. فالأمر كلُّه يجري كما لو أنّ الدرس الافتتاحي الشهير في الرابع والعشرين من تموز/يوليو (1929)، بعنوان: ما هي الميتافيزيقا؟، قد مثّل من هذه الوجهة منطلق تساؤل جديد[17].

سيتعلق تحقيقنا إذن، وعلى نحو حصري، بـهايدغر «قبل الميتافيزيقي» الذي يطابقه إلى حدّ كبير هايدغر «الأنتولوجيا الأساسية». وهكذا، فالذي سيلفتنا أولاً سيكون طبيعة الرباط بين فكرة هايدغر عن الفينومينولوجيا وتصوّره لأنتولوجيا أساسية.

وسيتعيّن بالتأكيد إدخال تقسيمات فرعية داخل هذه الحقبة. أقترح تبني التحقيب التالي:

(1910-1918): زمن التكوين والدروس الأولى.

(1919-1923): التدريس في فرايبورغ، وهو التدريس الذي يوافق إطلاق حضيرة هرمينوتيقا للحدثية.

(1923-1928): التدريس في ماربورغ، وهو التدريس الذي هيمن عليه إلى حدّ كبير الانشغال بتحرير زاين أُنْدْ تْسايت.

سيدور الأمر على تخصيص الإشكالية الفلسفية التي توافق كلّ واحدة من هذه الفترات. ولأجل غرض تأويل زاين أُنْدْ تْسايت، سينشدُّ انتباهنا بشكل رئيس إلى الفترتين الأخيرتين؛ فهما فترتان توافقان ما يمكن أن نسميه «العشرية الفينومينولوجية» لهايدغر، وهي عشرية يكاد شعاراها اللذان يؤطرانها يكونان درسين يحملان كلاهما عنوان: «المشكلات الأساسية للفينومينولوجيا». يعود أولهما إلى سداسي الشتاء (1919-1920)[18]، وهو مركّز إلى حدّ بعيد على غرض هرمينوتيقا الحدثية؛ أما الثاني، ويعود [4] إلى سداسي صيف (1927)[19]، فيحتوي عرضاً برنامجياً أوّلياً للأنتولوجيا الأساسيّة التي تمثّل أفق زاين أُنْدْ تْسايت. وإنما يمثّل التسيُّر على المسافة التي تفصل بين هذين العرضين البرنامجيين للفكرة الهايدغرية عن الفينومينولوجيا عين ما يريده تأويلنا. سيقودنا هذا التسيُّرُ حتماً إلى السّؤال عن مدى ما يجوز لنا المصادقة على التأويل الذاتي لهايدغر الذي يعرض علينا، بعد أن قرأنا أعماله، أن نعيد قراءتها، بحسب طريق فكري واحد. إنّ أوتو بوغلر، وهو من أكثر المؤولين وأشدهم نفوذاً على الفكر الهايدغري، وأبعدهم إسهاماً في تعضيد هذا التّأويل ضمن مَدخله الـمُبَرِّز، الذي لا غنى عنه: «Der Denkweg Martin Heideggers» [طريق هايدغر إلى الفكر]، إنَّه يقترح، ضمن تذييله الطويل للطبعة الثالثة من هذا الكتاب، أن يقع وضعُ هذا العنوان في صيغة الجمع[20]، فذلك يبيّن بعد، من الآن، أنه لا قبل لأي مؤوّل معاصر للفكر الهايدغري أن يتجنب هذه الصعوبة. فالأحرى إذاً أن نواجهها دون مراوغة. وإن غرض استعراض [الترتيب] الزّمني للنّصوص الهايدغرية لهذه الحقبة إنما هو تحديدُ معايير تطوّرٍ داخلي يوافقه تعددٌ فعلي للطرُق.

1. (1910- 1918): زمن التكوين والدروس الأولى

لنخصّص بسرعة هذه الفترة الأولى التي يسمّيها توماي زمن «الافتراضات»، هي توافق جملة من النصوص، بعضُها، إلى زمن قريب، تم بغير تردُّد إهماله من قبل الشارحين. ولكن هذا التحفظ لم يعد جارياً اليوم.

1. ذكرى من ذكريات الطفولة: «لغز قبّة الأجراس»

سنبدأ بنص ذي ملمح ترجذاتي، يثير فيه هايدغر زمن طفولته وشبابه[21]. ففي هذا النص المكتوب سنة (1954)، يثير هايدغر بكثير من التأثر طفولته، طفولة ابن لخادم كنيسة[22]، وطفولة أحد صبية جوق، حيث كان لطقس ناقوس الأجراس وزن ومكان. وتتوقف إثارة الذكرى طويلاً على خاصيّة كلِّ جرس من الأجراس المخصوص كلٌّ منها باسمٍ علمٍ، كما تتوقف على التفاصيل التقنية ذات الصلة بمختلف كيفيات قرعها، بحسب المناسبات السعيدة أو الحزينة. فيظهر زمن الطفولة في استرجاع الذكرى [5] وكأنّه «قطعة موسيقى» تهيمن عليها فوغا السّنة اللّيترجية[23]؛ إنّه زمن بإيقاع أصوات نواقيس قبّة الأجراس في قرية مسكيرش.

«ذكرى من الطفولة» لمارتن هايدغر: «لغز قبة الأجراس»

«لعلّ الفوغا الملغزة، التي بحسبها كانت تتلاحق وتتلامس الحفلات الليترجية[24]، والبيرمونات[25]، وتتعاقب الفصول وساعات النهار، في الصباح وعند الزوال، وفي [صلوات] المساء، بحيث كان ثمة دائماً طنين واحد يخترق القلوب الصغيرة، والأحلام، والصلوات والألعاب؛ لعلها هي التي تؤوي في باطنها أحد أسحر ألغاز قبة الأجراس وأشفاها وأدومها، فتصرّفه كل مرة على هيئة متبدلة، لا تتكرر، أوْجاً إلى الطنين الأخير في ائتواء[26] الأُجود[27] [estre / Seyn]».

