الإسلاميون والمجال السياسي: النشأة والتطور


فئة :  مقالات

الإسلاميون والمجال السياسي: النشأة والتطور

من الصعب إضافة الشيء الكثير في النظر والتفكر عندما نتحدث عن جدلية الإسلاميين والمجال السياسي، أخذاً بعين الاعتبار تراكم أدبيات مرجعية صدرت في المجال التداولي الإسلامي العربي نموذجاً،[1] وبدرجة أقل، المجال التداولي الإسلامي الغربي، مع ما يصدر عن أقلام عربية (مسلمة أو مسيحية [2])، تشتغل على أسئلة السياسة والدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، ولهذا السبب ارتأينا الرهان على تمرير "إشارات" و"تنبيهات" مُوَجّهة لمن ألقى السمع وهو شهيد، تيَمُنّاً واستحضاراً لروح ابن سينا، صاحب تحفة "الإشارات والتنبيهات".

1 ــ أصبح الحديث عن الدولة والدين في الرقعة العربية مرتبطاً بشكل مباشر بالحضور القسري لعلاقة الإسلاميين بالسلطة، قبل وبعد منعطف "الربيع العربي" الذي اندلع منذ 11 يناير 2011، ومن هنا دلالات ومضامين النقاش الذي جاء في إحدى أهم اللقاءات العلمية التي احتضنتها المنطقة العربية بُعيد هذا الحراك، حيث لاحظ العديد من المشاركين في جلسات المناقشة التي تلت المحاضرات أنّ موضوع الندوة المخصص لواقع الدين والدولة في الوطن العربي تحول لواقع وأداء الإسلاميين مع السلطة في الساحة العربية.[3]

2 ــ من أولى دروس الواقع الذي لا يرتفع أنّ الحديث عن الإسلاميين يحيل على حركات اجتماعية تنهل من مرجعية دينية مقدسة،[4] في معرض قراءة الواقع والتفاعل معه والتأثير فيه بهدف تفعيل مشاريعها المُسطرة في أدبيات تعود جذورها التاريخية إلى حقبة تأسيس "أم الحركات الإسلامية": جماعة "الإخوان المسلمين" على يد الإمام حسن البنا، وهي الأدبيات التي حُرّرت ابتداء من خلال رسائل الإمام الشهيرة والمُمتدة حتى حقبة ما بعد اندلاع أحداث "الربيع العربي".

3 ــ في معرض التوقف عند معالم وتفرعات هذه الحركات الإسلامية، أو "الإحيائية الإسلامية"، إذا استعرنا تعبيراً عزيزاً عند اثنين من أبرز المفكرين بالساحة العربية، رضوان السيد [5] وعبد الإله بلقزيز، [6] فإننا نقصد على الخصوص التيار الإسلامي الحركي، وبدرجة أقل التيار السلفي، الذي بَزَغ نجمه بشكل لافت خلال السنين الأخيرة بسبب تبعات أحداث "الربيع العربي"، ولو أنّ سؤال الدولة (سواء تعلق الأمر بـ"الدولة الوطنية"، أو "دولة الخلافة" [7] أو "الدولة الدينية") يبقى حاضراً أكثر لدى الحركات الإسلامية أكثر من التيار السلفي، وفي هذا الصدد، لا بدّ من التمييز بين ثلاثة أنماط واتجاهات رئيسة في العمل الإسلامي الحركي:

أ ـ هناك أولاً الحركات الإسلامية الدعوية، التي ترفض الانخراط في العمل السياسي الشرعي، مقابل الرهان على العمل الدعوي تحديداً، ونجد في مقدمة هذه الحركات جماعات "الدعوة والتبليغ" المنتشرة في ربوع المعمورة، داخل وخارج العالم الإسلامي، أو التيارات السلفية المحسوبة على ما يُصطلح عليه بتيارات "السلفية العلمية".[8]

ب ـ وهناك ثانياً الحركات الإسلامية التي تراهن على العمل السياسي، موازاة مع العمل الدعوي، أو عبر التقزيم من ثقل الدعوة والتضخيم من سؤال السياسة، كما هو قائم مع ما يُصطلح عليه بحركات وأحزاب "الإسلام السياسي"، ولعل ثنائي حركة "التوحيد والإصلاح" وحزب "العدالة والتنمية" الإسلامية في الساحة المغربية، يُجسد نموذجاً بارزاً في هذا الصدد، وبَدَهي أنّ هذا النمط من العمل الإسلامي الحركي لا يراهن على العمل الإسلامي "الجهادي"، بما يُحيلنا على النموذج الثالث والأخير.

