الإسلاميّون والدولة والقوّة


فئة :  مقالات

الإسلاميّون والدولة والقوّة

ينظر إلى التجربة التأسيسيّة التونسيّة حاليًّا، باعتبارها الأمل الخبري الأخير لامتحان قدرة الدولة القطريّة الديمقراطيّة على احتضان الرؤية الإسلاميّة للدولة والديمقراطيّة والسياسة، وإدراجها ضمن القوى المؤسّسة للمجال السياسي الجديد الذي يراد بناؤه. ولا يخفى على نظر العالم، بمختلف الظروف الداخليّة والخارجيّة لهذه التجربة، ما يحفّ بهذا الرهان من صعوبات، ولكن دون السقوط في نظرة مركزيّة أوروبيّة معياريّة سقفها الديمقراطيّة الليبراليّة. ويبدو أنّ من الشروط الأساسيّة لتحقّق هذا المطلب أن ينجح الإسلاميون في التأقلم مع شروطها المعولمة تقريبًا، بعد أن استطاعت اللّيبراليّة أن تجد مخارج لكلّ أزماتها المتتالية، وتمدّ زعمها بأنّها نهاية للتاريخ بأنفاس جديدة، وآخر هذه المخارج كان في قدرتها على تجاوز نظريّتها النفعيّة وجسر الهوّة بينها وبين الاشتراكيّة بمحاولتها التقريب نظريًّا بين مطلبي الحريّة والعدالة الاجتماعيّة، كما جرى الأمر منذ التعريفات الجديدة لليبراليّة والجماعاتيّة التي تجاوزت نطاقها في أمريكا الشماليّة منذ السبعينيات بعد راولس، ليتم تبنّيها على نطاق واسع في أوروبا، إذ أنهت هذه التعريفات الثنائيّة الضديّة المرسّمة بين الليبراليّة والاشتراكيّة منذ كتابات المؤسّسين.

قد يحملنا هذا الاستهلال ونحن في وضع الاستشراف لقدرة الحركات الإسلاميّة على الاندراج في شروط هذه الليبراليّة الجديدة المعولمة، نحو التثبّت من مدى قابليّة أطروحتها النظريّة للتأقلم مع هذه الشروط لليبراليّة المنفتحة على الاشتراكيّة. وهذا تمشّ جائز، لا سيما أنّ تأويل الإسلام في هذا الاتجاه أو ذاك قد وقع تجريبه من قبل الحركات الإسلاميّة، في تاريخ غير بعيد، ولم تكن عبارات اشتراكيّة الإسلام، أو تحرريّته من العبارات المستهجنة، بل قد وجدت من المنظّرين الإسلاميين من كان منهم في مرتبة المنظّر الإيديولوجي. إنّما طريقنا طريق آخر، تمليه الحوادث الظرفيّة ذات المدى الرمزي البعيد، وكلما كانت دراسة الظواهر مثمرة تغيّرت زاوية النظر إليها أو تغيّر منهج دراستها، فإنّ تلمّس سبل الإجابة عن هذا السؤال الاستشرافي قد تكون أجدى بامتحان الأدوات الجديدة أو المناسبة لطبيعة الحادثة أو الحالة الموضوعة منطلقًا للدراسة.

من هذا المنظور، تبدو الحادثة القريبة في تونس، بمفهوم علم الاجتماع، حالة للدراسة، وهي حادثة تململ السلطة التأسيّسيّة التونسيّة الحاليّة في المصادقة على مقترح قانون الإرهاب، ودون الخوض في تفاصيل الاعتراضات القائمة في وجه هذا القانون من قبل حساسيّات كثيرة داخل المجلس التأسيسي، بما في ذلك بعض الحقوقيين، وتتضافر الأدلّة على أنّ من قوى الممانعة لهذا المشروع القانوني الدستوريّ، القوى الإسلاميّة أساسًا، فآخر أدلّتها قيام مجموعة من الأئمّة يتزعّمهم من يعرفون بولائهم المعلن للحزب الإسلامي الحاكم سابقًا، والمتمتّع بتمثيليّة أكبر من غيره من الأحزاب الأخرى في المجلس التأسيسي التونسيّ، بوقفة احتجاجيّة على تطبيق قانون المساجد لسنة 1988، يوم 8 يوليو 2014. ويدعم شهود عيان رجحان تأويلات حقيقة الاحتجاج المضمرة، بأنّها في النهاية عرقلة للمصادقة الممكنة على قانون الإرهاب، وتأتي دعمًا من خارج المجلس التأسيسي، وتستخدم قوّة التأثير التي تحظى بها هذه القيادات الدينيّة المصطنعة لدى الجماهير، للقادة السياسيين داخله من الذين لم يخفوا رفضهم وعداءهم للدولة تنظيرًا، إلى من لم ينقطعوا عن المجاهرة بتأييدهم للحرب القائمة ضدّها، سواء منهم من غلّفوه بتأييد الجهاد المقدّس ضدّ السلطة الحاكمة المستبدّة في سوريا، أو من مارسوه في ثنايا إدانتهم لما عرّفوه انقلابًا على الديمقراطيّة في مصر. وقد اختلط في جميع الحالات تأييد العنف ضدّ الدولة بتأييده ضدّ السلطة الحاكمة بدعوى رفض الاستبداد وحماية الديمقراطيّة، دون استحضار التمييز البوداني القديم بين الدولة والحكومة. ولذلك ما انفكّت ازدواجيّة التصريحات والإجراءات في محاربة الإرهاب، تحيّر أكثر الملاحظين للشأنين التونسي والسوري.