Vom Geheimnis des Glockenturms, in GA 13, 115-116

من الواضح، ضمن هذه الشذرة من حكاية طفولة، أنّ ابن خادم كنيسة سانكت مارتن في مسكيرش يرسم نفسه في ما كان هو «العالم المحيط» لطفولته. ولا تهمنا نهاية هذه الإثارة فقط بسبب دلالتها البيوغرافية، وإنما لأنها تثير، كما على نحو يكاد لا يُسمع، بعض ترجيعات[28] الفكر الهايدغري المحدِّدة: ترجيعة «الفوغا»، بما لها من القوة على التجميع على نحو مخصوص ليس فيه أي شيء من تماسك النسق؛ ترجيعة الموت بما هو «صوان[29] الوجود»؛ ما يُعطَى للتجربة الزمانية من الأهمية، أهميةِ زمانٍ إنساني متمفصل حول «كايروس» مؤسسٍ، حول مؤاتاةٍ مؤسسة،؛ المفردةُ الألمانية «Läuten» التي لا شك تعني طنينَ الأشياء، ولكنها تحفظ في جذرها الاشتقاقي لفظة «Laut»، إشارةً إلى الظاهرة الآصل في اللغة، صوتُ الوجودِ الكبيرُ الذي يتحدّث إلى الناس عبر قوّته التّجميعية: «الكلمةُ السعيدة».

2. «كتابات شباب لاهوتية»؟

مشهد الطّفولة هذا هو أيضاً مشهد لاهوتي، هو مشهد رؤية العالم الكاثوليكي، «إيمان البدايات»[30]، الذي يريد هايدغر أن يكون مدافعاً متحمساً عنه، على غرار الواعظ الفرنسيسكاني أبراهام أسنتا كلارا [Abraham a Santa Clara]، الذي يحب فيه قوته على «كيل الضربات بغير خوف لكلّ تصور للحياة يستعظم هذه الدنيا ويُخلد إلى الأرض» [6](das furchtlose Dreinschlagen auf jede erdhafte, überschätzte Diesseitsauffassung des Lebens, 1910)، تصورٍ للحياة عاجز على «الانصياع لضرورةٍ غائيةٍ متعاليةٍ». لن نستغرب إذاً أن تكون الكتابات الأولى للطّالب هايدغر «كتاباتِ شبابٍ لاهوتيةً» في معظمها. وعلى الأقل إنّ بعض الشراح (غادامر، توماي) يستخدمون هذه العبارة المشطّة بعض الشيء، هذا دون اعتبار أنّ غيرهم من الشرّاح يعارضونها[31].

ومهما يكن من أمر النعت الذي سنحتفظ به لتخصيص هذه السلسلة من الكتابات، فلا جدال في أنها تؤدي دوراً مهماً في تكوين الفكر الهايدغري، مثلما فصّل بيان ذلك هوغو أُتْ. لا ينبغي إذاً الاقتصار في فهم هايدغر الشاب على الانطلاق من منبته القروي، ومن «روح قبة الأجراس» التي في قرية مسكيرش، ولكن كذلك انطلاقاً ممّا كانت تلك القبة علامة عليه: أعني فكرة التعالي التي تحملها الرؤية الكاثوليكية، أو كما يقوله توماي: «إن نقطة البداية الحقيقية لتاريخ النص الهايدغري ليست الغابة السوداء، وإنما هي العنصر الكاثوليكي»[32].

من الصعب فعلاً، فصل كتابات هايدغر إلى سنة (1916) عن هذه الخلفية الكاثوليكية؛ فهو في سنة (1908)، وهي السنة التي يجتاز فيها امتحان الأبيتور [Abitur][33]، يكتشف كتاب (الضروري في الأنتولوجيا) لصاحبه كارل برايغ [Carl Braig]، أستاذ علم المذاهب في فرايبورغ: (Vom Sein. Abriss der Ontologie). وقد كان كنراد غروبر، رئيس أساقفة فرايبورغ لاحقاً، أهداه، قبل ذلك بعام، أطروحة فرانز برنتانو [Franz Brentano] حول الدّلالة المتعددة للموجود بحسب أرسطو (1863)[34]. وسيؤدي هذا الكتاب، كما سيؤدي مشهد الإهداء، دوراً رئيساً في التأويل الذاتي لهايدغر.

لقد ظلّ هايدغر، حتى بعد توقف دراساته اللاهوتية، يتابع دروس المذاهب لبرايغ، مما يظهر تعلقه بهذا المدرس الذي كان في تلك السنوات تحديداً منافحاً متحمساً عن القضية الكاثوليكية، ولاسيما قضية الموقف المضاد للحداثة[35]. فقد نشر، بتأثير واضح من برايغ، مقالاته الأولى في مجلة الأكاديميين (Der Akademiker)؛ حيث يقدم نفسه خصماً عنيداً للعاطفية [sentimentalisme] الرومنتيقية لشلايرماخر، ولذاتيانية عمياء عن «كل ما ليس هو النفس، وعن كل ما لا يخدم النفس». وفي مقابل هذه الذاتيانية، يريد هايدغر أن ينافح عن حقيقة تاريخية سابقة على الذاتي ومتعالية عليه. ومن وجهة النظر هذه، إنّ «كتابات الشباب اللاهوتية» لهايدغر تظلّ، في الأغلب، تنويعات على غرضيات برايغ المناوئة للحداثة [7]. فهايدغر، كأستاذه، يطلب هو أيضاً «أن تردَّ الكنيسةُ الفعلَ ضدّ تأثيرات التّيار الحداثي، حتى تبقى وفيةً لكنز الحقيقة الأبدي الذي لها، وهو ما يستلزم صراعاً ضدّ مراد الجسد، وضدّ مذهب العالم، وضدّ الوثنية». كلُّ هذه أوثان يتعيّن تحطيمُها بالخضوع بغير شرط لسلطة الكنيسة الدّينية -الخلُقية.