ج ـ وهناك إذاً نموذج الحركات الإسلامية "الجهادية"، التي تراهن على العمل الجهادي ضد الجميع: السلطات الزمنية الحاكمة في الرقعة العربية والدول الغربية، وهذه حركات عايَن المتتبعون أداءها قبل وبعد منعطف تاريخي وسيء السمعة في آن: اعتداءات نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001.

4 ــ غالباً ما يتم التركيز على قلاقل توظيف النص الديني المقدس في لعبة سياسية مدنسة، عندما نتحدث عن الفاعلين الإسلاميين، المعنيين بالانخراط في اللعبة السياسية، وبالتالي معنيون بمقتضيات المشاركة في الانتخابات الرئاسية أو التشريعية أو النيابية، وليس مصادفة أن تصدر هذه الانتقادات عن فرقاء سياسيين وحزبيين غير إسلاميين، مادام الأمر يتعلق بلعبة السياسية، فقط ضد تيارات "الإسلام السياسي" مقابل الصمت عن توجيه النقد إلى باقي الفاعلين الإسلاميين (الدعوي و"الجهادي")، كما لو أنّ باقي الفرقاء (التيار السلفي مثلاً، في شقيه "العلمي" و"الجهادي") لا يُوَظف النص الديني المقدس في معرض "نُصْرَة" مختلف الفرقاء الإسلاميين.

5 ــ أفرزت الاجتهادات اللصيقة بتفاعل الإسلاميين مع العمل السياسي ـ أو "اللعبة السياسية" ـ ظهور مواقف متباينة داخل الرقعة الإسلامية ذاتها: إذا تركنا جانباً مواقف التيارات الإسلامية الدعوية التي ترفض بشكل صريح الانخراط في اللعبة السياسية، ومعها الحركات الإسلامية "الجهادية" التي "توسلت بالفتوى السياسية لا الفقهية والمنشور العسكري"، و"قدمت أدباً حزبياً تكفيرياً"،[9] فإننا نعاين انقسامات جلية في خانة/ نموذج الحركات الإسلامية السياسية، ويكفي تأمل مواقف الأحزاب السياسية الإسلامية من اللعبة السياسية في المجال التداولي المغربي، بين حزب إسلامي ("العدالة والتنمية") يخضع لقواعد اللعبة السياسية وينخرط بالتالي في مقتضياتها، وبين رفض جماعة "العدل والإحسان" المحظورة القواعد نفسها، بل يمتد الأمر، في سياق ما اصطلح عليه رضوان السيد بـ"الصراع على الإسلام" إلى مرتبة تشكيكها في شرعية وبالتالي مشروعية مؤسسة إمارة المؤمنين، التي تعتبر ـ في المجال التداولي المغربي ـ سلطة زمنية حاكمة يتداخل فيها البعد السياسي بالبعد الديني، ويكاد يُكرس هذا النمط من الحكم "ملكية ذات سمت علماني"، حيث يجتمع فيها البعدان السياسي والديني.

6 ــ ترتبط أهم مقدمات الانشغال الإسلامي الحركي بالعمل السياسي، بسؤال الدولة الإسلامية المنشودة، سواء تعلق الأمر بـ"دولة الخلافة"، حُلم الإسلاميين الأبدي،[10] أو دولة "قطرية/ وطنية" ولكنها إسلامية، بمقتضى المشروع الإسلامي الحركي دون سواه، لأنه في لاوعي هذه الحركات، الدول الوطنية القائمة في المجال التداولي الإسلامية، "ناقصة دين"، ولا تنطبق عليها مقتضيات الآية القرآنية "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" (المائدة، 3)، بما يُفضي إلى تقويض الشرعية الدينية وبالتالي الشرعية السياسية للأنظمة السياسية الحاكمة في خريطة العالم الإسلامي؛ وبالنتيجة يُصبح رهان الفاعلين الإسلاميين مرتبطاً بالاستيلاء على زمام السلطة الزمنية الحاكمة، لاستعادة المشروعية بتطبيق الشريعة، وفي ظل هذا المعطى تبقى الدولة ومعها المجتمع أبعد عن تمثل مقتضيات "الدولة الإسلامية" المنشودة طالما لم يمسك الإسلاميون بزمام هذه السلطة، ولا ينفع حينها الحديث عن أدوار مؤسسة العلماء أو مؤسسة الزوايا أو حتى احترام التديّن الشعبي الفطري الذي مَيّزَ مُجمل المجالات التداولية الإسلامية.