يحدث هذا في تونس، وكأنّ مفهوم العنف دخل بدوره الدائرة الواسعة المتكوّنة حاليًّا لنزاع القيم، وهو يجري بتجاهل مضمر للتمايز الضروريّ بين هذه الدائرة ودائرة السياسيّ والدولة. تدمج الدوائر بعضها في بعض، وتبيّن أنّ المسألة تطال الدولة في العمق من جهة مكوّنها الحقوقي؛ فالحادثة في النهاية تبدو داخلة في الصراع على صياغة الحقّ، المؤسّس للدولة، أليست الدولة، كما يقول كثير من منظّريها، واقعة قانونيّة بامتياز؟[1]

تبدو المشكلة ناتجة عن خلط بين مفهوم القوّة السياسيّ ومفهوم العنف الأخلاقيّ، وهي داخلة في خلط بين فهمين للحق، هما الحقّ الإلهيّ الشبيه بالحقّ الطبيعي في كونيّته وتعاليه، والحقّ الوضعيّ الدولتي في نسبيّته وظرفيّته، وهي بسبب هذا التماهي الجوهريّ بين الدولة والحق، داخلة في صراع على صياغة الدولة. ويقوم التصوّر الكلاسيكي للدولة، ومنه التصوّر الإسلاميّ، على مفهوم أخلاقي للحق، مصدره ديني، فهو يتأسّس على القراءة الدينيّة للتاريخ التي تربط البداية بالخلق، وترى في تلك البداية لحظة الفطرة الصافية والاستمراريّة المجسّدة للإرادة الإلهيّة، هي توازن جميل في الكون وصفه المودودي وقطب، في ظلّ الحاكميّة، خرقته حادثة القتل الأولى بعد حادثة عصيان الأمر الإلهي الأولى، باعتبارها أقصى تجلّيات العنف التي يتعيّن تجاوزها باستعادة العلاقة المكسورة بالحقّ.

إن الحقّ الديني هنا، الذي يسمّيه الإسلامويّون شريعة، هو كالحقّ الطبيعي، متعالٍ وقواعده كونيّة سابقة للزمان والمكان غير متقيّدة بهما، بما أنّه سابق للحظة الخلق. والعنف الممارس من قبل الإنسان، حتّى لو كان قوّة ممارسة من قبل الدولة يبقى خرقًا لذلك الحقّ، ما دام لا يصدر عن شرعيّة دينيّة، وما دامت الدولة مدنيّة، ودور السلطة السياسيّة المفترض من هذا المنظور، هو ممارسة القوّة اللازمة لحفظ ذلك الحقّ من العنف.

يجوز من هذا المنظور تفسير الموقف من أحداث الإرهاب، إذ تجري الحرب على الدولة والمجتمعات التي لا تطبّق الشريعة، من منطلق هذا الوعي بأسبقيّة الحقّ، وبتعرّضه لعمليّة عنف من قبل الإنسان والدولة، ومن هنا يتّخذ كلّ عنف تجاههما معنى القوّة الضروريّة التي ينتجها الحقّ لتجسيد نفسه، وتنتجها الدولة والسلطة بالضرورة. وتحدث هنا عمليّة قلب أو اقتباس لا واعية، موردها النظريّة الوضعيّة للدولة، ففي هذه النظريّة تمييز من نوع آخر بين العنف والقوّة، ينتج من تعريف الحق الدولتي ومن علاقته بالسلطة السياسيّة. فالحقّ الدولتي حقّ وضعيّ ظرفي زماني صالح لمجتمع سياسيّ معيّن، ودوره نابع من السلطة السياسيّة، وعلاقته بالقوّة والعنف علاقة وجوديّة، وينتج الحقّ القوّة تمامًا كما ينتج الدولة، ليتمكّن من الهيمنة على العنف. وثمّة إجماع من برودون (جوزاف) إلى كلسن وقيبر (ماكس) وفروند (جوليان)[2] على حاجة الحقّ الدولتي إلى القوّة، وعلى التخارج بين القوّة والعنف والحقّ، ولكنّ مادامت وظائف الدولة تتمثّل في تحقيق التعايش داخليًّا والأمن والمنعة خارجيًّا، فهي لا تهتمّ بالأفكار الدينيّة والأخلاقيّة عن الخير والشرّ، ومن ثمّ لا تسمّي العنف الذي ينجز باسم السياسيّ بغير تسمية القوّة دائمة الشرعيّة ما دامت صادرة من الدولة.