«Tolle lege»[36]: سرديةُ تداعٍ إلى نداء الفلسفة في عدة روايات

«اعترضتني مسألة الوجود في سنوات المعهد الأخيرة، وتحديداً في صيف (1907)، في شكل رسالة فرانز برنتانو، أستاذ هوسرل [Husserl]. كانت بعنوان: «في الدلالة المتعددة للموجود حسب أرسطو» [De la signification multiple de létant selon Aristote]، وهي تعود إلى سنة (1862). فأما الكتاب فقد أهدانيه ابن قريتي، وصديقي الأبوي، الدكتور كنراد غروبر. سيكون لاحقاً أسقف فرايبورغ بريسغو، ولكنّه كان في ذلك الزمن كاهن كنيسة الثالوث في كونستانس» (في محادثة عن الكلام، ص 92).

و«يعود الدفع الذي انطلق به فكري بكامله إلى قضية أرسطية تقول إن الموجود يقال على أنحاء عديدة. لقد كانت هذه القضية والحق يقال ومضة البرق التي ألهبت السؤال: ما هي إذاً وحدة هذه الدلالات المتعددة، ماذا يعني الوجود بمال هو كذلك؟» (ندوة سوليكون، ص 155 [Zollikoner Seminare].

«... فابتسم هايدغر وهو يقول: الــبرنتانو الذي يخصني هو برنتانو أرسطو» (الأعمال الكاملة[37]، 15، 386؛ Q IV, 124)

«وفي سنة (1907)، وضع بين يدي صديقٌ أبويٌّ أصيلُ جهتي، سيصبح لاحقاً أسقف فرايبورغ، هو كنراد غروبر، أطروحة فرانز برنتانو: في الدلالة المتعددة للموجود حسب أرسطو (1862). وقد عوضت استشهاداته الكثيرة والطويلة بأرسطو نشرة أرسطو التي كنت لا أزال أفتقدها، ولكني استعرتها بعد عام من مكتبة المبيت لأضعها على مكتبي، حيث كنت أدرس. إنّ السؤال الذي بدأ آنذاك في مجرد الاعتمال، مبهماً، غامضاً، خافتاً، أعني السؤال عن بساطة المتعدد في الوجود، قد ظلّ، عبر عدة انقلابات، وظلالات وتحيرات، هو الأساس الثابت للمصنف الذي ظهر بعد عشرين عاماً، الوجود والزمان» (أ.ك.، GA 1, X).

«لقد أمكنني من بعض الإشارات المستمَدّة من مجلّات فلسفية أن أعرِفَ أنَّ جهة تفكير هوسرل قد تحدّدت من فرانز برنتانو. ولكنَّ رسالته ... قد كانت منذ (1907) عصاي وعكّازي (Stab und Stecken) في محاولاتي الخرقاء[38] الأولى للولوج في الفلسفة. وفي إبهامه الشديد كان [هذا] السّؤال يحركني: إذا كان الموجود يقال على دلالة متعددة، فما تكون ساعتها الدلالة الموجِّهة والأساسيةُ؟ ما معنى وجود؟» (Mein Weg in die Phänomenologie, 81 ; trad. franç. mod., p. 162).

إنّ الردّ الكاثوليكي على عبادة النفس، وعلى الفردانية، بما تطالب به من استقلال غير محدود، إنما هو التجرد الحقيقي والعميق والوجيه عن النفس (Entselbstung) [لجوءاً] إلى إشعاع الحقيقة المشرق. وساعتها يمكننا أن نتساءل مع توماي عمّا إذا لم تكن خلفيةُ التخلي عن النفس هذه، اللاهوتيةُ الروحانيةُ، أو الــ (Selbstentäusserung)، التي تتمثل في تعليق المرء حياتَه على نظام أبدي، تجد لها مكافئاً فلسفياً [8] في الصّراع ضدّ السيكولوجانية [psychologisme]، هذه الكلمة التي كان برنتانو يقول إنّ الأمر يتعلق معها «بكلمة أصبحت موضةً. فكثيرٌ من الفلاسفة الأتقياء إذا ما وقفوا أمامها، أوْمَؤوا بعلامة الصليب، كمثل ما يفعل الكاثوليكي الأرثوذكسي عندما يسمع كلمة حداثية [modernisme]، كما لو أنّ الشيطان نفسه يسكنها»[39]. لعلّ المكافئَ الوظيفي للتّعارض الديني بين المابعد والهاهنا يكون إذاً تعاكس النظام المثالي[40] للدّلالات المنطقية والنظام الفعلي[41] للوقائع[42]. فمثالية الدلالات المنطقية لا علاقة لها بالتمثّلات النفسية التي تسكن الوعي التجريبي للذات عندما تعمد إلى فعل من أفعال الحكم.