7 ــ تقاطعاً مع الإشارة سالفة الذكر ـ ونحن نترك جانباً هنا الحركات الإسلامية التي تحلم بقيام "دولة الخلافة" ـ سوف تسقط الحركات الإسلامية السياسية في سؤال التوفيق بين الانتماء للجماعة الإسلامية، والانتماء للدولة الوطنية، وواضح أنه شتان ما بين الانتماء إلى جماعة إسلامية تقوم على احترام "مقدسات" الجماعة (نظام "البيعة" للمرشد مثلاً)، مقارنة مع الانتماء للدولة الوطنية التي تقوم أدبياتها على احترام "مقدسات" الوطن: نظاماً ودولة وأرضاً.[11]

8 ــ سوف تصطدم أدبيات هذه الحركات بقلاقل نظرية، وبالتالي عملية مرتبطة بتحقيق حلم لصيق بأغلبية الفاعليين الإسلاميين: تحقيق وقيام "دولة الخلافة" على أرض الواقع، نقول هذا ونحن نأخذ لائحة من المعطيات الدالة:

أ - تأسست "أم الحركات الإسلامية" في الساحة (جماعة "الإخوان المسلمين") في غضون 1928، أي بضع سنين فقط على أفول دولة "الخلافة العثمانية" أو "الدولة السلطانية" بتعبير المفكر والمؤرخ عبد الله العروي، في غضون 1923 ـ 1924.

ب ـ كان مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين"، الإمام حسن البنا، من أشد المؤمنين بضرورة إقامة الخلافة،[12] لولا أنه كان يعتبر أنّ تحقيق ذلك يتم أولاً عبر قيام "حكومات إسلامية" في الأقطار الإسلامية، وقيام تعاون فيما بينها، وتوثيق هذا التعاون بالمعاهدات والأحلاف، ثانياً يفضي إلى تأسيس "عُصبة أمَم إسلامية"، وبعدها الإجماع على تنصيب إمام ليكون خليفة للمسلمين جميعاً.

9 ــ من أعطاب التفاعل النظري والعملي للإسلاميين مع المجال السياسي، وحتى التسليم جدلاً بأننا أمام نموذج إسلامي حركي مُوَحّد في التعامل مع اللعبة السياسية، أي اختزال مُجمل الإسلاميين في خانة "الإسلام السياسي" وليس الإسلامي الدعوي أو "الجهادي"، فإنّ هذا النموذج يتعرض مجدداً للتشرذم عندما يبزغ سؤال مؤرق مرتبط بتفعيل وتحقيق "دولة الخلافة". [13] وبالنتيجة، نعاين حركات وأحزاب إسلامية تُعلن عن تبنيها مشروع "دولة الخلافة" بشكل صريح وواضح، ونخص بالذكر مشروع "حزب التحرير"، وبدرجة أقل حركات إسلامية "جهادية" تحلم بدورها بقيام هذه الدولة، [14] مع التدقيق الضروري في هذا المقام عند وجود اختلافات فقهية جليّة داخل أوساط التيار السلفي بخصوص التعامل مع موضوع/ مشروع "دولة الخلافة"، فبينما يصرف تيار "السلفية العلمية" النظر عن الحُلم، مدافعاً عن السلطات الزمنية الحاكمة، طالما تُطبق الشريعة ـ من وجهة نظره ـ أو تنهل من "المرجعية الإسلامية" في الوثيقة الدستورية (النموذج السعودي والمغربي مثلاً)، نجد "السلفية الجهادية" تُعلن صراحة عن تبنيها مشروع إقامة "دولة الخلافة"، بالصيغة التي تعبّر عنها أدبيات التنظيم.