تتمثّل عمليّة الاقتباس اللاواعية من قبل الأطروحة الإسلاميّة في الإقرار بهذا التلازم بين القوّة والحقّ، ولكنّ اختلاف مصدر الشرعيّة يصيّر القوّة التي تمارسها الدولة خارج السند الحقوقي للحقّ الشرعيّ عنفًا والعنف الذي يمارس ضدّ هذه الدولة من أيّة الجهات كان قوّة. ومن هنا يحدث التعارض في تعريف القوّة والعنف بين التصوّرين الإسلامي والدولتي، وينعت كلّ واحد منهما ما لا يراه موافقًا لنوع الحقّ الذي يؤمن به عنفًا، ومن ههنا أيضًا قد يفهم اضطراب الموقف من الإرهاب، من قبل من يؤمنون بالدولة ذات الشرعيّة الدينيّة، وهم يعملون في سياق الشرعيّة السياسيّة الوضعيّة.

ليست تبعات هذا التعريف المختلف للقوّة والعنف مقتصرة على ما يمكن أن تقود إليه من عرقلة لحرب الدولة على الإرهاب، إنّما في ما قد يؤدّي إليه من إرباك لشرعيّتها في العصر الذي تحققت فيه نبوءة غوستاف لوبون[3] بالانتقال من مرحلة ضغط الشعوب إلى مرحلة حكم الجماهير، فقد يوشك ذلك أن يؤدّي إلى كبح الطاقة التوحيدية للدولة التي جرت بواسطتها صناعة الكثير من دولنا ومجتمعاتنا الوطنيّة، بل قد يسهم في تسريع وتيرة عمليّة تفتيتها، كما يلحظ ذلك في كلّ من العراق وربّما في ليبيا.

ومن المعلوم الذي قرّره جوليان فروند بين كثيرين أنّ تعدّد القوى يقضي على واحديّة القوّة التي تحتاجها الدولة، ويحتاجها الحقّ الذي ينتجها، فهل يمكن القطع بقدرة الإسلاميين على الاندراج في نسق الدولة؟ يبدو الأمر مشكوكًا فيه في ظلّ إحالتهم المستمرّة، أو إحالة بعضهم، على نظريّة الخلافة، وآخر هذه الإحالات مقترحهم المؤخّر قبل الانتخابات الرئاسيّة التي تستعدّ لها تونس، برئاسة توافقيّة، تغني عن الانتخاب، وتذكّر بمفهوم البيعة الخاصّة الذي تتواصل معاندة الكثير من الإسلاميين في كونه مثّل الأداة الوحيدة في انتقال السلطة إلى الخليفة الأوّل بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، كما رواها ابن قتيبة بين كثيرين[4]، ولكنّ ما يؤكّد هذا التمسّك من جهة الحقّ والقوّة التي ينتجها، تفكيرهم المستمرّ في دولة مطلقة سياسيًّا مقيّدة تشريعيًّا، يفعلون ذلك في سياق دولتي يفترض العكس، وينجرّ عن تفكيرهم إرباك لوظائف الدولة التي أمسكوا بمقاليد السلطة فيها في محاربة العنف المهدّد لوجودها، وتوجيه قوّتها منذ البداية لحماية هذا الوجود من كلّ عنف يريد أن يظهر بمظهر القوّة الشرعيّة.

يبقى هذا التحليل مجرّد قراءة حاملة في منطقها وأفكارها ومستنداتها، ما قد يجيزها، أو قد ينفيها، وهي كغيرها من قراءات الظواهر الإنسانيّة، محاولة في الفهم، تختبر قدرة المفاهيم، وتعترف باختزاليّتها، كما تعترف بالاختزاليّة الممكنة لمستنداتها، ولكنّها لا تلغي مقدار الصلاحيّة الذي تتمتّع به، ممّا تتيحه لها متابعة الأفكار القاعديّة للإسلاميّين خلف تفاصيل مواقفهم السياسيّة العرضيّة.


[1] يقول أحد أبرز حقوقيي القرن العشرين هانس كلسن في هذا السياق: "الدولة مؤسّسة قانونيّة", و"الثنائيّة حقّ دولة اعتقاد إحيائيّ بدائي"

Kelsen Hans, Théorie générale du droit et de l’Etat, Trad. Béatrice Laroche, lib. Générale de droit et de jurisprudence, Paris, 1997, p237, 244

[2] انظر كتابه، جوهر السياسي، 1965

[3] انظر كتابه، علم نفس الجماهير، 1988

[4] انظر ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، تقديم عبد الرحمن بوزيدة، موفم للنشر، 1998