بل إنّه لَبِاسْم واقعية أرسطية – اسكولائية ينقد هايدغر مَعْرَف[43] الفينومين [الظاهرة / phénomène] الكانطي الجديد، جاعلاً في الوقت نفسه من المنطق لسان دفاع عن حقيقة متعاليةٍ، ‹ضدّ ذاتية›[44]. وفي سياق من هذا القبيل، إنّ «حدثية» الحياة لا يمكنها أن تظهر، بل إنه ليمكن حتى ازدراؤها. ولذلك يستطيع هايدغر أن يوجه خصومته ضد التّخليطات الخطرة بين معرف «رؤية العالم» والحياة: «إنّ رؤية العالم تُعدَّل على «الحياة» حين كان ينبغي أن يكون العكس». نفهم هكذا أنه كان من المحتمل أن يصبح «الفيلسوف الكاثوليكي»، الذي أراد هوسرل أن يراه فيه لدى لقائهما الأول، أو العالم المدقّق[45] [doctor subtilis]، الاسكوتي[46] الجديد الذي حياه فيه إريش بشيفارا [Erich Przywara]. ومع ذلك إن الفكرة التي كوّنها عن الفلسفة أدخلت باكراً جداً عنصرَ قلقٍ على رسم «النظام الكاثوليكي». فالفلسفة ليست أبداً حيازة مطمئنة للحقيقة، وإنما هي البحث الذي لا يتوقف عنها. ويعطي توماي هذا التطور في جملة مقتضبة صادمة: «غادر هايدغر مسكيرش فغادر أيضاً معها الماوراء الذي لمسكيرش»[47]. ومنذ (1914)، يسخر هايدغر، في رسالة وجهها إلى الشمّاس إنغلبرت كرابس [Engelbert Krebs] من التوجيهات التي احتواها المرسوم البابوي التلقائي [motu proprio] حول تدريس الفلسفة، وهي التوجيهات «التي لعلّها تودُّ إفراغ دماغ كل الأشخاص الذين يريدون بإصرار أن يكون لهم فكر خاص، لملئه ببعض السَّلَطَة الإيطالية»[48].

لقد أخذت أعراضُ ابتعادٍ تدريجي عن العالم الكاثوليكي في التبيُّن منذ ذلك الوقت. وفي حين كان هوسرل لا يزال يرى فيه في (1917) «فيلسوفاً كاثوليكياً ذا التزامات عقائدية صريحة»[49]، ها هو يكشف في (1920) عن قطيعة له مع الكاثوليكية قد تكون حدثت في محيط سنة (1916)، ثمّ يصفه، بعد ذلك بعامين، على أنه «أصبح شخصية بكلّ معاني الكلمة». كما تشهد وثيقة ترجع إلى هايدغر نفسه بهذه القطيعة مع كاثوليكية صِباه. فهو يخبر الشماس كرابس في (1919) بأنّه يتخلى عن تدريس الفلسفة في نطاق كلية اللاهوت في فرايبورغ، فيكتب معترفاً: «إنّ نسق الكاثوليكية قد أصبح عندي مشكلياً وغير مقبول، [9] ولا أعني المسيحية، ولا الميتافيزيقا (مع أنّ هذه الأخيرة أصبحت مفهومة في معنى جديد)»[50]. ستشير رسالة كتبها بعد سنتين إلى جيورغ ميش [Georg Misch] إلى مبرر هذه القطيعة: التصلّب ‘ضدّ الحداثي’.

3. الأعمال الفلسفية الأولى

إنّ هذه القطيعة العسيرة مع إيمان البدايات قد تركت كذلك، في رأي توماي، آثاراً لها في الإنتاج الفكري لهايدغر خلال تلك السّنوات. وهو يقترح فكّ شفرة الأعمال الفلسفية الأولى لهايدغر على أنّها ممزقة بين «فكر للانشقاق» و«فكرٍ للتّجربة الأساسية». وهو، وفق هذا المرأى، يعطي أهمّية خاصّةً لمقاطع الخواتم في الكتابات الأولى، حيث يمكن تبيُّن ضرب من «المنزع الجامع» فيها يذهب بها إلى أبعد منها، معلناً عن تطورات مقبلة.

ويقتضي فهم التمشي العام لهذه الأعمال أن نبدأ باستبعاد سوء تفاهم: فالدور الشعاري، الذي أُعطي لإشكالية الدلالات المتعددة للوجود، لا يعني البتة أن هايدغر قد سارع في الحين إلى دراسة الميتافيزيقا الأرسطية. وإنما تحت الظلال الجليلة للبحوث المنطقية لــهوسرل، التي كان اكتشفها منذ (1909)، وهو لا يزال طالباً في اللاهوت، تابع هايدغر تكوينه الفلسفي بقيادة أحد أساتذة المدرسة الكانطية الجديدة في باد: هاينريش ريكارت [Heinrich Rickert]؛ فهو يشارك هوسرل والكانطيين الجدد الصراع الكبير ضد السيكولوجانية، مثلما تشهد بذلك رسالته للدكتوراه الموسومة بـ(نظرية الحكم في السيكولوجانية. مساهمة نقدية وضعية في المنطق) (1913) (أ.ك. 1، 3-129). ومعنى هذا النّقد واضح: عندما تردّ السّيكولوجانية المنطقيَّ إلى النفساني، فإنّها تعجز عن فهم الطبيعة الحقيقية للدّلالات المنطقية التي لها صلاحيةٌ تتعالى على العارضية النفسانية للذّات التي تنجِز حقاً فعل الحكم. وإذا كانت السيكولوجانية تجهل حقيقة الموضوع المنطقي المستقلة (أ.ك.1، 103)، فإنّها لن تُغلب إلا عندما نكون قد نجحنا في تعيين «نظريةٍ في الحكم تكون منطقية على التّخصيص» (أ.ك.1، 107)، وتصادق تمام التصديق على المعادلة: المعنى = الصلاحية (حكم المنطق هو المعنى، أ.ك.1، 114).