10 ــ ما دمنا نعيش زمن "الربيع العربي"، وبالرغم من إصرار الفاعلين الإسلاميين على أنهم يمثلون الشارع والشعب وبالتالي يُجسّدون "الشرعية"، فقد أكدت هذه الأحداث أنه سواء تعلق الأمر بالتيار الإسلامي الحركي، [15] أو التيار العلماني الحداثي، [16] فإنهما يُجسدان أقلية تنظيمية في أعين أصحاب الحراك، أي الشارع العربي، ولو أنه يهمنا أكثر في هذا المقام وزن وثقل التيار الإسلامي. بتعبير آخر، إذا كانت بعض الحركات الإسلامية السياسية تحلم بإقامة "دولة الخلافة"، فإنّ مُجمل الفصائل الإسلامية اصطدمت بغياب شعار "الإسلام هو الحل"[17] في الشعارات المُمَيزة للحراك، وأن نعاين غياب شعارات "دولة الخلافة هي الحل" أولى، مادام الشارع العربي توحد في المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة؛ وبالنتيجة وجدت الحركات والأحزاب الإسلامية التي تحلم بإقامة "دولة الخلافة" ـ دون التنصيص على ذلك في أدبياتها الحركية، أو تحلم بها وتعلن عن ذلك أمام الملأ ـ وجدت نفسها في موقف متأزم أمام حراك يراهن على الانتصار لمقتضيات الدولة الوطنية القائمة على دولة المؤسسات وفصل السلطات الرئيسية الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، وليس على إقامة "دولة الخلافة" أو "دولة إسلامية"، حركية ممثلة لهذا الفصيل الإسلامي الحركي أو ذلك.

11 ــ من المنتظر أن تُساهم أحداث "الربيع العربي" في إعادة النظر نسبياً أو جذرياً في العديد من اجتهادات الفاعلين الإسلاميين بخصوص التعامل مع اللعبة السياسية، نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار مآلات آفاق انخراط العديد من الأحزاب الإسلامية في تدبير السلطة الزمنية الحاكمة بُعيد إسقاط رموز بعض الأنظمة السياسية، فبينما ما زالت الحالة التونسية تعيش على إيقاع التذبذب منذ إزاحة الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، كشفت تطورات نهاية 2013 في الحالة المصرية عن قلاقل ميدانية، من شأنها أولاً أن تغذي مشروع الحركات الإسلامية "الجهادية"، ليس فقط بسبب منعطف 30 يونيو 2013 الذي أفضى إلى إزاحة ممثل جماعة "الإخوان المسلمين" عن رأس هرم السلطة، باسم تلبية المؤسسة العسكرية لمطالب الشارع المصري، وإنما خصوصاً بسبب منعطف تاريخي وخطير على المنطقة العربية وليس على مصر، تَجسّدَ في تصنيف جماعة "الإخوان المسلمين" باعتبار أنها جماعة "إرهابية" (كذا )، وهو التصنيف الذي يُغذي أطروحات التشدد وبالتالي يغذي مشروع الحركات الإسلامية "الجهادية" [18] ضد الدولة والأحزاب وباقي الفرقاء السياسيين، كما يُغذي التصلب العقدي للتيار الإخواني الذي كان يؤمن بأحقية الانخراط في تدافع سياسي سلمي مع باقي الفرقاء.

12 ــ في خضم انشغال الحركات والأحزاب الإسلامية في تقعيد وشرعنة الانخراط في اللعبة السياسية، سواء طلقت بشكل نهائي حُلم إقامة "دولة الخلافة" أم أجلت الحسم في مقتضيات تحقيق هذا الحلم، سوف تسقط هذه الحركات والأحزاب في تغليب الهواجس السياسية على حساب العمل الدعوي فالأحرى الفكري، مترجمة بذلك على أرض الواقع، ما سطرته العديد من الأدبيات في الأوراق والمؤلفات، سواء كانت هذه الأدبيات محسوبة على العمل الإسلامي الحركي أو على العمل "الإسلامي النظري"،[19] غير المحسوب على الإسلاميين أو على المؤسسة الدينية الرسمية.

وهكذا سبق لطه عبد الرحمن أن حذّر من مآزق انخراط الحركات في اللعبة السياسية، مؤاخذاً عليها الابتلاء بـ"نزعتي التجريد والتسييس إليها، وقد نتج عن دخول التجريد إليها فتور في الوجهات العملية لممارستها الدينية تتجلى في حمل مبدأ الرجوع إلى السلف على معنى التأمل في النصوص بالعقل المجرد، سواء اقترن هذا التأمل بالعمل أو لم يقترن، كما نتج عن دخول التسييس إليها فتور في التوجهات الغيبية للممارسة الدينية تجلى في تهميش العنصر الروحي والأخلاقي، وفي ترك الاستقامة بالوقوع في التطرف والسير إلى التوقف".[20]