كذلك تعلّم هايدغر عن أساتذته الكانطيين الجدد ما أعطوه من الأهمية للمشكلات الإبستمولوجية. إنّ علاقة هذا كلّه بتساؤل من قبيل أنتولوجي هي علاقة ضعيفة جداً. ومن بين الدّلالات العديدة للوجود، لا يُحتفظ إلا بدلالة واحدة: الوجود بما هو الوجود صادقاً (ens tamquam verum) أو بما هو المعنى-الصّلاحية[51]، وإنما فقط نحو نهاية تحقيقه عن النظرية المنطقية للحقيقة يكشف هايدغر أفقاً آخر. فيثبت أنّه على قاعدة منطق خالص فقط سيكون من الممكن «مفصلة الحقل الجامع للوجود (Gesamtbereich des Seins) بحسب مختلف جهات تحقيقه، وإجلاءُ [10] طرافتها بشكل لا لبسَ فيه... مثل هذا التّفلسف قد تمّت المبادرة إليه خدمة للكلّية الجامعة الآخِرة [ultime] (im Dienste des letzten Ganzen)» (أ.ك. 1، 128).

فنحن نُصادف، ضمن هذه الصّيغة الختامية، تشكيلاً مضاعفاً للكلّية الجامعة [totalité]: «الحقل الجامع للوجود» [Gesamtbereich des Seins]: وتشير هذه العبارة إلى أُنتولوجيا لم تتبلور بعد؛ «الفلسفة في خدمة الكلية الجامعة الآخرة»: إن هذه العبارة تعبّر عن مقتضىً من الجذرية هو من شأن فلسفة أولى.

فشأن المعرفة الحُكمية[52] هو أنّها تتحوّز الموضوع وتعينه (القبض على الموضوع، تحديد الموضوع). وهاهنا قوّتُها، ولكن هاهنا أيضاً وهَنها. «فالمعنى» ظاهرة سكونية [statique] محض. ولهذا السبب تبقى قوانين الحكم المنطقي دون الميتافيزيقا. وعندما خيّر هايدغر منطق الصّلاحية [validité] ضد السيكولوجانية، فقد جعل من مملكة الدّلالة [signification] مملكة متعالية، غريبة تمام الغربة عن الكيان الفعلي: «الدلالة غربية غربة تامة عن الكيان» [Es ist der Bedeutung völlig fremd, zu existieren] (أ.ك.1، 243، 129). إنّ هوّة سحيقة تفصل مجال الدلالات المنطقية المثالية عن العلامات النحوية الكائنة حقاً. وإنما في زاين أُنْدْ تْسايت فقط يعمد هايدغر إلى تخليص النحوي من نير المنطقي. وهبْ ذلك، فهل يجب أن نستنتج مع توماي أنّ الكانطية الجديدة قد كانت تمثّل بالنسبة إلى هايدغر «آخر محاولة في الامتثال إلى الرسم الثيولوجي في إطار الفلسفة الترانسندنتالية»[53]؟

إنّ ريكارت [Rickert]، المشرفَ على أطروحة هايدغر التأهيلية، قد مكّن هذا الأخير من اكتشاف المنطقي إميل لاسك [Emil Lask]، الذي كان معبَراً لا يداور للمرور من الكانطية الجديدة إلى الفينومنولوجيا. فقد اكتشف لاسك أن نظام ريكارت «للقيم»، الذي كان هذا الأخير يرى فيه «بنية دلالة غير واقعية، ما بعد الوجود»، يظل محض افتراض. إن «مثالية القيم» هذه هي التي فارقها هايدغر دون ضجيج، عندما آثر، مع لاسك، «فكر محايثة» يجسر الهوّة بين «الصورة» و«المادة».

وتمثل أطروحة التأهيل لسنة (1915) المخصصة لمشكل المقولات ولنظرية الدلالة في النحو[54] النظري[55] تقدماً أولياً في اتجاه إشكالية جديدة[56]. فإنّ هايدغر يغامر في هذا العمل بدخول حضيرة جديدة، حضيرة النحو النظري. وقد كان هذا البحث تعويضاً عن مشروع كان في الأصل مشروع أطروحة عن مشكل العدد (مثل أطروحة تأهيل هوسرل!). ولكن هايدغر ترك هذا المشروع لأنّه كان يريد الترشح للكرسي التوافقي لجامعة فرايبورغ[57].

[11] إنّ هذه الأطروحة تربط ربطاً قوياً بين مشكل المقولات ونظرية الدّلالة. فمن المهم، قبل كل شيء، التعرّف إلى تعدّد المجالات المتنوّعة التي تكوّن الواقع: الواحد، الواقع الرياضي، الواقع التّجريبي الطّبيعي، الواقع الميتافيزيقي. وإذا كانت المقولات الأرسطية توافق محاولة أولى لأخذ هذا التنوع في الاعتبار، فإنها مع ذلك ظلت مقصورة على دلالة جهوية (أ. ك. 1، 155). لا مناص إذاً من استئناف الاشتغال على مشكل المقولات، مثلما فعل الوسيطيون أنفسهم. ولما كان هايدغر يهتم خاصة بالنظرية الوسيطة للترانسندنتاليات؛ أي بالصفات «القابلة للتصريف» مع الوجود نفسه، فقد مكّنه ذلك من اكتشاف الصّلاحية الكلية لأطروحة المغايرة[58]، التي تطرح في آنٍ معاً الهوية والتّنوع، الهو هو والغير، بما هي معايير قصوى لكل تملك للموضوع (Gegenstandsbemächtigung)[59].