نحن إزاء نقد صادر عن فاعل من رموز "الإسلام النظري"، وبالتالي من خارج الدائرة الإسلامية الحركية (في شقيها الإخواني والسلفي)، ومن خارج دائرة المؤسسات الدينية الرسمية، ورُبَّ معترض على هذا التقييم بالتأكيد على أنّ المعني بالتنظير وتحرير "الأفكار الطولى" لا يفقه كثيراً في مقتضيات اللعبة السياسية، لولا أننا سنقرأ أدبيات نقدية من داخل الصف الإسلامي الحركي، في سياق "شهِد شاهد من أهلها"، تُقوّض هذا التقزيم الذي صدر ضداً على الرؤى النقدية لطه عبد الرحمن وغيره، والإحالة هنا ـ نموذجاً ـ على مضامين ثلاثية شهيرة للراحل فريد الأنصاري،[21] الداعية والعضو السابق في حركة إسلامية مغربية، [22] والذي خَلُصَ مما خَلُصَ إليه إلى أنّ "تبني خيار تأسيس حزب سياسي كان أكبر خطيئة وقعت فيها الحركة الإسلامية بالمغرب، حيث انتقلوا من مقاصد العبادات إلى مقاصد العادات، وحيث ألهاهم التلميع والتسميع، وانخرط كثير منهم في الحزب على حرف، وهو أشبه ما يكون بـ"اتخاذ العجل" في قصة بني إسرائيل. فقد تأسَّسَ العمل الإسلامي بالمغرب ابتداء، فكان عطاؤه الأول جيلاً من الخيرات والبركات. ثم جاء الحزب السياسي فأتى على ذلك جميعاً، تماماً كما دَمَّرَ السامري كلّ الرصيد الإيماني لبني إسرائيل، بعد غيبة موسى، عندما صنع لهم ـ الذهب ـ جسداً، عِجلاً له خُوار، فظلوا له عاكفين"، والسبب، يضيف الأنصاري، أنّ "الحزب كان فتنة حقيقية للإسلاميين، كما كان العجل فتنة لبني إسرائيل، وللذهب بريق مادي فتّان في قصة بني إسرائيل، كما أنّ له بريقاً معنوياً ومادياً فتَّاناً أيضا في قصة الإسلاميين"؛..  فما أن "قرّرت الحركة الإسلامية المشاركة السياسية، حتى تطور ذلك القرار بشكل سرطاني من مجرد مشاركة إلى صورة تضخم سياسي، أتى على الأخضر واليابس من منجزات العمل الإسلامي، ليخلص في نهاية المطاف إلى أنّ يوم إعلان اتخاذ حزب سياسي واجهة للعمل الإسلامي بالمغرب كان يوم إعلان وفاة الحركة الدعوية، وبداية العد العكسي المنحدر نحو نهاية "أطروحة العمل الإسلامي" بشموليته الكليّة، وهويته الإسلامية".[23]

13 ــ سيبقى سؤال السياسية حاضراً ومتغلغلاً في مشروع الحركات الإسلامية إجمالاً، وفي مقدمتها الحركات الإسلامية السياسية، طالما تمّ التقزيم من أدوار مؤسسة العلماء وطالما لم نشهد تنمية حقيقية، ولم ننتصر لدولة المؤسسات ولم نُفعّل مشاريع "الإصلاح الديني"، وبرأي صاحب "الأمّة والجماعة والسلطة"، فـ"كما وقع حكم الاستبداد في أصل صعود التشدد الإسلامي [الحركي]؛ فكذلك سيُسهم زوال ذلك التسلط والوعي الجديد في تحرير الدين والمجتمعات من الإسلام السياسي".[24]

وهذا هو المرجو والمأمول.


[1] نتوقف مع القارئ الكريم في هذا الصدد على سبيل المثال لا الحصر، عند بعض أعمال المفكر والمترجم والمحقق اللبناني رضوان السيد، ولائحة من أعمال عبد الإله بلقزيز، التي تندرج بالتحديد في مشروع "سلسلة المجال السياسي الإسلامي"، ونخص بالذكر: "النبوءة والسياسة"؛ "الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر"؛ "الإسلام والسياسة.. دور الحركات الإسلامية في صوغ المجال السياسي"، وغيرها من الأعمال..

[2] نحيل القارئ الكريم على أعمال الكاتب وائل حلاق في هذا الصدد، ونخص بالذكر كتابه الأخير الموسوم: "الدولة المستحيلة: الإسلام، والسياسة، وأزمة قيم الحداثة".

Wael B. Hallaq, The Impossible State: Islam, Politics, and Modernity’s Moral Predicament, Columbia UP 2013.

[3] نحيل القارئ على كتاب قيّم للغاية، وضمّ مجمل المداخلات والمناقشات التي ميّزت أشغال الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية في موضوع "الدين والدولة في الوطن العربي"، والتي نظمت في تونس، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، فبراير 2013

[4] إسلامية نموذجاً، توصف بـ"المرجعية الإسلامية" في مجالنا التداولي الإسلامي.

[5] انظر على الخصوص: رضوان السيد، الصراع على الإسلام، الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية، دار الكتاب العربي، بيروت، 2004

[6] عبد الإله بلقزيز الإسلام والسياسة: دور الحركات الإسلامية في صوغ المجال السياسي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 2008

[7] ارتبط النقاش الدائر حول "دولة الخلافة" أو "الدولة الإسلامية" بتطورين مترابطين وغير مسبوقين: الأول هو بداية الحقبة الاستعمارية التي شهدت إخضاع معظم أراضي المسلمين لاحتلال وسيطرة قوة أجنبية؛ والثاني هو انهيار "دولة الخلافة" وتحول الإسلام إلى دين بدون دولة لأول مرة في التاريخ.

انظر: عبد الوهاب الأفندي، لمن تقوم الدولة الإسلامية؟ الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، منبر الحرية، ط 1، 2011، ص 33

[8] تطرقنا ببعض التفصيل لأهم معالم التيارات السلفية الوهابية في الساحة العربية، والفوارق التي تفصل بين "السلفية العلمية" و"السلفية الجهادية"، ومعها سلفية التيارات الإخوانية، في كتاب "الوهابية في المغرب"، دار توبقال، الدار البيضاء، ط 1، 2012

[9] عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثالثة، نوفمبر 2011، ص 6

[10] في عز الصراع بين جماعة "الإخوان المسلمين" والمؤسسة العسكرية بُعيد منعطف 30 يونيو 2013، ومن على منصة رابعة العدوية، سوف يُصَرّح الداعية صفوت حجازي: "إني أراها ["دولة الخلافة"] قادمة على يد الإخوان وعاصمتها القدس".

[11] نقول هذا ونحن نستحضر بعض القلاقل النظرية والعملية التي سقطت فيها جماعة "الإخوان المصلمين" في الفترة القصيرة التي تولت فيها الحكم بُعيد إزاحة الرئيس المصري حسني مبارك، دون إزاحة النظام: فعلى عهد الرئيس المصري السابق، كانت العامة والخاصة تعلم أنه الرئيس الرسمي والفعلي للدولة، وعلى عهد الرئيس محمد مرسي، كانت العامة والخاصة على علم أنّ محمد مرسي هو الرئيس الرسمي، وليس الفعلي، مع حدوث انقسام في الآراء حول طبيعة الرئيس الفعلي: هل هو مرشد الجماعة أم نائبه خيرت الشاطر، الرجل القوي في الجماعة، وفي كلتا الحالتين، كان على الرئيس مرسي أن يجتهد في التوفيق بين الانتماء للجماعة، حيث يؤدي قسم البيعة للمرشد، والانتماء للدولة حيث يؤدي القسم الدستورية أمام رموز الدولة في المجلس التشريعي.

[12] تم التصدي النظري والعملي، مصرياً على الأقل، لمشروع إقامة "دولة الخلافة" من خلال الكتاب الشهير الذي ألفه الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" (في الشق النظري)، وما صدر من مبادرات ومواقف عن حزبي "الوفد" و"الأحرار" (في الشق العملي).

[13] ثمة اختلاف فقهي وعلمي حول أحقية الدعوة إلى "إحياء دولة الخلافة" في زمن الدولة الوطنية، أو الدولة القُطرية، التي بزغت للوجود بُعيد اتفاقية سايس بيكو الشهيرة (1916)، وتطورت الأمور إلى احتدام خلافات استراتيجية، وبالتالي سياسية ومذهبية في أوساط اتحادات عربية لم يُكتب لها النجاح ("منظمة التعاون الخليجي" أو "اتحاد دول المغرب العربي")، فالأحرى الحديث عن وحدة إسلامية بين الدول الإسلامية تحت إمرة خليفة أو مرشد عام، كما تجتهد في التنظير لذلك بعض الحركات الإسلامية.