سيجلّي التحليل تدريجياً عدة مستويات من الواقع: أولها مستوى الوقائع الرياضية التي يهيمن عليها الواحد بما هو مبدأ العدد، واقع هو جوهرياً متصل ومتجانس، وتوافقه مقولة الكم. ويقوم قبالته المجال الذي يكوّنه الواقع المحسوس، التجريبي، الذي يبدو أن علامته الفارزة هي التنوع والتغاير المطلق. وإنما هاهنا يذكّر هايدغر بأهمية المعرف الاسكوتي للإنية[60]؛ أي للفرادة الشخصية بما هي تعيين أساسي للفعلية[61]. ولكنّه يبيّن كذلك أّن هذا الواقع المحسوس يظلّ يعلوه، بموجب مبدأ تناسب[62]، الواقعُ ما بعد الحسي، الميتافيزيقي.

ولنلاحظ كذلك، بالنظر إلى الفقرة (44) من (الوجود والزمان)، الفصل الطويل الذي يخصصه هايدغر لمشكل تبادلية الحق والوجود (أ.ك. 1، 207-231). فطالما أن كل موضوع من الموضوعات هو موضوع ممكن للمعرفة، فإنه يجوز أن نقول عنه إنه صادق، على أن يحيل الصّادق على مجال المعرفة بما هي معرفة (أ.ك. 1، 209)، وهو المجال الذي نلقاه على جهتين أساسيتين: إما الـ «simplex apprehensio» [الإدراك البسيط]، وإما الحكم؛ أي الخلية البذرية للمنطق (أ.ك. 1، 210). وهكذا يوفر لنا هذا التحليل مرة أخرى فرصة لإعلان «الأولوية المطلقة للمعنى ذي الصلاحية» (أ.ك. 1، 215) ضد أيّ إرجاع سيكولوجاني. فإذا كان الوجود الصادق مرادفاً للصلاحية، لزمنا أن نضع اختلافاً أكثر جوهرية من الاختلاف الذي يسمح بالتمييز بين مستويات عدة من الواقع: «فالاختلاف الأجذر بين جهات الواقع، إنما هو الاختلاف الذي بين الوعي والواقع؛ أي إنه، على نحو أدق، الاختلاف بين ضرب من الواقع ليس من قبيل الصلاحية التي تُعطَى بدورها دائماً وفقط من قبل سياق دلالة وضمن سياق [12] دلالة من قبيل الصلاحية» (أ.ك. 1، 221). فهذا الاختلاف على قدرٍ من الجوهرية يسمح بوصفه بالأُنتولوجي [ontologique]، ولو أنّ هايدغر لا يستخدم بعد هذه العبارة. أما ما يقع تقريره تقريراً واضحا هنا فهو الأولوية المطلقة للمعنى [sens] بالإضافة إلى الكينونة[63] [existence].

وإنما ساعتها تحديداً تضحي مسألة منزلة الدلالات اللغوية، النحوية، مسألة مأساوية. هل يتعين التسليم بتفوق مطلق للدلالات المنطقية بالإضافة إلى الحامل اللساني – النحوي؟ لا مناص لنا، إذا ما رمنا العثور على جواب لهذا السؤال، من مساءلة كون «الدلالة والمعنى يرتبطان بألفاظ، ومركبات ألفاظ (قضايا)». فهما ينتميان -لا محالة- إلى مستوِيات من الواقع متباعدة تباعداً كاملاً، ولكنّهما يتقاطعان على مستوَى العلامات اللسانية. فينطرح منذئذٍ السؤال المتعلّق بمعرفة ما إذا لم يكن للتمفصل اللساني – النحوي لمختلف أجزاء الخطاب (الأسماء، الضمائر، الأفعال... إلخ)، وهو التمفصل الذي يوافق قدرها من ضروب[64] الدلالة (modi significandi) أساسٌ في الأشياء، موافقةً تقتضي أن يناسبها من ضروب الوجود (modi essendi) على قدرها. فالموافقة التي نسلم بها هذا التسليم تضع حدود نحو نظري ما قبلي، سيتعين على كل نحو قائم فعلاً أن ينضبط له انضباطاً بالضرورة. إن هايدغر على أتمّ الوعي بأنّ إشكالية هذا التوازي ‹الأنتولوجي النحوي› يتطلّب إدخال وسيط: جهة العقل (= modus intelligendi). وإنما بوساطة التعيينات العقلية لموضوع ما، يمكننا أن نستوفق التعيينات الأنتولوجية للشيء (جهة الوجود = modus essendi) وتعيينات الدلالة (modus significandi).

وساعتها يحصّل «المنطق» معنى فلسفياً أوسع مما نعنيه عادة بهذا اللفظ؛ إنه نظرية «المعنى النظري» الذي يحتوي على أقسام ثلاثة: نظرية في مكونات الدلالة (Bedeutungslehre، نظرية في العناصر المكونة للدلالة)، ونظرية في تمفصل المعنى (Urteilslehre: نظرية الحكم)، ونظرية في التغايرات البنيوية وفي أشكالها النسقية (Wissenshaftslehre).