[14] لنتأمل ما حرره فاعل إسلامي "ينهل من مرجعية سلفية وهابية، في صفحته الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي "الفايسبوك"، في تغريدة مؤرخة يوم 30 ديسمبر 2013: "يركز الإعلام الدولي على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش ـ ويحاول عبثاً تشويهها وتقديم بعض الوجوه الجهادية كممثلين للثورة السورية، وقد اجتمع على حرب المجاهدين الأحمر والأسود والأبيض والأصفر. والسبب [بيت القصيد] أنّ داعش تسعى لأن تؤسس خلافة إسلامية كبرى، ولا تعترف بحدود سايكس بيكو، وتريد إزالة الأنظمة العربية كاملة ورفع راية لا إله إلا الله فوق كل الربوع ودفن الدولة العربية العلمانية القطرية التي جرّت علينا كل الكوارث".

[15] أي التيار الذي يرفع شعار "الإسلام هو الحل".

[16] أي التيار الذي يرفع شعار "العلمانية هي الحل".

[17] مقابل عبارة "العلمانية هي الحل" في شعارات الحراك العربي.

[18] يرى صاحب "الصراع على الإسلام" أن "تجربة الإخوان" القصيرة في السلطة كانت مخيبة. لكن [بيت القصيد] تنحيتهم بهذه الطريقة يمكن أن تنصر توجهات التشدد في صفوفهم". رضوان السيد، "الإخوان" ومسألة الشرعية، الحياة، لندن، 6 دجنبر 2013

[19] استعرنا مصطلح الإسلام النظري من عبد الإله بلقزيز، ويقصد به "مجموع الإنتاج الفكري الإسلامي الذي أنجزته نخبة من العلماء ومن الباحثين الإسلاميين، من مواقع معرفية مستقلة عن إيديولوجيا السلطة وعن إيديولوجيا المعارضة الإسلامية"، دون أن يعني ذلك أن هذه النخبة غير ذات موقع أو موقف في السياسة، فقد تكون معارضة للحكم أو موالية له، بقدر ما يقصد الكاتب أن عملها النظري "يكون عادة محكوماً بهواجس وأهداف لا تتدخل فيها بالضرورة، مطالب الظرفية السياسية وحاجاتها، وإن كانت لها في النهاية، أهداف سياسية بعيدة المدى كالإصلاح والتماس أسباب الانتهاض والتقدم". انظر بالتفصيل كتاب عبد الإله بلقزيز: الإسلام والسياسة، مرجع سابق.

[20] طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 2000، ص 108

[21] الإحالة هنا على ثلاثية:

1 ـ البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي: نحو بيان قرآني للدعوة الإسلامية، دار الكلمة للنشر والتوزيع، مصر المنصورة، ط 1، 2004

2 ـ الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب: انحراف استصنامي في الفكر والممارسة، منشورات رسالة القرآن، مكناس، ط 1، 2007

3 ـ الفطرية: بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام، دار السلام، القاهرة، ط 1، 2009

[22] "التوحيد والإصلاح" الحليف الاستراتيجي لحزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، ومباشرة بعد تطليقه الرسمي للعمل الإسلامي الحركي، سوف يُصبح فريد الأنصاري رئيساً للمجلس العلمي المحلي بمدينة مكناس، في سياق تغذية الجاهزية العلمية والفقهية لبعض المؤسسات الدينية الرسمية، التي تعاني من مآزق "اختطاف الإسلام" من أهله، بالصيغة الصادرة عن مُجمل الحركات الإسلامية، إخوانية كانت أم سلفية.

[23] انظر على الخصوص الفصل الأول من كتاب فريد الأنصاري الموسوم: "الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب"، مرجع سابق، والمُخصص لاستعراض آفات التحزب لدى الحركات الإسلامية، تحت عنوان "استصنام الخيار الحزبي".

[24] رضوان السيد، الظاهرة الإسلامية المتحولة إلى حزبيات: دولة الدين وإغواء السلطة، التفاهم، مسقط، السنة الحادية عشرة، العدد 40، ربيع 2013، ص 114