لا شيء من كلّ هذا يتعذر تقييسه على فيلسوف ‹نيوكانطي›، لولا الفصل الأخير الملغزُ من أطروحة التأهيل هذه، في شكل «خاتمة ميتافيزيقية». فهاهنا يتعالى هايدغر عامداً على دائرة ما هو منطقي، ببيان أنّ مشاكل المنطق في حاجة إلى تأويل لها داخل سياق «فوق منطقي»[65] (أ. ك. 1، 347). تحتاج «القضية [المنطقية القاضية] بالمحايثة» إلى تبرير أخير، ميتافيزيقي. لن يفلت المرء من السؤال المتعلق بمعرفة كيف يمكن أن يضمن لنا المعنى «اللاواقعيُّ»، و«المتعالي» الواقع الحقيقي والموضوعية الحقيقية. وإنما هاهنا يصادر هايدغر على ضرورة «منظور» آخر: «وفي نهاية الأمر لا يمكن للفلسفة أن تستغني عمّا هو منظورها المخصوص، الميتافيزيقا» (أ.ك. 1، 348 [227]).

سنرى لاحقاً ما يكتسيه هذا الإعلان من الأهمية من أجل فهم نهج التفكير الهايدغري [13] في جملته. ما مدلوله في سياق «الخاتمة الميتافيزيقية» لأطروحة التأهيل؟ إنه يشير إلى مهمة جديدة: [مهمة] الجمع، ضمن وحدة حية، بين أحدية[66] الأفعال وفرديتها وبين الصلاحية الكلية للدلالة، وكيانها في ذاته. فوحدَهُ «الروحُ الحي»، بل «الفهم الحي للروح المطلق للإله» (أ.ك.1، 350) يستطيع أن يحقق هذا الإنجاز. وإنّ قائمة الشهود، الذين يُستقدمون في هذا السياق، لمهيبةٌ ذات دلالة. فهؤلاء هم كبار الرومنتيقية: هيغل، نوفاليس، شليغل. «لا يمكن» للروح الحي، في ما يقول هايدغر، «أن يُفهم إلا أن يُرفع (aufgehoben)كاملُ امتلاء منجزاته، أي تاريخُه، فيه: الامتلاء الذي لا ينفك يتزايد، والذي يقدِّمُ فهمُه الفلسفي أداةً للفهم الحي للروح المطلق، لا تنفك تتعاظم». فعلى هذا النحو يفاجئنا التاريخ بأنه هو الذي يوفر، على ما يبدو، ضمانةَ تجاوز الشُّقة التي بين الصلاحية والواقع، وأنه هو الذي يحقق حلم لاسك بهذا التعالي على الضدّية، الــــ (Übergegensätzlichkeit)[67]. ولكنّ التاريخ لا يُستحضر إلا في الأفق النّظراني والميتافيزيقي الذي يحطم، من حين يتراءى، الفرقَ الذي بين التكون التاريخي للقيم (Wertgestaltung) والصلاحية (الأزلية) للقيم (Wertgeltung). لا يزال ينقصه المعرَف المفتاح الذي تدور حوله الفترة الثانية: حدثية الحياة التاريخية[68].

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1]- Ontologie et temporalité, 1: Temps et langage, Paris, Association André-Robert, 1985

[2]- Sein und Zeit. ونشير إلى أننا نعتمد هذه الترجمة للعنوان ولمفهومي Sein وZeit، ولا نجري على ما جرت عليه بعض الترجمات المتداولة من استعمال مفردة «كينونة». راجع مقدمتنا لترجمة درس هيدغر لصيف 1923 «الأنتولوجيا (تأويليات الحدثية)» الصادر عن مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2019

[3]- herméneutique de la facticité

[4]- analytique existentiale

[5]- Cf. Otto Pöggeler, Der Denkweg Martin Heideggers, Pfullingen, Neske, 19903, trad. Franç. De la première édition par Marianna Simon, La pensée de Martin Heidegger. Un cheminement vers l’être, Paris, Aubier, 1967

[6]- Thomas Sheehan, Heidegger’s Early Years, in Heidegger. The Man and the Thinker, New York, Predcedent, 1981

[7]- Cf. Karl Lehmann, Metaphysik, Transzendentalphilosophie und Phänomenologie in den ersten Schriften Martin Heideggers (1912-1916), in Phil. Jb. 71 (1963-1964), 331-357

[8]- Die Zeit des Selbst und die Zeit danach. Zur Kritik der Textgeschichte Martin Heideggers 1910-1976, Frankfurt, Suhrkamp, 1990

[9]- Scène d’initiation.

[10]- المرجع السابق هو هو، ص18

[11]- المرجع السابق هو هو، ص19

[12]- المرجع السابق هو هو، ص20

[13]- Hugo Ott, Martin Heidegger. Unterwegs zu einer Biographie, Campus, Frankfurt/New York, 1990, trad. J. M. Beloeil, Martin Heidegger. Eléments pour une biographie, Paris, Payot, 1988.

[14]- Professeur extraordinaire.

[15]- Professeur titulaire.

[16]- césure.

[17]- يبدو لي أنّ روبار بريزار [Robert Brisart] في كتابه: La Phénoménologie de Marbourg, ou la résurgence métaphysique chez Heidegger à l’époque de « Sein und Zeit » (Bruxelles, Facultés Saint-Louis, 1991)، لم يقدّر حقّ قدره تمنّع هايدغر المعلن على امتداد تلك الفترة، إزاء لفظة «ميتافيزيقا». وخاصة لا يبدو لي أن معْرف [notion] «معاودة الطفوّ الميتافيزيقي» [résurgence métaphysique] مناسب لتوصيف فترة 1919-1928

[18]- Grundprobleme der Phänomenologie (1919-1920), GA 58, Frankfurt, Klostermann, 1993

[19]- Die Grundprobleme der Phänomenologie, GA 24, trad. franç. J.-F. Courtine, Les problèmes fondamentaux de la phénoménologie, Paris, Gallimard, 1985

[20]- Otto Pöggeler, Der Denkweg Martin Heideggers, Pfullingen, Neske, 19903, p. 350-364

[21]- Vom Geheimnis des Glockenturms, in GA 13, 113-116

[22]- خادم كنيسة: Sacristain

[23]- فوغا السنة الليترجية: وهي صنف من أصناف التأليف الموسيقي الذي تتالى فيه الأصوات معطية انطباع هروبها متتالية صوتاً بعد صوت.

[24]- liturgique

[25]- les vigiles.

[26]- abritement.

[27]- estre.

[28]- motifs.

[29]- écrin.

[30]- عن التحليل البيوغرافي لتطور هايدغر أثناء هذه الفترة، راحع: Hugo Ott, Martin Heidegger. Unterwegs zu einer Biographie,، مرجع مذكور، ص47-136. ولقد جعل هوغو أُت من «الخصومة مع البدايات» أحد الثوابت الجوهرية في تطور هايدغر.

[31]- Cf. Theodore Kisiel, War der frühe heidegger tatsächlich ein „Christlicher Theologe"?, in A.M. Gethmann-Siefert (Ed.), Philosophie und Poesie (Festschrift O. Pöggeler), t.2, Stuttgart, 1988, p. 59s

[32]- Ibid., p. 35

[33]- وهي شهادة دراسية توافق تقريباً نهاية التكوين في سنوات التعليم الثانوي.

[34]- Franz Brentano, Aristote. Les significations de l’être, trad.franç. Par P. David, Paris, Vrin, 1992

[35]- Cf. Richard Schaeffler, Der Modernismus – Streit als Herausforderung an das philosophisch-theologische Gespräch heute, in Theologie und Philosophie, 55, 1980, 514-534; Thomas Sheehan, Heidegger’s Early Years, p. 5; Hugo Ott, Martin Heidegger. Eléments pour une biographie, op. Cit. p. 61-69

[36]- تعني هذه العبارة اللاتينية تقريباً: «خذ الكتاب واقرأ»، وقد وردت خاصة لدى أوغستين [Augustin] في الاعترافات VIII، 29

[37]- نشير إلى الأعمال الكاملة من الآن فصاعداً بالاختزال: أ.ك. مع إضافة رقم المجلّد، ورقم الصفحة عند الاقتضاء)

[38]- maladroites.

[39]- Franz Brentano, Vom der Klassifikation der psychischen Phänomene, Leipzig, 1891, p. 165

ويستشهد هايدغر نفسه بهذه الكلمات في أطروحته للدكتوراه (أ.ك. 1، 63-64)

[40]- idéal.

[41]- réel.

[42]- faits.

[43]- notion.

[44]- نستعمل هذا المركب ‹ضدّ ذاتية› ونرسمه كمركّب بين '... ' لإعطاء لفظة: antisubjectiviste

[45]- نقترح هذه الترجمة اقتباساً عن عبد الرحمن بدوي في موسوعته الفلسفية لدى تعريفه بدونس اسكوت، المؤسسة العربية للدّراسات والنشر، بيروت، 11984

[46]- تعريباً للنعت الذي يفيد الانتساب إلى الفيلسوف المسيحي دونس اسكوت [scotiste].

[47]- ديتر توماي: Dieter Thomä, op. cit., p. 45.

[48]- Lettre du 19 juin 1914, cf. Hugo Ott, op. cit., p. 87-88

[49]- Lettre à Paul Natorp du 8 octobre 1917

[50]- Lettre du 9 janvier 1919, cf. Hugo Ott, op.cit., p. 112-113

[51]- sens-validité

[52]- judicative.

[53]- Dieter Thomä، مرجع مذكور، ص54

[54]- النحو النظري: Grammaire spéculative

[55]- Die Kategorien und Bedeutungslehre des Duns Scotus (GA 1, 131-354), trad.franç. par F. Gaboriau, Traité des catégories et de la signification chez Duns Scot, Paris, Gallimard, 1970

[55]- وقد علمنا من بعد ذلك، بفضل أعمال مارتن غرابمان [Martin Grabmann]، أنّ المصنف الوسيط «De modis significandi»، الذي كان هايدغر نسبه إلى دونس اسكوت يعود في الحقيقة إلى توماس الإرفرتي [Thomas d’Erfurt].

 

[57]- حول تقلبات هذا الترشح وحول الدّروس الأولى لهايدغر إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، انظر: هوغو أُت [Hugo Ott]، مرجع مذكور، ص92-111

[58]- hétérothèse.

[59]- GA 1, 160 وستتم إعادة تقرير هذه الأطروحة نفسها بعد بضع صفحات (GA 1, 172-173)

[60]- haecceitas

[61]- وهو يستشهد بالمثال السكوتي للتفاحتين اللتين في شجرة واحدة:

« Duo poma in una arbore numquan habent eundem aspectum ad coelem »

فإذا ما أضفنا أن الإنية [heccéité] مرادف للزمانية [temporalité]، حقّ لنا أن نتساءل عن هذا المفهوم المركزي للفكر الاسكوتي أليس يمثل مرحلة أساسية على درب تكون مفهوم الحدثية الذي سيظهر في فكر هايدغر بداية من 1919

[62]- التناسب المقصود هو تناسب إسنادي يضمّ الوحدة والكثرة [أ.ك. 1، 199]

[63]- “Nur indem ich im Geltenden lebe, weiss ich um Existierendes“، (أ.ك. 1، 220).

[64]- modes.

[65]- translogique.

[66]- unicité.

[67]- حرفياً «حال التعالي على التضاد».

[68]- la facticité de la vie historique.